ولا يقف بك العجب عند هذا ، بل إنك ليزداد عجبك أن يقول أرسطوطاليس: (2) «ينبغي منذ الطفولة الأولى - كما يقول بحق أفلاطون - أن نوجه بحيث نضع مسراتنا وآلامنا في الأشياء التي ينبغي أن نضعها فيها، وفي هذا تنحصر التربية الطيبة.»
وفي هذه القولة شواهد أخرى تؤيد ما ذهبت إليه، فإن توجيه «المسرات والآلام إلى الأشياء التي ينبغي أن نضعها فيها» يشعر بأن أرسطوطاليس يريد أن يقول بأن «اللذة والألم» يتقبلان أثر المرانة والبيئة، والشيء الذي «يقبل» الآثار هو من الجواهر لا من الأعراض، وإذن لا تكون «اللذة والألم» من الملكات التي نحصلها كما يقول في الفقرة الأولى بل تكون على ما يؤخذ من هذا القول من جوهر الطبع، فكأن أرسطوطاليس ينزع عن غير قصد نزعتين، تضطره الأولى إلى القول بأن اللذة والألم من ظواهر الطبع، وتضطره الثانية إلى الإشارة تضمينا بأنهما من جوهر الطبع نفسه، ولهذا كان من الصعب أن تدرك على الوجه الأكمل حقيقة الفكرة الهيدونية التي يقول بها أرسطوطاليس، كما يتعذر أن تعرف ماذا يرفض وماذا يقبل من مذهب أرسطبس، اللهم إلا عندما يتكلم في الأشياء البينة التي لا تحتمل التباسا، كالموازنة بين اللذات الغليظة واللذات الرفيعة؛ أي لذات البدن ولذات العقل.
ويؤيد هذا الرأي الذي نراه أن أرسطوطاليس يكاد يصرح بأن «اللذة والألم» من جوهر الطبع، لا من الملكات، وذلك في عبارته الآتية إذ يقول: (3) «وفوق ذلك، فإن الفضائل لا تظهر البتة إلا بالأفعال والميول، فلا عمل ولا ميل إلا نتيجة إما اللذة وإما الألم، وهذا هو دليل جديد على أن الفضيلة تتعلق فقط بآلامنا ولذاتنا ... إلخ.»
ذلك بأن الأفعال والميول ظواهر تتعلق بجوهر، فإذا تعلقت هذه الظواهر «باللذة والألم» لم يسعنا إلا أن نقول إنهما - أي اللذة والألم - من جوهر الطبع لا من الملكات، ولن نكون أكثر اقتناعا بهذا منا إذا قال أرسطوطاليس - كما يقول هنا: «إن الفضيلة تتعلق فقط بآلامنا ولذائذنا.» فكأنه بذلك يريد أن يقول صراحة لا تلميحا ولا تضمينا، إن الفضيلة عرض يتعلق بجوهر هو اللذة والألم، وهو هنا أقرب إلى أرسطبس من سقراط ومن أفلاطون، وربما كان في قوله هذا أقرب إلى أرسطبس من أودكسس الهيدوني المتقشف نفسه.
ويقول أرسطوطاليس بعد ذلك: (4) «وهذا أيضا هو ما تشهد به العقوبات التي تتبع أفعالنا أحيانا، هذه العقوبات هي بوجه ما علاجات، والعلاجات لا تفعل عادة وفي مجرى الأمور الطبيعي؛ إلا بالأضداد.»
ولقد نذكر أن أرسطبس يقول إن العقوبات التي تفرض على التلاميذ في المدارس أمر موجب للنظر، ولقد نذكر أيضا أنه قال بما يقرب مما قاله به أرسطوطاليس، من أن العقوبات هي بوجه ما علاجات، ولقد نذكر مرة ثالثة أن أرسطبس يعتقد أن العلاجات لا تفعل - أي تؤثر - إلا بالأضداد، فاللذائذ قد يترتب عليها أفعال تكسبنا الرضا، وراحة البال حينا، وقد يترتب عليها أفعال تكسبنا القلق وحساب الضمير حينا آخر، وكذلك الآلام، قد يترتب عليها نتائج موجبة لمنتهى الرضا حينا، وبالغة منتهى الشدة والعنف حينا آخر، وهذا نستخلصه من مجمل المذهب القوريني ومن تفاصيله، ذلك بأن هذه النتائج المتضادة ما هي إلا علاجات نفسية لا بد من أن تترك أثرها الباقي في الأخلاق والسلوك.
وهنا نجد أن أرسطوطاليس قد اقترب في مذهبه الأخلاقي مرة أخرى من القورينيين، فكان أدنى إليهم مما كان سقراط ومما كان أفلاطون، بل إنه سلم بهذا المبدأ تسليما بغير احتياط، فكان أقرب إليهم من أنقريز نفسه، وهو من أقطاب المذهب القوريني، ثم يقول: (5) «يمكننا أن نكرر - زيادة على ذلك - ما قلناه آنفا، وهو أن كل ملكة للنفس هي بطبعها الحقيقي ذات علاقة بالأشياء، ولا تتعلق إلا بالأشياء التي تصيرها بالطبع أحسن أو أقبح، وأن ملكات النفس لا تفسد إلا باللذة أو الألم متى طلب الإنسان أحدهما أو فر من الآخر، في حين أنه لا ينبغي له - ومن غير تقدير للظرف الذي فيه يحصلهما ولا للطريقة التي بها ينبغي تحصيلها - ارتكاب كثير من الخطيئات الأخرى المجانسة التي يسهل على العقل تصورها، ولهذا استطاعوا أن يحددوا الفضائل بأنها حالات النفس التي هي خالية من التأثر وفي راحة تامة، ولكن هذا التعريف ليس حقا؛ لأنه وارد على وجه مطلق أكثر مما ينبغي، ولم يعن بإضافة بعض شروط إليه فيقال «بأنه ينبغي» أو «لا ينبغي» أو «متى ينبغي» وتعديلات أخرى يمكن إدراكها بسهولة.» ا.ه.
ولا شك عندي أن في قول أرسطوطاليس هذا مواضع كثيرة للنظر والبحث، فهو ما دام يسلم بأن «كل ملكة للنفس هي بطبعها الحقيقي ذات علاقة بالأشياء، وأنها لا تتعلق إلا بالأشياء التي تصيرها بالطبع أحسن أو أقبح»؛ وجب أن يسلم استتباعا أن أثر هذه الأشياء في الملكات، سواء أكان من أثرها أن تحول الملكات إلى ما هو أحسن أم أن تحولها إلى ما هو أقبح؛ لا بد من أن يتكيف بمقتضى الظرف الحاصل فيكون باعثا على اللذة أو باعثا على الألم.
وإذا لم أكن مخطئا في تصور هذه النتيجة التي تترتب على المقدمة التي وضعها أرسطوطاليس - ولا أخالني إلا محقا في استنتاجها - جاز لي أن أقرر أن قول أرسطوطاليس «بأن ملكات النفس لا تفسد إلا باللذة أو الألم متى طلب الإنسان أحدهما أو فر من الآخر»؛ ليس له من مبرر، اللهم إلا مبرر الفرار من النتيجة المحتومة التي تترتب عليه، وهي القول بأن علاقة ملكات النفس بالأشياء، لا بد من أن تتكيف دائما بإحدى صورتين، فتكون في إحداهما لذة، وتكون في الأخرى ألما.
ولكن هل صحيح أن ملكات النفس لا تفسد إلا باللذة والألم وحدهما، إن كان هناك مجال لإفسادها؟ وهل هذا الحكم الذي يطلقه أرسطوطاليس إطلاقا، يفيد أن اللذة والألم لا يترتب عليهما في توجيه ملكات النفس إلا الفساد؟ إن في هذا القول إنكار كلي لحقيقة المذهب القوريني وحقائقه القائمة على الحس الإنساني، وعلى حقائق الطبع البشري، وما ينتجان من آثار ثابتة في الأخلاق والسلوك.
Unknown page