وفي كتب الوحي في الشرق الأدنى نصوص صريحة على بدء الخليقة المادية وانتهائها بساعة المعاد، حتى لا يبقى إلا العالم الروحي.
ذلك ما يستفاد من الميثولوجيات وكتب الوحي، وأما ما يستفاد من الفلسفة والعلم فمبني على ملاحظات علمية تكاد تكون في حكم الحقيقة، وعلى اختبارات علمية عملية هيهات أن تند عن الحقيقة، وإذا طرقنا الموضوع من ناحية العلم آثرنا أن نبحث أولا في الأدلة على أيلولة الكون المادي إلى الانقضاء - الأدلة المستخرجة من الحقائق العلمية المشار إليها - ثم يسهل علينا أن نعود ثانيا إلى كيفية بدئه ونشوئه. (2) النهاية: اشتقاق الأجرام من السدم
أما أن الكون حادث متغير فقد قرره العلم تقريرا لا مشاحة فيه. فالسديم الذي هو مجتمع عظيم من المادة في الحالة الغازية اللطيفة جدا، يتقلص تدريجا فيما هو يدور على نفسه، وتزداد سرعة دورانه كلما تقلص، وفي خلال ذلك يكون بعض أجزائه أسرع تقلصا من أجزاء أخرى، فتتكون منها النجوم وتنفصل عنها، وتستمر كل نجمة في تقلصها مستقلة، وفي أثنائه قد تنفلق إلى نجمتين متلازمتين في دورانهما - ولذلك أسباب وتعليلات لا يسعها المقام - أو تنتثر منها أجزاء تدور سيارات حولها - وهو نادر؛ وهكذا يتجزأ السديم إلى أجرام متفاوتة الحجم والتكاثف، وبالتالي يتجمد بعضها قبل بعض.
وهنا لا بد أن يلوح في البال هذا السؤال: «ما هو سر هذا التقلص؟ وماذا يحدث في خلاله؟»
أما سره فهو قوة التجاذب بين أجزاء المادة حول مركز مشترك بينها، وأما ما يحدث في خلاله فهو انطلاق القوة من المادة متشععة
Radiating
في شكل أمواج حرارة ونور، وتوزعها في الفضاء. ولما كان علماء العصر قد برهنوا على أن المادة والقوة شيء واحد، أو أن القوة هي المادة متحركة؛ فهذا التشعع أو الإشعاع إنما هو اندثار كهارب المادة ونواها متحولة إلى أمواج نور وحرارة؛ إذن سر هذا التغير الذي نحن بصدده هو ذلك الإشعاع الموجي الذي ينتج عنه أن كل جرم ينقص مادة وقوة في أثناء إشعاعه.
وبناء على حساب السير «تجايمس تجينز» - أحد أعاظم علماء العصر، والذي نستمد منه زبدة هذا المقال - أن الشمس تنقص في كل يوم 360000 طن بسبب الإشعاع الصادر منها، والأجرام المتجمدة كالسيارات أقل إشعاعا، فالأرض تنقص في اليوم 9 أرطال فقط.
أما اندثار الكهيرب والنواة الذي هو سر الإشعاع فسببه التحول الدائب في ذريرات المادة، وفي أرضنا نماذج كثيرة له؛ ومنها تحول عنصر الأورانيوم إلى ثوريوم ثم أكتينيوم ثم إلى الراديوم، وهذا إلى عنصرين آخرين أبسط منه وهما الهيليوم والرصاص. وفي أثناء هذا التحول ينطلق شيء من القوة إشعاعا، وتصبح مادتا هذين العنصرين أقل وزنا من وزن العنصر الأول الذي انحل إليهما؛ بسبب ما خسره في الإشعاع، على هذا النحو تنفلت القوة من الأجرام، في خلال تحولات متوالية تذوب الأجرام رويدا كذوبان الثلوج في الربيع. (3) ناموسا القوة
بعد هذا البيان الموجز يلوح لدارس الطبيعيات أن يعترض قائلا: إذن كلتا المادة والقوة آيلتان إلى الفناء، وهو نقيض ما ينص عليه علم الطبيعيات من أن المادة والقوة غير قابلتين للفناء. وللتوصل إلى جواب مقنع على هذا الاعتراض لا بد من سلسلة بحث طويل في طبيعة التحول الذي أشرنا إليه لا محل للتبسط به هنا، فنقتصر على أول حلقة في هذه السلسلة، وهي البحث في بعض نواميس القوة من حرارة ونور:
Unknown page