Fann Mucasir Muqaddima Qasira
الفن المعاصر: مقدمة قصيرة جدا
Genres
أنتجت مجموعة واسعة من الأعمال الفنية التي تشمل مثل هذه التركيبات البسيطة من العناصر. إن استقصاء عدد كبير من هذه الأعمال يعني حصولنا على انطباع (مخادع) عن وجود آلة في الساحة الفنية تأخذ عناصر من أماكنها الوظيفية في العالم وتعيد تدويرها وتجميعها، بحيث يدرك - بوجه عام - أي تجميع لرموز وأشياء في نهاية المطاف. يعد الإبدال تقنية رئيسية في الإعلان، على غرار الفن، والذي يتحتم أن يسبب صدمة أو يقدم تسلية أو على الأقل يثير اهتمام المشاهد، والاستخدام وتعيين المكان هما العنصران الرئيسيان اللذان يفصلان الفن عن الإعلان، وبخلاف ذلك يظلان متقاربين ويسرقان بصورة متكررة أحدهما من الآخر.
شكل 5-5: زبجنيف ليبيرا، «معسكر الاعتقال بمكعبات الليجو».
5
ثمة سبب هيكلي لهذا الاستكشاف المنهجي لمثل هذه التركيبات يتمثل في تنافس الفنانين على العثور على مكان مميز داخل عالم الفنون. فعلى حد تعبير هاورد سينجرمان: «إن مهمة طالب «الفنون»، على غرار تلك الخاصة بأعماله، أن يجد - ويميز - مكانه.» ومع امتلاء المزيد والمزيد من الأماكن، يبدو كما لو أنه ليس هناك إثم في أي جمع بين العناصر. هناك حالة متطرفة وهي عمل زبجنيف ليبيرا «ليجو» (1996)، وهو عبارة عن سلسلة من معسكرات الاعتقال بنيت بمكعبات الأطفال، وعرضت جنبا إلى جنب مع أعمال استفزازية مشابهة عن الهولوكوست بالمتحف اليهودي في نيويورك في معرض بعنوان «انعكاس الشر» عام 2002.
لدى تأمل هذه الأعمال الفنية من منظور المشروعات الفردية لكل فنان نجد أنها متنوعة ومتميزة وذاتية، وكل منها يحمل معنى خاصا. ولدى تأملها من وجهة نظر العالم الفني بوصفها نظاما، تبدو كأنها أجزاء لآلة تماثلية، تنتج نطاقا ضخما من التركيبات الجديدة يجري اختبارها أمام جماهير مختلفة لمغزى تسويقي.
مخافة أن يعتقد القارئ أن رأي هيوم - بأن خيال البشر أجمع لا يعدو كونه دمجا لعناصر موجودة - ينطبق هنا، يجدر ذكر أن هذه التركيبات قد أضحت أبسط مقارنة بالممارسات الحداثية وحتى بعد الحداثية، وعناصرها موجودة بوضوح أكثر، وإعادة دمجها أضحت أكثر عشوائية، والمغزى الذي تولده أضحى سريع الزوال ومقتضبا أكثر. لعل هناك ارتباطا بين التلاعب السريع بالصور وتطور التجارة الحرة، وتدمير الحواجز، والذكرى التاريخية، والهويات لصالح قابلية الأشياء والرموز والأجساد للاستبدال والتحريك.
إن هذا الارتباط برأس المال غالبا ما ينكر لصالح فهم آخر أكثر توافقا، في حين أن المؤرخين الفنيين رأوا أن التناقض أو التنافر الأسلوبي في الماضي هو تعبير لاشعوري عن التناقضات الاجتماعية (الاقتباس الكلاسيكي هنا هو تحليل ماير شابيرو عن المنحوتات في سوياك)، يستخدم الآن أداء متعمد تماما لهذه المتناقضات للتأكيد على الوعي بانحطاط الثقافة المعاصرة. بطبيعة الحال، إن هذا الوعي ذاته وتمثيله في الأعمال الفنية يسمح للمشاهدين بالاستمتاع بمشهد الانحطاط، ويضمن لهم أن مجرد الوعي به كاف ليحملهم إلى مستوى أسمى.
ينعكس هذا التماثل في صنع الأعمال الفنية على رؤى نقدية شهيرة عن الفن المعاصر في منتصف التسعينيات، وهو ما ينبغي ألا يدعو للدهشة، لأن إنتاج الأعمال الفنية والكتابات التي تدعمه غير منفصلين. مع ذلك، ثمة تباين صارخ بين الكثير من الكتابات الأكاديمية الخاصة بالفن والنقد الفني؛ فقد نزعت الكتابة الأكاديمية إلى التعلق بالهيمنة المستمرة للتفكيكية، والنماذج الفرويدية واللاكانية العتيقة (وهي غير موثوق بها على نطاق واسع في المجالات الأخرى)، والرؤى القائمة على الهوية. من جانب، تعد الكتابات الأكاديمية التي تتكون من قراءات متعمدة على ما يبدو، وتذخر بالاتحادات الشعرية والقفزات الاعتباطية، انعكاسا للحرية التي توجد على نحو مثالي في الفن نفسه. إن أداء الكاتب عمل إبداعي شأنه شأن أداء الفنان، وقدر كبير من الكتابة الفنية الأكاديمية أيضا يظهر تماثلا خفيا أفرزته الضغوطات المؤسسية، يكمن أسفل أسطحها المتنوعة في الظاهر. تتمثل الميزة الخاصة في الكتابات التفكيكية والنفسية التحليلية المهيمنة في أنها يمكن أن تطبق عشوائيا على أقل الأعمال من حيث الملائمة ومع ذلك يمكن توقع الخروج بنتائج «خطيرة»؛ فما إن يتقن المنهج، فإن أية مادة يمكن إدخالها في الآلة. اكتشفت مؤخرا فراغات صادمة حتى في الأسطح الملساء المصقولة بأعمال سام تايلور وود، وهكذا تلبى حصص النشر التي تطلبها المؤسسات من الأكاديميين الذين أمامهم وقت بحثي محدود.
إن هؤلاء الكتاب ممن يساهمون إلى حد بعيد في العالم الفني، ولديهم جمهور عريض من القراء، لهم اهتمامات مختلفة تماما. في النقد الفني إبان التسعينيات كان هناك إحياء في الكتابة عن موضوع كان مهملا في السابق وهو الجمال، والذي عكس ظهور الفن الزخرفي القابل للبيع مع انتعاش الاقتصاد. يمكن أن ننظر إلى هذا الأمر بصورة جزئية باعتباره سبيلا للتغاضي عن قضايا السياسة والمال والاختلاف والنخبوية التي مارست ضغوطا (أكثر مما ينبغي بالنسبة للبعض) على الفن في الولايات المتحدة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات.
بغية فهم لهذه التطورات، سنتحدث عن ثلاثة من الكتاب الأمريكيين المهمين - وهنا سنعود إلى المركز المهيمن لاستهلاك الأعمال الفنية - وهم يتقاسمون سمات مشتركة، رغم مواقفهم المختلفة بدرجة كبيرة: آرثر دانتو، وتوماس مكافيلي، وديف هيكي. ثلاثتهم ذكور بيض ليبراليون (لذا نستثني هنا المحافظين البارزين المتذمرين من حالة الفنون، على غرار روبرت هيوز وهيلتون كرامر)، وثلاثتهم لهم قاعدة عريضة من القراء. ارتبط دانتو وهيكي بالتركيز المجدد على الجمال في الفن المعاصر.
Unknown page