منشؤها العقل؛ لأن العقل هو المؤثر الذي ينظم الحياة. (13) تطبيق مذهب أرسطبس
عند أرسطبس ضرب من اللذات المستقلة أو المعزولة
هي التي يعتبرها أول ما يجدر بالإنسان الحصول عليه، وهذه اللذات بعيدة عن ما يدعوه «مجمل الإحساس باللذة» ويعتبر حيازته «السعادة» أو كما يدعوها «الحياة الطيبة» وهنا تقع على حقيقة جديرة بالنظر.
فإن لغة الفلسفة القديمة تقوم في بلاغتها العليا على نفس القاعدة التي تقوم عليها فلسفة النفعي العظيم بنتام إذ يقول:
إن عناصر السعادة منوعة جهد التنوع، وكل عنصر من عناصرها مرغوب فيه، ولو قام بذاته، كما لو ألف من اندماجه بغيره كلا واحدا.
ولقد قام في وجه الفيلسوف القديم نفس الاعتراض الذي وجه إلى الفيلسوف الحديث؛ إذ قيل بأن الحياة الإنسانية تؤلف في مجموعها حالة يرجح فيها الألم اللذة، غير أنه بالرغم من أن قيام مثل هذه النزعة التشاؤمية في أذهان الكثيرين ضروري، فإن قيامها لا يصح أن يقف حائلا يصدنا عن السعي وراء الحصول على الحد الأقصى من اللذة، سواء أنقص هذا «الحد الأقصى» - في مجموعه - عن الألم الذي يقاسيه الإنسان في حياته أو زاد عليه.
قال أرسطبس: إن الحكمة «خير»، ولكنها ليست غاية في ذاتها، غير أنها بالرغم من قوله هذا كانت وسيلة للغاية التي رمى إليها أرسطبس على ما شرحنا في العبارات السابقة، فإنها قد حمت «الحكيم» من أنكى أعداء السعادة، حمته من «شهوات تقوم على تصورات خاوية فارغة» غير أن الحكيم مع هذا لا يستطيع أن يظل بعيدا عن التأثر بكل الانفعالات، فإنه لا يمكنه أن يتخلص فعلا من انفعالات الحزن والإشفاق والخوف؛ لأن هذه الانفعالات وما إليها لها أصولها التي ترتكز عليها في الطبيعة الإنسانية.
ومع هذا فإن «الحكمة» إن قامت على أساس من الاستغراق في الفكر والنظر واستشفاف الحقائق، فإنها لا تكفي وحدها أن تكون ضمينة للسعادة من غير قيد ولا شرط، فإن الحكيم تمنعه الحكمة من أن يتطلع إلى حياة «تكمل» فيها السعادة، كما لا يمكن أن ينتظر نقيضه - وهو الأحمق - حياة يكمل بها شقاؤه، فإن كلا من الحالتين - السعادة والشقاء - يمكن فقط أن تدوم إحداهما «أطول مدى ممكن»، أو بعبارة أخرى: إن «الحكمة» ونقيضها «الحمق» في كل منهما نزعة تحدث عن الأولى سعادة، وعن الأخرى شقاء على مقتضى الظروف.
ويعتقد أرسطبس فوق هذا أن «الحكمة» وحدها لا تكفي لخلق هذه النزعة - أي نزعة السعادة - فالتهذيب النفسي وتربية الجسم على الأخص أمران ضروريان لإمكان خلقها، وعلى هذا لا تكون الفضائل أو السعادة وقفا على الحكماء وحدهم، بل يجوز أن يتحلى بهما بعض الحمقى والسفهاء.
ولقد أجمل العلامة إردمان في كتابه «تاريخ الفلسفة» مجمل ما يطبق به مذهب أرسطبس، فقال: إن أرسطبس يقصد باللذة السعادة الوقتية أو لذة الساعة، وعلى الأخص ناحية اللذة البدنية، ومن هنا جاء القول بأن «رياضة الكفايات الجسمية» هي الوسيلة إلى الفضيلة، وأن الرجل العاقل لا يختار الألم إذا خير، ولا يشتري اللذة بألم يعقبها.
Unknown page