فلماذا هذا العالم الحيوي الصغير أعظم فنونا من ذلك الكون الأعظم؟ في حين أن كلا العالمين من مجتمعات مادة واحدة - فوتونات فبروتونات فإلكترونات وذرات وجزيئات - ترى أين السر؟
لا بد أن يبدر إلى ذهن القارئ أن السر هو في الألفة الكيماوية المختصة بالعناصر الأربعة التي هي عتاد الحياة، فهي أقدر من الجاذبية العامة في التجميع والتفريغ وتنويع الدوريات كما رأيت في غضون هذا البحث. ولكن هذه الألفة الكيماوية موجودة في جميع الأجرام التي تجمعت من السدم الشفافة؛ ففي الشموس ترى عناصر متعددة لا وجود لمثلها في أرضنا، وترى جزيئات مؤتلفة منها وبعضها كما في أرضنا، وما هذه الألفة الكيماوية إلا ضرب من الجاذبية.
أجل إن الألفة الكيماوية موجودة هناك ولكن ليس السر في وجودها، بل في قيودها؛ فهي لا تستطيع في أي جرم غير الأرض أن تؤلف حياة من عناصرها الأربعة؛ لأن الحرارة هناك شديدة جدا لا تدع للألفة الكيماوية أن تلعب أدوارها الحيوية في بعض بسائط الجزيئات، وفي الأجرام التي بردت وجمدت كأقزام النجوم المزدوجة لا تستطيع الألفة الكيماوية أن تلعب أدوارها الفنية العجيبة لعدم وجود الحرارة الكافية لعملها. ما وجدت مسرحا لها إلا أرضنا، وربما وجدت مسارح أخرى مثلها لا ندري؛ لأن عملها الحيوي لا يحدث إلا حيث تتراوح الحرارة بين الجليد والغليان، وحيث توجد أشكال المادة الثلاثة - الجمود والسيولة والغازية - في جو هوائي يشمل أوكسجينا، وفي بحر مائي يشمل هيدروجنا، وحيث الكربون والنتروجن مبعثران في الأشكال الثلاثة.
من أين هذه الحرارة المعتدلة في الأرض؟
ليست من حاصلات الأرض؛ لأن الأرض باردة جامدة لا تشع إلا النزر اليسير من حرارتها، وإنما الحرارة الواردة من الشمس تمون الأرض بحرارة كافية للعمل الحيوي، لا أقل ولا أزيد مما هو لازم. فالألفة الكيماوية التي تلعب أدوارها على مسرح الأرض الحيوي تعتمد على ما تجود به الشمس من الحرارة من غير تفريط ولا إفراط، أو غير تبذير ولا بخل، ولولا وجود الشمس على بعد كاف لإرسال ذلك القدر من الحرارة اللازمة ما استطاعت الألفة الكيماوية أن تنتج الحياة البتة.
وما هي الألفة الكيماوية؟ أليست فرعا من الجاذبية العامة؟ أليست بنتها وربيبتها؟ فلا بدع في أن الجاذبية العامة التي هي علة الدوران والتشعع تجعل الشمس ترسل إلى الفضاء أشعة فوتونات حاملة طاقة وقوة دورانية، فيصيب منها الأرض رشاش يمنح عناصر الحياة الأربع قوة التجاذب - التآلف - والدوران. فالألفة الكيماوية الحيوية مستمدة من الجاذبية العامة، وانحصارها في مجال قصير من الحرارة الشمسية سمح لها أن تلعب أدوارها الفاتنة وتتفنن بها. لم يكن ذلك عن قصد من الشمس ولا من مجيء الأرض عمدا إلى ظروف مهيئتها ملعبا لهذه الأدوار، وإنما هي الصدفة الغريبة التي لا ندري إن كانت مفعول إرادة مستقلة حرة - حسبنا أن نعلم أننا حينما رأينا صورة من صور الوجود مألوفة أو غريبة وجدنا هنا الجاذبية تعمل عملها تجميعا وتفريعا دوريين.
ولكن هل يقف عملها هنا؟
إذن كيف نشأ العقل؟ (4) ما هي الحياة التي نراها؟ وكيف نراها؟
في بحثنا الآنف عنها لم نجد إلا ألفة كيماوية تشتغل في 4 عناصر، فأين الحياة إذن؟ أهي الألفة الكيماوية؟ لا؛ لأننا نعرف ألفة كيماوية بين عناصر أخرى، ولكن ليس فيها حياة، فما هي الحياة إذن؟
لم يتيسر لنا إلا هذا الجواب: ما هي إلا ظاهرة خاصة بتآلف هذه العناصر الأربعة. وما هي هذه الظاهرة؟ هي صور تركبات كيماوية متعددة من عناصرها الأربعة؛ إذن لا ذاتية ولا شخصية للحياة قائمة بنفسها - إذا لم تكن ثمت ذاتية خفية وراء هذه الظاهرات. هذا الكتاب الذي تطالعه مؤلف من العناصر الأربعة وغيرها، فالعناصر ليست الكتاب، وإنما تجمع العناصر متآلفة على هذا الشكل هو الكتاب؛ فالكتاب صورة من صور تجمعها، والبيت الذي تقيم فيه مبني من مواد مؤلفة من عناصر أخرى، فالعناصر ليست البيت وإنما تجمعها على هذا الشكل هو البيت؛ فالبيت صورة من صور تجمعها. كذا الحياة ظاهرة من ظواهر المادة لا المادة نفسها. فهل العقل كذلك؟
Unknown page