البيت متحف
البيت من أخص الأشياء التي نملكها؛ فقد نقتني أسهم الشركات، أو مئات أو آلاف الجنيهات، أو قد نشتري عزبة نستغلها ونعيش في إحدى المدن من غلتها، ولكن ليس لواحد من هذه المقتنيات تلك العلاقة الحميمة التي تربطنا بالبيت؛ لأن له خصوصية بنا ليست لغيره، ونحن نقضي فيه معظم نهارنا، وجميع ليلنا، ونعاشر فيه أولادنا وزوجتنا، ونجد فيه الراحة بعد كد النهار، كما أننا نطبع عليه شخصيتنا؛ لأننا نتخير له الأثاث ونتأنق في ترتيبه. ومن هنا هذا الحنين الذي نحس به عقب اغتراب عنه بضعة أسابيع أو أشهر، ولو كان هذا الاغتراب في مصيف أو مشتى للراحة والاستجمام.
وعند بعض الناس يعد البيت مأوى أو مطعما؛ ولذلك سرعان ما يتركونه إلى القهوة أو النادي أو الحانة؛ حيث يجدون رفاهيتهم مع الأصدقاء، أو في لذة الشراب، ولكن هؤلاء البعض ليسوا في الغالب على حال سوية نفسية؛ إذ هم يكظمون أشياء من علاقة زوجية سيئة إلى قلق اقتصادي أو حرفي أو نحو ذلك. ولفرارهم من البيت معنى رمزي يسهل تفسيره بالتحليل النفسي.
والبيت مشتق لغة من فعل «بات» أي أمضى الليل، وهو بهذا الاشتقاق يدلنا على الضرورة الأولى التي اقتضته، ولكن الإنسان في طورنا الحضاري لا يقنع بالضرورات؛ إذ هو قد سما إلى كثير من الكماليات، وهو يطلب من البيت أكثر من المأوى والمطعم. وقد نصحنا في فصل سابق بأن يجنح الزوجان من وقت لآخر إلى المطاعم العامة، وبأن يحال غسل الملابس إلى حيث تغسل بالأجر بدلا من إحالة البيت إلى ورشة للغسل والطبخ طوال اليوم.
والوضع الاجتماعي القائم يجعل البيت المكان الطبيعي للمرأة، وليست الحال كذلك للرجل، ولكنا نبالغ في تأكيد هذا الوضع حتى لكأن المرأة قد خلقت للبيت، وليس العكس. وهذه المبالغة تنتهي بأن تجعل من البيت محبسا لها، يفصل بينها وبين النشاط الاجتماعي الذي يجب أن تدخل في غماره، وتتأثر به وتؤثر فيه؛ إذ هي - قبل أن تكون «ربة بيت» - إنسان له مركزه الأكبر في هذا الكون قبل مركزه الأصغر في البيت.
وهناك فرق بين السرور والسعادة؛ الأول: مادي بشأن المواد التي نقتنيها ونستمتع بها، والثانية: فكرية بشأن الغايات والمثليات، ولكن ليس شك في أن أقرب المسرات إلى السعادة هو الحياة العائلية السامية؛ لأن البيت مادة وفكرة؛ أي إنه مأوى ومطعم ومتحف، كما هو عائلة تقوم على علاقات روحية، وتهدف إلى مثليات، وتحقق أماني كثيرا ما تحملنا على أسمى المجهودات.
والبيت السامي العصري هو معهد حر يجد فيه أعضاؤه حرية الفكر تسود جميع المناقشات النيرة في ديمقراطية اجتماعية، وتربية ذهنية وأخلاقية، وهو وحدة المجتمع الذي تتألف منه الأمة، وكل عناية بالبيت إنما هي في النهاية عناية بالأخلاق الحسنة والسلوك البار؛ لأن الأطفال عندما يشبون يعاملون أفراد المجتمع بالقيم والأوزان التي تلقوها في البيت أيام طفولتهم.
ثم نحن نعيش في البيت نحو سبعين سنة؛ أي نعيش هذا القدر بأجسامنا، ولكنا نعيش بنفوسنا أكثر من هذه السنين؛ لأننا نحس نفسيا أن عائلتنا منا، وأن حياتنا مندغمة في حياة أفرادها؛ ولذلك يمتد إحساسنا للبيت إلى مقدار من السنين يتجاوز حياتنا. وهذا الإحساس يجعلنا نستهين بأي مجهود لترقية البيت.
ثم للبيت خصوصية بنا كأنه البذلة التي نلبسها على قد قامتنا؛ فنعتني بتفصيلها حتى تتخذ قسمات أعضائنا مع ما قد يكون بها من نقص، ولذلك نحن نؤثر البذلة التي فصلها الخياط على بذلة جاهزة قد أخذ القياس فيها بالتعميم وطراز السن، وليس كالتخصيص والعناية الخاصة بكل فرد.
ويعد البيت لهذا السبب «مركبا» نفسيا، والحنين إليه أحد مظاهره، وقد وجد البيت لذلك حرمة في كثير من الأمم المتمدنة؛ فلا يجوز للدائن بيعه أو بيع أثاثه مهما بلغ الدين الذي يحمله صاحبه، كما قد أجازت الأمم امتلاك المسكن الخاص في المبنى العظيم الذي قد يحوي عشرين أو ثلاثين شقة؛ وذلك تشجيعا لهذه الخصوصية التي تحمل صاحب البيت على الارتباط والعناية به؛ لأنها لحظت أن للبيت أثرا تقويميا للأخلاق؛ فكما أن المتزوج أقل جرائم واستهتارا من الأعزب لارتباط الأول بزوجته، كذلك صاحب البيت أقوم أخلاقا ممن لا يملك بيتا لمثل هذا الارتباط.
Unknown page