وتحول علم الفلك الثابت تحولا عظيما، فبعد أن كان يعتقد بلوغه حدود الأشياء يظهر اليوم خلف هذا الكون المحدود ألوف العوالم البالغة الاتساع. •••
ومن أهم اكتشافات العلم الحديث إقامة مبدأ التقلب مقام مبدأ الثبات، وقد خسرت الأرض والموجودات التي تسكنها ثباتهما الموهوم، وهما يمثلان مباني تخرب وتتجدد، وأبدي تقلب العالم الدائم هذا من سنن وجوده الأساسية.
ولم تكن التحولات في التاريخ بالغة ذلك العمق، ولكنه إذا ما نفذ في منطقة الأسباب المظلمة ظهر أن أسباب الحوادث الحقيقية تختلف كثيرا عن التفاسير الوهمية التي عدت عقائد قرونا طويلة.
ومع ذلك لا يمكن أن يطالب التاريخ بضبط كالذي أخذت العلوم تحققه. وإذا ما نظر إلى طبيعة ذكائنا وجد أننا لا نبصر هذا العلم إلا على شكل حوادث منفردة، ولا يمكنه أن يدرك على وجه يختلف عن ذلك إلا من قبل ذكاء يكون من السمو ما يبصر معه كل حادث تاريخي، محاطا بسلسلة من العلل التي أوجدته، ومن النتائج التي عقبته، وبما أن دماغنا لم يكون لإدراك مثل هذا المجموع فإنه لا بد من التسليم بإدراك نبذ من الأمور. •••
وجد التاريخ بترجيعات من الروح البشرية متأثرة بعوامل شتى، غير أن طبيعة هذه الروح لا تكاد تكون معروفة حتى الآن، ولم يوفق علم النفس - الذي هو أساس جوهري لمعرفة التاريخ - لغير إيضاح داراتها حتى الآن.
ومن بين النتائج التي أوجبت تحويل إدراكنا للتاريخ يجب أن يذكر على الخصوص إدراك الحياة الباطنية التي بحث فيها علم النفس الحديث.
ومع أن هذا العلم لا يزال ابتدائيا إلى الغاية فإنه يساعد بالتدريج على تغيير الآراء التي عدت حقائق فيما مضى.
ومما كشفه هذ العلم كون اللاشعوري الموروث أو المكتسب يعين عوامل السير غالبا، وكون القوى الدينية والعاطفية، التي هي أعلى من القوى العقلية، تهيمن على هذه المنطقة المظلمة، وكون الوحدة الذاتية ليست غير أمر ظاهر، فهي تنشأ عن تراكيب موقتة تجهزنا بذاتيات متعاقبة يسيطر كل واحد منها تبعا للحوادث، وهكذا يكون ثبات الذاتيات مرتبطا في ثبات البيئة.
ويدل علم النفس أيضا على أن خطأ الحكم في الحوادث التاريخية ينشأ على العموم عن كونه يعزى إليها تكوين عقلي، مع أنها تنشأ عن عوامل عاطفية ودينية خاصة بكل أمة، عن هذه العوامل التي يظل العقل غير مؤثر فيها، وعلى أن المعتقدات الدينية والمعتقدات السياسية ذات الصبغة الدينية لا تقوم على العقول، وعلى أن النفسية الجمعية تختلف عن الذاتيات التي تتألف منها اختلافا تاما، فلا يكون للعوامل المؤثرة في الكائن المنفرد أي تأثير في عين الفرد عندما يكون جزءا من زمرة لوقت ما، وعلى أن الأغاليط التي عدت حقائق مثلت في حياة الشعوب دورا يجاوز أحيانا دور الحقائق الأكثر استقرارا.
وإذا عدوت قصة الحقائق التي تؤلف ناحية الحضارات المادية وجدت التاريخ يشتمل كذلك على دراسة الأوهام الدينية والسياسية التي وجهتها، وما فتئ تأثير هذه الأشباح العظيمة يكون وطيدا في العالم الحديث كما في العالم القديم، وقد قلبت إمبراطوريات قوية، وستقلب أخرى لا ريب، إيجادا لها أو قضاء عليها.
Unknown page