Farah Antun
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Genres
ثم عاد إلى مسألة التأويل التي هي دعامة هذا الكتاب، فقال: إنه إذا وقع إشكال في ظاهر القول الديني ولم يكن ظاهرا بنفسه للجميع، وجب أن يصرح ويقال إنه متشابه لا يعلمه إلا الله. وإن الوقف يجب هنا في قوله عز وجل:
وما يعلم تأويله إلا الله . وبمثل هذا يأتي الجواب بالسؤال عن الأمور الغامضة التي لا سبيل للجمهور إلى فهمها، مثل قوله تعالى:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .
ولذلك ليس يجب أن تثبت التأويلات الصحيحة في الكتب الجمهورية، فضلا عن الفاسدة. والتأويل الصحيح هو الأمانة التي حملها الإنسان، وأبى أن يحملها وأشفق منها جميع الموجودات؛ أعني المذكورة في قوله تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال
الآية.
وهذه التأويلات في الشرع هي التي كانت سببا في نشأة فرق الإسلام، حتى كفر بعضهم بعضا، وبدع بعضهم بعضا، وبخاصة الفاسد منها. ومن أتى بعدهم لما استعملوا التأويل قلت تقواهم، وكثر اختلافهم، وارتفعت محبتهم، فيجب على من أراد أن يرفع هذه البدعة عن الشريعة أن يعمد إلى الكتاب العزيز فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء مما كلفنا اعتقاده، ويجتهد في نظره إلى ظاهرها ما أمكنه من غير أن يتأول من ذلك شيئا، إلا إذا كان التأويل ظاهرا بنفسه؛ أعني ظهورا مشتركا للجميع.
ويعني الفيلسوف بذلك أن يستخرج من القرآن في كتاب خصوصي كل العقائد الواجب الاعتقاد بها من دون تأويل، أو بتأويل ظاهر أجلى ظهور للخاصة والعامة؛ لتكون أساسا مشتركا لجميع المسلمين يبنون عليه معتقدهم بلا نزاع ولا جدال، فلا تؤثر فيه مجادلاتهم في التأويلات الأخرى المفهومة وغير المفهومة. قال: وبودنا لو تفرغنا لهذا المقصد وقدرنا عليه، وإن أنسأ الله في العمر فسنثبت فيه قدر ما يتيسر لنا منه، فعسى أن يكون ذلك مبدأ لمن يأتي بعد؛ فإن النفس في غاية الحزن والتألم مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة، والاعتقادات المحرفة، وبخاصة ما عرض لها من ذلك من قبل من ينسب نفسه إلى الحكمة، فإن الأذية من الصديق هي أشد من الأذية من العدو؛ أعني أن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة؛ فالأذية ممن ينسب إليها أشد الأذية.
هذا ما رأينا تلخيصه من هذا الكتاب للدلالة على مبادئ ابن رشد، وعلى منحاه في التأليف وأسلوبه في المناظرة. وقد جمعنا في هذه الخلاصة كل أغراض المؤلف. (14) الفلسفة بعد ابن رشد وأخلاقه
كان من المنتظر بعد ظهور ابن رشد في الأندلس أن يقوم بعده نوابغ من بني قومه يتوسعون في الدروس الفلسفية، وينتفعون بالشروح التي وضعها ابن رشد على أرسطو، وبذلك يكملون الحركة الاجتماعية والفلسفية، ويقومون مقام فلاسفة الإفرنج الذين جاءوا بعدهم فأخذوا عنهم وكملوها. وإنما كان ذلك منتظرا؛ لأنه من الصعب على العقل البشري أن يصدق أن تلك البذور الفلسفية التي بذرها هذا الفيلسوف تجف ذلك الجفاف في التربة الأندلسية، وتختنق هذا الاختناق.
Unknown page