وهناك شيء آخر أحب أن أنبه إليه، فلقد كتبت الفرافير، ليس فقط على أساس دمج خشبة المسرح بصالة المتفرجين وإحالة المسرح كله إلى وحدة واحدة تضم الممثلين والجمهور معا، واعتبره البعض شيئا غير جديد باعتبار أنه استعمل في المسرح الصيني والياباني وعند بريخت وبيراندللو، ولكن الفرافير مكتوبة على أساس قاعدة أخرى أشرت لها في «نحو مسرح مصري»، وهي قاعدة التمسرح، بمعنى أن حالة التمسرح الكاملة في رأيي لا بد لوجودها أن يساهم ويشترك كل فرد من الجماعة البشرية الموجودة مشاركة شخصية في اللحظة، فلو كانت حالة التمسرح حالة رقص فلا بد أن يبدأ الاحتفال بأن يرقص الجميع، يرقص كل «فرد» حتى تصل «الجماعة» إلى الحد الأدنى من النشوة، تلك التي يستوي لديه عندها أن يرقص هو أو يتفرج على رقص غيره، وقلت إن هذا هو ما يحدث في الغناء الشرقي الذي كان يبدأ بغناء جماعي من الكل حتى يصل الموجودون إلى لحظة الحد الأدنى من الانسجام والنشوة، تلك التي يحس فيها الإنسان أنه قد أصبح على اتصال تام بغيره وبالجماعة والطبيعة والكون، حينئذ وعند هذه اللحظة لا يصبح ضروريا أن يغني المرء بنفسه كي يمضي قدما في طريق متعته الفنية، ولكن لحظتها يستوي عنده أن يغني (أي يرسل) أو يسمع (أي يستقبل). هنا، تسكت في العادة معظم الأصوات وينفرد بالأداء صوت واحد من المستحسن أن يكون أجملها جميعا، بحيث ينتشي صاحبه لأنه يغني لهم ويرسل وينتشي الآخرون لأن متعتهم بالاستقبال قد أصبحت تعادل إن لم تتجاوز متعتهم بالإرسال. وقلت إن هذا في رأيي يعد التفسير الوحيد لظاهرة الكورس في الغناء الشرقي أو المسنداتية أو غيرها.
قصدت إلى أن تحدث نفس حالة التمسرح هذه في الفرافير، بحيث لا بد أن يشعر كل متفرج وممثل وكل حاضر أنه يساهم ويشترك بحرية في إيجاد حالة التمسرح وشمولها، ولهذا فمعظم حوار الأجزاء الأولى من الفرافير - بجانب أدائه لوظيفة النص في المسرحية - يساهم من ناحية أخرى في التمهيد لحالة التمسرح ثم إيجادها ثم تطويرها. وبالنسبة لجمهور مسرح عام المهمة صعبة، فهم مجموعة من الغرباء تلتقي لأول مرة وربما لآخر مرة في مكان كهذا، وقد جاءت لتتفرج على رواية ما. لا بد من إلغاء الرواية الجاهزة التي تعودوا عليها وإشعارهم أن الرواية تؤلف أمامهم وأنهم ممكنهم أن يتدخلوا في تأليفها ويغيروا ويبدلوا منها، لا بد من إلغاء التمثيل والتفرج والممثل والمتفرج، لا بد للجميع أن يخلعوا ذواتهم الخارجية وتخرج طبيعتهم الإنسانية المكنونة لتتجمع كلها، وتكون الذات الجماعية الواحدة التي ستستمتع بالتمسرح.
على هذا الأساس فهناك في النص عدد من الأدوار المكتوبة لمتفرجين، أي مفروض فيهم أنهم متفرجون جالسون في الصالة، ولكنهم سيتدخلون في أوقات معينة ويشتركون في الرواية، والحل الثاني كان أن يقوم بهذه الأدوار متفرجون حقيقيون قياما تلقائيا بلا كلام مكتوب أو توزيع أدوار، ولكنه حل للأسف ولألف اعتبار غير ممكن، ولهذا كتبت هذه الأدوار لممثلين يجلسون في أماكن متفرقة من الصالة ويقومون بأدوار «المتفرجين»، وهؤلاء المتفرجون يتدخلون بكلمات قليلة وتعليقات سريعة أول الأمر، ولكن في لحظة من اللحظات ، تلك التي يفشل عندها فرفور في إيجاد حل ويطلب من الحاضرين أن يشتركوا معه وأن يقترحوا عليه الحلول، في تلك اللحظة ينتقل الحدث المسرحي إلى الصالة، وتصبح هي خشبة مسرح كبيرة تضاء فيها الأنوار بينما تخفت الأضواء على الخشبة الحقيقية كي تستحيل إلى صالة ليس بها غير متفرجين، هما فرفور وسيده، ومن مكانه في هذه الصالة يتولى فرفور مهمة الاشتراك في المؤتمر الكبير الذي ينعقد لاقتراح الحلول ويعلق عليها أو يفندها أو يسخر منها بمثل ما يفعل أي متفرج طويل اللسان.
هذا ما أردته وبنيت النص عليه، ولكن المخرج مع احتفاظه بنفس كلمات النص فعل شيئا آخر، جمع هؤلاء «المتفرجين» في كورس، وآثر أن يجعلهم يصعدوا خشبة المسرح باقتراحاتهم وحلولهم التي آثر أيضا أن يقولوها كمجموعة.
ولقد عارضت في هذا باعتبار أنه يلغي ركنا مهما من أركان حالة التمسرح التي قصدت إليها، ولكن لأني أعتبر الإخراج المسرحي فنا يجب أن تتوفر له وجهة النظر الخاصة، تركت للمخرج حرية أن يطبق وجهة نظره تلك وأن يكون في نفس الوقت مسئولا عنها، وهو ما حدث. وصحيح أن الكورس كان بارعا في أدائه وملفتا للنظر، إلا أن نظرية التمسرح لا تزال باقية جديدة غير مطروقة في انتظار مخرج آخر يدركها ويحسها ويقدمها.
كذلك اقتضت عملية ضغط زمن الرواية اختصار أجزاء من حوار بعض المواقف، اختصارا تم في بعض الأحيان على حساب المعنى العام للرواية، بحيث أساء البعض فهم المضمون وافترضوا أشياء كثيرة حاسبوني عليها، والنص منها بريء، بحيث إني أطلب ممن حضر العرض المسرحي وخرج بمفهوم ما، أي مفهوم، أن يعيد قراءة هذا النص الكامل، فلربما غير من رأيه أو من مفهومه، خاصة وقد اتضح لي أثناء العرض ضرورة إجراء بعض التعديلات الطفيفة التي لا يمكن التنبؤ بها قبل رؤية العمل مجسدا ومعروضا وفي حضرة الجمهور. •••
بقيت كلمة تعتبر في رأيي جزءا لا ينفصل من هذه المسرحية، كلمة لا بد أن أقولها لأصدق مع نفسي ومع الحقيقة، وأنصف جنودا مجهولين، لولاهم ودون أدنى مبالغة لما كان هذا العمل، ولما كنت أنا نفسي. فلقد مرضت أثناء كتابة الفرافير، وبسببها، إلى درجة الموت، وليس فقط الإشراف عليه، حتى إنني كنت أترك كل ليلة لأخي كلمة أقول له فيها ما يجب أن يفعله بالمسرحية إذا مت، وأحيطه علما بالجزء الناقص منها وأحداثه وأسلوب كتابته، وأحدد له اسم الصديق الذي يتولى التنفيذ ويكمل الفرافير. وإذا كنت لا أزال أحيا والحمد لله، وإذا كانت الفرافير قد أنقذت هي الأخرى، فالفضل في هذا لزوجتي رفيقة العمر وزميلة ساعات الرعب، ولأخي أحمد إدريس، الذي ترك حياته كلها وتفرغ لي، وللصديق الكبير الذي طرد شبح الموت من حجرتي ليتربص له في حجرته ويغتاله في طرفة عين، المرحوم الدكتور أنور المفتي، الذي مات قبل أن يراها، إليهم أهدي، بتواضع وخجل من ضآلته، هذا العمل.
المحتويات
الفصل الأول
المكان:
Unknown page