54

لنكن أدباء وشعراء

ينشأ الترف للخاصة التي يتوافر لها الفراغ والمال، فتستطيع أن تعيش فوق مستوى الكفاية والضرورة، وتطلب ما نعده من الكماليات والزيادات. وأدوات الترف في أيامنا كثيرة، وهي تختلف من الطبق الصيني الذي يومئ بزخرفته إلى عصر مضى، إلى بساط إيراني تزدهي ألوانه، إلى غير ذلك مما لا يزال يقتنيه الأثرياء، بل حتى الكتب القديمة قد أصبحت نوعا من الترف يشتريه الأثرياء، ويحفظونه قنية تورث كأنها بعض الجواهر.

وأدوات الترف هذه تقتنى، ولكن هناك ألوانا من الترف تمارس؛ كالأدب والشعر وسائر الفنون الجميلة. وصحيح أن هناك من يحترفونها، ويجدون فيها ضرورة العيش ووسيلته، بل يجدون فيها أيضا ضرورة الحياة؛ لأنهم ينفسون بها عن كظوم نفسية.

وعلى ذلك ليست الفنون الجميلة عند من يحترفونها ترفا، ولكنها كذلك عند من يهوونها؛ أي يجعلون منها هواية ينفقون عليها من وقتهم ومالهم؛ يشترون الكتب الأدبية كي يقرءوها، ثم لا يكتفون بهذا، بل يحاولون أن يكونوا أدباء وشعراء وفنانين. وهذه المحاولة - وهي في الأغلب محاولات عديدة تنتهي إلى أن تكون ممارسة مزمنة - هي نوع من الترف؛ لأن الممارس لهذه الفنون لا يتخصص؛ إذ هو في الأغلب موظف في الحكومة أو في شركة، وقد يكون معلما أو طبيبا أو تاجرا، ولكنه منذ فجر شبابه التفت إلى لون من التأنق الفكري عند أحد المؤلفين، فاستهواه وجذبه وحمله على الاستزادة من القراءة والاطلاع، ثم بعد ذلك أخذ التأليف يداعبه فصار يكتب المقالة أو القصة، ويقرض البيت أو البيتين، بل هو ربما يعمد إلى التوسع الفني فيسأل عن الموسيقا والمسرح، وينتقد ويتحرى الأصول ويحاول التعمق. وهو هنا لا يبغي كسبا من هذا المجهود؛ إذ هو لا يريد احتراف الفن؛ لأنه قانع بأن يكون هاويا لا أكثر.

وثق - أيها القارئ - أن هذا الهاوي الذي لا يكسب قرشا من هوايته، بل لعله ينفق الكثير عليها باقتناء الكتب. هذا الهاوي لا يضيع وقته؛ لأنه بهوايته هذه يرتفع إلى أسمى ما وصل إليه التأنق الذهني. ذلك أن الشاعر يتخير من الكلمات والمعاني ما يسمو على المبتذل المألوف، والأديب يحاول أن يحيل هذه الحياة التكرارية الآلية إلى قصيدة فنية، وكذلك الشأن عند جميع الفنانين.

والهاوي الذي يغمره هذا الجو، ويعيش في هذا المناخ ينتهي إلى أن يتنفس هواءه، ويأخذ بمقاييسه، وعندئذ ينتقل التأنق في التعبير إلى التأنق في الحياة، ويعيش عندئذ حياة مترفة تبدو لغيره مثل سائر الحيوات، ولكنها في الصميم فن وترف في التفكير؛ ذلك أن الأديب يعيش من يده إلى فمه كما هو الشأن في سائر الناس من حيث النشاط الذهني؛ لأنه بهذا النشاط قد استطاع أن يخلق لنفسه عالما آخر يجتر فيه أفكاره، ويتخيل ويتأمل، ويذكر الماضي، ويبصر بالمستقبل، ويدرس في تعب أو لذة، ثم يقيس حاضر المجتمع وواقعه بما ينبغي أن يكون. وهو قد وجد في الأدباء والشعراء القدامى والعصريين من حدثوه أحاديث الكمال والسمو والعدل والشرف والإنسانية والرقي. فهو بهذا كله يجد في نفسه كظوما تحمله على التفريج بالكتابة، وقد ينجح ويعود، أو يبدأ يصف الدواء لمساوئ عصره، وقد لا ينجح في الوصول إلى الجماهير، ولكنه مع ذلك قد دخل مدينة الفن والأدب والشعر، واستمتع بما فيها من كنوز، وهو لن يخرج منها طوال حياته، ولن يهجرها إلى غيرها.

إني أقصد أن يبدأ كل شاب حياته الوجدانية بالتعرف إلى الآداب والفنون؛ يبدأ متفرجا متنزها، ثم يتدرج محاولا، ثم ينتهي كاتبا، وأقصد أيضا أن يبدأ الشاب وهو يجد الفن أو الشعر أو الأدب في الكتاب، ولكن يجب أن ينتهي بأن يحاول إيجاد الفن والشعر والأدب في حياته. أجل، هذه الحياة يجب ألا نتركها تجري في نثر مبتذل، بل نجعل منها قصيدة، أو على الأقل نجعل بعض الأبيات العالية تتخلل هذا النثر، فنعيش ولو لحظات في حياتنا نحس فيها المجد والقداسة والبطولة، ونرى الجمال يشع من قلوبنا.

وهنا يضحك بعضنا ساخرا ويقول: هذا خيال! إنما الحياة مجهود نجمع فيه ونكنز لليوم العصيب والأزمة الطارئة، وليست الحياة قضاء الوقت في تأليف الشعر.

وجوابي أني لا أنكر قيمة المجهود نبذله كي نكفل الطعام واللباس والسكنى، ولكن هل معنى هذا أن نقضي العمر كله في الاهتمام بالطعام واللباس والسكنى؟!

إن الإنسان لا يمكن أن يكون إنسانيا إذا اقتصرت اهتماماته وهمومه على الطعام واللباس والسكنى، وإنما هو يرتفع إلى الإنسانية عندما تجد الثقافة الفنية؛ ثقافة الترف الفكري، مسكنا في ذهنه تأوي إليه، بل تمرح فيه وتمتزج بخلاياه، وتعود جزءا لا ينفصل من حياته يوجهه ويكيفه ويعين له التصرف والسلوك؛ أي يجعله ويضطره إلى أن يعيش المعيشة الفنية.

Unknown page