الفاجعة المصرية
لا شيء يؤكد اختلاف ملامحنا المسرحية المصرية اختلافا جذريا عن الملامح الإغريقية ومن ثم الأوروبية مثل مفهومنا كشعب للمأساة أو الفاجعة. المأساة الإغريقية لون من ألوان المسرح، أراد به الإغريق أن يصوروا بطولة الإنسان وهو يقاوم أو يناضل قدره المحتوم، إنها دائما تبدأ بافتراض أن البطل كان ضحية لعنة أو مقدر إلهي كتب عليه فيه أن يقتل أباه مثلا ويتزوج أمه، هذه نهاية حتمية لا بد أن ينتهي إليها البطل، والمؤلف بعد هذا حر في معالجة ما يحدث قبل هذه النتيجة وما يحدث بعدها، فالمهم أن النتيجة واقعة مهما حاول بطلها الهرب أو الفكاك أو اجتمع أهل الأرض جميعا ليحولوا بينه وبين مصيره المحتوم.
البطل هنا إذن ضحية مغلوبة على أمرها، ضحية بريئة لا ذنب لها أو ذنبها الحقيقي أنها إنسان غير قادر على خط مصيره، وليست إلها قادرا على التحكم في وجوده ومنتهاه، البطل التراجيدي الإغريقي إذن ليس هو البطل الحقيقي للتراجيديا، وإنما البطل هو الذي يقول كلمته سواء كانت خطأ أو صوابا، عبثا أو سخافة، لتستحيل إلى حكم نافذ غير قابل لأي تبديل أو تحريف. وكان هم المؤلفين الإغريق أن يحاولوا قدر طاقتهم أن يجسدوا بطولة الإنسان الخارقة وهو يكافح ويحيا دون أن يدري مصيره المحتوم. كان همهم أن يحظى هذا البطل، هذا الإنسان، بعطف الناس، وحتى عطف الآلهة أو القدر الشرير وإيضاح أن ما يرتكبه الإنسان من شر مسألة لا ذنب له فيها وإنما هو مسوق إليها بفعل قوى خارجة عنه وعن إرادته.
أما بطلنا التراجيدي هنا في مصر، أو البلاد العربية، أو الشرق عامة، فهو مختلف. إنه ليس ضحية لقدر مجرم أو عابث، البطل هنا بطل حقيقي، ليس للأعمال البطولية التي يقوم بها، ولكن لأنه هو الذي يملك مصيره في يده ويتولى تحديد خط حياته، بمعنى أنه هو الذي يتولى الاختيار ويتحدد مصيره نتيجة محتمة لهذا الاختيار. مأساة الإنسان هنا هي مأساة اختياره، هي مأساة القابض على مصيره المالك زمام أمره. إنه هنا ليس ضحية أحد أو قوة خارجة عنه، وإنما هو ضحية نفسه أو ضحية قدرته على الاختيار وإرادته: هو الطماح مثلا الذي يبدأ خط مصيره برغبة عارمة في الاستحواذ على ما لدى الغير إلى أن تؤدي به هذه الرغبة إلى التورط في دوائر مأساوية أوسع وأوسع حتى ينتهي إلى ارتكاب الجريمة الكبرى، القتل أو انتهاك الحرمة أو التضحية بأعز الناس لديه على مذبح شهوته. وحينئذ يقام عليه الحد وينال الجزاء العادل وينتهي مقتولا أو واقعا في نفس الحفرة التي حفرها لأخيه أو ذاهبا إلى النار في يوم القيامة.
وجهتا نظر إلى الحياة الإنسانية مختلفتان تماما؛ فعند الإغريق الإنسان ضحية ونضاله نضال ضحية قد خططت لها الآلهة ورسمت طريق الحياة والمصير، الإنسان بإرادته وعقله وشخصيته ليس سوى أداة تتحقق بها إرادة سكان الأوليمب أو سكان السماء. وعندنا هنا الإنسان هو الذي يصنع حياته ومصيره، ولهذا فهو مسئول عن إجادة هذا الصنع أو تشويهه، مسئولية يحاسب عليها حسابا عسيرا وينال في النهاية ما يستحق من ثواب أو عقاب. عندنا هنا الإنسان حر أن يختار حرية لا حد لها، وفي الوقت نفسه هو مسئول عن ذلك الاختيار مسئولية لا حد لها، بنفس القدر من الحرية تكون المسئولية. أما لدى الإغريق فليست للإنسان ذرة حرية، وبالتالي فهو ليس مسئولا، وأديب ليس مسئولا أبدا أنه قتل أباه وتزوج أمه، فهي جريمة فرضت عليه فرضا ولم يكن في المأساة كلها سوى دمية تحركها أصابع القدر، ومن قال إن الدمية مسئولة؟!
ومن العجيب أن الشرق بعد هذا اتهم بالتواكل والاعتماد على «الله» في كل كبيرة وصغيرة من أموره، أي الاعتماد على القوى الخارجة عنه، وهي إلى حد ما تهمة صحيحة، ولكن ليس سببها أبدا نوعا من التبني لوجهة النظر الإغريقية أو الأوروبية. إن الإنسان الشرقي «يستعين» فقط بهذه القوى الخارجة عنه في تحقيق ما يريده هو وما اختاره بإرادته المطلقة الحرة. إنه هنا ليس «قدريا» يؤمن أن مصيره قد حدد قبل ولادته، ولكنه «مجتهد» فقط، وحر، ولإحساسه بضخامة المسئولية الملقاة على عاتقه، وأية مسئولية أضخم على الإنسان من مسئوليته عن نفسه ومصيره، ثقل الإحساس بتلك المسئولية هو الذي يدفعه للاستعانة عليها بالله وبالناس وبكل ما تستطيع أن تصل إليه يده. إن حياتنا حافلة بكلمات مثل «المكتوب» و«المكتوب على الجبين» و«القدر»، وكل هذه الشعارات التي كان من الطبيعي والمعقول أن تكون هي شعارات الحياة لدى الإغريق والأوروبيين، ولكننا هنا نتحدث عن المفهوم المأساوي أو التراجيدي أي المفهوم الفني، وهناك فارق كبير بين الحياة الواقعة والمفهوم الفني المنعكس منها، فلعل في حياتنا تسليما مطلقا بالقضاء والقدر والنهايات المحتومة، ولهذا جاء فنانونا وأبطالنا التراجيديون يحملون مفهومات مختلفة تماما، ولعل الحياة لدى الإغريق ومن بعدهم الأوروبيين حافلة بشعارات وإحساس حرية المصير والفاعلية المطلقة للإرادة الإنسانية وقدرتها، ولهذا جاءت أساطيرهم ومآسيهم بمفهوم يقلل كثيرا من حدة ذلك الإحساس ويتعمد إظهار الإنسان بمظهر العاجز أمام القوى التي حددت له المنتهى والمصير والتي لا يملك أمام إرادتها إلا الخضوع والعجز والتسليم.
لعل هذا، ولكن المآسي الإغريقية على أية حال لا تستطيع هزمنا من الأعماق أو استدرار دموعنا لإحساسنا أن أعماقنا ترفضها وترفض أصلا أن تصدقها أو تنفعل بها، بل هي لا تبعث عندنا إلا على الضحك؛ فنحن لا نستطيع أن نعقل أو نصدق أن الإنسان منا غير مسئول عن نفسه وعن مصيره من أكثر من سبعة آلاف عام، ونحن نؤمن ونبشر بهذه الحقائق المبدئية من حقائق الوجود الإنساني، ولا تزال الصور والرسوم على جدران مقابر الأقصر تقص قصة الموت وما يحدث للإنسان بعده، قصة الميزان الذي توزن به أعماله والصراط المستقيم الذي عليه أن يسير فوقه، وكل هذا الاختبار وتقدير مدى ما قدمه في حياته من حسنات أو سيئات ليتحدد مصيره بناء على النتيجة. ولكننا نلمح أيضا أن كلمات مثل «عبث الأقدار» و«سحت الأقدار» وكل حديث عن القدر، كلها في أغلب ظني مستوردة، مفهومات معربة عن الحضارة الإغريقية بالذات، سواء بالاحتكاك على المستوى الشعبي أو بالكتب التي قام العرب بترجمتها عن الإغريق.
إن النقاش المشهور في تاريخ العرب حول هل الإنسان مسير أم مخير، ليس وليد الحضارة العربية أبدا، ولكنه نقاش كالنقاش حول مسرح اللامعقول في حركتنا الأدبية الآن، و«عبث» الوجود، نقاش منقول ضمن ما نقلناه أو ننقله عن الحضارة الإغريقية أو الأوروبية. إنها قضية أثيرت ونشأت وأصبح لها مدارس واتجاهات، ليس نتيجة لانبثاقها عن التفكير العربي المحض، ولكن نتيجة لحركة الترجمة الضخمة التي قام بها العرب للتراث الإغريقي واستشراء علوم المنطق والجدل بعد ترجمة أرسطو والسوفسطائيين ونشوء قضية جدلية في شكلها مثل قضية هل الإنسان مخير أو مسير، قدرية في مضمونها لأن الإغريق وحدهم هم الذين خلقوا وابتكروا وتبنوا فكرة أن المصير الإنساني ليس من صنع الإنسان ولكنه من صنع آلهة ظالمة أحيانا، وعادلة في بعض الأحيان.
بمعنى آخر إن المسرح المأساوي عندنا كان لا يمكن أن ينشأ على نفس النمط الذي نشأ عليه المسرح المأساوي الإغريقي، فمفهوم المأساة مختلف تماما. المأساة هنا تنشأ خارج الإنسان والإرادة الإنسانية، وتؤدي إلى تغييرات مأساوية فيه وداخله، بينما المأساة عندنا تنشأ من داخل الإنسان نفسه، من سوء اختياره لحياته أو لصفاته أو لمثله، وتنتهي وقد فلت الزمام من يده وأصبح لهذه المأساة التي نشأت من داخل الإنسان نتائج خارج هذا الإنسان تتصل بالناس من حوله أو بمجتمعه.
المأساة هنا ميتافيزيقية محضة، والمأساة هنا اجتماعية محضة، المأساة هناك تناقش العلاقة بين الإنسان وخالقه أو المتحكم في مصيره، والمأساة هنا تناقش العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وجناية الإنسان على الإنسان وليست جناية القدر على الإنسان.
Unknown page