نحن نستطيع أن نثبت أن لنا جسدا ماديا مؤلفا من بعض عناصر كيماوية، ونستطيع أن نثبت أن لنا حياة هي من مفاعيل الائتلاف الكيماوي لتلك العناصر، وأما كيف تصدر هذه الحياة من ائتلاف تلك العناصر، فهو أمر لا يزال قيد بحث العلم العملي الاختباري المعملي، وقد يكتشفه العلم في المستقبل القريب أو البعيد، ونستطيع أن نثبت أن ما نسميه قوى عقلية إنما هو أفعال وظائف المراكز الدماغية.
نحن نستطيع كل ما تقدم، ولكننا لا نستطيع أن نثبت أن للإنسان هيكلا أيثريا يتقلد شخصيته تقلدا تاما بحيث تبقى هذه الشخصية تامة بعقليتها بعد تعطل وظائف الجسد بتعطل أدوات الحياة ومراكز الدماغ؛ ليس عندنا أي برهان على وجود هذا الهيكل، ليس عندنا شعور أو إحساس بوجود هذا الهيكل فينا بتاتا، وما هو إلا فرض لتفسير وجود شيء سموه روحا، ولكنه فرض بلا برهان، وفي طوق كل إنسان أن يفرض ألف فرض لتعليل ما يدعيه، ولكن العقل لا يسلم بفرض بلا برهان.
والأيثر نفسه لا يزال فرضا غير يقيني؛ إذ لا برهان علمي معملي على وجوده، وما فرضه العلماء إلا لتعليل بعض الظاهرات الطبيعية، وإذا أمكنهم أن يعللوا تلك الظاهرات بدونه استغنوا عنه.
ونظرية النسبية تقول إنه يستغنى عنه؛ لأن الظاهرات الطبيعية تتعلل بها، ولا يعتبر الأيثر حقيقة علمية ثابتة، إلا إذا أمكن إثبات وجوده بعمليات معملية، كما يثبت وجود الراديوم والهيليوم والفيتامين مثلا.
2
وإذن وجود الهيكل الأيثري الروحاني للجسد الإنساني فرض محض ضمن فرض آخر بلا برهان، ولو ثبت وجود الأيثر ثبوتا علميا يبقى الهيكل الأيثري الروحاني فرضا معلقا لا يقر له قرار في فضاء الوهم والخيال، إذ لا أدلة على وجوده مع الجسد بتاتا، ما هو إلا خيال شعري جميل في مخيلة الروحانيين. (1-5) تطور الروح
ننظر إلى نظرية أيثرية الروح نظرة أخرى من ناحية التطور. أصبحت نظرية التطور الدرويني حقيقة راهنة عند العلماء، حتى إن اللاهوتيين سلموا بها، وقالوا إنها سنة طبيعية من جملة السنن التي سنها الله لخليقته.
فإذا كان للإنسان روح تتمثل بهيكل أيثري متداخل في جسده، ففي أي دور من أدوار تطور الحياة شرع ذلك الهيكل الأيثري يتكون مع الجسم المادي؟ فعندنا الإنسان النندرثالي كان قبل الإنسان الآدمي، وكان قبله ستة أصناف أناس متفاوتون في التطور، وقبل الإناس السبعة في سلم التطور كان أشباه الإنسان - الغورلا والشمبانزي ... إلخ، وكان قبل هؤلاء القرود على اختلاف أنواعها، وكان قبلها غيرها حيوانات تدرجت في سلم التطور من الميكروب فما بعد كما يعلم ذلك جيدا دارس البيولوجيا؛ ففي أية درجة من درجات التطور ابتدأ وجود الروح؟ أو ذلك الهيكل الأيثري؟
وإذا عينا الدرجة التي ابتدأت عندها الروح فيجب أن نحدد الفاصل بين الدرجتين ونقدم تفسيرا بيولوجيا لكل من الدرجتين، وفي تدرج الأحياء في سلم التطور لم يوجد أي فاصل ظاهر بين درجة ودرجة؛ لأن التطور ليس توثبا بينا، بل هو شبه استمرار.
أما الظاهرات «الشبه عقلية» أو «الشبه عصبية» فتبتدئ منذ أول درجة من درجات الحياة. فجرثومة الأميبا مثلا إذا صدمت ذرة رمل انكمشت عنها، ولكن إذا صدمت جرثومة «داي أتوم»
Unknown page