الإهداء
المقدمة
كلمات جامعة عرضت في فصول هذا الكتاب
1 - أصول الفلسفة اليونانية ومذهب اللذة والألم
2 - القورينيون
3 - شرح المذهب وإلمامة بتاريخه
4 - نقود ومقارنات
5 - في تطبيق المذهب على الحقائق الجديدة
6 - نظرية المعرفة عند القورينيين
الإهداء
المقدمة
كلمات جامعة عرضت في فصول هذا الكتاب
1 - أصول الفلسفة اليونانية ومذهب اللذة والألم
2 - القورينيون
3 - شرح المذهب وإلمامة بتاريخه
4 - نقود ومقارنات
5 - في تطبيق المذهب على الحقائق الجديدة
6 - نظرية المعرفة عند القورينيين
فلسفة اللذة والألم
فلسفة اللذة والألم
تأليف
إسماعيل مظهر
الإهداء
لذكرى يعقوب صروف
إحياء لماض مفعم بأسمى الذكريات
المقدمة
قرأت أن كتابا بغير مقدمة كرسالة بغير عنوان، ولا تزال هذه العبارة عالقة بذهني، وقد دارت الأرض من حول الشمس منذ قرأتها عشرين دورة على الأقل.
أمن سر في هذه العبارة، جعلها تعلق بذهني ويثبت أثرها فيه؟
أذكر أن الكتاب الذي قرأت فيه هذه الجملة كان في التاريخ، ويخيل إلي أنه كان في تاريخ نابليون في منفاه، ولقد استيقظت في ذهني هذه الذكريات، لما أن تناولت القلم لأكتب بضعة أسطر تصديرا لهذا الكتاب، بعد أن شغلت بتأليفه أربع سنوات كاملة، ونبذته ناحية من حجرة درسي ثلاثا أخر، فلما أن مدت ظروف الدنيا يدها إليه؛ لتحبوه الحياة بعد طول النبذ، وتناولت القلم لأخط بضعة أسطر تعريفا به؛ غمرتني فكرة في خلود الإنسان، وخلود آثاره، هي في الواقع فكرة اشتركت في وعيي بنابليون، وما يضفي عليه بعض المؤرخين من صفات الخلود.
يقولون: إن نابليون رجل خالد! ولكن بالقياس على أناس غير خالدين، ممن تعد من خلائق الله. ويقولون: إن مصر خالدة! ولكن بالقياس على أمم أصبحت أحاديث وأخبارا في بطون الكتب، أو أساطير تروى عن القرون الأولى. ويقولون: إن مذهب سقراط الفلسفي مذهب خالد! ولكن بالقياس على مذاهب بادت من عالم الفكر، غير مخلفة أثرا؛ فظهرت واختفت كأنها نبت الصحراء يخرجه الغيث ويطويه الجفاف.
هذه تأملات خرجت منها بنتائج لا أشك في صحتها، فإن في التاريخ البشري ما يدل على أن شعوبا كالفراعنة وأهل الصين والهند صمدت لأعاصير الزمن بما فيها من الصفات الرسيسة، واحتفظت بكيانها على الدهور فلم تبد ولم تنقرض، ولكنها صالت واستكانت، وتناوبت عليها دورات من الصولة والاستكانة، احتفظت خلالها جميعا بطابع من القوة، ووسمت بسمة من الجلد على مدافعة النوائب، صامدة للشدائد، بعيدة عن أن تذعن لهزيمة، تسلم بها إلى الفناء. فهذه شعوب خالدة تشبه الخالدين من الذوات.
تجد في عالم الفكر نظير هذه الأمم، مذاهب فلسفية تنقلت على مدى الزمان، وظلت منذ ولدت إلى الآن حية فتية، فهذه مذاهب خالدة تشبه في عالم الفكر؛ تلك الأمم في عالم الإنسانية.
هذه الفكرة الأولية تزودنا بقاعدة ننتحيها في كتابة تاريخ الفلسفة من وجهة جديدة، نتخذ فيها هذه المذاهب على أنها أصول الفلسفة وأركان الفكر، وغيرها من المذاهب تفاريع عليها وملحقات بها.
أما مذهب اللذة والألم في فلسفة الأخلاق، فثابت، درج مع القرون، خرج بداءة من قورينة الأفريقية، قائما على فكرات أساسية في مذهب سقراط وبروطاغوراس ولوسيفوس وديمقربطس، ثم عاد إلى اليونان فتشكل في ذهن أبيقور بصورة، ثم في مدرسة الإسكندرية بأخرى، وعند الروافيين بثالثة، وأخذ يتنقل خلال العصور، إلى أن برز في صورة كونها بنتام ومل وأترابهما، فلابسته المنفعة بدل اللذة.
وهذا الكتاب تنفيذ جزئي لهذه الفكرة العملية.
إسماعيل مظهر
أبريل 1936
كلمات جامعة عرضت في فصول هذا الكتاب
إنك لن تقع على شيء تحت الشمس، لا يمت إلى الفكر اليوناني بسبب.
جلبرت مري
المدنية اليونانية أرقى المدنيات القديمة، وكانت نتاجا لأقصى حد وصلت إليه مدارج التثقيف العقلي في الأعصر الفارطة.
إن سرعة الارتقاء المدني يرجع إلى ما يؤثر في الأمم ذوات المدنيات المستحدثة الثابتة القوية في عصر ما، من المنبهات التي تستمد من معارف الأمم الأجنبية عنها، وفكراتها وطرق تثقيفها عامة.
روبرتسون
إذا غرست التقاليد أصول فكرة من الفكرات، سواء كانت عقلية أم فنية أم أخلاقية، أم من أي ضرب آخر من ضروب الثقافة والمعرفة، ثم درجت عليها الأجيال المتعاقبة، فإنها لا تمحص ولا تختبر، بل ولا تعرض على محك النقد، لتبلو نصيبها من الصحة والخطأ ، ذلك بأن تقريرها في الأذهان، يدخلها في حظيرة النحل المقدسة، ويرفعها إلى مرتبة العقيدة الثابتة، التي يعد بحثها تدنيسا لقداستها وتهجما على حرمتها.
ألبرت فور
لقد أكد بحاث أن الملحمة التي نظمت في التغني بانتصار الفرعون رمسيس الثاني - سيزوستريس - من ملوك الأسرة التاسعة عشرة على سوريا، كانت الأصل الذي أوحى إلى هوميروس بنظم إلياذته.
ألبرت فور
إنها لحقيقة ذات بال، أن العلم والحضارة عند اليونان لم ينتعشا إلا بعد الهجرة إلى وادي النيل.
ملهود
قبل ظهور اليونان في التاريخ الحقيقي كان المصريون هم الذين أوجدوا أكمل حضارة، وأفتن وأزهر مدنية.
ألبرت فور
إن من يحاول أن يضع نفسه في موضع الفارس من ظهر الجواد، أو الربان من دفة السفينة، إنما هو الرجل الذي يعرف كيف يقودهما في الطريق المستقيم، لا الرجل الذي يفرق من استخدامهما.
أرسطبس
إني أملك ولا أملك.
أرسطبس
إن مبدأ أرسطبس الأول، ومثله الأعلى في الحياة، انحصر في أن يكون الإنسان سيدا للأشياء لا عبدا لها؛ أي إنه يجب علينا أن نملك لذائذنا من غير أن نجعلها تملكنا.
هوراس
أجود الناس من بذل المجهود، ولم يأس على المفقود.
حممة بن رافع الدوسي
إن دورة عقلي قد كونت - لحسن الحظ - بحيث تجعلني شديد الحساسية؛ فأتأثر بالأشياء ابتغاء الاستمتاع بها، ولكن لم تبلغ حساسيتي بالأشياء حدا يجعلني أتألم من فواتها.
منتسكيو
لخير لي أن أكون مستجديا من أن أكون أحمق بليدا، فإن الأول إن كان بلا مال، فإن الثاني بلا رجولة.
أرسطبس
إلى ذيونسيوس طاغية سيراقوز:
ذهبت إلى سقراط لما شعرت بحاجة إلى المعرفة، وقدمت إليك لما شعرت بحاجة إلى المال.
أرسطبس
اللذة تحركنا، ولكن إرادة الله تحكمنا.
بالي
الفضيلة هي فن إسعاد الذات بالعمل على إسعاد الغير.
لبنتز
يقول أرسطوطاليس: إن الحياة السعيدة يجب أن تكون ربيعا صحوا، تسبح في جوه خطاطيف الربيع، وتسطع شمسه على الدوام، أما عند أرسطبس فالأمر على خلاف ذلك؛ فإن خطافة واحدة عنده تدل على جزء من الربيع، فينبغي للرجل الحكيم أن لا يترك خطافة الربيع تفلت من يده؛ بل ينبغي له أن يعمل طول حياته على أن يقتنص أكبر عدد من خطاطيف الربيع، حتى إذا زاد عدد الأيام التي يسعد فيها بالاقتناص، على عدد الأيام التي لا يسعد فيها بخطافة، استطاع بعد ذلك أن يقول: إني حييت حياة رجحت لذاتها على آلامها، وهذا هو معقول السعادة عند أرسطبس.
المؤلف
الغرض من الفلسفة تكوين ملكة تهيئ للفيلسوف أن يعيش حتى لو فرض وألغيت كل الشرائع، كما كان يعيش وهي قائمة.
أرسطبس
أما إذا كانت الملكة الوسطى هي وحدها الممدوحة - كما يقول أرسطوطاليس - وأن تقويم النفس - على ما يقول - يلزمنا أن نميل تارة نحو الإفراط (الألم) وتارة نحو التفريط (التحرر من اللذة والألم) لأننا بهذه المثابة يمكننا بأسهل ما يكون أن نصيب الوسط والخير (الحركة اللطيفة)؛ أي اللذة عند أرسطبس، فأي شيء بقي بعد ذلك من مذهب أرسطبس لم يدخل في مذهب أرسطوطاليس الأخلاقي، وأي شيء في مذهب أرسطوطاليس في السعادة لم يرجع إلى هيدونية أرسطبس.
المؤلف
الفصل الأول
أصول الفلسفة اليونانية ومذهب اللذة والألم
شاء القدر أن يظل مذهب أرسطبس غير معروف عند العرب إلا لماما، شأن أكثر المذاهب التي تفرعت عن دوحة سقراط العظيم. وشاء القدر أن يحاول أرسطوطاليس ألا يذكر اسم أرسطبس، بالرغم من أنه ناقش في مذهبه مناقشات طويلة في كتاب الأخلاق إلى نيقوماخس، بل وأخذ ببعض مبادئ المذهب القوريني، فحورها وأدمجها في مذهبه.
وشاء القدر أن لا يذكر بر تلمي سنتيلير هذا المذهب في المقدمة المستفيضة التي وضعها لترجمة كتاب أرسطوطاليس في الأخلاق تعيينا، كما أنه لم يناقش في مذهب الرواقيين الذين هم فرع من دوحة أرسطبس، وحلقة انتقال في المذاهب الأخلاقية، أساسها المذهب القوريني، وهم أقرب إلى السقراطية من أرسطوطاليس.
وما كان أرسطبس أول فيلسوف أساءت إليه الأقدار، وما كان أول إنسان ظلم حيا وميتا.
أصول الفلسفة اليونانية ومذهب اللذة والألم
تترامى الأشعة التي بعث بها الفكر اليوناني القديم من أغوار الماضي السحيق سنية وضاحة، فتضيء الظلمات التي ناءت بكلكلها على المدنيات المختلفة منذ القرن الخامس قبل الميلاد حتى اليوم، ولا جرم أنك لن تقع على شيء تحت الشمس لا يمت إلى الفكر اليوناني بسبب، كما يقول العلامة جلبرت مري الإنجليزي؛ فكان من أثر ذلك أن تطرف البعض من مقدمي المفكرين في العصر الحديث، إلى القول بأن الفلسفة اليونانية، بل وكل الآثار التي صدرت عن الفكر اليوناني «أصيلة» غير مدخولة بعناصر غريبة من الفلسفة أو العقيدة أو الفكر، وأنها لم تلقح بأي أثر من الآثار التي نشأت قبل مدنية اليونان في الشرق.
ولا شك في أن الذين يذهبون هذا المذهب لهم المبررات التي تؤيد نزعتهم، ولهم الأسباب التي يرتكزون عليها في الحكم بأن الفكر اليوناني «أصيل» نشأ في عقول الإغريق القدماء، وعنها صدر من غير أن يكون للحضارات الأخر أثر فيه قليل أم كثير.
فإن العظمة التي نشهدها في أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وأرسطبس وديمقريطس وأبيقور، دع عنك فيثاغورس وطاليس وأبقراط وجالينوس، لعظمة تفوق كل ما تقدمها من صور النبل الإنساني، إن لم نقل إنها تفوق كل ما عقبها حتى اليوم، مع قياس الفارق بينهم - وهم رواد الفكر - وبين المحدثين - ورثة هؤلاء الرواد العظام - والفاصل لا يقل عن خمسة وعشرين قرنا من الزمان.
ولك أن تقدر بعض الآثار التي ظهرت خلال تلك القرون؛ بأن تعي أن الإنسانية شهدت فيها نشوء النصرانية والإسلام، وشهدت نشوء ما لا يحصى من مذاهب الفلسفة والعلم والأخلاق، فلم تفلت ناحية من هذه النواحي من التأثر بمبتكرات الفكر اليوناني، تأثرا عميقا بالغ المدى. فلا عجب إذن أن يكون لهذه العظمة أثرها في المغالاة التي نقع عليها في تقدير بعض الكتاب آثار اليونان، تقديرا ينفون به كل علاقة فكرية تربطهم بالحضارات الأخر.
ومهما يكن من أمر اليونان وتأثرهم أو عدم تأثرهم بما سبقهم من منتوج الفكر البشري، فإن الأمر الذي لا نشك فيه أقل شك أن أثر اليونان فيما تبعهم من المدنيات بالغ أقصى المدى؛ في حين أن تأثرهم بما سبقهم من المدنيات تافه قليل .
ومن هنا نستطيع أن نقول بغير حرج: إنهم بحق رواد الفكر الإنساني والمعرفة على اختلاف صورها، وعلى تباين ملابساتها.
فالمدنية اليونانية أرقى المدنيات القديمة، هذا إلى أنها خلاصة ما وصل إليه التثقيف العقلي في الأعصر القديمة.
أما تأثر اليونان بما سبقهم من الحضارات فإن ثقات المؤلفين قد اختلفت فيه مذاهبهم وتدابرت آراؤهم، غير أن كفة القائلين بأن الفكر اليوناني قد اغتذى وكسب من غيره، ترجح كفة القائلين بأن الفكر اليوناني «أصيل» نشأ في ثرى اليونان، وتكيف في ثنايا العقل اليوناني، غير مدخول بأي لقاح خارجي أو وراثة أجنبية.
فالعلامة «ميير
Meyer » الألماني على أن المدنية اليونانية لم تبدأ في الارتقاء الحقيقي إلا بعد أن احتكت بالشرق في «إيوليا
Aeolia » و«إيونيا
Ionia » في آسيا الصغرى، حيث كان في تلك البقاع مدنية أرقى من مدنية الإغريق.
ويقول العلامة «دنكر
Dunker »: «لم يبق من شيء في مدنية اليونان لم يتأثر من اتصالهم بمدنيات آسيا الصغرى حتى دينهم، فإنه على الرغم من أنه يكاد يكون خاصا باليونان، ونشأته ذاتية بينهم، فإنه تأثر بأديان الشرق، واقتبس الكثير من أصولها ومعتقداتها.»
أما الأستاذ «روبرتسون
Robertson » فيقول في كتابه «تاريخ حرية الفكر» (ج1 ص121): «إننا مهما قلبنا وجوه الرأي، وأمعنا في البحث، فإنا لا نعثر على مدنية يونانية أصيلة؛ أي مدنية ليس فيها أثر من مدنيات أخر.»
ثم يقول في نفس الكتاب ص122: «إن الإعجاب الشديد باليونانيين، قد حمل كثيرا من الباحثين وأصحاب الرأي إلى أن ينكروا حقيقة تأثر المدنية اليونانية بمدنيات الشرق القديمة، حتى إنهم لم يكتفوا بإنكار ذلك الأثر، بل تطرقوا إلى القول بأن الفكر اليوناني وليد بلاد اليونان، تأصل فيها ونشأ، غير متأثر بشيء مما سبقه من منتوجات الفكر الإنساني وجهوده.»
ذلك في حين أن الذين ينكرون تأثر المدنية اليونانية بغيرها، ثقات من الباحثين أمثال العلامة «ريتر
Ritter » الألماني في كتابه «تاريخ الفلسفة القديمة»، والفيلسوف «رينان
Renan » الفرنسي في كتابه «تاريخ الأديان»، والعلامة «زلر
Zeller » في كتابه «تاريخ الفلسفة اليونانية» وهم يجمعون - كما يتبعهم غيرهم من الكتاب - على القول باستقلال الثقافة اليونانية عن غيرها من ضروب الثقافات الإنسانية.
ولا نريد أن نستطرد إلى سرد البراهين التي يقيمون عليها مذهبهم، فإنها ترتكز على نظريات، تتسع للجدل والنقاش.
ذلك في حين أن اتصال تيار الفكر، ونشوء الحضارة اليونانية في حوض البحر المتوسط، مهد كل الحضارات القديمة، والعلاقات التجارية التي كانت قائمة بين كل الشعوب التي نشأت شرقية، تزودنا بمرجحات قوية نميل معها إلى القول بأن الحضارة اليونانية، نشأت متطورة عن مدنيات أخر.
هذا ما يؤيده الأستاذ روبرتسون في كتابه الذي أشرنا إليه آنفا إذ يقول في ص122: «إن التعصب لبعض الصفات التي تتصف بها الأمم، والافتتان بما لبعض الشعوب من نبوغ وعبقرية، أمران ساقا بعض الكتاب، وفئة من كبار الباحثين، إلى الأخذ بآراء هي إلى ناحية الرجم بالغيب، أقرب منها إلى مناهج العلم اليقيني.
على أنه من أقرب الأشياء إلى الحق، أنك إذا رأيت أمة في التاريخ أخذت تضرب بسهم في مدارج الارتقاء الفكري والفنون، وبقية مطلوبات الحياة ومستحدثاتها وضروراتها، وأنها بدأت تخطو في سبيل ذلك خطوات سريعة ثابتة، حكمت بأن تقدمها على هذا النمط، إنما يرجع إلى ما أحدثه احتكاكها بأمم أجنبية عنها، من الانعكاس الذي يظهر أثره في صفاتها ومشاعرها ومتجهاتها.
انظر في المدنيات الأولى كمدنية آشور، أو حضارات بابل والكلدان ومصر، فإنك تجد أن ارتقاءها المدني كان بطيئا، واستجماعها لأسباب الرقي والتثقيف العقلي كان أبطأ، وذلك يدل على أن سرعة الارتقاء المدني يرجع إلى ما يؤثر في الأمم ذوات المدنيات المستحدثة الثابتة القوية في عصر ما من المنبهات التي تستمد من معارف الأمم الأجنبية عنها، وفكراتها وطرق تثقيفها عامة.»
ثم يقول: «أما تفوق اليونان في عصور مدنيتهم القديمة المعروفة في التاريخ، فلا يرجع - على ما تقدم - إلى نبوغهم وتفوقهم الذاتي تفوقا خارقا للعادة - كما يدعي كثير من الباحثين - بل يرجع - استنتاجا وعقلا - إلى ما طرأ على صفاتهم المدنية من نشوء وتطور، كان سببه اختلاطهم بغيرهم من الشعوب المجاورة لهم حينا، ومن طريق ما وضعوه من النظم الاجتماعية حينا آخر، ناهيك بموقع بلادهم الجغرافي وتخطيط أرضهم في الداخل تخطيطا أوسع بين المدن المختلفة سبيل المنافسة، خلا ما تؤدي إليه المنافسة من رقي في الصفات المدنية، التي ترتكز عليها قواعد العمران.»
ثم يقول: «إن البحوث التاريخية تدل على أن اليونانيين القدماء في فجر مدنيتهم كانوا خليطا من قبائل شتى، وزاد اختلاطهم على مدى الأيام، كما أن معارفهم وعلومهم ترجع - أول الأمر - إلى سكان تراقيا
Throce
وهم ليسوا إغريقا، وكانوا يعبدون إله الشعر.»
ونقل الأستاذ روبرتسون عن القدماء أقوالا تاريخية تؤيد مذهبه، فنقل عن هيرودتس أن أصل اليونان قبيلة حربية ذات نفوذ واحترام عظيمين، فتبعها كثير من القبائل الأخر التي كانت آخذة بتقاليدهم، وصرفت على نفسها اسم القبيلة «اليونان».
ونقل عنه أيضا: «إن الإسپرطيين يونان وأن الإثينيين «بلاسجة
» ولكنهم مع الزمن اصطبغوا بصبغة اليونان وتعلموا لغتهم.»
ونقل عن تيوسديدس قوله: «غير ميسور أن نعثر في العصر التاريخي على شعب يوناني أصيل لم تجر في عروقه دماء دخيلة من قبائل أخر.» ويتخذ الأستاذ روبرتسون هذه الأقوال دليلا كافيا لإثبات أن الحضارة اليونانية قد تطورت باللقاح السلالي، وأنها لم تنشأ غير متأثرة بغيرها من الحضارات القريبة منها أو البعيدة عنها.
أما علاقة اليونان بغيرهم من الأمم المتحضرة - وبخاصة مصر القديمة - فإن الأستاذ ألبير فور الفرنسي قد أبان عنها في تقرير علمي مسهب ننقله بحروفه لنفاسته، قال الأستاذ فور:
1 «إذا غرست التقاليد أصول فكرة من الفكرات سواء أكانت عقلية أم فنية أم أخلاقية أم من أي ضرب آخر من ضروب الثقافة والمعرفة، ثم درجت عليها الأجيال المتعاقبة، فإنها لا تمحص ولا تختبر، بل ولا تعرض على محك النقد لتبلو نصيبها من الصحة والخطأ، ذلك بأن تقريرها في الأذهان يدخلها في حظيرة النحل المقدسة، ويرفعها إلى مرتبة العقدة الثابتة التي يعد بحثها تدنيسا لقداستها، وتهجما على حرمتها.» «من هذا أن كثيرا من مشهوري العلماء والفلاسفة ونابهي الكتاب والمفكرين قد أخذوا بأفكار في نشأة الحضارة اليونانية، بطلانها من الوضوح والجلاء بحيث يمكن أن تدركه عقول أقل من عقولهم هبة وملكة واستعدادا.» «فقد قيل : «إن الحضارة اليونانية - أم الحضارة الغربية - ليست مدينة بشيء إلا لنفسها.» فردد هذا القول كتاب اتفقوا في الفكرة، وإن اختلفوا في طريقة التعبير عنها، ورموا جميعا إلى إثبات أنه في تلك البقعة الفريدة الممتازة، استقى شعب مختار من شعوب البشر كل غرائب الفن، ومدهشات العلم، وروائع الأدب والفلسفة، مستمدا أصولها من ذات نفسه ومن أعماق وجدانه.» «والغرض من هذا البحث إثبات ما ينفي ذلك، وإظهار أن اليونان - وبخاصة في الفلسفة - قد استقوا معلوماتهم - إلى حد ما - من مصر القديمة.» «على أن الإحاطة الوافية بما يمكننا من إثبات ذلك إثباتا كاملا أمر عسير، ذلك بأن هذه المسألة لن تحل عقدتها اليوم، ولكن رسم القاعدة التي ينبغي علينا أن نتبعها، وشرح طرقها أمر لا يخلو من فائدة، ولا ريب في أن عملنا يثمر ويؤتي أكله، إذا استطعنا أن نجلب حجرا واحدا نضعه في أساس البناء الذي سيتمه غيرنا في الأيام المقبلة، بعد أن يضرب علم العاديات المصرية بقدم ثابتة في سبيل التقدم الذي يحق لنا أن نغتبط بتباشيره، معتقدين أننا سوف نبلغ فيه شأو الكمال، قياسا على ما أتم العلماء الذين ترسموا خطوات شمبوليون، ومن تقدمه من البحاث المنقبين من الأعمال الباهرة إلى يومنا هذا.» «عملت على نشوء الحضارة ثلاثة شعوب ممتازة بمقدرتها الابتكارية؛ هم: المصريون والكلدان وأسلاف اليونان، ومنهم استمدت الثقافة اليونانية عناصرها، ولقد كان لمصر في العمل الذي تكاتفت عليه هذه الشعوب الثلاث أثر رئيس، فإنها كانت في طليعة الأمم جميعا من حيث التأثير في أسلاف اليونانيين، أولئك الذين ورثهم (الأيونيون) وأغارقة العصر الأول، ولقد دلت الإحاثة في جزيرة كريت - إقريطش - وفي جزر (الفلوپونيز) وفي آسيا الصغرى من حول مدينة (طروادة) على حضارات ربت ونمت في خلال الألفين الثاني والثالث قبل الميلاد، حضارات اتسمت بسمات عامة مشتركة فيها دلائل على تأثير شرقي بقدر ما، ومثلها أوجه من الشبه كبيرة في آثار من منشآت الفن المسيني، وضروب من الفن المصري سواء أفي الزخرف الصناعي أم الفني.» «وهناك دليل قاطع على وجود علاقات بين سكان اليونان وبين المصريين، حتى لو آثرنا أن نعتبر الفن المسيني هو المؤثر في الفن المصري لا العكس. وقصر إكنوزوس الذي اكتشفه مستر إيفنز في جزيرة (إقريطش) يرجح أنه قد بني على مثال الفن المصري، وطبقا لقواعد البناء والعمارة المصرية، ولا بد أن هذا القصر قد شيد بين سنة 2500 وسنة 1800 قبل الميلاد، ومن المحتمل أن يكون بين سنة 2200 وسنة 2000، وهذا يدل على أن العلاقات بين اليونان، أو على الأقل بين أسلافهم، وبين المصريين كانت موغلة في القدم، ولكننا سنقول إن القصر بني قبل ذلك؛ أي حوالي سنة 1200 أو سنة 1300 قبل الميلاد.» «ولكن المحقق أنه شيد بين سنتي 1000 و1400؛ أي خلال الحرب الطروادية أو قبل نشوبها، ومن هنا نرى أن أهل آسيا كانوا متحالفين تجاه مصر، وكان هذا التحالف مكونا من التكرين والدانيين والترهينيين وغيرهم. ولقد أكد بحاث أن الملحمة التي نظمت في التغني بانتصار الفرعون رمسيس الثاني - سيزوستريس - من ملوك الأسرة التاسعة عشرة على أهل سوريا، كانت الأصل الذي أوحى إلى هوميروس نظم الإلياذة، ولا مسوغ للشك في أنها أثارت ضجة بداءة - وكما هو طبيعي - في مصر نفسها، إذ إن أصلها قد حفر كله أو بعضه في معابد كثيرة، زد إلى هذا أن الآسيويين الذين احتكوا بحضارة النيل في الحرب أو التجارة أو المعاهدات، قد حملوا - من غير شك - صداها إلى أسماع اليونان، الذين كانوا في بدء الدخول في دورهم التاريخي، ولكن استنتاجنا من ذلك أن الملحمة المصرية قد أثرت ضرورة في نظم الإلياذة؛ أمر غير مقطوع به، وأي تأثير لمصر في اليونان من هذه الناحية عرضة للشك والظنون، وإذن يكون من العبث محاولة بحثه هنا.» «ولكن إذا تأملنا في التشابه الكلي بين تمثال «أبولون
Apollo » الذي عثر عليه بالقرب من قورنثية وبين التماثيل المصرية للدول القديمة، نترك الفروض وندلف إلى الحقائق، ونقرر الآن أنه لما كان الأسلوب التقليدي هو الطراز الذي كان سائدا في العصور المتأخرة من تاريخ مصر، ولما كان الفنانون يقلدون الآيات الفنية التي جاء بها أسلافهم سنحت الفرصة لليونان لتقليد النماذج المصرية من كل عهد ومن كل مذهب فني، حتى قبل أن يرخص لهم الفرعون إپزاماتيك بالدخول في وادي النيل. ومما هو أشد إثارة للدهشة؛ التشابه بين التماثيل الجالسة التي تملأ جانبي الطريق المقدس الموصل إلى معبد رديميان أبولون في مليطس وبين التماثيل الجالسة في مصر، والتي يرجع عهد بعضها إلى أبعد العصور، وتماثيل مليطس أيديها موضوعة على الركب وسيقانها متلاصقة مثل التماثيل المصرية، ويمكن للإنسان أن يلحظ هذه المشابهة بسهولة إذا قارنها بتماثيل ممنون التي أقامها أمنوفيس الثالث من الأسرة الثامنة عشرة، وهي متقدمة على النماذج اليونانية بقرون عديدة، ربما قاربت ثمانية قرون. ومثل هذه النماذج إنما تدلنا على أن الحضارة اليونانية المبكرة أو حضارة أسلاف اليونان والحضارة «الأيونية» المستنيرة قد تأثرتا بالحضارة المصرية.» «وبفضل شمبوليون وحله للرموز الهيروغليفية، وبفضل عمل العلماء الذين جاءوا من بعده وصرفوا جهودهم لرد مصر القديمة إلى الحياة، أصبحنا اليوم في موقف يمكننا من تكوين فكرة في الأصول المنقوشة على الحجر أو المكتوبة على ورق البردي، وقد تألفت مجموعة وافرة من المخطوطات من كل نوع بفضل جهود علماء العاديات المصرية الذين زادوا إلى ثروة العلم باكتشافاتهم وبإصلاحهم أخطاء عديدة عن حضارة مصر، كانت قد حازت الثقة من قبل. وللأسف إن هذه المخطوطات - على كثرتها - ليست في الحقيقة غير جزء قليل من الكتب الكثيرة التي كانت مكدسة في المكاتب وفي معابد الفراعنة. ولذا لا تزال عملية سد الثغرات باقية، وهذا هو سبب اختلاف المؤرخين، وتفرقهم شيعا وأحزابا في تفسير ديانة مصر القديمة، ونحن مرغمون على الرجوع إلى المخطوطات التي بين أيدينا وتحت تصرفنا، ومضطرون إلى أن نستنبط منها النتائج التي تعتبر بالنسبة إلى حالتنا العلمية محتملة، إن لم تكن باتة نهائية. وعلى أقل تقدير، يمكن أن يكون في مستطاعنا إعطاء فكرة حقيقية عن الحياة العقلية والأخلاقية لمصر في ألف السنة الأولى قبل الميلاد، وبخاصة في القرنين السابع والسادس؛ أي في الوقت الذي تأكدت فيه العلاقات بين مصر واليونان. وسنرسم الآن صورة عامة لتلك الحضارة الزاهرة، ولكن قبل الإقدام على ذلك سنختبر كيف حظي اليونان بالوصول إلى وادي النيل.» «حوالي سنة 650 قبل الميلاد - ولأسباب سياسية لا تعنينا هنا - دعا الفرعون إپزاماتيك الأول - مؤسس الأسرة السادسة والعشرين - اليونان من آسيا الصغرى لنصرته، ومن ذلك الوقت إلى ما بعده، وفي ظل رعاية هذا الملك وخلفائه؛ أعطيت لهم إقطاعات خاصة عند مصب النيل.» «وفي القرن السادس ق.م اشتهر الفرعون أمازيس بسياسة العطف على الهلينيين
Hellenistics
وقد خصص لهم إقليما لاستعمارهم، ابتنوا فيه مدينة يونانية كاملة اسمها نقراطيس وألقوا برحالهم أيضا في بلاد مصرية مختلفة، مثل: ممفيس وعبيدوس، وفي الواحات الكبيرة، وهكذا انتشرت في مصر طوائف وأشتات من اليونانيين مختلفة الأصول والسلالات منهم الإغريق والأيونيون والكاريون، ويونان من آسيا الصغرى، ويونان من الجزر ومن «قورينة
Cyrene » بشمال أفريقية غربا.» «ومن أسباب هذا الذيوع والتكاثر قوة الخصب ورطوبة الثرى، ورخاء الحياة وسلاستها، ولم تكن أسباب هذه الرفاهة مقصورة على ليونة العيش وغزارة الموارد المادية وحدها، بل ترجع أيضا إلى خلق السكان الهادئ الوديع المشبع بالحضارة السامية، والذي صقله التمدين الراقي، حتى لقد قال المسيو ملهود: «إنها لحقيقة ذات بال أن العلم والحضارة اليونانيين، لم ينتعشا إلا بعد تلك الهجرة».» «وفي ذلك الوقت كانت الحضارة المصرية فتنة الناظرين، وعجب السائحين، ورغم الانحطاط والتدهور السياسي الذي استمر عدة قرون، والذي بدت أعراضه في كل ميدان من ميادين العمل - ولو أنه قد غولي في تقديره - فإن تسلم الأسرة السادسة والعشرين عرش مصر، كان بداءة عودة الحياة إلى الفن، ودليلا على أن العلم والأدب قد نهضا نهضة بعثت عهد الفراعنة السابقين الزاهر، من رموس الماضي.» «كانت التصورات الأخلاقية الراقية قد ملكت نفسية المجتمع، وكانت منبثة في مجموعة منظمة من القوانين المدنية والجنائية، قد بهر تنسيقها وحسن نظامها القدماء. والفصل الخامس بعد العشرين من «سفر الموتى» وهو الذي يشمل تزكية الروح، والمسمى بالاعتراف السلبي أمام محكمة أوزيريس يكشف لنا عن خلاصة الآداب المصرية، ويرينا سمو مشاعرهم الأخلاقية، ورفعتها وتساميها.» «ولأسباب معقولة قورن هذا الاعتراف السلبي بالوصايا العشر عند العبرانيين، ونجد من المؤلفين القدماء الذين وصلت إلينا كتبهم على مهابط السنين - وبخاصة هيرودوتس وديوذورس - برهانا على أن هذه الشريعة الأخلاقية، كانت مستمدة من القوانين والشرائع المصرية، أما ديوذورس فيحاول أن يحملنا على الاعتقاد بأن «صولون
Solon » قد استعار بعض قوانينه من المصريين، وهذا محتمل إلى حد كبير قياسا على تفوق مصر على جيرانها تفوقا كبيرا، وعلى التأثير الذي لا يدفع والذي لم تكن مصر لتضعف عن تسليطه على قوم في زهرة شبابهم، متلهفين إلى العلم ولهم مواهب سامية، ولم يكونوا بعد قد أطلقوا العنان لقوتهم الإبداعية، وكانت عبقريتهم الغريبة الباهرة، ستتفتح عنها الأكمام، بعد صولون بقرن واحد.» «وقبل ظهور اليونان في التاريخ الحقيقي كان المصريون هم الذين أوجدوا أكمل حضارة وأفتن وأزهر مدنية، وكان التعليم منتشرا في مصر انتشارا واسعا، وعدا طبقة الكهنة الذين كان لهم احتكار العلوم والآداب، كان هناك عدد عظيم من كتاب الدواوين ورجال الحكومة، يمثل العنصر المثقف من السكان. وكان لكل مدينة عظيمة مدرسة واحدة، أو عدة مدارس متصلة بالمعابد، ويتكون منها كليات دينية حقيقية، وتدل التقاليد على أن أعظم علماء اليونان وأفحل فلاسفتها كانوا يترددون على هذه المدن العظيمة. وكانت أكثر المدن روادا وقصادا سايس وبابسطس وتنيس وهليوبوليس وعيدوس وطيبة، وكانت كلية هليوبوليس الكهنوتية طائرة الصيت، وكان يؤمها اليونانيون ويعتبرون وفودهم عليها جزءا من برنامجهم التعليمي. وفي عهد الأسرة السادسة والعشرين - أي من وقت تولي إپزاماتيك الأول إلى وفاة أهمس واستيلاء الفرس على مصر؛ أي من سنة 650 إلى سنة 525 قبل الميلاد - كان يمكن لليونان أن يؤموا وادي النيل، ويعيشوا فيه في أحوال مواتية لا تقطعهم عن الدرس والمطالعة ومذاكرة المعارف، وفوق ذلك، فإنه لم يحدث تحت سيطرة الفرس ما يعوق السائحين والمؤرخين والسياسيين عن السفر والتنقل خلال الديار المصرية، يدرسون عاداتها وفنونها ومعتقداتها الدينية، ولقد يعطينا المؤرخ هيرودوتس مثلا من ذلك فيما كتب.» «لقد أظهرنا إمكان وجود العلاقات العقلية بين مصر واليونان، والآن سنختبر طبيعة هذه العلاقات، وليست المسألة مسألة إثبات وراثة فلاسفة اليونان المبكرين المباشرة للأفكار والتصورات المصرية، فهذا شيء عسير يصعب أن نحلم بتحقيقه في حالتنا العلمية الحاضرة. والأمر هنا يدور حول إثبات أن الفكر المصري ينبغي أن يكون قد أثر بعض التأثير في الفكر اليوناني، ومن ناحية أخرى نرى أنه من الضروري تجنب الخطأ المضاد لذلك، وهو إنكار أية علاقة لمملكة ما بالممالك الأخرى التي تجاورها، حتى بالممالك البعيدة عنها وبخاصة إذا كانت الأخيرة مباءة للأدب والفن والعلم.» «أخذ اليونان أفكارهم عن يوم الحساب بعض الشيء عن المصريين، ومن أجل ذلك كانوا - كالمصريين - يعتقدون بوجود روح مجنحة خالدة، وكانت الروح تمثل على الآثار المصرية وفي المقابر بصورة طائر ذي رأس بشري، ويلزم أن يكون اليونان قد أخذوا صورة الجنة من مملكة الموت، التي كان يحكم فيها أوزيريس.» «ولا مجال لنكران المشابهة والتقارب في الجرس بين كثير من الكلمات المصرية وبين عدد عديد من الكلمات اليونانية التي تدل على معنى واحد، وفضلا عن ذلك فإن القني والنيل - تلك التي تصور المصريون وجودهما في العالم الآخر، على مثال النيل الحقيقي وقنيه الأرضية - اتخذها اليونان نماذج لأنهر العالم السفلي ومجاريه وقنيه، ومن الصعب أن نشك في الأصل المصري لكلمة “Rhudamanthu”
فهي مأخوذة أصلا من الجملة المصرية “Ra-in-amenti”
وهو رع إله الشمس في “Amenti”
وهي الحياة المقبلة. وكلمة “Charon”
للملاح في العالم السفلي مأخوذة من الكلمة المصرية “Karon”
ومعناها زورق أونوتي، وقد أوحت فكرة محاسبة الموتى أمام محكمة أوزيريس إلى اليونان أفكارا مشابهة لها. والزخرف على ترس آخيل مستمد من التماثيل النصفية المصرية، وقد صبغت أساطير يونانية كثيرة بعناصر مجلوبة من مصر؛ مثل أسطورة هيرقل فإن الأصل المصري ظاهر فيها، ومثل أسطورة أطلس حامل الدنيا برمتها على منكبه، وهي فكرة تضرب جذورها في أصول أشهر الخرافات المصرية.» «وكان اليونانيون وهم يطوفون بالمدن المصرية يجعلون الآثار والمعابد قيد عيونهم ومرمى أبصارهم، وكانت هذه المشاهد جل ما يحتاجون إليه، لتدريب خيالهم اليقظ الوثاب القدير على التصور. وإذا انتقلنا من الأساطير والاعتقادات الدينية إلى الأفكار الأكثر استغراقا في الفلسفة ، نجد أثر التأثير المصري في اليونان، ففكرة العدالة العالية التي نراها في هسيود فكرة مصرية بحتة، وتاميز اليونانية هي «ما» المصرية إلهة الحق والعدل، ويتمثل في شخصها القانون الأخلاقي، والسنن المرعية في المجتمع، ويعنو لهيبتها الفرعون نفسه، كذلك تتجه أفكارنا نحو مصر كلما قرأنا في هسيود تقديره حياة العمل والجهاد، والسير في منهاج الفضيلة، وكذلك عندما ينصح لنا بالسعي الحر الجريء.» •••
هذا جوهر ما يراه الأستاذ فور من حيث علاقة حضارة اليونان بمصر خاصة، وما جاورها من الحضارات الأخرى عامة.
على أن لنا أن نذهب في رأي الأستاذ فور وما يماثله من الآراء كل مذهب، ولنا أن نقول بأن اليونان اقتبسوا من المصريين شرائع ومبادئ علمية في علمي العدد والهندسة، وأنهم انتحلوا مذاهب دينية أو ميثولوجية أو فنية، وأنهم نحتوا وصوروا على مثال الفن الفرعوني القديم، لنا في مثل هذا أن نقول إنهم اقتبسوا شيئا من مصر أو أشياء من مختلف الحضارات الأخر، فإن باب البحث في ذلك واسع وميدان التنقيب فسيح.
أما في فروع الفلسفة فباب البحث ضيق، وميدان المقارنة والاستنتاج غير فسيح، ولك أن تنظر من ناحية واحدة في الطابع الذي اصطبغت به الفلسفة اليونانية، والطابع الذي ظهر جليا في آراء المصريين أو غيرهم من الأمم القديمة، التي يجوز أن نقول إن اليونان قد اقتبسوا من آرائهم الكونية لترى أن الفلسفة اليونانية كانت منذ نشأتها الأولى بعد أن اجتاز اليونان الدور الميثولوجي؛ ربيبة المدارس الزمنية، في حين أن كل فكرة نشأت في مصر وغيرها من الأمم ذوات الحضارات القديمة، وكانت تمت إلى الفلسفة بسبب إنما ترجع إلى أصل ديني نشأ بين جدران المعابد والهياكل، وحوطت بسياج من النزعة الدينية أفقدها الروح الفلسفي؛ أي روح التحرر من التقليد والمذهبية.
أما بدايات الفلسفة اليونانية، بعد أن ألقحت حضارة اليونان بهذه العناصر الأجنبية فلها وجوه أخرى، نمضي في ذكرها باختصار، لنعطي القارئ صورة موجزة منها.
أن أول حقيقة تصادفنا عند البحث في بدايات الفلسفة اليونانية، أنها نشأت في المستعمرات الأيونية
Ionian
في آسيا الصغرى، لهذا نجد أن الفلسفة اليونانية لم تخلص في كل أدوار نشوئها وتطورها من الصبغة الشرقية، التي تظهر في كثير من نواحيها، سواء أفي الشكل أم في الموضوع، وسواء أبلغ هذا الأثر من الرجحان والوزن الدرجة التي يذهب إليها بعض المؤلفين أمثال «روث
Roth » و«غلاديش
Gladiech » أم كان غير ذي أثر كبير كما يقول «زلر
Zeller » وغيره من الذين ألفوا في تاريخ المذاهب، فإن المحقق عند «ترنر
Turner » أن الفلسفة اليونانية قد اختصت منذ البداية بروح كانت في طبيعتها هلينية
Hellenistic
لهذا نجد أن اليونان قد نظروا في الكون عند أول تأملهم في الكونيات بعين لم تغش عليها المجازات ولا الأساطير.
أما الفرق بين فلسفة الشرق، والبدايات الفلسفية الأولى في بلاد اليونان كما وضعها فلاسفة الطبيعة في إيونيا فعظيم، كالفرق بين غابات الهند القديمة التي نشأت في ظلالها صور الفلسفة الشرقية القديمة، وبين شواطئ البحر المتوسط الزاهية العليلة الهواء.
على أن الدين عند اليونان لم يؤثر في الفلسفة إلا من طريق غير مباشر، ذلك بأن العقائد الدارجة كانت من البساطة بحيث تعجز تأملاتها وتصوراتها وأخيلتها عن أن تؤثر في عقل الفيلسوف تأثيرا يثبت فيه على الزمان، ومن هنا كان الأثر الذي خلفته العقائد في بلاد اليونان منابذا في طبيعته للفلسفة.
ولكنك على الرغم من هذا تجد أن العقائد الدارجة قد استطاعت أن تحتفظ في العقل اليوناني ببضعة تصورات، ظلت حية فيه، ومن هذه التصورات تخيل «الصورة» والإحساس بالتناسق، وكان هذا باعثا من أقوى البواعث التي تضع الفيلسوف، الذي يريد أن ينظر في حقائق الأشياء كما هي كائنة؛ موضعا يتعذر عليه فيه أن يستقل بنظره الفلسفي تماما أو أن يفسق كلية عن هذه التصورات، ولا يجعل لها من عقله وتأملاته نصيبا.
ومن هذه السبيل وحدها استطاعت الديانة اليونانية أن تولد في التأمل الفلسفي رغبة ملحة تدفعه إلى النظر الكلي؛ أي في الكليات، وكانت تلك الرغبة في عصور التأمل عند اليونان عضدا قويا، ساعد الفلسفة اليونانية على أن تبلغ قمتها العليا وأن تصل إلى غايتها القصوى.
على أن الدين اليوناني استطاع من ناحية واحدة أن يغذي الفلسفة اليونانية من طريق مباشر؛ إذ أمدها بفكرة «الخلود» وهي عقيدة احتفظت خلال كل التطورات الفلسفية التي تناوبت عليها بأصلها اللاهوتي. فإن أفلاطون مثلا يشير إلى أنها فكرة ترجع إلى الأسرار الأورفية
Orphic
وهي أسرار امتزجت فيها التأملات بالعقائد.
كذلك وجدت الفلسفة اليونانية في الشعر - كما وجدت في العقائد الدينية - أداة للتعبير عن طبيعتها، فإن التأمل الفلسفي في أدق معانيه، قد سبقه في الوجود محاولة «التصور» أن «يصور» لذاته أصل الكون ونشوئه، والدليل على هذا أن هوميروس قد صور في أشعاره أمثالا من الشخصيات الأخلاقية؛ فإن آخيل يمثل الخلق الثابت الذي لا يقهر، وهكتور يمثل الشجاعة والفروسة، وأغاممنون يمثل الهيبة الملكية، ونسطور يمثل الخلق الهادئ الرصين، وأولسيز يمثل الخلق الحريص اليقظ، وفنلوب يمثل خلق الأمانة والولاء الكامل، وهكذا.
أما «هسيودس
Hesiod » فقد حاول لأول مرة في تاريخ اليونان أن يكون فكرة بدائية في نظام الكون، على أن كونياته قد لبست ثوب الثيوغونية
Theogony
ويقصد بها البحث في نشأة الآلهة عند الأقدمين، ومن هنا كان السبب الذي صرفه عن الكلام في نشوء الأشياء بالعلل الطبيعية.
فإذا انتقلنا إلى الكونيات الأورفية
Orphic cosmogony
ألفينا أنها اتخذت من أقوال هسيودس الثيوغونية أساسا تقوم عليه، والدليل الثابت على صحة هذا القول أنها لم تتقدم خطوة واحدة بعد هسيودس، هذا إذا جارينا الكثيرين من أعلام الباحثين في العصر الحديث، ولم ننسب إلى الأورفية تلك المذاهب الكونية التي يعتقد هؤلاء الأعلام اعتقادا جازما بأنها ترجع إلى عصر بعد عصر أرسطوطاليس.
أما «فريقيذيس الصوروسي
» (حوالي سنة 540ق.م) فقد سما بالطريقة العلمية إلى سمت آخر لم يبلغه الذين تقدموه، فإنه يقول إن «زيوس
Zeus » و«إخرونوس
Chronos » و«إخثون
Chthon » هم بداية كل الأشياء، وهذه الفكرة البسيطة هي الأصل الأول الذي صدرت عنه فكرة نشوء الأشياء من العناصر مع الزمان.
ولقد أخفى الشاعر هذه الفكرة وراء رموز وإشارات، فعزى ظاهرات الطبيعة إلى الآلهة لا إلى عوامل طبيعية، منتحيا طريقة لا يسلم بها العقل، وإن أمكن تخيلها تخيلا.
فإذا نظرنا بعد ذلك في بدايات الفلسفة الأدبية، وقعنا عليها في الشروح التي علق بها على أشعار هوميروس وفيما خلف الشعراء الغنوميون
Gnomic Poets
أي «شعراء الحكمة» الذين ظهروا في القرن السادس قبل الميلاد، وبخاصة في الأقول المنسوبة إلى الحكماء السبعة
Septem Sapientis
على الرغم من أن هذه الأقول قد اصطبغت بصبغة «كلبية»،
2
وتروى من تجاريب الحياة ما يدعو إلى الإعجاب الشديد، هذا إذا صح أن هذه الأقوال قد كتبت حقيقة في ذلك العصر البعيد، ذلك بأن كثيرا من البحثة المجربين يشكون في نسبتها إلى العصر الذي تنسب إليه.
على هذا كانت الفلسفة اليونانية في بدايتها، أما الأدوار التي قطعتها بعد ذلك فتنقسم في الغالب ثلاثة عصور:
الأول:
الفلسفة قبل سقراط.
الثاني:
سقراط والمدارس السقراطية.
الثالث:
الفلسفة بعد أرسطوطاليس.
ففي العصر الأول شغلت الفلسفة بدرس الطبيعة، وأصل الكون فكانت في ذلك عند حد قول المحدثين فلسفة موضوعية
Objective Philosophy .
وفي العصر الثاني رد سقراط الفلسفة إلى مجرد تأمل
Contemplation
أو بالأحرى مجرد نظر في حياة الإنسان الباطنة أو النفس الإنسانية، وهو عصر امتزجت فيه الناحية الموضوعية
Objective
بالناحية الذاتية
Subjective .
أما في العصر الثالث فقد تسودت على الفلسفة النزعة الذاتية دون الموضوعية، فإن الرواقيين
Stoics
والأبيقوريين
Epicureans
قد شغلوا بالإنسان ومصيره، حتى لقد ضحوا في سبيل ذلك بكل اعتبار للكونيات والغيبيات
Metaphysics .
والقورينيون الذين نخصهم بالبحث في هذا الكتاب، شعبة من المذهب السقراطي، وبذلك يكون مذهبهم تابعا لمذاهب العصر الثاني من عصور الفلسفة اليونانية، ومؤسس هذا المذهب أرسطبس القوريني، من تلاميذ سقراط، ومن أقران أفلاطون، ومن معاصري أرسطوطاليس المعلم الأول، وأما مذهبه الأخلاقي فثابت من حيث الجوهر ولا نزاع فيه، مثله كمثل التطور من حيث إن التطور أساس لنشوء الصور الحية، ولكن التفاصيل تختلف، والتعاريف تتنافر، والتطبيق يخضع دائما لمقتضيات كل عصر من العصور، لهذا أجد من الضروري أن أختم هذا البحث بتأملات تدور حول المذهب، قد يحتمل أن تكون كلها أو بعضها موضوعا للمناقشة والبحث، خلصت بها من إكبابي على درس هذا المذهب ، وتعتبر مكملة لأصل البحث، وإليك هي :
إن تحصيل اللذة الراهنة - كما يقول أرسطبس - هي القاعدة في الحياة على الضد مما يقول «كانت
Kant »، على أن الفارق بين الاثنين أن فلسفة «كانت» تختط للإنسان خطة في حساب النفس، يرجع فيه إلى الضمير، والتساؤل عند مباشرة أي عمل: «أيجوز أن يكون هذا العمل قانون الإنسانية الأدبي؟» «وهل ينطبق هذا العمل على ما تجيز الفضائل؟» في حين أن فلسفة أرسطبس لا تتقيد إلا بالمشاعر التي تستولي على النفس في ساعة بعينها، فتحصيل اللذة الراهنة سواء أكانت لذاتها أم للتحرر من ألم عارض، هي عنده قاعدة الحياة وناموس السلوك.
إذا استولت اللذة (إيجابا) أو التحرر من الألم (سلبا) على الإنسان وهو يزاول أي عمل من أعمال الحياة، فإن صوت ضميره يخفت تماما، حتى إذا تم الفعل، وكان على غير ما تجيز شرائع الآداب أو العرف استيقظ الضمير، وأخذ يحاسب النفس على ما اقترفت من استسلام للشهوة، فالضمير قوة ثانوية، والشهوة قوة أولية، غير أن أرسطبس احتاط لهذا، فقال بأن اللذة لا يجب أن تكون مرجوحة بالألم الذي يعقبها من حساب الضمير. •••
عبثا يحاول الإنسان أن يوقظ ضميره، إذا استولت عليه الشهوة، وعلى قدر ما تكون قوة استيلاء الشهوة على الإنسان يكون عجز إرادته عن إيقاظ ضميره، ليصد عن فعل بعينه أو ليحض عليه، ففي بعض الحالات يخفت صوت الضمير بل يكمن ويستخفي، وفي غيرها يعي بعض الوعي، وفي ثالثة يصارعك فإما له وإما عليه، وهذا على نسبة ما يكون تحكم الشهوة في المشاعر.
إن تحصيل اللذة الراهنة قد يكون متجها لما نعتبره خيرا وللخير الأسمى، كما يكون متجها لما نعتبره شرا وللشر الأدنى، والإنسان في كل الحالات خاضع للشهوة أولا، فإذا استقوت وكانت بواعثها مما لا يمكن قمعه تغلبت، وإذا لم تستقو فشلت، ولكن الشهوة على كل حال أكثر انتصارا، وأقل من الضمير اندحارا، والشهوة للخير أقل من الشهوة للشر - كما وكيفا - مع تقدير اعتباري الخير والشر في مفهومنا، كما أن للشهوة منازل ودرجات أبان عنها أرسطبس في مذهبه كل بيان .
ومما يدل على أن الشهوة أقوى من الضمير فعلا في النفس، أن الضمير لا يستيقظ إلا نادرا، وبعد وقوع الفعل في الغالب، وأن استيقاظ الضمير لا يكون إلا لقمع شهوة تقوم في النفس، أو محاسبة على فعل أتته خضوعا لشهوة ما، فالشهوة إذن أقوى من الضمير أثرا في السلوك الإنساني، وإذا قلت بأن كل أعمال الناس أثر من آثار الشهوة، أو بالأحرى إن أعمال الإنسان شهوات، توضع موضع التنفيذ؛ كنت أقرب ما يكون من الواقع. •••
يحتاج الضمير إلى حكم العقل أولا ليستيقظ؛ فإن الحكم على فعل من الأفعال بأنه مخالف أو موافق لشرائع الآداب، يحتاج إلى موازنة العقل، والعقل قد يخطئ كما أن حكمه نسبي اعتباري، يختلف باختلاف الزمان، وباختلاف الأفراد، وباختلاف الجمعيات.
ثم إن العقل خاضع في غالب أمره للتقاليد والوراثة والأوضاع التي درجت عليها كل جماعة من الجماعات، وإذن فالضمير خاضع لجملة من المؤثرات، وهو عرضة لتضارب أحكام العقل، أو للأخطاء التقليدية التي ورثت ولبست مع الزمان ثوب القداسة، فقد اتفقت كل الشرائع وتقاليد الجمعيات الإنسانية المتحضرة على أن القتل جريمة، ولكنه جائز في الحروب، فيقتل الناس بعضهم بعضا من غير أن يتحرك الضمير بوازع يصد الإنسان عن ارتكاب هذه الجريمة.
والسبب في هذا أن الضمير يخضع للتقاليد والأوضاع، وهنا تستولي شهوة القتل على النفس غير متورعة عنه بصورة من الصور، وإذا فرضنا أن القتل في الحرب دفاع عن النفس - كما يذهب البعض - فليس الدفاع عن النفس إلا فعل عكسي أصيل، لا يلبث أن يتحول سراعا إلى فعل عكسي
3
متحول، هو حب القتل والفتك بالأرواح خضوعا لمقررات پافلوف، كما أن الدفاع عن النفس ليس كل ما في الحرب من باعث، فقتل الأسرى والضعفاء والنساء والأطفال والتخريب وقذف المدن التي تجردت من وسائل الدفاع بالقنابل المدمرة، شهوة تستولي على المحاربين بعد أن ينقلب حب الدفاع عن النفس إلى فعل عكسي متحول - كما أوضحنا - وإذن يصبح القتل في الحرب شهوة، والشهوة تدفع إلى تحصيل لذة الفتك وسفك الدماء، وهذه هي لذة الساعة التي أنت فيها، أو اللذة الراهنة كما اصطلحنا أن نسميها. •••
على الضد من الضمير في احتياجه إلى أحكام العقل، تجد أن الشهوة لا تخضع للعقل، بل هي ثائرة ملحة، ترمي إلى غرض معين لا يمكن بحال من الأحوال إذا استقوت على المشاعر أن يقرب الغرض الأصلي الذي ترمي إليه غرض آخر، مهما كان في الغرض الذي ترمي إليه من تنافر مع أحكام العقل، ومهما كان في أي غرض آخر من اتفاق مع المنطق السليم؛ إذن فالشهوة هي القوة المحتكمة في أفعال الإنسان، وتحصيل اللذة الراهنة هي القاعدة التي يجري عليها سلوك الإنسان ويخضع لها.
4
إذا كان اللذة والألم أصلين ضروريين في الحياة، وإذا كانت الحياة الإنسانية قد قيدت آدابها ببواعث الشهوة التي تدفعنا إلى تحصيل اللذة الراهنة، فهل من أمل في تقويم الخلق البشري، بأن يتحرر من انفعالاته وشهواته إلى درجة يستقوي فيها حب الخير على الشر، وتستعلي فيه الفضيلة على الرذيلة؟ سؤال يجب أن نفكر طويلا قبل أن نحاول الإجابة عليه.
ولكن لا بد من الرجوع إلى تاريخ نشوء الإنسان من الحيوانات التي هي أحط منه، ليمكن أن نعرف إن كان الإنسان سائرا في تطوره نحو الارتقاء الشعوري، أم أن ارتقاء العقل فيه، قد تابعه تطور في العواطف والانفعالات والشهوات، أشعلها وجعلها تخضع العقل إخضاعا.
ولكن الظاهر أن لا علاقة بين تطور العقل وتطور المشاعر، فكلاهما - على ما يظهر - يرتقي ويتطور في ناحية بعينها، ولا شك في أن المشاعر تنتحي في تطورها السمت الأعلى من فضائل الأخلاق، على ما تحتاج الطبيعة البشرية أن تكون الفضائل الخلقية باعتبار الزمان والمكان.
ولا شبهة في أن الحيوانات العليا من الرئيسات
تحوز كل الصفات التي نراها في الإنسان، ولكن بدرجة أقل، فهي تتفق مع الإنسان في أن لها غرائز وميولا وعقولا وانفعالات وشهوات، غير أن هذه الظاهرات فيها أحط منها في الإنسان، والدليل على هذا أن حس الجمال في الإنسان أقوى، والمطامع أطغى، والآمال أوسع وأشهى، واتصال الإنسان بالمستقبل البعيد صفة تفقدها الحيوانات، حتى القرود العليا، أبناء عمومتنا الأقربين. وكثيرا ما يتطور إحساس الإنسان من حيث صلته بالمستقبل إلى صورة من الجشع الاجتماعي تقوي انفعالاته وتوقظ شهواته. لهذا نحكم بأن الإنسان سائر نحو المادية الأدبية، ونقصد بها تغلب الشهوات على الحس الأدبي، والتخلص من محكمة الضمير على مقتضى حاجات الزمان والمكان، وتحكم الاقتصاديات الرأسمالية. •••
يدلنا على أن الإنسان آخذ في سبيل التخلص من محكمة الضمير أن أكثر المرافق التي تكون حضارة الإنسان، كالتجارة والصناعة والزراعة ونظام الأحزاب والديمقراطيات بأنواعها والحريات على مختلف ألوانها؛ أكثر ما تحركها الانفعالات، وتقودها الشهوات، وتحتكم فيها المطامع والأغراض، وأقل ما تكون خضوعا لمحكمة الضمير، ولو أن إخضاع هذه المرافق لمحكمة الضمير أجدر بالنوع البشري وأجدى، ولكنك لا تجد لها من أثر، إلا في المثاليات دون الواقع.
ولا نريد بهذا أن نقول إن تحصيل اللذة الراهنة هي القاعدة المثلى الجديرة بحياة الإنسان الأدبية، باعتباره إنسانا، على ما يدرك من هذا المعنى في أرفع منازله، بل نقول: إنها القاعدة الضرورية، وبهذا نستطيع أن نعلل الأوامر والنواهي التي جاءت بها الأديان، فلما كانت الشهوة أقوى ما يستولي على النفس كان لا بد لقمعها من مؤثر آخر يوازنها قوة وأثرا، فلجأت الأديان إلى الإيمان توقظه في النفس، فإذا استيقظ غرست فيه نواهيها وأوامرها، وهنالك يقوم العراك بين نواهي الإيمان وبين بواعث الشهوة، ومع الأسف أن بواعث الشهوة لا تزال في الكفة الراجحة حتى اليوم، وبين كل شعوب الأرض قاطبة. •••
ولا يقمع الشهوة إلا الإيمان؛ إذن فالنوع البشري يحتاج إلى الإيمان، الإيمان في الدين؛ لأن الدين بلا إيمان لا أثر له في خارج النفس، ويحتاج إلى الإيمان في بقية مرافق الحياة، في العلم والأدب والفن والفلسفة، وفي السياسة والتجارة والصناعة والزراعة، وعلى الأخص الإيمان بقدسية الحياة الإنسانية، وحريتها وحقوقها وواجباتها، فإننا بالإيمان نستطيع أن نقمع كثيرا من الشهوات التي تفسد علينا الحياة الآن. •••
وبقدر ما نحتاج إلى الإيمان نحتاج إلى الشك؛ لأن التسليم بلا شك قاعدة فاسدة الأساس، بل نستطيع أن نقول إن الإيمان لن يكون تسليما على إطلاق القول، وما ندعوه إيمانا في الغالب، ليس إلا تسليما أساسه حمق وغباء وتقليد ليس من الإيمان في شيء. •••
وقد يخيل إلى الذين لم يستعمقوا في درس الفلسفة أن أرسطبس إنما يدعو إلى اتباع الفلسفة التي توحي بها فكرة تحصيل اللذة الراهنة، كيفما كانت هذه اللذة، وعلى أية صورة وقعت، وأنه يرى أن هذه القاعدة هي القاعدة المثلى في السلوك الأخلاقي، ولكن الحقيقة على نقيض ذلك؛ فإن أرسطبس إنما يقول بأن تحصيل اللذة الراهنة ضرورة نفسية، نخضع لها قسرا عنا، وأن الاعتراف بذلك خير من نكرانه؛ لأننا باعترافنا وإدراكنا حقيقة كياننا، نستطيع أن نرفه شيئا من حدة ميولنا، وأن ننظمها ونروضها على أن تتحول إلى فعل الخير على قدر المستطاع، ذلك على الضد مما نكون، إذا أهملنا الاعتراف بها، ومضينا نقول بأن حكم الضمير كاف للتهذيب، من غير أن نعير الشهوة وأثرها في الحياة؛ التفاتا، فالفرق بين أرسطبس وكانت ينحصر في أن الأول يعترف بالواقع، والثاني يدعو إلى المثل العليا. •••
شاء القدر أن يظل مذهب أرسطبس غير معروف عند العرب إلا لماما، شأن أكثر المذاهب التي تفرعت عن دوحة سقراط العظيم، وشاء القدر أن يحاول أرسطوطاليس أن لا يذكر اسم أرسطبس، بالرغم من أنه ناقش في مذهبه مناقشات طويلة في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخس»، بل وأخذ ببعض مبادئ المذهب القوريني، فحورها وأدمجها في مذهبه، وشاء القدر أن لا يذكر بر تلمي سنتلير هذا المذهب في المقدمة المستفيضة التي وضعها لترجمة كتاب أرسطوطاليس في الأخلاق تعيينا، كما أنه لم يناقش مذهب الرواقيين، الذين هم فرع من دوحة أرسطبس، وحلقة انتقال في المذاهب الأخلاقية، أساسها المدرسة القورينية، وهم أقرب إلى السقراطية من أرسطوطاليس. «وما كان أرسطبس بأول فيلسوف أساءت إليه الأقدار، وما كان أول إنسان ظلم حيا وميتا.»
قال الكاتب الإنجليزي الأشهر جون مورلي في أول ما كتب عن حياة «كوندورسيه
Condorcet »:
من الزعماء الذين أشعلوا نار الثورة الفرنسوية وغذوها بوقود الفكر والعمل، لم يبق سوى كوندورسيه ليجني أول ثمراتها المريرة، فإن الذين أثاروا العاصفة لم يكونوا بعد بين الأحياء، ليلفح وجوههم ريحها العاصف، ولم يبق إلا كوندورسيه ليواجه العاصفة، فتلقيه صريعا.
كان فولتير قد مات، ولحق به ديدرو، وروسو، وهلفتيوس، ولكن كوندورسيه بقي حيا، بعد أن أخذ بضلع في أعداد الإنسيكلوبيدية، ليشغل مقعدا في الجمعية الوطنية أثناء الثورة، وبعد أن عاون كوندورسيه الذين غرسوا شجرة الثورة، شيعهم الواحد تلو الآخر إلى مضاجعهم الأخيرة، وشاء القدر أن يظل حيا، ليجني ثمرات ما غرست يداه وأيديهم.
قلما تجد في تاريخ العظماء اسما أتعس من اسم كوندورسيه، وعلى الرغم من أن الذين أحاطت بهم التعاسة، وحاق بهم نكد الطالع كثيرون، فإن أكثرهم قد جر التعاسة إلى نفسه بيده، أما كوندورسيه الرجل المحب للخير بطبعه، فإن ظروف حياته وضعته موضعا لم ينل فيه رضاء فئة من النقاد الذين كتبوا في تاريخ الثورة الفرنسية، فهو كمفكر يعد من الاقتصاديين غالبا، وكرجل سياسي يعد من زعماء الجمعية التشريعية الأولى، ثم من رجال الجمعية الوطنية الثورية.
لم يجعل له موقفه هذا بين رجال الاقتصاد ورجال السياسة من نصير بين النقاد الذين كتبوا في تاريخ عصره، فإن الذين دافعوا عن الجمعية الثورية، قد أجمعوا على كراهية الاقتصاديين، والمؤرخين الذين دافعوا عن سياسة «تيرجو
Turgo » وأتباعه، كانوا من أقسى الذين حملوا على الجمعية الثورية، وبخاصة بعد أن امتد فيها نفوذ فرنيو ودانتون وربسبيير، واستأثروا بالسلطة فيها، وفي فرنسا بالاستتباع؛ لهذا ظل اسم كوندورسيه نسيا منسيا، وقد أسدل عليه من تطرف الحزبين في التنابذ حجابا مسدولا.
وما أرسطبس بين القدماء إلا نفس كوندورسيه بين المحدثين؛ فإن توسط مذهبه بين مذهبي أفلاطون وأرسطوطاليس أوقعه في موقف أشبه بموقف كوندورسيه بين رجال الاقتصاد ورجال السياسة في فرنسا؛ فإن دعاوة أفلاطون ضد العلوم العملية، وقوله إنها لا تفيد إلا بقدر ما تهذب النفس، وتكون وسيلة للفضيلة، ودعوة أرسطوطاليس إلى القول بأن الخير الأعلى الذي يجدر بالإنسان أن ينشده هو فاعلية النفس، على أن تكون هذه الفاعلية مقودة بالفضيلة؛ لم يجعل لمذهب أساسه اللذة الراهنة من موضع، مع ما حوط به المذهب من المبادئ السامية، والتأملات العميقة، كذلك كان تسود مذهب أرسطوطاليس حتى نهاية القرن السابع عشر تسودا تاما في كل فروع المعرفة؛ سببا في أن يظل اسم أرسطبس نسيا منسيا، ولكن غالب الظن على أن الزمان سوف ينصف هذا الفيلسوف العظيم، ولعل ناشئتنا توجه جهودها نحو الإكباب على درس المذاهب القديمة التي نبذها العرب، ولم يصلنا منها عنهم إلا نتفا وأقوالا مقتضبة أو إشارات لا تجدي ولا تغني من الحق شيئا.
إن حاجتنا إلى درس المذاهب القديمة كبيرة، وبخاصة المذاهب الأدبية التي ظلت بينة الطابع في جميع ما ظهر من المذاهب الأخلاقية في الأعصر الحديثة، على أننا لا ننكر أن العلم الحديث منذ عصر غليليو قد أطفأ الأنوار العلمية التي أشعت من جنبات العالم القديم، ونعني بالعلم العلم التجريبي العملي، أما نظريات الأخلاق فلا نظن أن المحدثين لهم فيها من فضل بقدر ما لليونان.
يجب أن تقوم كل نهضة على أساس، وأساس نهضة الشرق العربي مذاهب اليونان في الفلسفة عامة، ومذاهب الأدب العربي خاصة، أما من ينكر ذلك فمأخوذ ببهرج كاذب. •••
بقي علينا أن نزيد إلى ما تقدم بضعة أسطر في التعريف بالمنبع الذي استقينا منه أصول هذا البحث، والطريقة التي اتبعناها في تأليفه، أما المنبع الأصلي فقد اعتمدنا فيه على الأستاذ تيودور جومبرتز الألماني، فقد نقلنا عنه كثيرا من الأصول التي استندنا إليها، ثم رجعنا إلى مراجع أخرى وتفسيرات عديدة وشروح واسعة على الفلسفة اليونانية، فأخذنا منها كل ما يتعلق بالمذهب وأثبتنا بعضها كتعليقات يرجع إليها عند الحاجة إلى الدرس والمقارنة، ثم سقنا البحث على طريقة رد كل فكرة أو نظرية أو حقيقة إلى مصدرها، ثم علقنا على ما وجدنا أن الضرورة تقضي بالتعليق عليه، وشرحنا ما يجب شرحه، ونقدنا ما يجب نقده، وزدنا إلى ذلك كثيرا من البحوث والنقود والمقارنات المبتكرة، التي لم نجد لها من أثر في المراجع التي رجعنا إليها، وبخاصة المقارنات والنقود التي سقناها في الموازنة بين أرسطبس من ناحية، وبين أفلاطون وأرسطوطاليس وسقراط من ناحية أخرى.
كذلك لم نأل جهدا في الرجوع إلى الكتب القديمة إذا اضطررنا عند الاستطراد في البحث إلى ذلك، مثل كتب أفلاطون وزينوفون وديوجنيس لايرتيوس وغيرهم.
هوامش
الفصل الثاني
القورينيون
الفضيلة: هي فن إسعاد الذات بالعمل على إسعاد الغير.
الفلسفة اليونانية في العالم القديم
كانت الفلسفة اليونانية خلال الأعصر القديمة محورا دار من حوله الفكر البشري عصورا متعاقبة، ولم يفلت العالم من التأثر بالفكر اليوناني تأثرا مباشرا، إلا منذ عهد قريب قد يكون عصر نيوتن مفتتحه، وعصر دروين ختامه.
ومن العجيب أن تتأثر كل نواحي الفكر بما أبرز العقل اليوناني من منتوج، وما خلف من مستحدثات حتى إن رجال الدين في العصر النصراني قد عمدوا إلى منطق أرسطوطاليس كما عمد العرب إلى الصور التي استحالت إليها الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني في مدارس الإسكندرية ونصيبين والرها وغيرها، يستعينون بها على وضع قواعد «الكلام» في صورة جديدة، تؤيد المعتقد الديني من طريق عقلي صرف، على قدر ما يتقيد العقل الإنساني بمنطق أساسه الاستنتاج دون الاستقراء.
ولما أشعت أضواء العقل اليوناني في جنبات العالم المتمدين، مبتدئة في آسيا الصغرى، منذ عهد «طاليس
Thales » منتقلة إلى أثينا وبقية المدن اليونانية تناقلها محبو الحكمة من بلد إلى بلد، ومن حاضرة إلى أخرى، حتى عم نورها شرقي البحر المتوسط، وما زالت تلك الأضواء تمتد في سماء الفكر وأشعتها تخترق حجب المدنيات، حتى بلغت حران وجزيرة العرب، فكان لها مراكز للثقافة، انتقلت إلى الشرق ثم إلى شمال أفريقية، حيث تكونت نواة جديدة أبرزت صورة من صور الفكر اليوناني، وضعها الفيلسوف أرسطبس القوريني.
من الأضواء القوية التي أرسلها الفكر اليوناني ضوء انبعثت أشعته عن عقل الحكيم الخالد سقراط فإن الشعلة التي أذكاها هذا العقل قد أضاءت كل أرجاء العالم الذي أظله النفوذ اليوناني في الأعصر القديمة، ففي شمال أفريقية وعلى شاطئ البحر المتوسط الأفريقي، وعلى غربي مدينة الإسكندرية ومن فوق الجبل الأخضر بمدينة قورينة، تكونت شعبة من المذهب السقراطي، ظلت يافعة مثمرة عدة أجيال، ثم ذوت دوحتها دراكا حتى إذا ما أصابها الانحلال ظهرت مرة أخرى في جوف بلاد اليونان، ممثلة في المذهب الأبيقوري المعروف، ذلك المذهب الذي قدر له أن ينقسم عدة شعب، منها الشعبة التي كونت المذهب الرواقي، وهو مذهب أخضع العقل الروماني والأخلاق الرومانية لسلطانه أجيالا عديدة.
قورينة والمدائن الخمس
في مقاطعة برقة وعلى شاطئ طرابلس الغرب، نزل عدد من اليونان ليستعمروا تلك البقاع التي لم يكن ينقصها من شيء لتكون رقعة من رقاع الفردوس، إلا مهارة الصانع وقدرة الفنان وخيال الشاعر، وإقدام الرائد.
وعلى مدى الزمان شيد هؤلاء اليونان الذين نزحوا إلى تلك البقاع، ليزودوها بما كانت تحتاج إليه من الكفايات العليا؛ خمس مدائن كانت «قورينة
Cyrene » أقدمها وأزهاها وأعمرها، أما تحقيق اسم قورينة ونشأتها فيكفي أن نعرف فيه الآتي:
أولا:
أن العرب في فتحهم لطرابلس الغرب وأفريقية لم يقتربوا من الساحل خوفا من مراكب الروم، فلم يمروا بهذه المدينة الزاهرة العامرة في أيام المسيح، والتي خربت قبل ظهور الإسلام.
ثانيا:
لم يذكرها جغرافيو العرب، وإن كان ياقوت اعتمد على كلام مترجمي الإنجيل، فنقل وصفها عن كتاب اليونان، وأطلقه على القيروان، وهو خطأ جره إليه علماء المسيحيين الذين غرر بهم المترجمون، فكتبوا في الإنجيل وفي سفر «المكابين» قيروان، وقيرواني (في بعض النسخ) لترجمة
Cyrene
و
Cyrenaic .
ثالثا:
القيروان مدينة أحدثها الإسلام في أواخر الربع الأول من القرن الأول للهجرة، وهي متوغلة في داخلية تونس، بخلاف
Cyrene
التي هي في إقليم برقة وبنغازي (بني غازي) بأرض طرابلس الغرب.
رابعا:
ترجمة اسم هذه المدينة اليونانية وارد في كثير من التراجم القديمة للتوراة وللإنجيل المطبوعة في رومية والمواصل واسمها قورينة.
خامسا:
في خريطة فرنسية قديمة يمكن أن تكون في الخزانة الزكية بمصر، وضع الاسم العربي المتداول الآن وهو
Grennah
ويمكن إعادته إلى العربي في صيغة قرنية، وهي قورينة، وهذا الاسم مكتوب على نفس الموقع الذي كانت قائمة عليه مدينة
Cyrene
اليونانية.
سادسا:
من المعروف جيدا أن حرف “C”
في الكلمات الغربية منقول عن حرف “k”
في كل كلمة منقولة من اليونانية إلى اللغات الحديثة مثل
Cyrill
وهو كيرللس وأصله كورللس وكذلك حرف “Y” (ويسميه الإنجليزي واي) هو في اليونانية القديمة بمثابة الواو العربية، مثل «لوبيا
Lybia » و«بوزنطية
Byzance » و«سوريا
Syria ».
1
وللاستطراد في التعريف بهذه المدينة، وعلاقة اليونان بشمال أفريقية، والمدائن التي شيدوها على البحر المتوسط الأفريقي ننقل الآتي:
أطلق العرب اسم برقة على ولاية رومانية كانت تعرف عند قدماء اليونان باسم «القيروان
Cyrenaica » نسبة إلى قورينا إحدى مدنها، وهي غير مدينة القيروان التي مصرها العرب في أفريقية بعد الفتح، وكان الجزء الشمالي منها يعرف عند اليونان باسم «بنطابلس
» أي المدن الخمس، فقد كان فيه خمس مدن كبيرة.
الأولى:
هسبريدس وقد سماها بطليموس الثالث «هسبيرس برنيقة
Hesperis-Berenice » نسبة إلى زوجته برنيقة وسماها العرب برنيق وتعرف الآن ببني غازي.
والثانية: «برقة
Barca » وتعرف الآن بالمرج وبها سميت البلاد عند العرب.
والثالثة: «قورينا
Cyrene » وبها سميت البلاد عند اليونان، ولا تزال آثارها باقية، ويسميها الأعراب قرنيا وهي على الجبل الأخضر، وعلى مقربة منها عيون ماء، يقال لأحدها عين أبلون وقربها هيكل أبلون ولا تزال آثاره باقية. واشتهرت قورينا بمدرسة الطب التي كانت فيها، وينسب إليها جماعة من الشعراء والفلاسفة، منهم كليماخوس الشاعر، وأرسطبس تلميذ سقراط، واطسنيز العالم المشهور، وكان عدد سكانها إبان مجدها نحو مائة ألف نفس، وكان لها سور طوله أربعة أميال، ولا تزال آثاره باقية، وحوله ألوف من النواويس والقبور المنحوتة في الصخور.
والرابعة: «أبلونيا
Apollonia » وتعرف الآن بمرسى سوسه.
والخامسة: «طوخيرا أرسنوي
Teucheira Arsinoe » وتعرف الآن باسم توكرا.
2
وقد فضلت أن تكون النسبة إلى قورينة لا إلى قورينا فقلت قوريني لا قورينائي.
ولا بأس من أن نذكر هنا بعض عبارات عن المعاجم العربية، استكمالا للبحث، ودفعا لبعض الأوهام، جاء في شرح القاموس ص293 ج10 ما يلي:
والقيروان أيضا (بلد بالمغرب) بفتح الراء وضمها، وهو بلد بأفريقية بينه وبين تونس ثلاثة أيام، لا بالأندلس كما توهم الشهاب فلا يعتد به، قال شيخنا: «قلت افتتحه عقبة بن نافع الفهري زمن معاوية سنة خمسين، والنسبة إليه مروي بالتحريك، وقيرواني على الأصل.»
وجاء في شرح القاموس ص309 ج9 أيضا ما يلي:
وقيروان (بالمغرب) افتتحه عقبة بن نافع الفهري زمن معاوية سنة خمسين. يروى أنه لما دخله أمر الحشرات والسباع فرحلوا عنه، ومنه سليمان بن داود بن سلمون الفقيه.
وجاء في ترجمة القفطي عن حياة أرسطبس: «وقيل إن قورينا هي رفينة بالشام عند حمص والله أعلم.» ولعل هذا الخلط ناشئ عن تشابه الأسماء. فقد جاء في شرح القاموس ص309 ج9: «والقرينين - مثنى قرين - جبلان بنواحي اليمامة بينه وبين الطرف الآخر مسيرة شهر، وضبطه نصر بضم القاف وسكون الياء وفتح النون ومثناة فوقية، وأيضا علم ببادية الشام.» ا.ه. وأظن أن الوهم الذي وقع فيه القفطي راجع إلى اسم ذلك العلم الذي هو ببادية الشام.
ومما جاء في الموسوعة البريطانية الكبرى يتضح تماما أن قورينة غير القيروان.
جاء في المجلد6 ص936-937 من الموسوعة البريطانية:
إن قورينة هي عاصمة المقاطعة الأفريقية التي عرفت بهذا الاسم، ومستعمرة من أعظم مستعمرات الإغريق، ولقد روى هيرودوتس السبب في بناء هذه المدينة، فقال نقلا عن رواية قديمة إن هاتف دلفي أمر «بطاس
Buttas » أن يهاجر مع عدد من الأهالي إلى صحراء لوبيا، ويبتني هنالك مدينة تقوم «بين الأمواء» فظن أن المقصود بذلك أن تكون المدينة في جزيرة، فأنزل جمعه في جزيرة «إفلاطيا
» الجرداء في خليج «بومبا
Bomba » ولما أن رأى المهاجرون أن أحوالهم غير مواتية، عادوا إلى استشارة الهاتف، فأمرهم بأن ينتقلوا إلى الشاطئ، فاسترشدوا بخبرة أهل لوبيا فقادوا هؤلاء الإغريق إلى مرتفع من الأرض تغذيه الينابيع الكثيرة والمياه الدافقة، وهنالك عثر بطاس على المكان الذي هو بين الأمواه، وشرع يبني المدينة، وكان هذا في منتصف القرن السابع قبل الميلاد.
أما تخريب المدينة فقد جاء عنه في تلك الموسوعة ما يلي:
في أواخر عهد الإمبراطور «ترايانوس
Trajan » الروماني حدث في المدينة فتنة يهودية، فاستعمل الإمبراطور في قمعها أساليب أصاب المدينة منها خسائر مدمرة، وكان ذلك سنة 115-116 بعد الميلاد، وفي القرن الرابع بعد الميلاد كانت المدينة قد هجرت، وفي القرن الخامس كانت خرابا بلقعا، ومن ذلك العهد إلى غزو العرب سنة 641 بعد الميلاد أخذت البقية الباقية من اليونان تترك تلك البقعة إلى مدينة أبولونيا فكأن المدينة عند غزو العرب كانت خرابا.
وجاء في هذه الموسوعة ص806 ج18 عن القيروان ما يلي:
تبعد القيروان عن تونس 36 ميلا جنوبا بغرب، وتروي أسطورة أن عقبة (بن نافع) سنة 671 بعد الميلاد (50 هجرية) أراد أن ينشئ مدينة لتكون ملجأ يلجأ إليه المسلمون في أفريقية، فقاد أصحابه إلى الصحراء، وأمر الأفاعي والوحوش باسم الرسول، أن تنزح عن المكان، ثم رشق رمحه في الأرض، وقال: هنا القيروان؛ أي محل القرى والراحة، ومن ثم أخذ اسم المدينة.
فكأن عقبة على هذه الرواية هو الذي أسس المدينة ولم يفتحها، على رواية المعاجم العربية.
وللتوسع في هذا الباب يرجع القارئ إلى كتاب جورج جروت «تاريخ اليونان» الفصل 27 من المجلد الرابع طبعة مكتبة أفريمان ص215-233 لناشريها دنت وشركائه في إنجلترا، وداتون وشركاه في أمريكة، وعنوانه «قورينة وبرقة وهسبيرس».
وصف قورينة
اتفق كل من زار مدينة قورينة من الأقدمين كما جاراهم كل من زار أطلالها من المحدثين، على أن تلك المدينة قد تفردت بموقع جغرافي تأنقت يد الطبيعة في إبداعه، وأنفقت فيه كل ما كمن في تضاعيفها من مهارة القطع والتخطيط، كما زودت البقاع المجاورة لها بجمال يكفي أن تقول فيه إنه جمال الطبيعة؛ إذ تخطه يد القدرة على لوحة من الجبال الشامخة ينبسط من تحتها بحر لجي كأنه السندس، وتترامى من جنوبيها صحراء لا يحدها الخيال، وكأنها التبر المنثور. •••
ولقد حمت تلك المدينة الفريدة سلسلة من الجبال كانت ترد عنها غائلة الصحراء برمضائها صيفا، وزمهريرها شتاء، واستوت قورينة على قمتين منحدرة على سفوحهما المخضوضرة، مطلة من سماء ألفي متر على ذلك الخضم الذي يطاولها فلا يطولها، فكان ذلك سببا في اعتدال إقليمها على مدار الفصول، كما كان لها من ينابيعها المتفجرة من خلال الجبال التي حملت عرش قورينة نبعا للجمال فائضا لا يغيض، ومنهلا عذبا سائغا للشاربين، فكانت في موقعها هذا أشبه بالدرة العصماء، تقذف بها البيد المترامية، ليتلقاها البحر بالراحتين. •••
وكانت للسحر الذي ينفث به عرش قورينة في النفوس جاذبية قوية، فأمها الملاحون من مختلف أنحاء العالم المتمدين، يمخرون بسفنهم عباب البحر؛ ليزودوها بما تحتاح إليه من الزاد والعتاد، أو ليتزودوا منها بخيرات حسان، أو ليحملوا إليها نزلاء من جزر «ثيرا»
3
و«الفلوپونيز»
4
و«الققلاد»،
5
والكل مستهين بدمه في سبيل أن يرد عن المدينة هجمات قبائل البربر التي تكتنفها مواطنهم التاريخية، بل ليدفعوا عن جمال الطبيعة وعن آثار الفن الذي تفرد به إذ ذاك أبناء اليونان، وعلى الأخص في المائيات، وتخطيط الطرق وتعبيدها، فإن هذه القدرة كانت قد بلغت في قورينة أقصى مبالغها، وأرفع منازلها، فإن السفوح المنحدرة التي كانت تترامى تحت قدمي قورينة قد ردت طرقا معبدة مذللة المسالك، تتعرج ثم تمتد، وتمتد ثم تتعرج، وتلتوي ثم تدور من حول القمم في وضع حلزوني، حتى تبلغ الذروة التي استوت عليها المدينة مطلة على البحر، وكأنها «نرجس» في أساطير اليونان الأقدمين.
6
وترى الجبال وقد قطعت صخورها بيد الطبيعة فجاءة، فكأنها الجدران المشمخرة، شامخة بأنوفها الشم نحو السماء، ولكن يد اليونان لا تترك هذه القطوع الرأسية من غير أن تمتد إليها، ومن غير أن يتعهدها الفن بزخرف جميل تبتكره عبقرية الفنان، أو نقش رائع يحفره إزميل المثال، أو صورة تخطها ريشة المصور على الصخر الجلمد، فتلقي عليك ظلالا من مختلف ما ترى في الحياة من صور وألوان.
وقد استغلت المياه المنحدرة من ينابيع الصخور، استغلالا منع على الشمس أن تبخر منها، إلا القدر الذي تعجز المهارة البشرية عن أن تغالب فيه فعل الطبيعة، فاخضوضرت من حول قورينة الحقول، وترنحت في سفوح جبالها أشجار الصرو والصنوبر والحور، نشوانة متمايلة كأنها القدود الهيفاء، وفي المروج رتعت قطعان من الماشية والأغنام زودت الدنيا القديمة بأثمن أنواع الصوف، وولدت سلائل من الخيل عرفت في ملاعب أثينا بأنها لا يشق لها غبار.
وفي هذه البيئة نشأ الفيلسوف أرسطبس صاحب الفلسفة المنسوبة إلى تلك المدينة المهجورة التي تركتها يد الحدثان في وحدتها الأليمة: «تبكي في الليل بكاء، ودموعها على خديها».
7
الحالة الفكرية في قورينة
لم يختلف مؤرخان في أن نبض الحياة الفكرية في قورينة ظل يدق بخفوت خلال أزمان طويلة، فالمعارك الدائمة التي اشتبكت فيها المدينة الفتية مع سكان البلاد الأصليين، قبل أن تأسرهم مفاتن المدينة اليونانية، والحروب الطاحنة التي عانتها مع مصر - وهي إذ ذاك إحدى الدول العظمى - قد استنفدت كل القوى الحيوية والمعنوية التي كان من الممكن أن تزود بها قورينة أبناءها، بما كانت تصب في معينهم من جمال الموقع، واعتدال الإقليم وكثرة الأرزاق.
ولقد كان من أثر هذه الحروب أن المدينة كانت تحتاج إلى المهاجرين، ليملئوا فراغها الشاسع، فكانت مثلها كالسفين تمر على الثغور، ولكن لتفرغ موتى تضمهم القبور، ولتشحن أحياء تسلم بهم إلى الموت، كأنما شاءت أهواء الزمان والأقدار، أن تظل قورينة مغمورة في بحر من الدماء والأشلاء.
على أن الحروب لم تكن لتهدأ نوبتها حتى تنتاب المدينة هزة الخلاف على النظام التشريعي، أو نظام الحكم والنيابة بين أهليها.
فدارت معارك الحكم حول الملوكية أولا، ولكن الملوكية لم تدم فيها إلا بقدر ما دامت في أرض اليونان القديمة، فكان نصيبها الزوال في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد.
أما أقدم ما وصل إلينا من ثمرات العقل اليوناني في قورينة فقصيدة من القصص الحماسي عنوانها التليغونية
Telegonia
وضعها الشاعر القوريني «أوغمون
Eugammon » في أواسط القرن السادس قبل الميلاد، وهو عصر كان يعتبر فيه الشعر القصصي في «إيونيا
Ionia »
8
من الآداب القديمة، إذ كانت موجة الشعر أخذت تتجه في مدها نحو سمت آخر.
أما موضوع التليغونية فذو علاقة بحروب طروادة فقد كان من أبطال إسپرطة في حرب «طروادة
Troy » آخيلوس و«أوذسيوس
Odysseus » وبعد انتصار أهل اسپرطة وهدم طروادة، رجع المحاربون وأبطالهم إلى أوطانهم، ولكن خيال الشعراء وجد من المغامرات التي صادفها هؤلاء حين عودتهم إلى أوطانهم مجالا خصبا فسيحا لخيالهم، وقد عثرت بعد البحث في المعاجم سدى على كلمات للمؤلف الإنجليزي «جورج جروت
G. Grote » عن قصيدة تليغونية أثبتها في الجزء الأول من كتاب «تاريخ اليونان» ص272 (طبعة إفريمان) جاء فيها أن هوميروس يترك أوذسيوس في إلياذته مستريحا بين أهله، وفي كسر بيته، ولكن شخصية كهذه لا يمكن أن تترك وادعة في حياة البيت، فإن هذه القصيدة تنسب إليه سلسلة من المغامرات بعد حرب طروادة فإن «تليغونس» ابنه من «سرسيه» يهبط «إيثالة» باحثا عن أبيه، فيعيث في أطراف الجزيرة فسادا، ويقتل أوذسيوس من غير أن يعرف أنه أبوه، ومن ثم يقع فريسة حزن قاتل، تلقاء قتل أبيه خطأ، فتتدخل أمه سرسيه وبصلواتها وتوسلاتها يصبح فنلوب وتليماخوس من الخالدين، ويتزوج تليغونس من فنلوب، ويتزوج تليماخوس من سرسيه إلى آخر ما هنالك من رواية القصيدة.
وظلت قورينة بعد ذلك - على ما وصفنا - عقيمة لا تلد إلا للموت والفناء، فلم تنجب من ابتكر في العلم أو أبدع في الأدب، حتى ذلك العهد الذي اتحدت فيه مع مصر، منضوية تحت لواء البطالمة،
9
فاستمتعت بالراحة والسلام.
في ذلك العصر بدأ نبوغ العقل اليوناني يحلق في سماء قورينة، فظهر شاعر البلاط «كليماخوس
Callimachus »
10
الذي اشتهر بالرقة والعذوبة، والإنسيكلوبيدي «إراطسنيز
Eratosthenes »،
11
والمفكر الانتقادي «قرنيادس
Carneades ».
12
ولكن لا يجب أن نغفل عن أن أثينا الأفريقية كانت قد فرخت في صدور أبنائها بزرة التعاليم السقراطية؛ فاتبعت سنة الوراثة كاملة، فأنتجت مثلا مشابها للسلف العظيم، ولكن بطابع قوريني أصيل.
بأية من المدارس السقراطية يلتحق القورينيون
بعد موت سقراط تكونت عدة مذاهب فلسفية، ادعت كل منها أنها تقوم على مبادئه وتعاليمه. على أن الاختلاف الملحوظ بين هذه المذاهب عند مقارنة بعضها ببعض، يدل على مقدار ما في المبادئ التي قامت عليها من حاجة إلى التحديد والضبط،
13
كما يقول دراپر.
ويعلل الأستاذ سدجويك سبب الاختلاف الذي قام بين المذاهب السقراطية تعليلا يخالف تعليل الأستاذ دراپر، وعندي أنه أقرب إلى الواقع، بل لا نغالي إذا قلنا بأنه الواقع، فقد قال في كتابه «تاريخ الأخلاق» ص24-31 ما يلي:
لما قال سقراط بأن حياة الإنسان العقلية يجب أن تتجه نحو الحصول على ما هو خير، لم يحدد ما هو الخير الحقيقي، وماذا يمكن أن يكون.
ولا شك في أن هذا القول فتح باب الاختلاف بين المذاهب السقراطية في تقدير ما هو «الخير الأسمى»، كما جعل للدعوى التي ادعاها أصحاب كل مذهب، من أنهم لم يخرجوا على مبادئ الأستاذ الأعظم أساسا تقوم عليه.
كان من بين هؤلاء المتقلدين إقليدس الميغاري مؤسس المدرسة الميغارية في الفلسفة اليونانية (399ق.م) وعلى الرغم من أنه كان من تلاميذ سقراط فإنه درس الفلسفة الإلياوية
Eleatic Philosophy .
14 •••
وقد يشتبه إقليدس الميغاري بإقليدس الرياضي على الكثيرين، وهنا يجب أن ننبه على أن الأخير فيلسوف رياضي علم في الإسكندرية حوالي سنة 300ق.م، ويعتبر أول من وضع أساس المدرسة الرياضية.
15
أما إقليدس الميغاري - تلميذ سقراط - فقد كان يستهدف لأخطار شديدة، في سبيل حضوره على المعلم العظيم؛ إذ كان هبوط أحد من أهل «ميغارة
Megara » - مدينة أثينا - خيانة عظمى، فلما اضطهد أفلاطون وغيره من تلاميذ سقراط بعد موته، لجئوا إلى ميغارة ونزلوا في ضيافة إقليدس فأحسن وفادتهم وعني بهم.
أما فلسفته التي أكب أرسطبس على درسها، فمزيج من مبادئ الإلياويين
Eleatics
وتعاليم سقراط مع تغلب المبادئ الأدبية على بقية نواحي مذهبه، ولقد قضى بوجود شيء يقال له «الخير»، وقال بأن له ظواهر متعددة، منها الحكمة والله والعقل، وأظهر نزعة إلى ذلك المبدأ الذي انتحله من بعد الكلبيون، وتوسعوا فيه، مبدأ أن الرجل ذا العقل يجب أن لا يأبه بالألم.
وبالمذهب الميغاري عادة، يلتحق المذهب القوريني الذي وضعه أرسطبس.
16
هوامش
الفصل الثالث
شرح المذهب وإلمامة بتاريخه
إن تطور البحوث النفسية التي صدها سقراط عن الانبعاث في سبيلها الجدي، جدده أرسطبس؛ الذي هو أعظم من سقراط في الدقة المنطقية، ولكنه أقل منه سعة في الأفق، وإحاطة بالطبيعة الإنسانية.
برت (1) الرسول الجديد
كان أرسطبس رسول الفلسفة الجديد، نشأ في مدينة قورينة من أب تاجر غني، وهبط أثينا، رجلا من رجال الأعمال مثقفا تثقيفا عاليا.
1
ويقال إنه التقى في عيد من الأعياد الأوليمبية بتلميذ من تلاميذ سقراط، وسمع منه أقوال أستاذه ، وناقش فيها، فهزته المناقشة من الأعماق، وصمم على أن يذهب إلى أثينا، لينضم إلى الحلقة التي كانت تتلقى وحي الفلسفة عن سقراط.
أما عن بقية حياته، فلا يذكر المؤرخون شيئا ذا قيمة، سوى أنه كان يعلم تلقاء أجر، وكان هذا سببا في أن يلحقه أرسطوطاليس بالسفسطائيين، وأنه أقام في بلاط سيراقوز مدة طويلة، كما فعل من قبل أفلاطون وأخنيز،
2
أما جهوده التي بذلها في سبيل الأدب والفلسفة فتكتنفها ظلمات لا يخترقها شعاع واحد من الأشعة التي يلقي بها التاريخ على حياة أشخاص أقل من أرسطبس شأنا في حياة الفلسفة والآداب.
ومما يزيد هذه الظلمات احتلاكا، ويساقطها على تاريخ هذا الرجل العظيم كسفا متراكمة؛ أنه كثيرا ما نسبت إليه مؤلفات، وانتحلت عليه كتب لم يؤلفها، ولم يخط فيها حرفا، أو عزيت إليه أقوال ونظريات كان أولئك المتقولون عليه يؤمنون بها، ويرون في نسبة ما يشابهها من المذاهب والنظريات إليه، تأييدا لما يؤمنون به وتمكينا لما يحاولون الترويج له بمختلف الأساليب.
غير أننا إذ نرى أن شابا من أفذاذ العالم الإنساني لا من أفذاذ اليونان وحدهم، ومن معاصري أرسطبس، درس نظرياته ومبادئه، لا على وجه التعميم، بل على وجه التخصص، وأنه ناقش فيها، ونقض بعض الأسس التي تقوم عليها؛ يذهب من روعنا كل شك في أن مذهب أرسطبس ونظرياته قد كتبت وجمعت بين دفتي كتاب أو ضمنت صفحات كتب عديدة، وإن ثقتنا بهذا القول تصبح في موطن اليقين، إذا عرفنا أن ذلك الشاب الذي عاصر فيلسوفنا في أخريات أيامه، هو المعلم الأول أرسطوطاليس لا أحد غيره.
3
كذلك ذهب معاصر آخر هو المؤرخ «ثيوفمبوس
Theopompus »
4
مذهبا اتهم فيه أفلاطون بأنه نقل عن أرسطبس، وأنه انتحل نظرياته، متوسعا في شرحها، ولا شبهة مطلقا في أن هذه التهمة باطلة ولا أساس لها، ولكن مما لا ريبة فيه؛ أن مثل هذه التهمة لم تكن لتخطر في عقل مؤرخ ما لم تكن نظريات أرسطبس قد خطت في الطروس، وأن مبادئ الفلسفة القورينية، قد حوتها المجلدات.
أما الآن فليس بين أيدينا مما خلف هذا الفيلسوف إلا بضع فقرات متناثرة من آثاره الفلسفية، ولم يصلنا حرف واحد من كتابه الذي قيل بأنه وضعه في تاريخ «لوبيا». كذلك ضاعت أصول المحاورتين اللتين كانتا بعنوان أرسطبس على اسم الفيلسوف، وفيهما يعرضه «استلفون
Stilpo »
5
الميغاري، و«فيوسيبوس
Speusippus »
6
ابن أخت أفلاطون لنظريات الفيلسوف القوريني، ويناقشان فيها.
على أننا مع هذا لم نعدم كل المصادر التي تزودنا بشيء يمكننا من درس شخصيته الفذة، فإن العالم القديم قد أسلم إلينا، فيما أسلم به من الآثار بوصف موجز، ولكنه بضوابطه وشواهده، يوصلنا إلى عمق غير قليل الغور في استجلاء حقيقة هذا الرجل العظيم.
فالمراجع التي نلم منها بشيء من حقيقة المذهب القوريني مراجع ثانوية، وأهم هذه المراجع «ديوجينيس لايرتيوس
Diogenes Laertius » و«قيقرون
Cicero » و«سقسطوس
Sextus » وأبيقور وكليمان السكندري.
لهذا يقول زلر: «ليس بين أيدينا شيء من كتابات المدرسة القورينية الأولى، حتى لقد شك بعض الباحثين في أول من وضع المبادئ القورينية في صورة مذهب فلسفي أهو أرسطبس الكبير، أم أريطي ابنته، أم أرسطبس الصغير.» (2) أرسطبس وعناصر شخصيته
ولد أرسطبس في مدينة قورينة حوالي سنة 435ق.م على أن هذا التاريخ مشكوك فيه كثيرا، وقبل أن ينضم إلى مدرسة سقراط كان قد أحاط بمبادئ السفسطائيين من طريق إكبابه على درس ما كتب بروطاغوراس، وبعد أن مات سقراط علم أرسطبس في مدائن متفرقة، وقضى أكثر عمره متنقلا من مكان إلى آخر، من غير أن يتخذ له وطنا يقيم فيه، غير أن الراجح أنه قفل في أواخر عمره راجعا إلى مسقط رأسه، وهنالك أسس مذهبه.
7
ويقول آخرون إنه قضى معظم عمره في سيراقوز ببلاط «ذيونسيوس
Dionysius » حيث عرف - خطأ - بأنه فيلسوف شهواني وعاش قليلا في قورنثية مع لايس الخليعة، ولكنه عاد في أواخر عمره إلى قورينة حيث عهد إلى أريطي ابنته بمفصلات مذهبه، فكانت واسطة نقله إلى الأعقاب.
8
وكان أرسطبس من أولئك الأفذاذ الذين خصوا بموهبة الفنان القادر على إخضاع منازع الحياة لأغراضه، القاهر في معالجة الرجال شارك الكلبيين
Cynics
فيما راموا إليه من المرانة على مواجهة كل التقلبات التي تجري بها يد الأقدار، ولكنه كان أقل إيمانا منهم بحقيقة إنكار الذات إلى الدرجة التي دعوا إليها ، وهبط إليها بعضهم وبضرورة البحث عن سلام الروح بالفرار من متاعب الحياة ومخاطرها.
يزعم البعض أنه قال: «إن من يحاول أن يضع نفسه في موضع الفارس من ظهر الجواد أو الربان من دفة السفينة، ليس الرجل الذي يفرق من استخدامهما، ولكنه الرجل الذي يعرف كيف يقودهما في الطريق المستقيم.» وعلى نفس هذه القاعدة عرف أرسطبس حقيقة «اللذة».
أما كلمته المعروفة «إني أملك ولكن لا أملك»، فيقال - إن خطأ أم صوابا - إنه فاه بها أصلا في درج كلام أومأ فيه إلى «لايس
Lais »
9
غير أن تطبيق هذه الكلمة غولي فيه بعد، ورمى لأكثر من هذا، فقال الشاعر «هوراس
Horace »
10
إن مبدأ أرسطبس الأول، ومثله الأعلى في الحياة انحصر في أن يكون الإنسان «سيدا للأشياء لا عبدا لها»؛ أي إنه يجب علينا أن نملك لذائذنا من غير أن نجعلها تملكنا،
11
وفي كلمة يتناقلها الأدباء عن حممة بن رافع الدوسي، تعبير عن هذا المبدأ في إيجاز وإحاطة حيث يقول: «أجود الناس من بذل المجهود، ولم يأس على المفقود.»
أما رصانته ورباطة جأشه فقد حازت إعجاب أرسطوطاليس، الذي روي عنه مرة أن أرسطبس قال له على أثر حديث عن أفلاطون فيه شيء من ريح الاعتداد بالنفس: «ما أبعده عن صاحبنا!» يعني سقراطا.
كان في أخلاقه عنصر أصيل من تلك العناصر المرحة الطروبة، خلصه من شعور التوجس مما يخفيه المستقبل، ونجاه من الأحزان الممضة، على ما ذهب به الماضي، وكان من صفاته الفريدة قدرته على الجمع بين التلذذ بما بين يديه من الأشياء، مع التحرر من الكثير مما يعده غيره من ضرورات الحياة، ثم رقة حاشيته وهدوء نفسه، في مواقف تثير أشد السخط، وتبعث على أقصى الغضب، تلك الصفات التي خلفت أكبر الأثر في كل معاصريه، ممن كان لهم أقل اتصال به.
وبالرغم من أن طبيعته كانت تميل به إلى السلم، وتقيه من أن يزج بنفسه في مضطرم المنازعات والجدل، حتى لقد أقصته عن أن يأخذ بضلع في الحياة العامة، فإن الشجاعة لم تكن تنقصه، تلك الشجاعة التي تجلت - سلبا لا إيجابا - في احتقاره الشديد للمال والحطام والثروة بمفاتنها، وفي عدم اكتراثه بالآلام.
على أن كثيرا من صفات أرسطبس وميوله، على ما وصل إلينا من تاريخ مذهبه، تظهره في صورة رجل يمكن أن يتخذ مثالا يحتذيه كثير من الكلبيين والرواقيين.
12
كان من أثر هذه الصفات في «قيقرون
Cicero »
13
الخطيب، أن قرن أرسطبس بسقراط، وتكلم في «الفضائل القدسية العظيمة» التي عوض بها هذان الرجلان عما يمكن أن يكونا قد أجرما فيه بحملتهما على العادات والتقاليد، ولا شك أن في هذا أثرا من كلمة أرسطبس؛ إذ كان يقول بأن الرجل الحصيف يطيع شرائع بلاده، ويخضع لعرف الجمعية؛ لأنه يعرف أن الخروج عليها، إنما ينتج رجحانا للألم على اللذة.
غير أن الأستاذ «برت
Brett » يفوق أرسطبس على سقراط في ناحية، ويفوق سقراط عليه في ناحية أخرى، قال: «إن تطور البحوث النفسية التي صدها سقراط عن الانبعاث في سبيلها الجدي، جدده أرسطبس الذي هو أعظم من سقراط في الدقة المنطقية، ولكنه أقل منه سعة في الأفق، وإحاطة بالطبيعة الإنسانية.»
14
ومن الظاهر أن قيقرون له فيما قضى به أكبر العذر، فإن العلاقة بين سقراط وأرسطبس، ومجمل الرأي الذي ذاع فيهما عند الأقدمين، مبرر من أكبر المبررات التي تحمل خطيبا من أعظم خطباء رومية، على أن يرميهما بالإجرام، ثم يخصهما - على الرغم من اعتقاده هذا فيهما - بأكبر الاحترام، فإن علاقتهما وصلتهما كانت أكبر من صلة تلميذ وأستاذ، بل هي اتصال فكري حمل قيقرون في العصور القديمة أن يقول فيهما ما قال، كما حمل الأستاذ برت في عصرنا هذا أن يوازن بينهما. ويقول ديوجينيس لايرتيوس (ج2، ص65 و74 و76) بأن أرسطبس لم يهبط أثينا إلا ليسمع سقراط، على الرغم من اختلاف الرأي بينهما، فإن سقراط لم يجز السعي لتحصيل اللذة، باعتبارها غاية للحياة، وقد شرحنا ذلك فيما كتبنا في هذا الكتاب عن سقراط وأرسطبس ، غير أن أرسطبس يزعم بأنه لم يعلم من شيء فيه روح المنابذة والاختلاف مع مبادئ أستاذه الأساسية، ولقوله هذا سبب جوهري، سندلي به في موضعه من الكتاب.
إن طابع أرسطبس طابع أصيل في الخلق الإنساني، وفي القرن الثامن عشر كانت ميول العصر تناصر هذه النماذج من الشخصيات فإن منتسكيو قد قال عن نفسه، من غير أن يدرك أنه يحيي بما قال فلسفة قديمة ترددت أصديتها بين جنبات قورينة وفي بلاد اليونان وعلى لسان أرسطبس:
إن دورة عقلي قد كونت - لحسن الحظ - بحيث تجعلني شديد الحساسية، فأتأثر بالأشياء ابتغاء الاستمتاع بها، ولكن لم تبلغ حساسيتي بالأشياء حدا، يجعلني أتألم من فواتها.
غير أن هذا الطراز من الفلاسفة قد فقد كل ما كان له من مكانة وأثر في خلال القرن التاسع عشر، فإن أبناء العصر الحديث يرجحون في الحياة طبيعة متقدة، تلتهب بالغيرة، وتفيض بالحماسة على طبيعة تغشاها موازنات الحكيم وثقافة الفنان.
وهذا لا يجب أن ينسينا أن فيلسوف قورينة - فوق ما خصته به الطبيعة من هدوء الطبع، وصفاء الفكر - كان قادرا كل القدرة على أن يدرس حقائق الطبع البشري بكل ما في إمكان العقل من غيرية واستقلال، ولا ريبة مطلقا في أن الحذق في التمييز، والعمق في التحليل، والرشد في استخلاص النتائج، صفات كانت من أخص ما امتاز به رجال شيعة قورينة الفلسفية.
وفي مذهب أرسطبس أثر كبير من أخلاقه الشخصية، فإنه كان ثابت العزم شجاعا، قادرا على ضبط نفسه، وكان من ناحية أخرى مثالا يحتذى في لزوم ذلك التقليد السقراطي الذي يدعو الإنسان إلى الخضوع الأعمى في كل أعماله لكل ما يثبت أنه «الأحسن والأقوم» مع وضع مبدأ سقراط في ازدراء كل ما هو «وضيع وغير جوهري» موضع التطبيق العملي الصحيح، ومن هنا جاء قول أرسطبس: «لخير لي أن أكون مستجديا من أن أكون أحمق بليدا، فإن الأول إن كان بلا مال، فإن الثاني بلا رجولة».
15
ولكن كانت في أخلاقه ناحية أخرى تنزع به إلى التبذل، فإنه لم يأنف أن يأخذ من ذيونسيوس طاغية سيراقوز كل ما استطاع أخذه، فقد نقلت عنه عبارة قالها لذلك الطاغية:
ذهبت إلى سقراط لما شعرت بحاجة إلى المعرفة، وقدمت إليك لما شعرت بحاجة إلى المال.
16
ولم يكن أرسطبس في هذا إلا كلبيا من أعيان الكلبيين، فقد روي عن ديوجينيس الكلبي أنه كان يقول بأن الثروة تقاس دائما بعدد الأشياء التي يستطيع أن يعيش المرء بدون احتياج إليها، ولكنه كان يحتاج إلى بعض المال، فيطلبه من الناس، فذهب مرة إلى مسرف من المسرفين، وسأله أن يعطيه من المال أضعاف ما يطلب من بقية الناس، على قلة ما كان يطلب، فلما سئل في هذا قال: أخشى أن لا أجد عنده ما أطلب، إذا استمر في إسرافه وأمعنت في زهدي.
ولا أغالي إذا قلت إن أرسطبس كان فيه ناحية أخرى تنزع إلى الشيوعية، والدليل على هذا أنه لم يكن يفرض على عشيقته أن تكون وفية له، «فأية غضاضة عليه في أن يسافر غيره من الناس في سفينته».
17 (3) أرسطبس وبروطاغوراس
ذكر العلامة «وندلبند
Windelband » في كتابه «تاريخ الفلسفة» وأيده في ذلك العلامة سدجويك في كتابه «تاريخ الأخلاق» أن السبب في اختلاف الرأي بين المذاهب السقراطية، إنما يرجع في أكثر الأمر إلى أن المعلم الكبير (سقراط) لم يحدد «الخير» الذي يجب أن تتجه إلى تحصيله الأعمال الإنسانية، على الرغم من أن مذهبه قد انحصر في أن حياة الإنسانية العقلية ينبغي أن تتجه دائما نحو الحصول على ما هو «خير».
ولقد ذهب القورينيون مذهب أستاذهم جملة وتفصيلا، غير أنهم ابتعدوا عن سقراط في التطبيق، فقالوا بأن ذلك «الخير» الذي عناه سقراط لن تقع عليه في شيء إلا في «اللذة» التي هي الشيء الوحيد الذي نرغب فيه، والذي تنزع إلى الحصول عليه وتنشده كل المخلوقات ما لم يصدها عنه عامل من العوامل.
18
على أنك بالرغم من وضوح المحجة في استخلاص الآصرة بين مذهب سقراط ومذهب تلميذه العظيم، تستطيع أن ترد فكرة أرسطبس إلى مذهب أساسي قال به الفيلسوف بروطاغوراس، إذ قضى بأن معرفة الإنسان تقف عند الحد الذي تنتهي إليه حواسه، وأية آصرة أقرب، أو وشيجة أمنن، من تلك التي تربط بين الحواس واللذة المباشرة؟
يقول بروطاغوراس: «إن الإنسان لا يستطيع أن يعرف إلا ما يظهر له (أي الظواهر) لا ما هي طبيعة الأشياء في ذاتها (أي الماهيات) وهو لا يعرف على أية صورة تظهر الأشياء لغيره من الناس.»
ومؤدى هذا القول أن ملكاتنا لا تؤهل بنا إلى تحقيق عقلي تحكم من ناحيته في الأشياء، أنبيلة هي أم غير نبيلة، وأن كل ما نعرف عن الخيرية
Goodness
لا يتعدى معرفة ما هو ملذ.
19
ويؤيد هذا الأستاذ «برت
Brett » في كتابه العظيم «تاريخ علم النفس» (ج1، ص62، 63)، بقوله:
بدأ أرسطبس من حيث قال بروطاغوراس بأن المعرفة إدراك، والإدراك حركة داخلة (في النفس) فأخذ أرسطبس ينمي النزعة الحسية التي تكمن في ثنايا هذا المذهب، ففي حيز الأدرية
Sphere of Cognition
لا يعترف أرسطبس إلا بالحالة الذاتية
Subjective ؛ أي الحركة الداخلية (النفسية) التي نشعر بها، ومن هنا يتدرج إلى استنتاج فرضي، بأن كل المعرفة «ذاتية»، فالشيء يظل مجهولا في ماهيته ولا ندرك إلا آثاره، عند وقوع الفعل، وهذا واضح من حقيقة أن الأشياء الواحدة، قد تظهر مختلفة باختلاف الناس، أو لأناس بعينهم في زمانين مختلفين، ومن هنا نجد أن مذهب بروطاغوراس قد حور أو بالأحرى عكس إلى ظاهرية
مطلقة، وهي مذهب قائل بأن المعرفة تتعلق بالظواهر لا غير.
وكذلك تجد أن المبدأ الثالث من مذهب «غورغياس
Gorgias » قد قضى بأن إنسانا ما لا يستطيع أن يعرف مشاعر
Feelings
غيره؛ وعلى هذا لا يمكن للكلمات كما تستعمل في اللغة الدارجة على الألسنة أن تكون واسطة صحيحة لنقل المعرفة من شخص إلى آخر، ففي مجال العمل يدفعنا هذا الشك إلى الاعتقاد بأن «العقل» يحمل كل إنسان على أن يتطلع إلى استحداث «الشيء الوحيد» الذي يستطيع أن يعرفه «تحقيقا» وما ذلك الشيء إلا شعوره الذاتي.
وربما كانت فكرة غورغياس هذه مصدر الوحي الذي استوحى منه الفيلسوف لوك الإنجليزي فكرته التي بثها في كتابه «الفهم الإنساني» وقضى فيها بأن الإلهام عاجز عن تزويدنا بفكرات بسيطة جديدة، قال:
ليس في مستطاع إنسان أن ينقل إلى الناس، بأي طريق من طرق الإلهام والوحي فكرات بسيطة جديدة، لم يكونوا قد استوعبوها من قبل بحواسهم أو تأملهم؛ لأنه مهما كانت الآثار التي يتلقاها ذلك الإنسان من طريق الإلهام أو الوحي، حتى إذا كانت مجرد فكرات بسيطة جديدة، لا يمكن أن ينقل إلى الغير، لا من طريق الألفاظ، ولا من طريق الإشارات؛ لأن الكلمات بتأثيرها المباشر فينا، لا يمكن أن تزودنا بأية فكرات جديدة لم تكن تحملها من قبل مدلولاتها الطبيعية، ومن طريق اعتيادنا على استعمال هذه الألفاظ لتدل على إشارات خاصة، تكون قدرتها على أن تبعث، أو تحيي في أذهاننا، فكرات كانت كامنة فيها، ولكن لا بد من أن تكون هذه الفكرات موجودة من قبل؛ لأن الألفاظ سواء أكانت مكتوبة أم ملفوظة، تجر إلى خواطرنا تلك الفكرات التي اعتدنا على أن تكون تلك الألفاظ إشارات لها، أو علامات عليها، بيد أن الألفاظ تعجز عن أن تستحدث فكرات جديدة لم تكن مستوعبة في الذهن من قبل، وهذا يصدق على كل ضروب الإشارات الأخرى التي لا يمكن أن تبين لنا عن أشياء لم نكن قد استوعبنا من قبل أية فكرة عنها. (4) أرسطبس والعلم
كانت الدائرة العلمية التي انحصرت فيها جهود أرسطبس ضيقة، كما كانت دائرة أستاذه سقراط من قبل في البحث العلمي الصرف
فإنه كان بعيدا عن البحث في كل ما يتعلق بالطبيعة واستقراء أسرارها بعد سقراط، وكان بعده عن دائرة العلم الصرف كبيرا، حتى إنك لتعجب من أن عقلا فذا كعقل أرسطبس تثقف على أخص القواعد التي أتيحت لفلاسفة اليونان، وكان بفطرته فياضا مؤتلقا كالنجم الساطع، يحكم في الرياضيات فيقول فيها إنها أدنى منزلة من الصنائع اليدوية؛ لأنها لا تأخذ بضلع في تمييز «ما هو أحسن مما هو أردأ»؛ أي إنها لا تعود بنفع على الإنسان في حياته.
لهذا حصر كل همه في علم الأثيكة
Ethica
20
أي الأخلاق كما ندعوه الآن، وكان يقصد «بالأثيكة» عند فلاسفة اليونان «علم الحياة السعيدة» وفي هذا يقول ترنر: «وقف القورينيون من المنطق والطبيعيات موقف التحفظ، بل النفور؛ فإنهم جروا على ما جرى عليه الكلبيون من القول بأن التأمل يبور ولا ينتج، إلا إذا كانت له صلة بالأخلاق التي يصل الإنسان من طريقها إلى السعادة،
21
فهو في هذا رقعة من سقراط وجزء منه لا يتجزأ، كما كانت تهزه من أعماقه نفس العوامل التي هزت سقراط.
أما إكبابه على الاستجلاء، وجلده على الاستقصاء، ثم الضبط والتحديد في بحث مبادئ الأخلاق، فصفات لا نكون مخطئين إذا قلنا إنه أخذها في الغالب عن سقراط.»
غير أن هذا الميل قد ظهر في أرسطبس ملابسا صورة تختلف في جوهرها عن الصورة التي ظهر بها في أستاذه، فإنه في الأسلوب - ويقصد به هنا أسلوب البحث، لا أسلوب النثر والترسل في الإنشاء - يشايع الفيلسوف «أنطثنيز
Antisthenes »
22
فكلاهما نبذ الخطابيات والبحث وراء التعاريف والحدود، واتخذ من الحقائق الجامدة قاعدة يرتكز عليها في البحث، واستوحش من الفكرات المجردة والفروض.
ذلك في حين أن القورينيين يختلفون عن الكلبيين في تعريف السعادة، فإن الفضيلة عند الكلبيين هي السعادة، فهم في ذلك أقرب ما يكون إلى سقراط، أما القورينيون فيقولون بأن اللذة خير في ذاتها، وأن الفضيلة خير باعتبارها وسيلة للذة.
23
ولكن أرسطبس لم يلبث أن انفصل عن صاحبه أيضا في أن ابن قورينة، كان أول فيلسوف رجع عن كل ما هو خيالي وفرضي إلى البحث فيما تقوم عليه الحياة الإنسانية من الحقائق.
وكان يعتقد - كما اعتقد أستاذه سقراط - أن البحث في السعادة ونيلها بداية علم الأخلاق وغايته، ومن أجل أن يقع على حقيقتها وماهيتها المقومة لعناصرها؛ رجع إلى مناقشة الحقائق واختبارها، وأنف من أن يجعل التحديد التصوري أو الخيالي أو التعاريف لبحوثه في هذه الناحية أساسا.
يقول دراپر: «كان أرسطبس القوريني من تلاميذ سقراط، وقد أسس مدرسة قورينة الفلسفية، إحدى فروع المذهب الهيدوني، ومن الظاهر أنه لم يأبه للاهوت، وكان كأستاذه سقراط يحتقر التأمل في الطبيعة، وينزع إلى التأمل في الأخلاق.»
24
أما الأستاذ إردمان
25
فيقول: إن أرسطبس جرى على القاعدة التي جرى عليها كل الفلاسفة منذ عهد أنكساغوراس فأكب على البحث في الغاية التي من أجلها وجدت الأشياء ، وهو كأستاذه سقراط لم يعن إلا بالإنسان؛ ولذلك تراه قد وجه كل همه نحو «الغاية العليا» التي ينشدها الإنسان؛ أي «الخير» أو «السعادة.» لهذا نفر أرسطبس من كل البحوث الفلسفية التي لا تؤدي إلى «قصد» أو «غاية» وأخرجها من مجال بحثه، وقضى بأن الرياضيات والمنطق والطبيعة ليس لها من قيمة ذاتية، ولكن قيمتها إنما توزن من ناحية خضوعها للأغراض الأدبية؛ لأن الفضيلة كما قال سقراط هي: «المعرفة» وما دامت الفضيلة هي «المعرفة» فيترتب على هذا أن يكون البحث فيها هو الناحية المنطقية من الفلسفة، أما ما عدا هذا من الأشياء التي تجر العقل إلى الخطأ، فإنها تبعدنا عن الغايات العليا. (5) شروح في بعض اصطلاحات
بدأنا الآن ندخل في المفاوز التي لا بد لنا من أن نجتازها حتى نستطيع أن نشرح مذهب أرسطبس، وبدأنا نحتاج إلى استعمال بعض المصطلحات، لهذا نمضي في شرح بعض الاصطلاحات الفلسفية، توطئة للفحص عن مفصلات المذهب. (5-1) ما هي الهيدونية؟
الهيدونية
Hedonism
كلمة أصلها يوناني مشتقة من
Hédoné
أي جذل أو سرور، ومعناها الأوسع «اللذة»، وهي في مبادئ الآداب اصطلاح يشمل كل نظريات السلوك التي تتخذ صورة من اللذة أساسا لدستورها. ولقد ظهرت النظريات الهيدونية في الأخلاق منذ أبعد الأزمان، ولو أنها لم تكن جميعا من طابع واحد. وأول ما أطلق هذا الاصطلاح؛ في الفلسفة القديمة على مذهب الحلقة القورينية، وكان طابعها أن اللذة هي الغاية من الحياة، وأن واجب كل عاقل ينحصر في نشدان اللذة، من غير أن تستحكم اللذة فيه وتستبد به، وأن القوة التي تمكن الإنسان من التحرر من أواصر اللذة الجامحة، وتجعله سيدا لها لا عبدا؛ إنما تنال من طريق الثقافة والمعرفة.
26
ولا شبهة في أن هذا الاستطراد ضروري في هذا الموطن، فإن كلمة «هيدونية» سوف تتكرر في سياق هذا البحث، ولا بد من أن يقف الباحث على اشتقاقها ومدلولها، ليعلم بأنها قد تستعمل حينا باعتبارها مذهبا، وحينا آخر باعتبارها اصطلاحا مرادفا لاصطلاح اللذة.
ويمكن تقسيم هذه النظرية، كما أنها قسمت بالفعل إلى ثلاث صور مختلفة هي: (1)
الهيدونية المنطقية:
وهي نظرية تقول بأن كل إنسان إنما يعمل دائما وعلى صورة قياسية مطردة، ونصب عينيه الحصول على اللذة. (2)
الهيدونية الأخلاقية:
وهي النظرية التي تؤيد الوجهة المنطقية، وتقضي بأن من حق الإنسان - طبيعة وعقلا - أن يعمل للحصول على اللذة، وأن الواجب على كل فرد ينحصر في العمل للحصول على أكبر قسط من اللذة، أو من رجحان اللذة على الألم، سواء ألنفسه أم لغيره من بني الإنسان عامة. (3)
الهيدونية النفسية:
من الممكن أن تكون هيدونيا من وجهة نفسية صرفة، من غير أن تعتنق الهيدونية باعتبارها قاعدة. والحق في الظاهر مع الذين يقولون بأن الهيدونية النفسية كاملة غير محورة ولا ملطفة، لا تترك معها مجالا لأي وازع أخلاقي آخر، فما دام كل إنسان يعمل للحصول على أكبر قسط من اللذة الشخصية، فإن ذلك وحده لا يترك مجالا لأن تقول له إن واجبك يحتم عليك أن تفعل ما أنت فاعل، وترى من جهة أخرى أن الهيدونية الأخلاقية يمكن أن يعتنقها أشخاص لا يؤمنون بالهيدونية النفسية التي يرفض الباحثون في الآداب على القواعد الهيدونية قبولها، وإذا قبلوها فإنما يقبلونها مسيجة بكثير من التحفظات ضيقة الحدود.
27 (5-2) ما هي الأودومونية؟
الأودومونية
Eudomonism
مذهب فلسفي قائل بأن أفضل الأعمال، ما آل إلى سعادة الغير، أو المبدأ الذي يرمي إلى ترقية الغير وإسعاده، وفي القاموس الإنسيكلوبيذي (ص392، ج3) أنه مذهب فلسفي يحصر فعل الخير في العمل على سعادة الإنسانية، ومن تعاليمه أن أسمى الأعمال الفاضلة التي يمكن لفرد أن يأتي بها؛ هو أن يسعد الغير. (5-3) ما هي الذاتية أو الأنانية؟ «الذاتية أو الأنانية
Egoism
إغراق أو شهوة جامحة في حب الذات، أو مغالاة في تقديرها، ومنها الاعتياد على نسبة كل شيء إلى الذات أو «أنا» وقياس كل القيم من ناحية صلتها بالنفع الذاتي.
28 (5-4) ما هي سعادة الذات؟
إن سعادة الذات
Egoistic Eudomonism
مذهب له كثير من الألوان على مقتضى طبيعة الغرض الذي يسعى الفرد في سبيل الحصول عليه، فهي في أبسط صورها عبارة عن مباشرة المحسوسات أو اللذائذ الجسمية، التي قد تسمو الفكرة فيها بحيث تعتبر «الخير الأسمى» وهذه هي نظرية الهيدونيين التي يعتبر أرسطبس أعظم مروجيها في العصور القديمة.
ولقد جددت هذه النظرية في العصور الحديثة فصبغت بألوان أخرى، منها اللون الذي صبغها به «لامتري
Lamettrie » فأفسد ما كان فيها من نزعة طبيعية، وحورها إلى صورة ممسوخة من الفسق، لا يمكن أن يتجاوز عما فيها من النقائص، إلا إذا اعتبرناها بمثابة ركس عقلي، وجه إلى مذهب النسك، وهي نظرية لا تقل من حيث البعد عن الطبيعة الإنسانية؛ عن الصورة التي صبغ بها لامتري نظرية اللذة.
وبجانب اللذة الحسية - بل وفي موضعها - حلت نظرية المتعة العقلية
Mental Enjoyment
أي الاستمتاع بالعلم والفن والصداقة، وكل ما يجري هذا المجرى من منازع الحياة السامية. وكان أبيقور أول رواد هذه النزعة الفلسفية من الأقدمين.
ولقد مزج أبيقور ورجال مدرسته بين العنصرين: عنصر اللذة الحسية، وعنصر المتعة العقلية، على أن العنصر الثاني يرجح الأول عندهم منزلة.
29
ولعل السبب في تعاقب الصور التي صورت بها التعاليم السقراطية، راجع إلى ما قال به ترنر إذ قضى بأن المذاهب السقراطية قد نشأ بعضها بجانب بعض، من غير أن تثبت بنوتها لأب واحد، وأنها جميعها كانت مستقلة استقلالا نسبيا، على الرغم من أن كلا منها كان له صلة بناحية معينة من نواحي التعاليم السقراطية، وقيام كل منها على ناحية بعينها من نواحي التعاليم السقراطية يثبت أنها جميعا كانت ناقصة؛ لأنها قامت على فهم غير كامل للروح التي ذاعت في فلسفة سقراط، غير أن هذا لم يمنع من أن تترك هذه المذاهب أثرها العميق في الحياة الإنسانية، وأقرب مثل على هذا؛ مذهب المدرسة الميغارية في الصور اللاجسمية
Bodiless Forms
وتأثيره في أفلاطون عند قوله بنظرية الفكرات
Theory of Ideas . (6) محور فلسفة أرسطبس الأخلاقية
العنصر المكون للسعادة عند أرسطبس هو الحصول على «اللذة الحسية» على أن تكون السعادة تصورا يتوسط بين السعادة كما نفهمها، وبين الخير الأسمى
The Highest Good
فالأطفال والحيوانات يكدون بقاسر فطري، ليحصلوا على اللذة، كما يجاهدون ليتقوا الألم، وفي هذه الظاهرة تتجلى الحقيقة الجوهرية التي لا تقبل الجدل ، ولا تتسع للمناقشة، والتي يجب أن تراعى في كل محاولة يقصد بها وضع مجموعة من القواعد، يسلك على مقتضاها الإنسان في حياته.
لا بد لنا إذا أردنا أن نتتبع أسلوب التفكير الذي انتحاه أرسطبس وشيعته في الفلسفة، من أن نكب على درس النظريات التي انتحلها أصحاب اللذة - «الهيدونيون» - في العصر الحديث وطرق تأملهم الفلسفي فيها، فمن هذه السبيل وحدها، نستطيع أن نفقه حقيقة تلك الفقرات الغامضة المبهمة المهزولة التي تكون ما وصل إلينا من فلسفة القورينيين الأدبية، وأن نجعل المذاهب الميتة تنطق بلسان حي طليق.
أما الأستاذ دراپر فيقول بأن السعادة عند أرسطبس تنحصر في تحصيل اللذة، وأن اللذة والألم يكونان دستور الحياة الإنسانية، وكان لا يعتقد بأن في مستطاع الإنسان أن يعرف شيئا معرفة تحقيق؛ لأن الحواس قد تخدعه، غير أن الإنسان بالرغم من عجزه عن أن يدرك الأشياء على حقيقتها، فلا شك أن فيه قدرة على الإدراك، ومن هنا قام اعتقاد القورينيين بأن اللذة أسمى الغايات التي ننشدها في الحياة.
30
والواضح من هذا أن الأستاذ دراپر إنما أقام رأيه هذا على قشور المذهب دون لبابه، ولعلنا نستطيع بقليل من الصبر أن نستقرئ مما وصل إلينا من مخلفات المذهب الهيدوني، شيئا يجعل فهمنا لحقيقة المذهب أقرب إلى الواقع.
ويقول الأستاذ ترنر: إن مبدأ الهيدونية الأساسي ينحصر في أن اللذة وحدها هي العنصر الذي يكون سعادة الإنسان، ولقد اتبع القورينيون في تدليلهم على هذا، نمط بروطاغوراس، فقالوا: «إن كل ما يظهر أنه حق يجب أن نعتقد بأنه حق، وأننا لا نستطيع أن ندرك إلا المشاعر والآثار التي تولدها الأشياء فينا، أما الأشياء ذاتها فلا نعرف منها شيئا، والنتائج التي تترتب على هذا بسيطة، فإن استحداث مشاعر بعينها هو كل ما في مقدورنا أن ننتج بالعمل
Action
وعلى هذا يترتب القول بأن كل ما يحدث فينا أسمى المشاعر الملذة يكون خيرا.»
31
وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل المشاعر الملذة واحدة عند كل الناس، وفي كل الظروف؟ وهل ما يكون ملذا في ساعة بعينها يكون ملذا في أخرى؟
ومن هنا يكون تطبيق هذه النظرية راجعا إلى الاستعداد الطبيعي الذي يختص به كل فرد، أو حكم العادة المؤصلة التي يعكف عليها الإنسان، وبهذا يكون إدراك السعادة نسبيا صرفا. لهذا يعتقد أرسطبس أن اللذة المطلقة هي الخير الأوحد، وأننا إنما نرغب في المعرفة والثقافة، حتى وفي الفضيلة باعتبارها وسائط (لا غايات) نصل من طريقها إلى اللذة، أما فائدة الفضيلة، فتنحصر في أنها تقمعنا عن الإفراط في الانفعال، الذي هو شهوة ولما كانت الشهوة «عنيفة» كيفما كانت فهي إذن مؤلمة، وعلى هذا يجب أن نتنكبها.
32 (7) تجدد الهيدونية في العصر الحديث
تجدد المذهب الهيدوني في العصر الحديث خلال القرن السابع عشر وبعده، والضرورة تقضي علينا أن نلمع إلماعا إلى بعض أعلام المدرسة الحديثة، وأن نشير إلى مبادئهم الأساسية؛ استكمالا لمناحي البحث من ناحية، ولأننا سوف نشير في سياق الكلام إليهم عند الحاجة.
قال «هبز
Hobbes » بأن اللذة هي الرغبة، فكان - على ما يظهر - أول من جمع في النظر بين القول بأنه لا يوجد من خير بعيد عن اللذة، وبين المنزع النفسي الذي يوحي بأن كل الناس إنما ينشدون اللذة.
وعقب عليه «لوك
Locke » فبينما تراه يدافع عن الهيدونية النفسية، إذا به يرفض الهيدونية كنهج أخلاقي، ووضع مثله الأخلاقي الأعلى على أساس الطاعة لأوامر الله ونواهيه، وهي طاعة تنظر في أول ما تنظر إليه إلى «السعادة الكاملة» أو «الشقاء الكامل» الذي يناله الإنسان في الحياة الأخرى، تبعا لسلوكه في هذه الحياة.
أما «پالي
» فكتب بعد مائة سنة من لوك، فجدد القول بنفس مذهبه، وصبه في كلمات أقل تعرضا للجدل والمناقشة من كلمات لوك، فقال: «إن اللذة الشخصية هي التي تحركنا، ولكن إرادة الله تحكمنا.»
وفي القرن الثامن عشر كان الاعتراض الوحيد ضد فلسفة الأنانية
Selfish Philosophy
قائما على مذهب «شفتزبري
Shaftesbury » و«هتشنسون
Hutchinson » و«هيوم
Huame » الذين قالوا بقوة العاطفة في استحداث اللذة، وزادوا إلى هذا أن العاطفة هي الطريق الطبيعي للذة.
ومن الظاهرات العجيبة في تاريخ المذاهب أن تتكرر مظاهرها مع اختلاف حقائقها ، فقد قيل بحق إن السبب في اختلاف أوجه النظر بين المذاهب السقراطية، إنما يعود - كما قدمنا - إلى أن سقراط لم يحدد «الخير»، فأدرك أهل كل مذهب من معنى الخير الذي تركه سقراط غير محدد؛ صورة قام عليها مذهب جديد من بعده. وكذلك أرسطبس فإنه لم يستطع أن يحدد اللذة تحديدا ينجيها من إجمال سقراط لمعنى «الخير»، ومن هنا كان السبب في اختلاف أوجه النظر في العصر الحديث، وقيام مذاهب جديدة تدعي كل منها الأمانة الكاملة للمذهب «الهيدوني» كما كان يدعي كل من أصحاب المذاهب السقراطية، الأمانة الكاملة لمذهب سقراط.
ومن الواجب ألا نغفل ذكر أنه منذ عهد أفلاطون وأرسطوطاليس قام بجانب الفكرة في اللذة
على أنها غرض ينشد فكرة المنفعة
Utility
على أنها الغرض الأسمى، وقد اعتنقها كثير من فلاسفة الإنجليز وعلى رأسهم بنتام ومل، وسوف نعود إلى الكلام في هذا المبحث، كلما اضطررنا إلى الإلماع إلى طرف منه. (8) أرسطبس وجرمي بنتام
إذا وجب أن يتخذ تحصيل اللذة والسعي وراءها، أساسا تقوم من فوقه كل القواعد الضرورية التي تخضع لها الحياة الإنسانسة، كان علينا أن نميز بين أشياء حتم أرسطبس ضرورة العناية بالتمييز بينهما، كما فعل من بعد جرمي بنتام الفيلسوف الإنجليزي المعروف، هذا الشيء هو الاعتقاد بأن «اللذة» يجب أن تؤخذ دائما، وحيثما كانت وفي أية صورة كانت على أنها «خير» وأن الصورة التي تلجئنا، في أكثر الحالات، أن تتنكب طريق «اللذة» يعضدها دائما تفكير عقلي هادئ.
هذا القول إجمالا، يسوقنا إلى وجوب التفريق بين الشعور باللذة، وبين الظروف التي تحدث اللذة أو تصحبها، أو النتائج التي تترتب عليها، وأن الخلط بين هذين الأمرين - أي بين الشعور باللذة وبين نتائجها وبواعثها - يجب الاحتراز منه بكل وسيلة.
على أن أرسطبس - وقد جاراه بنتام في هذا إلى نهاية الشوط - قد قضى بأنه حتى في حالة عدم الاحتراز من الخلط بين الشعور باللذة وبين بواعثها؛ فإن اللذة تنتج خيرا دائما، بصرف النظر عن الحالة التي تحصل فيها اللذة وأسبابها ونتائجها، وقد يكون للأسباب التي تنتج «اللذة» أو النتائج التي تترتب علي تحصيل اللذة نهايات باعثة على أشد الألم، بيد أنك إذا وازنت بين اللذة والألم الناتج عن تحصيلها ألفيت أن كفة اللذة ترجح دائما.
إذن فالسلوك الواجب ينحصر في الاحتراز من الاسترسال مع بواعث الألم، والتحرر منها جهد المستطاع، وقد نجد في حالات أخرى أن أعمالا تصحبها مشاعر مؤلمة تكون هي الوسائل الوحيدة للحصول على مشاعر ملذة، وهذا الثمن - أي الألم - الذي نبذله في سبيل الحصول على اللذة يدفعنا إليه «هس خفي» لا يجب أن نتوجس منه خيفة، أو نشعر منه بوجل ما دام غرضنا الحصول على لذة ترجح الألم.
وعلى هذا يصبح «فن الحياة» عبارة عن ضرب من الأقيسة والاستنتاجات الهادئة على الصورة التي استنتجها أفلاطون في آخر كتابه «بروطاغوراس
» وهي صورة حقة، تقوم على فلسفة سقراط، ولكن أفلاطون لم يؤمن بما استنتج من فلسفة أستاذه إيمانا صريحا كاملا. (9) أرسطبس والكلبيون
في المدارس التي تكونت بعد سقراط والتي ادعت كل منها أنها تقوم على مذهبه، أو بالأحرى على ناحية بعينها من نواحي مذهبه؛ نزعة من أعجب النزعات العقلية، فقد يخيل إليك وأنت تتصفح تاريخ هذه المذاهب - إذا كنت ممن يجلدون على التأمل - أنها عبارة عن جملة أفعال «عكسية» أخذت تتوالى سراعا وتتطور دراكا، فيظهر أول ما يظهر الميغاريون وعلى رأسهم «إقليدس»، فيدرسه أرسطبس ثم يظهر أنطثنيز ويكون مذهب الكلبيين، فيدعو للرجوع إلى الطبيعة، فيعقب عليه أرسطبس ويقول باللذة الراهنة، فيكون مذهبه بمثابة فعل عكسي يخفف من حدة المذهب الكلبي، ولا تلبث غير بعيد حتى تجد أبيقور يدعو إلى الناحية السلبية من اللذة، فيقول: إن الخير الأسمى ليس في اللذة بل في التحرر من الألم، وإن اللذة العقلية هي أسمى اللذات جميعا، ثم يأتي أفلاطون فيقول بأن الخير الأسمى - أي السعادة - إنما ينحصر في «التبصر» ثم تقع في خاتمة المطاف على المعلم الأول أرسطوطاليس، الذي يقول بأن الخير الأعلى الذي يجدر بالإنسان أن ينشده هو فاعلية النفس، على أن تكون هذه الفاعلية مقودة بالفضيلة، فإذا تعددت الفضائل وجب أن تتبع الفاعلية أرفع هذه الفضائل، فكأنك تقرأ في تدرج الفكرة في هذه المدارس تاريخ علم الأخلاق في مختلف أوضاعه.
وإذن نقول إن أرسطبس ومذهبه وأتباعه كانوا بمثابة فعل عكسي ظهر ليكسر من حدة مذهب الكلبيين، كما يتدخل الضمير في الفعل النفسي، فيحدث فيه أثرا عاكسا، أو كما تحاول الإرادة أن تقمع شهوة من الشهوات بشهوة أخرى، وهذا يحملنا على أن نعرف القارئ بمن هم الكلبيون.
هم أصحاب مذهب فلسفي في الأخلاق أتباعهم قليلو العدد، ولكنهم كانوا ذوي أثر عظيم في الفلسفة القديمة، أما اسم المذهب فيقال بأنه مشتق من اسم بناء في أثينا كان يدعى «القونوسرغس
Cynosargus »، وبين جدرانه نشأ المذهب أو من الكلمة اليونانية لاسم «الكلب
Canis » وهي إشارة سخرية إلى ما انتحل رجال المذهب من صفات الخشونة والخروج على العرف، أما «القونوسرغس» تعيينا فقاعة كبيرة كانت تدعى قاعة الهجائن
The Hall of The Bastards .
ومهما يكن من أمر هذا الاشتقاق والتساؤل أصحيح هو أم غير صحيح؛ فإن الكلبيين قد اتفقوا على أن يتخذوا الكلب شعارا ورمزا،
33
ولعل لهم في ذلك مرمى بعيدا، فالبقرة كانت معبود المصريين، وهي لا تزال مقدسة في الهند، ولعل تقديسها في الهند ذو صلة فكرية بعبادتها في مصر، ففي الهند يعتقدون أنها عماد الزراعة، وصورة مجسمة للطاعة والخضوع والقيام بالواجب، ولهذا قدسوها منذ أقدم الأزمان، وتلاحقت الأجيال على هذه العقيدة، والكلب من أقدم الحيوانات الأليفة التي عاشرت الإنسان منذ فجر التاريخ، وعاونته في الحراسة والصيد، ومقاومة الوحوش الضارية، فكان الكلب أكبر معوان للإنسان في حالاته البدائية ليضرب بقدمه في معارج المدنية، وفيه فوق ذلك صفة أنه «طبيعي» لم يتمدين كالإنسان، وفيه أنه يكفي حاجاته بنفسه، وفيه أنه أمين وفي مسالم متحرر من كثير من الدنايا الخلقية، فلا يبعد مطلقا أن تكون اعتبارات كهذه، هي التي حملت الكلبيين على أن يتخذوا الكلب شعارا لهم، وإذا صح هذا كان الكلبيون أفطن من المصريين والهنود على السواء وأقرب إلى الحكمة.
ومن التصور الشائع في خصائص هذا المذهب الفلسفي يستمد المعنى المدرك، من اسم الكلبيين، وهو معنى يتضمن الشك الشديد المشوب بالاحتقار في كفاية الميول البشرية لحب الخير، والنظر إلى شعور الاستعلاء والكبرياء، نظرة احتقار شديد.
ومن مشهوري أصحاب هذا المذهب أنطثنيز مؤسسه و«إقراطس
Crates » و«ديوجينيس
Diogenes » و«ديمطريوس
Demetrius »، والكل مجمعون على اتباع وجهة اتخذوها أساسا لفلسفتهم، وهي «الرجوع إلى الطبيعة.»
ولا عجب إذا وجه نقد لاذع إلى رواد هذا المذهب عند أول قيامهم ببث تعالميهم، فضلا عن السخرية منهم، والاستهزاء بهم، على أن ما وجه إليهم من نقد وسخرية، كان على غير حق في الغالب، أما أساس فلسفتهم فيقوم على «نكران العرف»، ويقصد به العادات المرعية للجمعية، وإنه لمن المستحيل أن يعود الإنسان إلى الطبيعة في جمعية درجت على «عرف» استجمعت عناصره بطريقة إجماعية منظمة، وشاركت هذه العناصر الجمعية في نشوئها وتطورها حتى أعتقت معها، فكسبت مع الزمان احتراما، ولبست مع القرون ثوبا من القداسة، من غير أن يصطدم بما غرس في نفوس أهل الجمعية من الإحساسات الرسيسة.
ومما هو بعيد عن الإنصاف أن نعتبر أن ما ظهر به بعض فلاسفة هذا المذهب من الخروج على المألوف والعرف، كان من خصائص كل الفلاسفة الذين انتسبوا إليه، أو أن نتخذ هذا وسيلة إلى النيل من الناحية التي انتحاها أهل المذهب في التفكير، والدليل على هذا أن مبادئهم كان لها خطر عظيم في رومية، خلال القرنين الأول والثالث من الميلاد.
وكان لديمطريوس و«ديموناز
Demonaze » شأن نوه به «سنيكا
Seneca » و«لوقيان
Lucian » على الأخص، ولا شبهة في أن رومية في ذلك العهد كانت تقدس العرف ولا تستهين بالتقاليد، وإذن يكون انحراف بعض رجال المذهب وتطرفهم ظاهرة ليست من أصوله في شيء، بل هي نزعة فردية نماها بعض رجاله، تطرفا في تطبيق بعض المبادئ. (10) فرق بين أبيقور وأرسطبس
مما يدل أوضح دلالة على الأثر الذي خلفه المذهب القوريني في عالم الفكر، وامتداد أثره فيه؛ أن تأثير المذهب الأبيقوري على الفكرة «المحافظة» ظل قائما خلال أجيال عديدة، حتى لقد ظهر أثره في الحياة العقلية التي كانت تتجه نحو الجمود في العالم الإغريقي، ومن المعلوم أن المذهب الأبيقوري ليس إلا صورة محورة من المذهب القوريني.
ففي العصر الذي ظهر فيه متأخرو القورينيين، كان أبيقور يضع أساس صورة جديدة من المذهب أكثر رصانة وأبعد غورا من الصورة التي تطور إليها المذهب في أخريات أيامه، حتى أنك لا تسمع بعد القرن الثالث بعد الميلاد شيئا عن المذهب القوريني منفصلا عن المذهب الأبيقوري.
34
أما الأثر الذي ظهر في المذهب الأبيقوري موروثا عن المذاهب السقراطية التي تقدمت نشوء هذا المذهب، فيرجع إلى الكلبيين والقورينيين معا، فهما مذهبان تحررا من كل الأديان، ومن كل السوابق التقليدية التي اصطلحت عليها الجمعية الإنسانية، وابتعدا عن التسليم بالمعتقدات العامة اعتباطا، لذلك تجد أن أنطثنيز مؤسس المدرسة الكلبية (400ق.م) إن كان من تلاميذ سقراط، فإنه كان من المنكرين لعقيدة التكثير، ومن النابذين لفكرة الأنثروپومورفية
Anthropomorphism ؛ أي «التشبيه» كما ترجمها العرب واصطلحوا عليها، ويقصد بها فكرة تزويد الله بالخصائص الإنسانية.
35
أما مذهب أبيقور الأخلاقي في مجمله فليس إلا تحويرا في المذهب القوريني، لهذا نجد أن أبيقور عندما أراد أن يعرف «اللذة» لم يعرفها كما عرفها أرسطبس بأنها حركة لطيفة، بل رجع إلى الصورة السلبية من اللذة، فقال بأن اللذة هي التحرر من الألم، غير أنه مع هذا لم ينكر ناحية اللذة الإيجابية، ولكنه جزم بأن الناحية السلبية - وقصد بها راحة العقل - أساسية في الأخلاق، في حين أن «الحركة اللطيفة» التي تتكون منها اللذة الإيجابية أمر ثانوي يأتي عفوا،
36
فالرغبة غير المكفية ألم، والألم يحطم هدوء العقل، ولهذا السبب وحده يجب أن نقنع رغباتنا، ومن هذه الطريق تصبح اللذة الإيجابية جزءا من الخير الأسمى.
على أن الفروق بين الأبيقورية والقورينية إنما تكون أظهر وأجلى في نظرية أبيقور التي قال فيها «بدرجات اللذة»، فعنده أن أسمى اللذات هي اللذة العقلية؛ أي المعرفة والذكاء وغيرهما من الأشياء التي تحرر النفس من الحقد والخوف، وتساعد على هدوء العقل والبال، لهذا يجب على الرجل العاقل - أي (الحكيم) - أن لا يجعل أمله في السعادة محصورا في لذائذ الحس، بل ينبغي له أن يتسامى ليصل إلى أفق اللذة العقلية.
وهنا نجد أن أبيقور لم يستطع أن يسلم من التناقض، فإنه لم يتسن له أن يفرق منطقيا بين الحس والعقل، غير أن «ديوجينيس لايرتيوس» (ص6، ج10) قد نقل عن أبيقور قولا يدل على أنه كان يعتقد بأنه لا يوجد خير منفصل عن الحواس، في حين أن «فلوطرخوس
» وغيره من الكتاب ينقلون عن «مطروذورس
Metrodorus »
37
قول أبيقور: «إن كل شيء لا بد من أن يكون ذا علاقة بالمعدة.»
38
وقد انحصر وجه الخلاف بين القورينيين وأبيقور إجمالا، في أن أبيقور على الرغم من أنه علم أن اللذة ليست أسمى الخير لا غير، بل إنها الخير الوحيد للآلهة والناس، فإنه خالف القورينيين فيما يلي: (1)
أن لذة العقل والصداقة والمخالطة أسمى من اللذائذ البدنية. (2)
أن اللذة الكاملة أو بالأحرى أسمى الحالات المرغوب فيها، حالة يتحرر فيها الإنسان من الألم والهم.
على أن هذه الصورة السلبية من اللذة أو بالأحرى «تصور اللذة السلبي» بالرغم من أن أتباع أبيقور لم يحاولوا مطلقا أن ينتقصوه، فإنه لم يوضع موضع التطبيق العملي باعتباره مثلا أعلى للسلوك يحتذيه أتباع المذهب.
39
وكان هذا أكبر ما وجه إلى المذهب الأبيقوري من نقد الناقدين. (11) أبيقور وشروح في فلسفة أرسطبس
ما هي المبررات المنطقية التي يقوم عليها مذهب أرسطبس؟
هذا سؤال يحتاج، في الجواب عليه، إلى شروح يجب أن نمضي فيها قليلا، قبل أن نعمد إلى الكلام في تطبيق المذهب عمليا.
إن اللذة التي يجدر بأن يسعى الإنسان لها لم تكن لدى أرسطبس كما كانت من بعده عند أبيقور، مجرد التحرر من الألم، بل إن أرسطبس كان بعيدا عن أن يضع اللذات الجامحة أو اللذات التي يباشرها الإنسان إرضاء لشهوة ثائرة في المكانة الأولى من الخطر، على أن اصطلاح «اللذة» لم يؤد عند أرسطبس أدنى ما تصل إليه الانفعالات عند أبيقور كما ذهب البعض، بل عبر عنده عن حد ليس بالأدنى ولا بالأعلى في قياس الانفعالات من طريق إيجابي صرف ، ذلك بأنه اعتبر أن مجرد التحرر من الألم ومن اللذة معا حالة سلبية لا إلى هذه ولا إلى تلك.
أما الشرح الذي نلجأ إليه في توضيح هذه النظرية فيجب أن نرجع فيه إلى نظرية نفسية تعرف عن علماء النفس بنظرية الوعي
Theory of Consciousness
فإنهم يمثلون للوعي بموجة تبدأ من القاعدة ثم ترتفع منتهية عند القمة، ومن ثم تعود هابطة إلى مستوى القاعدة، ومثلها في العقل الباطن كمثل موجة الماء تماما، فإذا أردنا أن نمثل لنظرية أرسطبس في قياس اللذة، وجب علينا أن نعود إلى هذه النظرية وأن نمثل بالشكل الذي يمثل به النفسيون للوعي، ونتخذه سبيلا لشرح درجات اللذة في هذا المذهب، وإليك البيان:
ولا شك في أن فهم هذا ضروري لاستيعاب العناصر التي يتكون منها مذهب أرسطبس.
ولقد لخص الأستاذ إردمان هذه النظرية في كتابه «تاريخ الفلسفة» تلخيصا آثرنا نقله هنا، فقال بأن النتيجة التي تترتب على القول بأن كل «المعرفة» إدراك بالحس
Sense Perception ، وأن كل إدراك بالحس إنما «ندرك» به كيف أثر فينا ذلك الإدراك، تحصر «معرفتنا» في الوقوف على حالات «الوعي» أو الشعور
Cousciousness
الكائن في تضاعيفنا، وعلى هذا يكون إدراك حالات الوعي النفسي وأسبابها، كل ما في مذهب أرسطبس من علاقة بالطبيعة.
وكل حالات الوعي أو الشعور إنما ترجع إلى ثلاث صور: فإما عنف، وإما اعتدال، وإما لا حركة البتة، والصورتان الأولى والثالثة تضادان الثانية، ومثال ذلك حالتا الألم والجمود وتضادهما مع اللذة.
فأية حالة من حالات هذا الوعي يجب علينا أن ننشد، وأيها يجب أن نتنكب؟ ولقد نجد الجواب على هذا السؤال صريحا في القسم الأدبي من مذهب أرسطبس، فإنه قضى «للذة» التي قال بأنها «الخير» الصرف الذي ينشده الإنسان.
وعلى الرغم من هذا فليس في مستطاعنا بحال من الأحوال، أن نكتنه الأسلوب الأمثل الذي اتبعه أرسطبس في تحديد اللذة وتعريفها، وجل ما نعرف أنه نظر في اللذة على أنها حركة لطيفة
Gentle Motion
تقتحم طريقها إلى الشعور أو الوعي
Consciousness .
على أننا لا نعدم الشروح، ففي «موسوعة الدين والآداب» (ج4، ص383) نقع على شرح جاء فيه:
إن «الحركة اللطيفة» التي عناها القورينيون، ووضعوا بها حدا للذة المرغوب فيها، لا تخرج عن أنها حركة «ما» ولكنها حركة البحر الهادئ الذي لا ينبغي أن ننبه فيها ما يجعلها عاصفة، على أن الظروف قد تحول بين الرجل العاقل وبين بلوغ هذا الغرض دائما، ذلك في حين أن الرجل العاقل (الحكيم) يكون أقدر من غيره على معالجة هذه الحالة، بحيث ينال من لذائذها، ويتقي من عواصفها؛ أكثر من أي شخص آخر.
ولقد عرف أن أرسطبس كان قادرا على أن يستعلي بسهولة على كل الظروف مهما كانت طبيعتها أسعيدة أم شقية، نعيمة أم بائسة. وللشاعر «هوراس» بيت من الشعر يقول فيه: «سعيد في الحاضر، ولكنه يتطلع إلى أشياء أعظم وحالات أسعد»
وهذا أقوم ما توصف به الفلسفة القورينية في أسمى مراتبها، ويدرك الإنسان هذه الحركة اللطيفة بقياسها على الحركات العنيفة، تلك التي نصرف عليها اصطلاح «الألم»، ولا جرم أن أرسطبس لم يتبع في أسلوبه هذا طريق «الملاحظة» يوجهها إلى النواميس الطبيعية الصرفة، ذلك بأن الأطفال والحيوانات، التي كثيرا ما أشار إليها فيما كتب، تحاول الحصول على اللذات المحترة كما تحاول الحصول على اللذات الهادئة اللطيفة، إن لم يكن ميلها إلى الأولى أشد منه إلى الثانية.
ألا يصح أن تكون قصر فترات اللذة الجامحة، أو تخالط الألم واللذة ذلك التخالط الذي يحدث دائما من إلحاح الحاجة والرغبات والشهوات، أو أن يكون امتزاج العنصرين، وملابسة بعضهما لبعض؛ قد أثر جماعها في حكمه الفلسفي وفي اختياره؟
إن لدينا من الاعتبارات ما نؤيد به هذا الاحتمال. (12) المفاضلة بين اللذات
لست تجد من شيء بعد عن طريقة التفكير التي عكف عليها أرسطبس بقدر ما بعد عنها الاستبداد الذي يلازم الأحكام التي تمليها السلطة، في أيما متجه اتجهت، وفي أية صورة ظهرت، ولكن الحكم بأن «اللذات اللطيفة» هي دون غيرها اللذات المنشودة، أمر ينابذ هذا الأسلوب، فإن الحكم الفلسفي الذي يجعل ضربا من اللذة محدودا بحدود عقلية، لا بحدود طبيعية هو القدر الذي يجب أن تجرعه الطبيعة البشرية؛ أمر لا يتفق مع الأسلوب الذي جرى عليه تفكير أرسطبس.
وإنما نفهم أسلوب أرسطبس في إصداره هذا الحكم الشامل، إذا عرفنا أن الطريقة التي جرى عليها تفكيره في هذه الناحية إنما هي طريقة «التفضيل»، فهو يفضل «اللذات اللطيفة» ويدعو إليها ويجعل الحصول عليها أساس السلوك في فلسفته.
وقد تقع على قاعدة عقلية يقيم عليها أرسطبس أساس تفضيله هذا، فقد عزي إليه قوله: «إن لذة ما، لا تختلف عن غيرها من اللذات.» وهذه الفقرة على غموضها يمكن تفسيرها تفسيرا ينطبق مع مرمى فلسفته، والأسلوب الذي عكف عليه في التعبير عنها.
ذلك بأنه لا ينكر الفوارق الكمية
Quantitative
الكائنة بين ضروب اللذات، من حيث المقدار والاستمرار - أي طول مدتها - والطهر، وهو عنده عدم تخالط اللذات، أما الذي ينكره فالاعتراف بديئة بوجود فوارق كيفية
Qualitative
بين اللذات المتفرقة أو فوارق اعتبارية من حيث القيمة.
فإذا فسرنا هذه الفقرة هذا التفسير تبين لنا أنها ليست بشيء سوى اعتراض يوجه إلى فكرة الذين يفوقون ضربا من اللذات بعينه على غيره؛ أي يجعلونه في المقدمة ويخصونه بالأولية من غير أن يدعموا فكرتهم على أي أسلوب عقلي من أساليب التفكير، بل يركنون في ذلك إلى ما يسمونه حكم الفطرة أو الإلهام، وهو عند أرسطبس فاسد عقلا.
وعلى الرغم من أن القورينيين قد عرفوا اللذة بأنها حركة لطيفة
Gentle Motion
فإن قيقرون قد تصور خطأ أنهم قالوا بأن اللذة هي الأحاسيس البدنية، وإنك لتدرك خطأ قيقرون إذا أنت رجعت إلى الوصف الذي حدد به أرسطبس مذهبه في اللذة بقوله: «إنها تراوح بين الانفعال العقلي، ومباشرة اللذة الحسية.»
ولا شبهة مطلقا في أن بحثنا هذا يكون ناقصا إذا لم نأت هنا على أمتع شرح سيكولوجي - نفسي - وقعت عليه للأستاذ «برت
Brett » في كتابه «تاريخ علم النفس» (ج1، ص62 و63 و189) حلل فيه فكرة أرسطبس في اللذات قال:
يجب علينا أن نعترف أول شيء بأن أرسطبس قد وقف على حقيقة سيكولوجية (نفسية) كثيرا ما أبهم أمرها، فقد رأى أن المشاعر مجردة، ليس فيها القدرة على فصل ما هو أحسن مما هو أردأ، أو ما هو أسمى مما هو أدنى، ولقد ساق هذا الرأي بلغة كانت طبيعية في عصر كانت مباحث السيكولوجية (النفس)، والأنثروبولوجية (الإنسان)، والروح والطبيعة لم يتميز بعضها من بعض، فالمشاعر والإدراكات كانت عنده عبارة عن حركات، إما لطيفة وإما عنيفة، وكذلك من ناحية النظر في الشعور، فهو إما ملذ وإما مؤلم، وإذن فاللذة والألم يجب أن يتخذا كتجربة أو كصفة يوصف بها «الزمان» أو «الحاضر» خاصة، أما الماضي والمستقبل، فلا يجب أن يقام لهما أي وزن، أما موضع اللذة - أي الشيء الذي تصدر عنه اللذة - فليس هو عين الصفة التي تكون اللذة، فكل لذة «خير» ولو استمدت من أشياء غير ذات قيمة أو كانت منابعها أفعالا مكروهة، وكل ألم شر، وكل ما هنالك من فروق بين اللذة والألم، إنما هي فروق تلحق الصفة - أي الكيف
Quality - من حيث الجدة أو الكثرة أو القلة.
وقال في ص189 من كتابه هذا:
هنا نقع على نظرية طبيعية تبدأ بفكرة أن الميول والعواطف عبارة عن حركات (نفسية)، فقد قال القورينيون بأن اللذة صورة من الانفعال؛ أي شعور بحالة ملذة، على أن هذا لم يقبله أبيقور، فقد وضع تحليلا جديدا لحقيقة العلاقة بين اللذة والإحساس، وسبق أن ألمعنا إلى أن القدماء قد عرفوا الحركة باسم «جنس» واعتبروا الإحساسات والمشاعر «فصولا» منه، فالمشاعر التي هي لذة حينا، وألم حينا آخر ليست إلا حركات، ويترتب على هذا أن أول ما يجب علينا الحكم فيه؛ النظر في علاقة الصفة بالحركة، أما أرسطبس فاختصر الطريق بأن قضى بأن الحركة إما أن تكون لطيفة أو عنيفة، ولكنه اعترف بجانب هذا بحالة «هدوء» نعدم فيها الحركة، ولكن الحالة الوحيدة المرغوب فيها عنده هي حالة «الحركة اللطيفة »، في حين أن أرسطوطاليس قد اعتبر اللذة علامة رضا لا غير، ولكنه لم يعتبرها غاية البتة، غير أن أبيقور يخالف أرسطوطاليس، ذلك بأنه يقول إن اللذة هي «الخير»، ويبحث فيما هي اللذة غير مقتصر على الكلام فيما تحدث من أثر ، وكذلك يرفض أبيقور نظرية أفلاطون في «القصد»، ومن ثم يعود أبيقور إلى أرسطبس؛ لأن النظرية القورينية تقضي بأن اللذة هي الخير، وأن اللذة عبارة عن حالة من حالات الشعور أو الوعي (البدني)، ولكن أبيقور يحور النظرية في موضعين مهمين، فإن أرسطبس قد قال بثلاث حالات: (1)
الحركة اللطيفة. (2)
الحركة العنيفة. (3)
اللاحركة أو الهدوء.
وهذه الحالات لا تجدي في فهم ما يريد تماما؛ لأن كلا من الحركتين الأوليين «مزدوجة»، فقد يمكن أن يكون ألم لطيف وألم عنيف، ما لم تبرهن على أن الحركة اللطيفة وحدها، هي الحركة الملذة، كما أننا يجب أن نعرف ما هو الشيء الملذ في تلك الحركة، على أن أفلاطون قد رأى هذا الرأي قبل أبيقور، ولكن أبيقور قد استعمق في بحث هذا الموضوع إلى أبعد مما وصل أرسطبس، وذلك ما حملته عليه بحوث أفلاطون وأرسطوطاليس، فقال بأن اللذة كشيء له مميزات خاصة هي نوع من التحرر، أو العمل على التخلص من الألم، والحياة تتراوح كمتنوح الساعة من طرف إلى طرف؛ أي من طرف اللذة إلى طرف الألم، فالألم حركة واللذة حركة، ولكن أن لا نتحرك أبدا هي الحالة الحسنى، وفي هذا بعض المماثلة للمذهب الرواقي القائم على نظرية التحرر من الميول والعواطف كلية، ولقد علم أرسطوطاليس أن هنالك نوعا من النشاط لا يترتب عليه تغيير دائم، هو صورة من توازن الحركة، فأخذ أبيقور هذا القول، وقال إن الخير لذة من هذا النوع، وقد ندعوه «التحرر من الانزعاج» أو «الاطمئنان الفلسفي
Ataraxy ؛ لأنها حالة من الاتزان
Equipoise
منشؤها العقل؛ لأن العقل هو المؤثر الذي ينظم الحياة. (13) تطبيق مذهب أرسطبس
عند أرسطبس ضرب من اللذات المستقلة أو المعزولة
هي التي يعتبرها أول ما يجدر بالإنسان الحصول عليه، وهذه اللذات بعيدة عن ما يدعوه «مجمل الإحساس باللذة» ويعتبر حيازته «السعادة» أو كما يدعوها «الحياة الطيبة» وهنا تقع على حقيقة جديرة بالنظر.
فإن لغة الفلسفة القديمة تقوم في بلاغتها العليا على نفس القاعدة التي تقوم عليها فلسفة النفعي العظيم بنتام إذ يقول:
إن عناصر السعادة منوعة جهد التنوع، وكل عنصر من عناصرها مرغوب فيه، ولو قام بذاته، كما لو ألف من اندماجه بغيره كلا واحدا.
ولقد قام في وجه الفيلسوف القديم نفس الاعتراض الذي وجه إلى الفيلسوف الحديث؛ إذ قيل بأن الحياة الإنسانية تؤلف في مجموعها حالة يرجح فيها الألم اللذة، غير أنه بالرغم من أن قيام مثل هذه النزعة التشاؤمية في أذهان الكثيرين ضروري، فإن قيامها لا يصح أن يقف حائلا يصدنا عن السعي وراء الحصول على الحد الأقصى من اللذة، سواء أنقص هذا «الحد الأقصى» - في مجموعه - عن الألم الذي يقاسيه الإنسان في حياته أو زاد عليه.
قال أرسطبس: إن الحكمة «خير»، ولكنها ليست غاية في ذاتها، غير أنها بالرغم من قوله هذا كانت وسيلة للغاية التي رمى إليها أرسطبس على ما شرحنا في العبارات السابقة، فإنها قد حمت «الحكيم» من أنكى أعداء السعادة، حمته من «شهوات تقوم على تصورات خاوية فارغة» غير أن الحكيم مع هذا لا يستطيع أن يظل بعيدا عن التأثر بكل الانفعالات، فإنه لا يمكنه أن يتخلص فعلا من انفعالات الحزن والإشفاق والخوف؛ لأن هذه الانفعالات وما إليها لها أصولها التي ترتكز عليها في الطبيعة الإنسانية.
ومع هذا فإن «الحكمة» إن قامت على أساس من الاستغراق في الفكر والنظر واستشفاف الحقائق، فإنها لا تكفي وحدها أن تكون ضمينة للسعادة من غير قيد ولا شرط، فإن الحكيم تمنعه الحكمة من أن يتطلع إلى حياة «تكمل» فيها السعادة، كما لا يمكن أن ينتظر نقيضه - وهو الأحمق - حياة يكمل بها شقاؤه، فإن كلا من الحالتين - السعادة والشقاء - يمكن فقط أن تدوم إحداهما «أطول مدى ممكن»، أو بعبارة أخرى: إن «الحكمة» ونقيضها «الحمق» في كل منهما نزعة تحدث عن الأولى سعادة، وعن الأخرى شقاء على مقتضى الظروف.
ويعتقد أرسطبس فوق هذا أن «الحكمة» وحدها لا تكفي لخلق هذه النزعة - أي نزعة السعادة - فالتهذيب النفسي وتربية الجسم على الأخص أمران ضروريان لإمكان خلقها، وعلى هذا لا تكون الفضائل أو السعادة وقفا على الحكماء وحدهم، بل يجوز أن يتحلى بهما بعض الحمقى والسفهاء.
ولقد أجمل العلامة إردمان في كتابه «تاريخ الفلسفة» مجمل ما يطبق به مذهب أرسطبس، فقال: إن أرسطبس يقصد باللذة السعادة الوقتية أو لذة الساعة، وعلى الأخص ناحية اللذة البدنية، ومن هنا جاء القول بأن «رياضة الكفايات الجسمية» هي الوسيلة إلى الفضيلة، وأن الرجل العاقل لا يختار الألم إذا خير، ولا يشتري اللذة بألم يعقبها.
وهذه القاعدة تدعو إلى انتهاز لذة الساعة، أو اللذة الراهنة لا لتستقوي علينا اللذة وتستعبدنا بل لنستقوي عليها ونستعبدها استعباد الفارس للجواد.
غير أن إردمان يدعو هذا طيشا إذا قيس برصانة أبيقور، فيقول: إن هذا الطيش الذي لا يجعل للمستقبل وزنا في حساب الحكيم هو الفارق بين هيدونية أرسطبس، ورصانة التفكير وقوة الأقيسة المنطقية، التي نلمسها في مذهب السعادة الإنسانية
Eudomonism
الذي وضعه أبيقور وأتباعه.
أما الأستاذ ترنر فيلخص رأي أرسطبس في أن السعادة هي الغرض من العمل، ويقصد بها السعادة الإنسانية على الضد مما يرى إردمان، أما المذهب القائل بأن السعادة تتكون عناصرها من اللذة الراهنة، فمذهب سقراط معكوسا، ودليل ترنر على هذا أن حكمة سقراط أجملت في قوله: «اعرف نفسك.» فعكسها أرسطبس قائلا: «نعم اعرف نفسك، لعلك تعرف إلى أي مدى يمكنك أن تنغمس في لذائذ الحياة، من غير أن تتجاوز الحد الذي تنقلب عنده اللذة ألما.» وعلى هذا يذهب ترنر إلى القول بأن تطبيق المذهب كما وضعه أرسطبس كان أميل إلى الفردية المادية
Materialistic Individualism
منه إلى المبادئ السقراطية، التي يدعي أصحاب الفكرة القورينية أن فكرتهم قد استمدت منها قواعدها.
وقد تظهر لنا الصعوبات العملية في تطبيق المذهب، وبخاصة في كيفية الحصول على أسمى درجات اللذة الفردية، من مجرد النظر في الفروق التي وقعت بين خلفاء أرسطبس .
فإن هجسياس قد أحس آلام الحياة إحساسا عميقا، حتى لقد شك كل الشك في إمكان الحصول على شيء، أو حالة يجوز لنا أن ندعوها «سعادة»
40
فإن أسمى حد من السعادة أمل هجسياس أن يبلغه الرجل الحكيم عند سعيه وراء منافعه الذاتية التي هي عنده ضالة الحكيم، ومنار الحكمة؛ كان التحرر من الآلام، ولذلك رأى أن أقوم سبيل يسلم إلى هذه الغاية، إنما ينحصر في الاستهتار بكل الأشياء الخارجية.
وهنا نقع على مشابهة كبيرة بين الصورة التي أفرغ فيها هجسياس المذهب القوريني وبين المذهب الرواقي من ناحية، وبين المذهب الكلبي من ناحية أخرى.
والأعجب من هذا أنك تجد أن هذا الزعيم الفلسفي الذي حاول أن يضع ناموسا يرمي إلى تهيئة الحياة الفردية بوجه من السلوك بين واضح، قد كني «رسول الموت» واتهم بأنه يغري الناس بالانتحار.
أما أنقريز فقد صبغ المذهب بصبغة أرق، ولو أنه ضحى في سبيل ذلك بأمانته للمذهب الأصلي،
41
فمن الظاهر أن البحث في الهيدونية الفردية، والهيدونية الغيرية - أي لذة الفرد ولذة الغير - كان قد بدأ يتطور إلى سؤال معضل يتطلب حلا فلسفيا مرضيا، لهذا قال أنقريز بأن هنالك أشياء لا تنكر، مثل الصداقة والوطنية، وهي أشياء أنكر هجسياس وجودها البتة.
لهذا قضى أنقريز بأن الرجل الحكيم قد يضحي في سبيل وطنه، وفي سبيل صديقه، ويكون في الوقت ذاته سعيدا، بالرغم من أن لذته من وراء هذه التضحية قد تكون ضئيلة، وبالرغم من أنه لم يطلب من وراء التضحية سوى اللذة، وأن سعادة الغير، إن كانت أقل تلاؤما مع منازع العقل من التضحية للوطن، فإن الرجل الحكيم ينبغي له أن يضحي في سبيل أصدقائه.
42 (14) الكلبيون وتطبيق المذهب
إن روح الاعتدال مشفوعة بالحذر والتحوط والحزم دون التورط في التطرف والمبالغة، مما نلمس في مقررات هذا الفيلسوف الكبير، تزودنا بما نحتاج إليه من مادة لنمضي في مقارنات نتخذ الآثار التي خلفتها فلسفة الكلبيين بينة الطابع في جبين الفلسفة القديمة وسيلة إليها، فإن أوجه العلاقة والصلة بين فلسفة أرسطبس والكلبيين لجلية واضحة، وكفى بأنهما شعبتين تفرعتا من دوحة سقراط.
وليس من شك في أن «أنطيثنيز
antisthenes » في استعلائه وتساميه في تسوده على الحاجيات، واستقلاله المطلق الذي نلحظه في عدم اعتماده على شيء، وشعوره بأن لا حاجة له إلى شيء، اللهم إلا ما يقوم حياة البدن وحياة العقل، ثم بغضه لما دعاه «استعباد اللذة الحسية» إنما يهوي بمذهبه إلى غمر المغالاة، وقد نقول «مغالبة الطبيعة» بل الإفراط في العداء والاحتقار العنيف لكل لذة من اللذات.
بيد أننا نقع في ناحية أخرى على قول يعزى إليه، مجمله أن «اللذة خير»، غير أنها «اللذة التي يمكن للإنسان أن يباشرها من غير أن يكون في حاجة إذا باشرها إلى طلب الغفران.»
وعلى هذا يوافق أرسطبس غير أنه ربما كان قد حور في هذا القول - لو أنه سمعه - تحويرا يحقق معه «إن اللذة خير، وإن شعر الإنسان بعدها إلى ضرورة طلب الغفران، ولكنها في هذه الحالة تكون مرجوحة بالألم الذي يعانيه الإنسان عند شعوره بالحاجة إلى التوبة وطلب المغفرة.» (15) حلقات في انتقال المذهب
مضينا نبحث الفلسفة الهيدونية
Hedonistic Philsophy
على أنها من إنتاج الفيلسوف أرسطبس وحده، وعرضنا لبعض نواحيها بغير إطناب، فلم نتناول كثيرا من صورها الرئيسة، والحقيقة أنه من المتعذر أن نحكم بأن كل ما وصلنا من مبادئ هذه الفلسفة كان من وضع منشئها الأول، ذلك بأن المظان التي هي في متناول الباحثين تجعل الفصل في هذا أمرا خارجا عن طوق الإمكان.
فقد نقع فيما وصل إلينا من آثار هذا المذهب على مناقشات مستفيضة تناولت قواعده الأساسية، وقد نستخلص مفصلاتها من المختصرات أو الملخصات التي وصلت إلينا، ومنها ندرك أن أكثرها كان في موقف الدفاع إزاء النقد، أضف إلى ذلك ما يبدو في أكثرها من آثار الحذر والحيطة، وتحديد موضوعات البحث تحديدا دقيقا، مما يندر أن يكون من صفات الرواد، وعامة ذا يدل على أن هنالك ممكنات أخرى، والاحتمال المعقول أن نفرض أن المقطوعات المستفيضة ليست من عمل أرسطبس نفسه، بل من منشآت أفراد اعتنقوا المذهب من بعده . (16) أريطي وأرسطبس الصغير وغيرهما
عهد أرسطبس بكل مخلفات مذهبه إلى ابنته «أريطي
Arété » التي خرجت ابنها فيلسوفا كجده، ولأول مرة في تاريخ الفلسفة خلال كل العصور تلقت يد المرأة مشعل الحكمة والتقاليد من الأسلاف، لتعهد به إلى الأخلاف.
ولقد أورث أرسطبس الصغير مذهب جده العظيم نظرية جديدة زود بها الناحية الأخلاقية منه، ولا يبعد أن يكون إحكام الوضع الذي اتصفت به تعاليم المذهب القوريني، من آثار أريطي وابنها، وهنالك شواهد تؤيد هذا القول، ولكن من غير أن تنزله منزلة اليقين الصرف، فإن أرسطوطاليس عندما ذكر الهيدونية، لم يذكر أرسطبس بل ذكر الفيلسوف «أودوكسس
Eudoxus » الذي انصرف إلى الرياضيات والفلك، وخدمهما أجل الخدمات، ذلك فضلا عن مذهب أخلاقي يمت إلى المذهب القوريني بأكبر الأسباب، ويقوم على نفس القواعد الجوهرية التي يقوم عليها مذهب أرسطبس. أما إذا فرضنا أن أرسطبس قد خلف مذهبا غير كامل؛ أي قواعد أولية يصح أن يقوم عليها مذهب فلسفي؛ فإننا بذلك نستطيع أن نفهم السبب في أن أرسطوطاليس لم يعرض لذكر أرسطبس بالذات.
على أن هذا الرأي غير قاطع على كل حال، فإن النظرية القورينية في «المعرفة» - وهي نظرية درسها أفلاطون وحاول نقضها في كتابه «ثياطيطوس
Theatetus » - لم يناقش أرسطوطاليس فيها، بل أهملها استصغارا لشأنها، وليس ببعيد عن الإمكان أن تكون الكراهية والامتعاض اللذين شعر بهما أرسطوطاليس نحو أرسطبس (السفسطائي)، وقد أثر عن المعلم الأول أنه نعته بهذا النعت؛ هما السبب في أن يصمت ابن «أسطاغيرة»
43
الأعظم في كلتا الحالتين عن ذكر رأيين تضمنهما مذهب فلسفي من أعظم مذاهب القدماء، وسندلي برأينا في ذلك بعد.
ومن الكتابات التي تعزى إلى أرسطبس قسم كبير لا يبعد أن يكون من آثار أتباعه وخلفائه، والمدرك من هذه المخلفات، يدل على أن أتباعه قد خالفوه في المذهب وشيكا، ونزعوا إلى اعتناق الصورة الفلسفية التي لابست المذهب الأبيقوري في آخر عصوره.
ولقد أسس كثير من تلاميذ أرسطبس مذاهب عرف كل منها باسم مؤسسه، فإذا استثنينا أرسطبس الصغير - حفيد مؤسس المذهب - نقع على «ثيوذورس
Theodorus » و«ثيوذرياقس
Theodoriacis » الذي فضل لذة التأمل على لذة الساعة، كيفما كانت حالتها وصفتها، وحاول أن يدخل الأساطير الدينية في التاريخ الصرف، ومن هذه الناحية تقدم تلميذه «أوميروس
Euhemerus » إلى نهايات لم يبلغها أستاذه.
44
وهنالك خلاف على أوميروس أهو تلميذ ثيوذورس أم تلميذ ثيوذرياقس ؛ فقد جاء في القاموس الإنسيكلوبيدي (ص155، ج4) ما يلي:
أما أشهر معتنقي هذا المذهب ففي مقدمتهم أريطي ابنة مؤسسه، وابنها الذي كني بكنية أخذت من تعاليم المدرسة، فدعي «مطروذيدقطوس
Metrodidaktos » ومنهم ثيوذورس الملحد وتلميذه «بيون
Bios »
45
أو «بيوس
Bios » وأوميروس.
ويقول العلامة زللر: إنه من المشكوك فيه كثيرا، أن يكون أوميروس صديق الملك المقدوني «قصندر
Cassander » - والذي كثيرا ما يذكر مع ثيوذورس الملحد - ذا علاقة بالمذهب القوريني، فإن لهذا الفيلسوف رأيا دينيا ضمنه قصة «أوتوبية» - خيالية - قضى فيها بأن الآلهة ليسوا إلا عباقرة من بني البشر، خصوا بأرقى المواهب ونالوا أعظم السلطان، فألهوا وعبدوا، أما ما في هذا الرأي من أثر المصريين من ناحية، ومن أثر السفسطائيين من ناحية أخرى، في تعليله نشوء الأديان على هذه الصورة فأمر لا يمكن أن يقضى فيه بحكم مقطوع بصحته.
46
يقول العلامة زللر
47
بأن «بيون» كان أول رائد لذلك الرأي الفلسفي الذي يطلق عليه الباحثون اسم الهيدونية الكلبية
Hedonistic Cynicism
وأنه ولد في مدينة «بوروثنيس
Borysthenes » من مرافئ البحر الأسود في آسيا الصغرى من أب أصله من الأرقاء، وكان نفسه رقيق رجل من الخطباء، عرف بفصاحة اللسان، وبلاغة الأسلوب، فحرره وأوصى له بميراثه حتى يستطيع أن يقف على اتجاهات الفلسفة في أثينا والأكاديمية ومقررات المشائين
والكلبيين والقورينيين، ولقد ترك فيه المذهبان الأخيران أثرا كبيرا، حتى لقد استطاع أن يوفق بين كثير من أوجه الخلاف بينهما، فكان ذلك سببا في أن يمضي زمنا طويلا في بلاط الملك «أنطيغونس غوناطس
Antigonus Gonatus » (243-240ق.م) وكتب مقالات طويلة، حمل فيها حملات شديدة على الغضب والاستعباد وعادة دفن الموتى وغير ذلك.
أما المظنة التي نقف منها على شيء من حقيقة فلسفته وأسلوبه الكتابي، وقد مزج فيه بين قوتي الفكر والسخرية؛ فكتابات «طيليس
Teles »
48
وكان طيليس من الذين علموا في ميغارة (حوالي 240ق.م) ودرس كتابات بيون وأرسطبس وإستلفون وديوجنيس وإقراطس، واستشهد بها في تأملاته التي تناولت بحوثا عميقة في الظواهر والحقائق والاستقلال والفقر والثروة والغنى وعلاقات الحياة واللذة وضبط الانفعالات. (17) ثيوذورس
أما «ثيوذورس
Theodorus » فمن رجال المذهب المتأخرين، كان على غرار «دياغوراس
Diagoras » فوصف بأنه منكر لله، تلقاء ما أظهر من منابذة للدين، واعتبر في رومية، وفي عصر قيقرون من الملحدين المنكرين لوجود الله
Atheists
ويقال إن ثيوذورس - وكان له أتباع كثيرون - ترك أثرا في فلسفة أبيقور وتعاليمه، بالرغم من أن أبيقور نزع إلى فكرة معتدلة في الألوهية، ويزعم البعض أن منكري الألوهية، كانوا ممن يقعون تحت طائلة القانون في أثينا، وفي عصر ديمطريوس فيلاريوس الذي ظلل أرسطبس بحمايته، ويقال أيضا إن ثيوذورس اتهم بسبب ذلك، وحكم عليه بأن يشرب الشوكران كسقراط، ولكن لم يكن من طابع أولئك الرجال الذين يضحون بأنفسهم، وإن كانوا ممن يذهبون مذهب الدعوة إلى التضحية بالذات، وأخذ بعد ذلك يتنقل من بلاط إلى بلاط من غير أن يرائي، أو يمدح نفاقا أحدا ممن ضيفوه، حتى قال له أمين بلاط لسيماخوس في تراقيا: «يظهر لي أنك الرجل الوحيد الذي ينكر الآلهة والملوك معا.»
49
وكان أقرب رجال المذهب إلى مؤسسه الأول قوة عقل وصلابة أخلاق، فلم يعترف بقيمة الصداقة قائلا: «إن الأحمق لا يستطيع الانتفاع بالأصدقاء، والعاقل لا حاجة له بهم.»
50
وعقب ديوجينيس لايرتيوس على هذا بكلمة نسبها إلى ثيوذورس؛ إذ زعم أنه قال: «لا جناح عليك أن تسرق أو تفسق أو تنتهك الحرمات المقدسة، على أن تكون بمأمن من العقاب.»
51
وظاهر هذا القول يخالف معناه المجمل عند الواقفين على حقيقة المذهب القوريني، فالمعنى المجمل يتضمن ما يصح أن ندعوه «الإباحة المشروطة»؛ كإباحة الزواج بأربعة نساء، مع شروط تجعل هذه الإباحة لغوا، فإذا تذكرنا أن «العقاب» عند القورينيين يتضمن معنى الألم، وفي «الألم» تحطيم للسعادة ولهدوء العقل؛ كانت إباحة ثيوذورس «مشروطة» بشروط تجعلها لغوا، أضف إلى ذلك أن الإنسان الذي لا يشعر «بألم نفسي»؛ سواء عنده أباح ثيوذورس المحرمات أم نهى عنها؛ لأن الإباحة لا تجعله أرذل، ولا النهي يجعله أفضل مما هو.
ويختلف ثيوذورس مع أرسطبس، على أن الخلاف بينهما غير ذي بال، وهو ينحصر في أن ثيوذورس جعل للاتجاه العقلي من القيمة أكثر مما للخيرات الخارجية الطارئة في تكوين عناصر الحياة السعيدة، ولهذا قال بأن العناصر الأساسية للحياة الطيبة ليست «اللذة والألم» مباشرة؛ لأنهما من الأشياء التي تحدث أثرا في النفس معها أو ضدها، بل العبرة بما يحدثان من «فرح أو حزن» وهما شيئان يتوقف حيازة أولهما على «الحكمة»، وثانيهما على «الحمق»، وهذا هو التفسير الذي فسر به زللر بعض عبارات غامضة أثبتها ديوجينيس لايرتيوس في كتابه (ج2، ص98).
هوامش
الفصل الرابع
نقود ومقارنات
«أما السبب الذي حمل أفلاطون وأرسطوطاليس على أن يقاوما مذهب أرسطبس، فيرجع - على الأرجح - إلى أن ابن قورينة بدأ يعلم الهيدونية في أبسط صورها، فقال إن اللذة هي الخير الأسمى، وإن غاية الإنسان يجب أن تتجه دائما وفي كل آن إلى الحصول على أكبر قسط منها، وجهد ما تصل استطاعته، وهذه الصورة البسيطة غير المهذبة من المذهب الهيدوني؛ هي التي قاومها سقراط، ونقلها عنه أفلاطون، وأثبتها في كتابه فليبوس.»
أرسطبس وسقراط
إذا كان أرسطوطاليس قد أهمل ذكر أرسطبس تعيينا، واقتصر على أن يذكر من القورينيين أودكسس وحده، فإن الحكيم الأعظم سقراط قد عني به، وهذا يدل على أن أرسطبس كان قد تكون واكتمل أو كاد يكتمل قبل أن يموت سقراط، غير أن الواقع أن أرسطوطاليس إن أهمل ذكر أرسطبس فإنه لم يهمل مذهبه كما سنرى بعد.
أفرد «زينوفون
Xenophon » بابا كاملا في كتابه الذكريات
Memorabilia
خصه بمناقشة مذهب أرسطبس، كما فهمه سقراط ونقده، ذلك هو الفصل الأول من الكتاب الثاني من «الذكريات» وقد لخص حوارا وقع بين سقراط وتلميذه أرسطبس.
وملخص هذه المحاورة التي وضعت بعنوان «أرسطبس» أن سقراط قد توقع أن أرسطبس يحاول الحصول على وظيفة في الحكومة، فأراد أن يظهر له رأيه في أن الاعتدال وضبط النفس صفتان ضروريتان في الرجل السياسي ، فلما أظهر أرسطبس أنه إنما يصدف عن هذا، ولا يرغب إلا في أن يعيش عيشة هادئة لذيذة، سأله سقراط: أيهما أسعد حالا، الحاكم أم المحكوم؟ فيجيب أرسطبس بأنه لا يريد أن يكون حاكما ولا محكوما، وإنما يريد أن يمتع بالحرية، فيبادره سقراط بأن مثل الحرية التي يطلبها لا تتفق ونظام الجمعيات الإنسانية، غير أن أرسطبس يبقى مستمسكا برأيه، ويقول بأنه سوف لا يظل في مملكة واحدة، بل سيعيش متنقلا من مكان إلى مكان، فيظهر له سقراط ما في هذه المعيشة من مخاطر، وما يحف بها من معاطب. ولكن أرسطبس يرمي بالحمق أولئك الذين يختارون حياة الكد والعمل في مناصب الحكومة، ويفضل عليهم أولئك الذين يختارون الحياة الهادئة البعيدة عن النصب، فيكون من أمر سقراط أن يظهر له الفرق بين الذين يكدون مختارين، وبين الذين يكدون مجبرين، وأنه ما من خير أخلاقي إلا وله مقدمات من النصب والكد الطويل. ومن أجل أن يمثل لفكرته روى أسطورة «فروذقوس
» السفسطائي التي سماها «حيرة هيرقل».
أما الأسطورة التي وضعها «فروذقوس» فمحصلها أن هيرقل لما كان شابا في أول أطوار الفتوة وعلى باب الرجولة؛ أي في ذلك الطور الذي يشعر فيه المرء بأنه عما قريب سيصبح سيدا حرا، أخذه ما يأخذ الشباب من تفكير في أمر الحياة، وفي أي من طريقيها يسير: أطريق الفضيلة، أم طريق الرذيلة، فانتبذ بنفسه مكانا موحشا بعيدا عن جلبة الناس، وقد أخذه هم التفكير في اختيار أي من طريقي الحياة، وفيما هو جالس تراءى له شبحا امرأتين ممشوقتي القامة مضتا تتقدمان نحوه، وكانت إحداهما جذابة الملامح، مملوءة وقارا وجمالا، وقد حبتها الطبيعة بحسن الصورة وبهاء الطلعة المقرونة برصانة الحكمة، وكانت تتشح ثوبا أبيض فضفاضا، أما الأخرى فكانت ربلة ناعمة، ولكنها زورت ملامحها بالتبرج، لتظهر أكثر جمالا وبهاء، مما هي في الحقيقة، وأخذت تتصنع من الإشارات والحركات ما يزيد قامتها اعتدالا، وكانت تنظر بعينين مفتوحتين، لا خفر فيهما ولا استحياء، وقد اتشحت ثوبا تظهر منه تقاطيع جسمها الجميل، وقد أخذت تنظر من وقت إلى آخر في صورتها، ثم تتطلع لترى هل يراها من الناس أحد، وهل يعجب بجمالها معجب بها بل كانت كثيرا ما تتلفت وراءها، لترى هل يرتسم في ظلها شيء من محاسنها، وفيما هما تتقدمان نحو هيرقل وهو في حيرة، تستبق الثانية الأولى إليه، وتأخذ في الحديث لتغريه على أن يتبعها دون الأخرى، وبعد أن تشرح له ما سوف يلقى فيها من لذة واستمتاع، يسألها هيرقل عمن تكون، فتجيبه: «إن الذين يصحبونني يسمونني السعادة، ولكن الذين يمقتونني يدعونني الرذيلة.» وهنا تتقدم إليه الأخرى (الفضيلة) وتقول له: «إنني أريد أيضا أن أحدثك بحديثي.» وتشرح له من واجبات الحياة الفضلى، وما في الفضيلة من مشاق، بيد أنها تظهر له أيضا ما فيها من جمال.
وفي هذه المحاورة التي يشرح فيها فروذقوس آراءه في الفضيلة والرذيلة، تنتصر الفضيلة - بالرغم من خشونتها - على الرذيلة - بالرغم من نعومتها - غير أن هيرقل يظل في تأمله، ولكن بعد أن تفتح له الأسطورة سبيلي الدنيا، وكذلك يترك سقراط أرسطبس حرا في أن يختار أيهما يفضل في الحياة.
أرسطبس وأفلاطون
عرفنا من قبل أنه لم يكن لدى القورينيين من حاجة لأن يثبتوا فوارق أساسية من حيث القيمة بين اللذائد، ولا شك في أن كل ما وصل إلينا عنهم إنما يدل على أنهم كانوا على يقين من هذا الأمر، فقد نقل عنهم ديوجينيس لايرتيوس (ج2، ص87) قولهم بأن لذة ما لا ترجح لذة أخرى، وكذلك المنابع التي تزودنا باللذة، فإن أحدها - مهما كان فيه من التبذل والإسفاف - لا يفضل غيره أو يفترق عنه من حيث القيمة.
نذكر هذا لنثبت أن الفرق بين القورينيين وبين أفلاطون من ناحية، وبين أرسطوطاليس من ناحية أخرى، ينحصر في أن الأخيرين قد دافعا عن فكرة الأمثال المجردة للقيم وللحقيقة، وهي أمثال تسمو فوق الفكرة التي تجول في رءوس العامة من الناس.
1
فإن الحوار المشهور في كتاب «فليبوس» تأليف أفلاطون، والذي قصد به إمكان وضع فواصل بين اللذائذ الحقيقية واللذائذ الخيالية، والموازنة بين هذه وبين مبدأ الفكرات الحقيقية، والفكرات الخيالية، إنما قصد به على الأرجح الإشارة إلى موقف القورينيين الفلسفي.
2
ومن المفيد أن نلاحظ هنا أن ذلك الشك المرتجل الذي ظهر فيما كتب أرسطوطاليس وأفلاطون، هو الذي حمل القورينيين على أن ينفروا من البحث العلمي في الطبيعة، ومن مجرد التأمل الذي لا فائدة منه.
3
أما السبب الذي حمل أفلاطون وأرسطوطاليس على أن يقاوما مذهب أرسطبس، فيرجع - على الأرجح - إلى أن ابن قورينة بدأ يعلم الهيدونية في أبسط صورها، فقال: إن اللذة هي الخير الأسمى، وإن غاية الإنسان يجب أن تتجه دائما وفي كل آن إلى الحصول على أكبر قسط منها، وجهد ما تصل استطاعته. وهذه الصورة البسيطة غير المهذبة من المذهب الهيدوني هي التي قاومها سقراط ونقلها عنه أفلاطون، وأثبتها في كتابه «فليبوس».
غير أننا نمضي في شرح آراء أفلاطون والتعليق عليها من حيث علاقتها بمبادئ القورينيين، بحسب الترتيب الذي سقنا فيه هذا البحث فنبدأ بكتاب «ثياطيطوس» ونعقب عليه بكتاب «بروطاغوراس» ثم بكتاب «فليبوس»، ونختم بكتاب «غورغياس» ثم بالتعقيبات الضرورية على كل ما يعن لنا التعقيب عليه. •••
كان للمذهب القوريني الأثر البالغ في كل المذاهب التي ذاعت في بلاد اليونان القديمة منذ عهد سقراط.
ونحن إذا اضطررنا إلى الكلام في علاقة هذا المذهب بنواحي الفلسفة الأخلاقية عند اليونان، فإنما نقصد إلى البيان عن تلاقح المذاهب من ناحية، وإلى شرح الملابسات التي تصحب ذيوع المذاهب من نقد وتقرير من ناحية أخرى.
ففي كتاب «فليبوس» حاول أفلاطون - ولا يغيب عنا أنه أحد أخدان أرسطبس في التلمذة على سقراط - أن يضع فواصل بين اللذائذ الحقيقية واللذائذ الخيالية، فكأنه حاول بذلك أن يضع قاعدة جديدة لمذهب اللذة من ناحية، وأن يضع تقسيما للذائذ من ناحية أخرى، على الضد مما ذهب إليه القورينيون، بل حاول أن يجعل تقسيمه للذائذ لا يتناول الكم والكيف وحدهما، بل يتناول تصور اللذائذ وحقائقها، ثم إنك تجده يحاول بعد ذلك أن يضع مذهبا جديدا في الفكرات فيقسمها على غرار التقسيم الذي وضعه للذائذ، ويقضي بأن هنالك فكرات حقيقية وفكرات خيالية.
فكان من ذلك شعبة جديدة من شعب المذهب الأفلاطوني العظيم، وفي كتابه «بروطاغوراس» تأثر كل التأثر بالمذهب القوريني القائل بأن الحياة فن، وأن فن الحياة عبارة عن ضرب من الأقيسة والاستنتاجات الهادئة.
وفي كتابه «ثياطيطوس» تناول مناقشة النظرية القورينية في المعرفة، وحاول نقضها ، أما في كتابه «غورغياس» فقد هاجم النظرية الهيدونية كما وضعها أرسطبس، فكان ضعيفا مضطربا بعد عن موازناته الهادئة، وتقديراته الرياضية. وسننظر في هذا كله عند موضعه من البحث.
ولقد يحسن بنا أن نشير هنا إلى أن الكلام في مناقشة أفلاطون لنظرية المعرفة عند القورينيين في هذا الموطن من البحث؛ سابق لأوانه، وكان الواجب أن نبقى على هذا حتى نتناول نظرية القورينيين في «المعرفة» أولا، ولكن الحاجة تلجئنا إلى الكلام في هذا المبحث لسببين: الأول: أننا نتكلم عن أفلاطون والمذهب القوريني، فالواجب أن نجمل القول في ذلك. والثاني: أننا سوف نمضي في مقارنات نتناول فيها نظرية المعرفة عند القورينيين وعند أفلاطون. وهذا سنبقي عليه حتى نصل إلى موطنه من البحث.
أرسطبس وأفلاطون في كتابه «ثياطيطوس»
أشرنا عند الكلام في «أريطي وأرسطبس الصغير وغيرهما» (في الفصل الثالث) إلى أن النظرية القورينية في «المعرفة» قد ثبتت في عقل أفلاطون، وحاول نقضها في كتابه «ثياطيطوس
Theatetus »، وعلى الرغم من أننا نكاد نؤمن بأن أفلاطون لم يتطلع في كتابه هذا إلى رفض نظرية ما في المعرفة، إلا النظرية القورينية، فإن أفلاطون لم يذكر اسم أرسطبس، ولا أشار إلى النظرية القورينية في «المعرفة»، كما فعل تلميذه أرسطوطاليس من بعده لدى نقده نظرية الأخلاق القورينية في كتابه «الأخلاق». ولعل إهمال هذين العلمين ذكر أرسطبس فيما كتبا وفيما تناولا من أوجه المذهب القوريني نقدا وإثباتا؛ كان السبب الأول في أن العرب لم يعرفوا من أمر أرسطبس شيئا يعتد به، حتى إن ابن القفطي في كتابه الصغير «تاريخ الحكماء» لم يترجم عن حياته إلا ترجمة قصيرة، لا تدل على أثر من المعرفة بحقيقة مذهبه، مع أنه ترجم لرجال من اليونان كان يفخر كثير منهم أن يكونوا من تلاميذ أرسطبس، باستفاضة وبيان.
4
ولا شك عندي في أن معرفة العرب باليونان كانت في أكثر الأمر عن طريق أرسطوطاليس وأفلاطون؛ لأن أفلاطون «الإلهي» - كما كانوا ينعتونه - محبب إلى نزعاتهم، ولأن أرسطوطاليس «المعلم الأول» - كما عرفوه - كان بمنطقه الاستنتاجي أكبر معوان على تقرير مسائل الجدل والكلام، والراجح أن العرب ورثوا هذه النزعة عن السريان الذين نقل عنهم العرب في أكثر الأمر أعمال اليونان.
وما كان لنا أن نمضي في هذا البحث من غير أن نمهد له بتعريف أولي يتناول نظرية المعرفة عند القورينيين، على الرغم من أننا سوف لا نتناول نظريتهم بالشرح إلا بعد أن نفرغ من الكلام في أرسطبس وأفلاطون، ثم من الكلام في أرسطبس وأرسطوطاليس، غير أن ضرورة التعريف بهذه النظرية في هذا الموطن يلجئنا إلى الإيجاز في شرحها، لنبقي على البيان والإفاضة إلى محلهما من البحث.
ويكفي هنا أن نعرف أن مذهب أرسطبس لم يزود الفكر الإنساني بنظرية فذة في الأخلاق لا غير، بل وضع نظرية في المعرفة
Theory of Knowledge
دعمها أرسطبس، وتوسع فيها خلفاؤه، فكان لها أكبر الأثر في كل ما ظهر من صور الفكر الفلسفي على مدار العصور.
أما المحصل من هذه النظرية فيكفي أن نعرف منه أن القورينيين كانوا يقيمون نظريتهم في المعرفة على قاعدة بسيطة تنحصر في قولهم: «إن الأساليب أو الكيفيات التي نتأثر بها هي وحدها التي يمكن معرفتها.» ولما كانت هذه القاعدة هي لب النظرية، كفى أن نقول فيها إن القورينيين مضوا في شرحها مستعينين بكل ما يخطر ببالك من المثل التي تستمد من إدراك الحس، فهم يقولون بأننا لا نعرف أن «العسل» حلو، وأن «الطباشير» أبيض، وأن «النار» تحرق، وأن «السكين» تقطع، وإنما نعرف من هذه الأشياء وأمثالها حالات الشعور التي نشعر بها؛ أي إن لنا إحساسا بالحلاوة، وآخر بالبياض، وثالثا بالحرق، ورابعا بالقطع وهكذا، وإن هذه الحواس هي طريقنا إلى المعرفة؛ أي إننا إنما نعرف الآثار التي تتركها فينا الأشياء من طريق الحواس، لا ما هي حقيقة الأشياء في ذاتها.
وهنا يجدر بنا أن نعرف أصل حوار ثياطيطوس، وإنما نستطرد في هذا خاصة؛ لأننا سنحتاج إلى معرفته في شرح نظرية المعرفة عند القورينيين فيما بعد.
ثياطيطوس شاب من نبغاء اليونان برز في الرياضيات والعلوم، جرح في إحدى المواقع الحربية في حصار من حول مدينة قورنثية ومرض في المعسكر مرضا مميتا، فأبدى رغبته في أن يحدث به حدث الموت في وطنه؛ ولهذا نقل إلى ثغر ميغارة حيث قابله إقليدس الميغاري، فتحدث إقليدس في شأنه مع صديقه «طرفزيون
Terpsion » - وهو أيضا من تلاميذ سقراط - مبديا أسفه على أن تفقد بلاد اليونان نابغة مثل ثياطيطوس، وجرهم الكلام إلى ذكر حديث اشترك فيه سقراط والرياضي ثيوذورس القوريني وتلميذه ثياطيطوس، أشاد فيه سقراط بالمواهب السامية التي أبداها التلميذ الشاب وعلائم النجابة والنبوغ التي آنسها فيه، وأراد إقليدس أن يرافق الجريح حتى إذا قطع جزءا من الطريق ناله النصب من عناء السفر، فاستقر رأيه على أن يستريح بعد طول الشقة التي قطعها ماشيا، وهنالك وافاه طرفزيون، وكان قد عاد من الريف، فانتهز طرفزيون هذه الفرصة ورغب في أن يسمع تفاصيل ذلك الحديث الذي ألمعنا إليه، فأجابه إقليدس إلى طلبه، وأمر عبدا كان يرافقه أن يقرأ عليهم نص الحوار.
والذي يعنينا من أمر هذا الحديث ما يتعلق منه بمناقشة نظرية المعرفة التي قال بها القورينيون. لهذا نترك كل التفاصيل الأخرى بعد أن مهدنا بالتعريف عن أصل الحوار، لنستخلص من هذا الكتاب مجمل النقود التي وجهها أفلاطون إلى النظرية القورينية في المعرفة على أن نذكر دائما أن هذا الكتاب يعد في مقدمة كتب أفلاطون قوة تفكير ومتانة أسلوب، إذ جمع فيه بين خيال الشاعر ودقة المنطيق، وحيطة الفيلسوف، وفن المنشئ.
يبدأ الحوار بسؤال يوجه إلى ثياطيطوس وجواب يرد به ثياطيطوس على السؤال، وعلى السؤال والجواب يبنى الحوار وتقوم المناقشة، أما السؤال «فما هي المعرفة؟» وأما جواب ثياطيطوس فهو أن «المعرفة هي الإدراك».
ولا شك في أن سقراط قد استخلص من جواب الشاب النابغة أن تعريفه الأولي للمعرفة مزيج من مذهب بروطاغوراس ومذهب أرسطبس فحاول ببداهته أن يخرج من الجواب اتجاها يدور من حوله الحوار، ويسد به على محاوره طريق الخلوص إلى ما يريد من تقرير نظرية القورينيين، فيتجه فكره توا إلى أن في الجواب شطرا يمكن التسليم به، وشطرا آخر فيه تناقض عقلي، وأن الشطر الثاني إذا أعير ما هو جدير به من الاعتبار ذهب بكل أساليب المعرفة وبددها، ولا شك في أن هذا التناقض العقلي يذهب فيما يذهب به، بالشطر الذي يمكن التسليم به من تعريف ثياطيطوس.
أما التناقض العقلي الذي استخلصه سقراط من هذا التعريف المجمل للمعرفة؛ فيرجع إلى أن القول بأن الإدراك هو المعرفة أو أن المعرفة هي الإدراك يجر العقل حتما إلى التسليم بأن شخصا ما؛ يمكن أن يعرف ولا يعرف في آن واحد.
والمثل على هذا أن شخصا ما «إذا سمع» ألفاظا من لغة غريبة عنه، فإنه «يدرك» الألفاظ، ولكنه لا «يعرف» ما تحمل من المعاني، فإدراكه الجرس اللفظي يمكن أن يعتبر «معرفة»، وجهله المعاني يمكن أن يعتبر «لا معرفة»؛ فهو «يعرف» و«لا يعرف» في الوقت نفسه. وكذلك إذا «دعا» الإنسان لفكره مدركا من المدركات التي لم يكن يعرفها، فقد يمكن أن يقال إنه «يعرف»، وبمعنى آخر إنه «لا يعرف».
أما المعنى المجمل في التعريف فيتضمن احتمالين:
الأول:
القول بأن «ملكة الإدراك» هي الملكة الوحيدة التي تستخدم لاستيعاب المعرفة، وفي هذا إنكار لملكة أخرى، أظهر في صفاتنا العقلية من الإدراك، هي ملكة «التذكر» أو بالأحرى «الذاكرة».
والثاني:
أن مادة الإدراك هي المادة الوحيدة التي تتكون منها المعرفة.
ولا شك في أنه ليس من شأننا هنا أن ندرج إلى التفاصيل ومناقشة الآراء، ويكفي أن نشير إلى حقائق لا يجب أن تغيب عن ذهن الباحث:
الأولى:
أن أفلاطون بعد أن يخلص من مناقشة التعريف الأول، يلجأ إلى تعريف ثان، محصله أن «التصور الصحيح (كالآراء والعقائد) هو المعرفة»، وبعد أن يمضي في مناقشة هذا التعريف، ويدلف إلى القول بأن الآراء الصحيحة تناقضها الآراء الفاسدة، وأن العقائد الصحيحة تناقضها العقائد الفاسدة، يخلص من هذا التعريف إلى تعريف ثالث - بعد أن يمهد له بمناقشات طويلة - مجمله أن «المعرفة عبارة عن آراء صحيحة يؤيدها الإيضاح».
الثانية:
أن كثيرا من المؤلفين يعتقدون أن هذا الحوار برمته لا أصل لوقائعه، وإنما هو من وضع أفلاطون؛ إذ حاول أن يناقش فيه كل الاحتمالات والنواحي التي تؤدي إليها نظرية المعرفة عند القورينيين.
الثالثة:
أن تأثير المذهب القوريني في نواحي الفكر قديما وحديثا كان شاملا، وأن إهمال ذكر مؤسسه ورجاله كان مقصودا؛ لأسباب سوف ندلي بها في موضع آخر.
الرابعة:
أننا لا نثبت هنا شيئا ضد رأي القورينيين، ولا ننفي شيئا من نقد أفلاطون، وإنما نبقي على هذا إلى ما سوف نكتب في شرح نظرية المعرفة القورينية.
أرسطبس وأفلاطون في كتابه «بروطاغوراس»
في كتاب أفلاطون الذي سماه «بروطاغوراس» موضعان يصح أن نرجع إليهما في هذا البحث: الموضع الأول: وزن اللذة والألم، والموضع الثاني: هيدونية أفلاطون.
أما الموضع الأول فقد ألمعنا إليه عند الكلام في أرسطبس وجرمي بنتام (في الفصل الثالث) إذ أثبتنا ما يلي:
وعلى هذا يصبح «فن الحياة» عبارة عن ضرب من الأقيسة والاستنتاجات الهادئة على الصورة التي استنتجها أفلاطون في آخر كتابه بروطاغوراس، وهي صورة حقة تقوم على فلسفة سقراط، ولكن أفلاطون لم يؤمن بما استنتج من فلسفة أستاذه، إيمانا صريحا كاملا.
ولأفلاطون في كتابه «بروطاغوراس» اتجاهان، ففي أولهما يتجه إلى الكلام في الفضيلة، أما في الثاني فينصرف إلى وزن اللذة والألم، ولعله في هذا الموطن قد استنتج من فلسفة أستاذه سقراط كل ما استنتج خدنه وقرينه أرسطبس، على أنه لا يبعد أن يكون أفلاطون قد تأثر باستنتاج أرسطبس المباشر في فلسفة اللذة، فوعى بعض ما يترتب عليها من النتائج، فلما وصلت المناقشة في كتاب «بروطاغوراس» إلى موقف يؤدي منطقا إلى فكرة أرسطبس، لم يكن من مندوحة أن يبرز الوعي الذي وعاه أفلاطون من فلسفة خدنه، ويظهر في ميدان الصراع الفكري فتصبح الحياة عند أفلاطون «فنا» ويكون هذا الفن ضربا من الأقيسة والاستنتاجات الهادئة.
ولكن كيف تدرج البحث ليصل إلى هذه النتيجة؟ كان أول التدرج في البحث، أن سقراط حاول أن ينقض قولا «سوقيا» يتلخص في أن الإنسان يخطئ مختارا، وأنه يعرف «الخير»، ولكنه يتنكب الخير باختياره إذا استقوت عليه «اللذة» أو بعض الشهوات الأخرى كالغضب أو الخوف أو الحب أو الحزن، ويأخذ بعد ذلك سقراط في محاولة أخرى يريد أن يخلص من طريقها إلى البرهنة على أن «للعقل» السلطة العليا، والمنزلة الأولى في توجيه سلوك الإنسان، وعلى هذا يوافق بروطاغوراس.
غير أن موافقة بروطاغوراس على قول سقراط هذا، تسوق المناقشة إلى أفق آخر، يدلف فيه سقراط إلى بحث فكرة شائعة مجملها أن الإنسان غالبا ما يعرف «الشر» أنه «شر»، ولكنه يفعله، ويصف هذه الفكرة بأنها أضحوكة مزرية، ثم يحاول أن يبرهن على هذا، فيقول بأن كل إنسان إنما يعمل في سبيل الحصول على «أخير»
5
ما يتمنى لنفسه، وأن هذا يحمل الإنسان على أن يجعل اللذة موازنة للخير، والألم موازنا للشر، ومن هنا ينحصر عمله في الحصول على أكبر قسط من اللذة، وأقل قسط من الألم، ولذلك تراه يتفادى اللذائذ أحيانا، ما دامت تؤدي إلى آلام ترجحها، أما المعنى الذي نستنتجه من قول البعض بأن الإنسان إنما تستقوي على مشاعره اللذائذ، فإنه لا يدل في الحقيقة إلا على أن اللذائذ النزيرة ما دامت قريبة، وفي متناول اليد، تفضل دائما على اللذائذ العظيمة، ما دامت بعيدة التناول، والسبب في هذا أن قرب اللذائذ يضخمها، كما يضخم القرب الأحجام، وفي مثل هذه الحالات قد يخدع العقل وتفسد أحكامه، على أن الأخطاء التي قد تنتج عن خداع العقل، يمكن أن يتلافاها كل من في مستطاعه أن يزن، وأن يقيس وأن يقدر تقديرا صحيحا؛ حالات اللذة والألم، وعلى هذا يصبح السلوك الواجب اتباعه في الحياة، نوعا من الموازنات أو الأقيسة، وبالأحرى ضربا من الحكمة أو المعرفة. أما الحالة المضادة لهذه؛ وهي الحالة التي تستقوي فيها اللذة أو المشاعر على الإنسان وتستعبده، فما هي إلا الحمق والجهالة، ولا شك في أنها أدنى الجهالات جميعا.
ننتقل من ثم إلى الموضع الثاني لنتكلم في هيدونية أفلاطون، ولنبين عن اتجاهه التفكيري، ولنظهر الفارق بينه وبين أرسطبس من حيث النزعة والاتجاه.
يظهر أفلاطون في آخر كتابه «بروطاغوراس» شكه في أن اللذة والألم يشملان كل ما نعني «بالخير والشر» ويعقب على هذا بقوله: «إننا لا نقصد بالأغراض عادة إلا اللذائذ والآلام، وما يتعلق بهما من الميول والرغبات، وإن كل المخلوقات الحية إنما تعمل جاهدة في سبيل هذه الأغراض مدفوعة إليها بانفعالاتها.» ولهذا يمضي أفلاطون في تعداد اللذائذ والآلام، ويقارنها بعضها ببعض، من حيث عددها وامتدادها وقوتها، ثم يقول بأننا نختار الآلام الضئيلة، إذا ترتبت عليها لذائذ عظيمة، ولكنا لا نختار اللذائذ الضئيلة، إذا ترتبت عليها آلام عظيمة، وهنا يشير إلى الحالة السلبية في السلوك، وهي الحالة التي نختارها لتحل محل الألم، ولكنا نرفضها، إذا حاولت أن تحل محل اللذة.
ولقد حاول أفلاطون، بعد هذا، أن يثبت أن أمتع حالات الحياة حالة تنيلنا ذلك الثواب الذي نتطلع إليه جميعا، والذي ينحصر في أن ترجح مسراتنا أحزاننا، ولا شك مطلقا، في أن بين هيدونية أفلاطون وهيدونية أرسطبس، آصرة ونسبا قويا، ولكن الفارق ليس في العنصر الذي تقوم عليه هيدونية كل من هذين العلمين، بل في النزعة العقلية التي تدخل أفلاطون في حيز الآلهيين وأرسطبس في حيز الإنسانيين؛ فتجعل الأول ينظر في المثاليات، والثاني ينظر في الحقائق الواقعة.
أرسطبس وأفلاطون في كتابه «فليبوس»
أوردنا عند الكلام في «أرسطبس والكلبيين» (في الفصل الثالث) ما يلي: قصد «أفلاطون في كتابه «فليبوس
» أن يحاول وضع فواصل بين اللذائذ الحقيقية واللذائذ الخيالية، والموازنة بين الفكرات الحقيقية، والفكرات الخيالية، ويرجح أن أفلاطون لم يقصد بهذا البحث إلا الإشارة إلى موقف القورينيين الفلسفي.»
ثم أثبتا ما يأتي: «أما السبب الذي حمل أفلاطون وأرسطوطاليس على أن يقاوما مذهب أرسطبس، فيرجع إلى أن ابن قورينة كان قد بدأ يعلم الهيدونية في أبسط صورها، فقال إن اللذة هي الخير الأسمى، وإن غاية الإنسان يجب أن تتجه دائما وفي كل آن إلى الحصول على أكبر قسط منها، وجهد ما تصل استطاعته، وهذه الصورة البدائية غير المهذبة في المذهب الهيدوني؛ هي التي قاومها سقراط ونقلها عنه أفلاطون، وأثبتها في كتابه «فليبوس».»
هذه هي الفقرات القليلة التي أشرنا بها إلى كتاب فليبوس في البحوث السابقة، ولا شك في أن متابعة البحث في كتاب «فليبوس» واستخلاص المواضع التي يمكن أن يكون أفلاطون قد أشار فيها تلميحا أو توضحيا إلى موقف القورينيين الفلسفي، يدعونا إلى النظر في الكتاب بحيث نتدرج عند النظر فيه، من موقف إلى موقف، ما دام ذلك يسلم بنا إلى الكلام في ما نقصد إليه من هذا البحث.
ولهذا لا نجد مندوحة عن أن نمضي في البحث على طريقة ألفناها من قبل، وجرينا عليها في الكلام على كتاب «بروطاغوراس» وكتاب «ثياطيطوس».
إن العنصر الحقيقي الذي يؤلف صلب الحوار ينحصر في «الخير» أو كما سمي «الخير الأسمى»، ويقوم الحوار بين طرفين: أحدهما يؤيد أن الخير في «اللذة»، والآخر يؤيد أن الخير في «المعرفة».
ولا شك في أن أفلاطون في مثل هذا الموقف يجنح دائما إلى القول بأن المعرفة وحدها يمكن أن تكون مصدرا للسعادة، حتى إذا أغضينا عن كل ما يحتمل أن تنتجه من ممكنات اللذة، وعلى هذا لا تكون «المعرفة» منافية للذة على وجه عام.
غير أنه لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن القول بأن قياس المعرفة بالخير، وجعلهما متساويين من هذه الناحية، قول قد سبق به أفلاطون؛ لأنه يرجع في الواقع إلى مقررات «إقليدس الميغاري» الفلسفية، ثم نقله عنه الكلبيون، ولكن أفلاطون يحاول أن ينزل من قيمة هذه «الموازنة الفلسفية» فيقول بأن لا «اللذة» وحدها، ولا «المعرفة» وحدها، يمكنهما منفصلتين أن تنتجا السعادة، ذلك بأن السعادة دائما وحيثما وجدت، لن تكون إلا مزيجا منها.
وفي هذا الموقف يرجع أفلاطون إلى أسلوب كثر ما عمد إليه في كتابه «الجمهورية»، وهو أسلوب أقرب ما يكون إلى الأسلوب العلمي التحليلي، وبالأحرى أسلوب التفريق بين المعقولات ثم وزنها ومناقشتها، فهو يجرد حياة اللذة من كل ما يحتمل أن يمازجها من «الذكاء»، ويجرد الذكاء من كل ما يحتمل أن يمازجه من اللذة، ثم يقارن بعد ذلك كلا من الحياتين، إذا اتفق أن شخصا حاول أن يحيا إحداهما، فيبرهن على أن حياة اللذة لا تكفي المرء، بقوله إن الذاكرة وحياة الترقب (الأمل والرجاء وما إليهما) ينضبان أكبر نبع يمكن أن يفيض علينا باللذائذ، وإن شخصا - إذا اتفق وكان على ما وصف أفلاطون أو بالأحرى على ما تخيل - يصبح لمجرد إسفافه الشعوري؛ لا يفترق عن الحيوانات الدنيا، كالأصداف والحيوانيات البحرية.
وأما الناحية الأخرى - ويعني بها الحياة العقلية الصرفة (الذكاء) - فإذا لم يمسها ريح من اللذة والألم، فإنها لا تكون أكثر من جمود، يفقد معه الإحساس والشعور، ولا يحاول أفلاطون في هذا الموطن أن يحلل هذه الحالة التي تخيلها، وإنما يرفضها على أنها غير خليقة بالإنسان.
وبعد أن يفرغ أفلاطون من التدليل على ضرورة هذا التمازج يعمد إلى الكلام في القيمة النسبية التي تكون لكل من العنصرين، وهنا يضطر إلى أن يغوص بك إلى الأعماق القصية من «طبيعة الأشياء»، ولأول وهلة يسقط بك على أمرين معينين: اللامتناهي والمتناهي.
ولا شك في أن أفلاطون إنما يتأثر في موقفه هذا بالفيثاغوريين وبالفيلسوف «فيلولاوس
» وكان فيلولاوس هذا من معاصري سقراط، فيقرر أفلاطون أن كل شيء فيه كثافة يعتبر في حيز «اللامتناهي»؛ لأن درجات الكثافة تتضمن حقيقة الاستمرار في التجزئة إلى غير حد، أما كل الأقيسة والأعداد وكذلك الفكرات التي تتضمن بالضرورة أقيسة وأعدادا، فتدخل في حيز المتناهي، ومن تمازج الأصلين أو المؤثرين، أو بالأحرى الكائنين، اللامتناهي والمتناهي، ينتج كل ما ترى في الطبيعة من جمال وقوة وكل ما تلمح من نظام واطراد إلى غير ذلك مما يمكن أن تستبينه في الأشياء.
هنا ينتقل أفلاطون إلى أوج آخر يقرر فيه أن مزج المؤثرين اللذين ذكرناهما «اللامتناهي والمتناهي» ينتج مؤثرا ثالثا، ثم يضيف إلى هذه المؤثرات الثلاثة مؤثرا رابعا هو «العامل» الذي ينتج من امتزاج المؤثرين الأولين: «اللذة والمعرفة».
وبهذا يكمل أفلاطون مذهبه في المؤثرات أو «العوامل الأربعة» التي تتسلط على الكون كله، ومن ثم يضع قاعدة للمقابلة بين القيم
Values ، وعلى هذا يقضى بأن اللذة والألم ضربان من ضروب الأشياء «اللامتناهية» ولذا يضعهما في مرتبة أقل من مرتبة «المعرفة» التي هي عنده في المرتبة الأولى من الشأن؛ لأنها تدخل في حيز المتناهي.
ولا شبهة في أن تدرج هذا البحث كان لا بد من أن يجر أفلاطون إلى البحث في طبيعة اللذة والألم، فما هي اللذة؟ وما هو الألم؟ سؤالان لم نعثر فيما خلف أرسطبس على جواب لهما.
فإذا كانت اللذة عند أرسطبس حركة لطيفة، والألم حركة عنيفة، فما هي إذن طبيعة هذه الحركة، وكيف تحدث؟ ما هي أسبابها، وما هي نتائجها؟ أما أفلاطون فيجيب على هذين السؤالين؛ فيقول: إن الألم ظاهرة تصاحب انحلال الوحدة التي يحدثها تمازج المؤثرين الرئيسيين: «اللامتناهي والمتناهي» وإن اللذة ظاهرة تصاحب رجوع المؤثرين إلى وحدتهما.
ومن ثم يمايل بين اللذة والألم القائمين على الحالات الطبيعية، باللذة والألم الناتجين عن الترقب؛ أي القائمين على الحالات النفسية، ويدخل مع هذين حالة ثالثة؛ هي حالة الحياد الانفعالي، ويجعلها خاصة بالحياة العقلية، ولتساميها عن القدرة البشرية خص بها الآلهة، فإذا كانت في الإنسان، فلا أقل من أن تكون لها المرتبة الثانية من المراتب التي قسم بها أفلاطون مؤثراته هذه.
أما ما يستنتج أفلاطون من هذا البحث التركيبي الرائع فجملة نتائج نفسية لها روعتها، ولها فخامتها الجديرة بعقل الفيلسوف الآلهي.
يقول بأن «اللذة» الروحية - أي التي لا تختص إلا بالروح - تكيفها الذاكرة، غير أن مرمى «الذاكرة» لا يقتصر على تلك الآثار التي تؤثر في الأجسام وحدها، والتي تنمحي قبل أن تتصل بالروح، وإذن فلا بد من أن يتزود المرمى أو الهدف أو الغرض الذي تتحول نحوه الذاكرة بتلك «الخلجات» التي تتمشى خلال البدن والروح معا، والتي نسميها الأحاسيس، فإن هذه الأحاسيس تخزنها الذاكرة، وهذه الذكريات
Recollections
هي النبع الحقيقي الذي يفيض علينا باللذائذ الروحية؛ أي النفسية ، التي يميزها أفلاطون من اللذائذ التي تقوم على الرغبات، ولا ينكر أفلاطون مع هذا أن عنصرا نفسيا؛ أي روحيا، إنما يتغلغل في صميم الرغبات والميول الإنسانية، هو عنصر الترقب (الأمل والرجاء وما إليهما) ويقوم أصلا على الذاكرة من طريق علاقته بالشيء المرتقب، أو «المرغوب فيه»، ومن هنا تنتج اللذة، أو يحدث الألم بنسبة الأمل أو اليأس من الحصول على الرغبات أو الشك في الحصول عليها، ومع هذا فإن في الرغبات عنصرا أصيلا من عناصر الألم، لا فرار منه بحال من الأحوال.
ومن هنا يصل أفلاطون إلى الكلام في اللذائذ الحقيقية واللذائذ الخيالية، فتستقوى فيه روح الأديب الشاعر على روح العالم المتزن الذي عهدته في المقررات السابقة، فيقول بأن اللذائذ والآلام الخيالية إنما تأنسها في الأحلام، وهذه المفارقة لا يجب أن تنتزع منها روح التقدير السامي لتحليل أفلاطون الرائع حقيقة اللذة والألم.
والمحصل أننا لم نستطرد في هذا إلا لنظهر إلى أي حد بلغ تأثير المذهب القوريني في عصر أفلاطون وأرسطوطاليس، وإلى أي مدى تغلغل في أفكار العظماء.
أرسطبس وأفلاطون في كتابه «غورغياس»
لم تكثر الأوهام في كتاب من كتب أفلاطون، كما كثرت في كتاب «غورغياس»، وهذا على قدر ما أستطيع أن أحكم من دراسة أولية لهذا الكتاب، غير أن الذي يهمني الرجوع إليه في هذا الموطن وهمان، حاول أفلاطون أن ينقض بهما النظرية الهيدونية.
أما الوهم الأول فقول أفلاطون: إن اللذة ينبغي أن لا تعد من الخيرات أو من الأشياء الطيبة؛ لأنها إذا عدت من الخيرات أو من الطيبات إذن لوجب أن يكون للأخيار منها أكبر نصيب؛ لأن وسمهم بالخير، إنما يكون لأنهم يساهمون في الخيرات.
وأما الوهم الثاني: فيرجع إلى الطريقة التي حاول أن يدلل بها على الوهم الأول، فقد ذهب في هذا التدليل مذهب أن نصيب الرجل الطيب من اللذة أقل من نصيب الشرير، ونصيب الرجل الشجاع منها أقل من نصيب الجبان، وأن الطيبين والشجعان ينالهم من الألم أكثر مما يصيب الآخرين منه، وعلى هذا النهج يمضي أفلاطون في هذا الموضع من الحوار فيجري في الأكثر على طريقة خطابية تؤدي إلى ضعف بين في أسلوب البرهنة الذي اتبعه لينقض الهيدونية.
أما ما يستلفت نظر الباحث في كل هذا؛ فحقيقة أن عقول الفلاسفة كانت قد اتجهت في ذلك العصر إلى وزن الهيدونية وتقويمها من كل نواحيها، وفي هذا دليل أوفى على ما كان لها من أثر وشأن في مذاهب الفلسفة القديمة.
أرسطبس وأرسطوطاليس
جاء فيما كتبنا في «الرسول الجديد» (الفصل الثالث) ما يلي:
غير أننا إذ نرى أن شابا من أفذاذ العالم الإنساني - لا من أفذاذ اليونان وحدهم، ومن معاصري أرسطبس - درس نظرياته ومبادئه لا على وجه التعميم، بل على وجه الاختصاص، وأنه ناقش فيها، ونقد بعض الأسس التي تقوم عليها؛ يذهب من روعنا كل شك في أن مذهب أرسطبس ونظرياته قد كتبت وجمعت بين دفتي كتاب أو ضمنت صفحات كتب عديدة، وإن ثقتنا بهذا القول تصبح في موطن اليقين، إذا عرفنا أن ذلك الشاب الذي عاصر فيلسوفنا في أخريات أيامه، هو المعلم الأول أرسطوطاليس لا أحد غيره.
ولقد يجمل بنا أن نذكر أن أرسطبس كان يعلم تلقاء أجر، وأن هذا كان سببا في أن يلحقه أرسطوطاليس بالسفساطئيين، فلما أهمل أرسطوطاليس ذكر أرسطبس في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخس» ولم يذكر من أتباعه إلا أودكسس الهيدوني المتقشف، وذلك عندما شرع ينقد مذهب القورينيين الأخلاقي، ويناقش في مبادئ المذهب تفصيلا وجملة، من غير أن يعير الأشخاص أي التفات، ذهب بعض النقاد ممن ينظرون في تاريخ المذاهب الفلسفية إلى القول بأن أرسطوطاليس لم يذكر أرسطبس بالاسم إلا احتقارا لشأن السفسطائيين، الذين كان يعتقد أن أرسطبس واحد منهم، غير أن عندي بعض تقديرات أخرى يمكن أن يعزى إليها تعمد أرسطوطاليس إهمال ذكر الفيلسوف القوريني العظيم أعددها هنا إتماما لفائدة البحث.
أولا:
أن أرسطوطاليس ناقش في أكثر من مذهب في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخس» فكان أقل المؤلفين ذكرا لأسماء الفلاسفة وأصحاب المذاهب التي ناقش فيها.
ثانيا:
أنه كان يعنى بالفكرات والنظريات دون أصحابها، فإنه على كثرة ما ناقش في مبادئ المذهب القوريني لم يذكر اسم أودكسس إلا عرضا.
ثالثا:
أرجح أن أرسطوطاليس لم يذكر أودكسس في كتابه إلا لأن هذا الفيلسوف كان من القورينيين نسيجا وحده، فإنه كان هيدونيا من أصحاب اللذة، وفي الوقت ذاته متقشف يدعو إلى المثل العليا على نفس القاعدة التى دعا بها أرسطوطاليس.
رابعا:
أن علاقات أرسطبس الشخصية بأهل زمانه، مما لا يجعل للصداقة بينه وبين أرسطوطاليس من محل، فإنه كان محررا من كثير من قيود العرف التي يقدسها أرسطوطاليس، وكان إباحيا بعض الشيء كما يستدل على هذا من علاقته ب«لايس» القورنثية، إحدى خليعات أثينا بل ومن خليعات التاريخ اللاتي يذكرهن أصحاب التراجم والموسوعات الكبرى؛ لبعد صيتها في الخلاعة، حتى لقد ضرب المثل بها في التبذل، فقد ثبت أن أرسطبس كان من عشاقها ومخالطيها المعروفين.
فإذا أضفنا إلى هذه التقديرات أن أرسطبس كان يعلم بأجر، فعده أرسطوطاليس من السفسطائيين؛ عرفنا على الإجمال السر في أن يعنى أرسطوطاليس في كتابه بالمذهب دون صاحبه.
وهذا يدل أوضح دلالة على أن أرسطو كان يقدر أرسطبس كفيلسوف، فناقش في مذهبه وترك اسمه، وأظن أن مجمل هذه التقديرات يكفي لتعليل السبب في أن يهمل المعلم الأول ذكر القوريني العظيم.
أما الوجوه التي ناقش فيها أرسطوطاليس مذهب أرسطبس، فنمضي في ذكرها متخذين من المصادر التي بين يدينا - على قلتها - عمدة في البحث.
وقبل أن نمضي في هذا أرى أن أنبه إلى حقيقة تؤيدها كثير من المرجحات ولا يجب أن تغيب عن ذهن الباحث، وهذه الحقيقة هي أن أرسطوطاليس ناقش في أبسط صورة لابست مذهب أرسطبس، والواقع أنه نقد الناحية التي قال فيها أرسطبس بأن اللذة هي الخير الأسمى، وأن غاية الإنسان يجب أن تتجه دائما وفي كل آن إلى الحصول على أكبر قسط منها، وجهد ما تصل استطاعته، ولا ريبة في أن هذه الناحية هي التي نقدها من قبل سقراط، وهي بعينها الناحية التي نقدها من بعد أفلاطون، وهي بعد هذا كله صورة المذهب البدائية .
على أن هنالك ظاهرة أخرى يجب أن نعيها، فإن نقد سقراط كان عاما مجملا، ونقد أفلاطون كان نتفا، فظهر مفرقا بين كتب عديدة، كما تناول نواحي مختلفة من مذهب أرسطبس، ولذا تناوبت عليه حالات من القوة والضعف، والبيان والغموض، ونهوض الحجة مرة وسقوطها أخرى، أما نقد أرسطوطاليس فكان أقرب ما يكون إلى النقود التي استولت عليها الروح الأكاديمية العميقة، على الرغم من أنه تناول النواحي الأولية البدائية من المذهب، ولا شك مطلقا في أن هذا التدرج كان يتبع تدرج المذهب نحو النضوج، كما أني لا أشتبه مطلقا في أن المذهب إنما نضج بعد عصر أرسطوطاليس، وبعد موت أرسطبس.
لهذا أعتقد أن نقد المذاهب الفلسفية والعلمية إنما يكون أقرب إلى الكمال إذا وجه إليهما بعد أن تلابسها أنضج الصور، وأن المذاهب - فلسفية كانت أم علمية أم أدبية - يجب أن يعاد النظر فيها بين حين وحين، شأنها في ذلك شأن التاريخ.
ذلك بأن تطور الاتجاهات العقلية، ونشوء المبتكرات واتساع أفق المعرفة، كل هذه وسائل تجعلنا أقدر على فهم النواحي الغامضة من المذاهب القديمة، زد إلى هذا أن رواد الفكر يحصرون عن تبين الحقائق تماما، وهم لا يرون منها إلا ما يرى الخائف الوجل في مفازة موحشة، فقد تتراءى له خيالات وأشباح تتصارع في نهاية الأفق، ولك أن تصور لنفسك بعد هذا إلى أي حد يصل جهد الرائد ليستخلص الحقائق من الخيالات، ويتبين الأجسام المادية من الأشباح، والنقد الذي يوجه إلى المذاهب التي يضعها الرواد، لا يخلص من الشوائب التي لن تسلم منها المذاهب المنقودة ذاتها عند أول وضعها، وإذن يكون ما في نقد المذاهب الناشئة من ضعف واضطراب؛ راجعا - في أكثر الأمر - إلى ضعف عناصر المذاهب المنقودة ذاتها.
أما إذا أردنا أن نستخلص حقيقة العلاقة بين مذهب أرسطوطاليس الأخلاقي، وبين فلسفة أرسطبس فواجب علينا أن نمضي في ذكر الوجوه التي تثبت العلاقة والآصرة بينهما في أخلاقيات أرسطوطاليس، وأن ننقل عن المعلم الأول أخص ما يتصل من فلسفته الأخلاقية بمذهب الفيلسوف القوريني، ونستطرد في الموازنة بينهما كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ولنبدأ بمعقول السعادة عند أرسطوطاليس، نقلا عن كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخس»، ترجمة أستاذنا الكبير أحمد لطفي السيد باشا، عن الباب الرابع جزء أول، ص189-195.
بدأ أرسطوطاليس ببيان ما هو الخير، فقال بأن الخير يختلف باختلاف العمل، وتبعا لاختلاف الفنون، فهو في الطب غيره في الفنون العسكرية، فإن كان الخير في الطب هو الصحة، وفي الحركات العسكرية هو الظفر، فهو في البيت فن العمارة، وهو غرض آخر في فن آخر؛ إذن فالخير هو عبارة عن الغاية التي تبتغى، ومن أجل هذه الغاية يعمل الإنسان باستمرار كل الأشياء التي تؤدي إليها. ولكل إنسان غاية تتجه إليها أعماله، وهذه الغاية هي الخير الذي يستطيع الإنسان أن يتعاطاه، فإذا وجدت عدة غايات فمجموعها هو الخير، ثم يقول: «إن للإنسان غايات عديدة في الحياة، على أن أكثر هذه الغايات ليست كاملة ولا نهائية بأعيانها، على حين أن الخير الأعلى كامل ونهائي، والخير الكامل النهائي هو الخير الذي نبحث عنه، وإذا وجدت عدة غايات تتقارب من حيث كمالها ونهائيتها، فإن الأشد نهائية من بينها هو الخير الأسمى.» «الخير النهائي هو الذي يطلب لذاته وحده، أما الخير الذي يطلب من أجل غيره، فليس كذلك، وبهذا يكون الخير الذي يبحث عنه لأجل ذاته، هو الخير الكامل، الخير النهائي، الخير التام، وهو لذلك يكون مطلوبا لذاته وليس من أجل شيء سواه.» «إن خاصية الخير الأسمى على ما شرحناه، هو خاصية السعادة عند أرسطوطاليس؛ فمن أجلها ولأجلها دائما، يعمل الإنسان ويبحث، فإذا طلب الإنسان التشاريف واللذة، والعلم والفضيلة، على أي شكل كان، فإنه إنما يبغى هذه المزايا بصرف النظر عن كل نتيجة أخرى، ولكنه مع ذلك يرغب فيها أيضا من أجل السعادة باعتبار أن هذه وسائل تحقق السعادة التي هي كاملة ونهائية، ذلك في حين أنه قد يتصور إنسان أنه يبغي السعادة باعتبارها الموصلة إلى هذه المزايا، فهذه المزايا إذن وسائل يرغب فيها لذاتها، لتكون طريقا إلى غرض أسمى هو السعادة.» «هذه النتيجة تتضمن معنى الاستقلال الذي نسنده إلى الخير الكامل؛ أي الخير الأعلى، ومن الواضح أن أرسطوطاليس يعتقد أن هذا الخير الأعلى سيستقل عن كل شيء، ولكنه لا يعني بالاستقلال استقلال الإنسان الذي يحيا حياة العزلة وحده، بل يعني أيضا الإنسان الذي يحبها لأهله وأولاده وزوجه، وعلى العموم، لأصدقائه ومواطنيه ، ما دام الإنسان بطبعه كائنا اجتماعيا سياسيا، وهذا المقياس يلزم معرفة التزامه عند أرسطوطاليس.» «لما كانت السعادة أكبر الخيرات؛ أي الخير الأعلى كان من الطبيعي أن يرغب الإنسان في معرفة طبعها بما هو أكثر جلاء.» «إن الوسيلة الأكيدة للحصول على السعادة، إنما هي العلم بما هو العمل الخاص بالإنسان، والإنسان إنما يجد الخير في عمله الخاص إذا كان ثمة عمل خاص، يجب على الإنسان أن يتمه، وكما أن العين واليد والرجل، وعلى العموم كل جزء من أجزاء البدن؛ يؤدي وظيفة خاصة، ولكن ما عسى أن تكون الوظيفة المشخصة للإنسان؟» «أن يعيش الإنسان، تلك وظيفة عامة، يشترك فيها الإنسان حتى مع النباتات، ولكن البحث هنا يتعلق بحياة الإنسان التي لا يشترك فيها مع شيء من الموجودات الحية؛ إذن يجب أن يخرج من حد البحث في التغذية والنمو، وعلى أثر هذا تأتي حياة الحساسية، ولكن هذه الحياة تشترك فيها أحياء أخر.» «يبقى إذن حياة العمل للكائن الموصوف بالعقل، ولكن في الكائن العاقل جزءان يجب التمييز بينهما، الجزء الذي لا يزيد عن أن يطيع العقل، والجزء الذي هو حائز للعقل وينتفع به في الفكر، وإذن تكون الوظيفة الخاصة بالإنسان هي فعل النفس مطابقا للعقل، أو على الأقل فعل النفس الذي لا يمكن أن يتم بدون العقل، وإذا كان هذا حقا؛ أمكننا أن نسلم بأن العمل الخاص للإنسان - على وجه العموم - هو الحياة من نوع ما، وأن هذه الحياة الخاصة هي فاعلية النفس واستمرار أفعال يصاحبها العقل.» «يمكننا أن نسلم بأن هذه الوظائف في الإنسان الراقي تتم حسنا وبانتظام، لكن الخير والكمال في كل شيء يختلف تبعا للفضيلة الخاصة بهذا الشيء، والنتيجة أن الخير الخاص بالإنسان هو فاعلية النفس التي تسيرها الفضيلة فإذا كان يوجد عدة فضائل فالفاعلية المسيرة بأرفعهن وأكملهن.» «وإذن يكون الخير الأعلى الذي يجدر بالإنسان أن ينشده هو فاعلية النفس، على أن تكون هذه الفاعلية مقودة بالفضيلة، فإذا تعددت الفضائل وجب أن تتبع الفاعلية أرفع هذه الفضائل، ومن هذا يتكون معنى السعادة عند أرسطوطاليس.»
وهنا يرد أرسطوطاليس من طرف خفي على أرسطبس فيقول:
زد على هذا أيضا أن هذه الشروط يجب أن تحقق طوال حياة تامة بأسرها؛ لأن خطافة واحدة لا تدل على الربيع، لا هي ولا يوم صحو واحد، فلا يمكن أن يقال: «إن يوم سعادة واحد، بل ولا بعض زمن من السعادة؛ يكفي لجعل الإنسان سعيدا محظوظا.»
ويظهر أول شيء أن أرسطوطاليس إنما يقرر بما قال مذهبه في السعادة ومعقولها المجمل عنده، ولكن الباحث الذي يريد أن يستطرد في الموازنة بين المذاهب، ويستقرئ من بين السطور حقيقة ما ترمي إليه أجزاؤها من الأغراض النهائية، لا يشك لحظة واحدة في أن أرسطوطاليس إنما يوجه مجموع جهده العلمي والنظري إلى نقض القاعدة الطبيعية التي يقوم عليها مذهب القورينيين الأخلاقي، والواقع - كما قلنا من قبل - أن أرسطوطاليس ينشد المثل العليا والنهايات والغايات، فمذهبه وصفي أكثر منه علمي.
وكيف لا يكون كما وصفنا، وهو يشترط للسعادة شروطا مثالية، ثم يقضي بأن هذه الشروط يجب أن تتحقق طوال حياة تامة بأسرها، فلو استطاع إنسان أن يحيا حياة سعيدة - كما يبغيها أرسطوطاليس - وتعذر عليه برهة واحدة أن يراعي شرطا من شرائطها، خرج عنده من حظيرة السعداء.
أضف إلى هذا أنه يمثل للسعادة بالربيع، ويقول: إن خطافة واحدة لا تدل عليه، وما «الخطافة» عند أرسطوطاليس إلا لذة الساعة عند أرسطبس، فأرسطوطاليس يقول بأن الحياة السعيدة عنده يجب أن تكون ربيعا صحوا، تسبح في جوه خطاطيفه، وتسطع شمسه على الدوام، أما عند أرسطبس فالأمر على خلاف ذلك، فإن خطافة واحدة عنده تدل على جزء من الربيع، فينبغي للرجل الحكيم ألا يترك خطافة الربيع تفلت من يده، بل ينبغي له أن يعمل طوال حياته على أن يقتنص أكبر عدد ممكن من خطاطيف الربيع، حتى إذا زاد عدد الأيام التي يسعد فيها بالاقتناص على عدد الأيام التي لا يسعد فيها بخطافة؛ استطاع بعد ذلك أن يقول: «إني حييت حياة رجحت لذاتها على آلامها.» وهذا هو معقول السعادة عند أرسطبس ، ولا شك أن في هذا المذهب من الإمكان بقدر ما في مذهب أرسطوطاليس من الاستحالة.
زد إلى هذا أن أرسطوطاليس يعلق السعادة بل ويعلق كل مفهوم الأخلاق؛ على مجهولات، فما هي الفضيلة؟ وما هو الخير؟ وما هي فاعلية النفس التي تسيرها الفضيلة؟ كل هذه عند أرسطبس إنما تعود إلى شيئين ثابتين في النفس الإنسانية، هما: «الحس» في نظرية الأخلاق، و«إدراك الحس» في نظرية المعرفة.
يتكلم أرسطوطاليس بعد الذي ذكرناه في السعادة والفضيلة ليفصل حالاتهما، ويصنف مراتبهما، ويصف ضروب النزعات العقلية فيهما، ثم يعمد في خلال ذلك إلى الكلام في ثلاثة أشياء عينها، هي: «الخيرات» و«عناصر النفس» و«الاستعداد الأخلاقي»، فلنمض في نقل نتف من مذهبه تؤدي إلى ما نقصد إليه من البحث.
في الباب السادس من كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخس» ج1، ص198-199، يقسم أرسطوطاليس الخيرات ثلاثة أنواع: خيرات خارجية، وخيرات النفس، وخيرات البدن، غير أنه يقول: «إن خيرات النفس هي التي نسميها على الأخص وعلى الأفضل خيرات.» ثم يقول:
إن الإنسان السعيد يلتبس عادة بالإنسان الذي يسير سيرة حسنة ويفلح، وما يسمى إذا بالسعادة هو ضرب من الفلاح والصلاح.
حينئذ جميع الأركان المطلوبة عادة لتكوين السعادة يظهر أنها مجتمعة في الحد الذي وفيناه لها؛ لأن عند هؤلاء السعادة هي من الفضيلة، وعند أولئك هي من التبصر، وعند البعض هي الحكمة، وعند آخرين هي كل ذلك مجتمعا، أو شيء من ذلك يضم إليه اللذة، أو على الأقل ليس مجردا من اللذة، ومنهم آخرون يريدون أن يدخلوا في هذه الدائرة - التي قد تبلغ من السعة هذا المبلغ - وفرة الخيرات الخارجية.
وجاء في كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخس» ص178-179 جزء أول الباب الثاني ما يلي:
ليس - على رأينا - خطأ تاما أن يتخذ الإنسان له معنى من الخير ومن السعادة، بما يلقى من العيشة التي يعيشها هو نفسه، فالطبائع العامية الغليظة ترى أن السعادة في اللذة، ومن أجل هذا هي لا تحب إلا العيشة في ضروب الاستمتاع المادي، ذلك في الحقيقة أنه لا يوجد إلا ثلاثة صنوف من المعيشة يمكن على الخصوص تمييزها، أولها هذه العيشة التي تكلمنا عليها آنفا، ثم العيشة السياسية أو العمومية، وأخيرا العيشة التأملية أو العقلية.
وإن أكثر الناس - على ما يظهر - هم على الحقيقة عبيد يختارون بمحض ذوقهم عيشة البهائم، وأن ما يعطيهم في ذلك بعض الحق، ويبرر لهم فعلهم فيما يظهر؛ هو أن العدد الأكبر من أولئك الذين لهم السلطان لا ينتفعون به إلا في أن يسلموا أنفسهم إلى الإفراطات.
على الضد من ذلك، العقول الممتازة النشيطة حقا تضع السعادة في المجد؛ لأن هذا في الغالب هو الغرض العادي للحياة السياسية غير أن السعادة مفهومة على هذا النحو، هي أكثر سطحية وأقل متانة من تلك التي يزمع البحث عنها هنا.
فإن المجد والتشاريف يظهر أنها ملك أولئك الذين يوزعونها، أكثر من أن تكون للذي يتقبلها، في حين أن الخير كما نعلنه هو شيء شخصي محض، ولا يمكن إلا بغاية الصعوبة نزعه عن الرجل الذي هو حاصل عليه، وأزيد على هذا أن الإنسان في الغالب لا يظهر عليه أنه لا يطلب المجد إلا ليتثبت هو نفسه من «المعنى» الذي يتخذه من فضيلته الخاصة. ا.ه.
وما حملنا على أن نذكر هذه العبارة هنا إلا ذلك التقسيم الذي يقسمه أرسطوطاليس لضروب العيشة؛ لأن قوله بأنه لا يوجد إلا ثلاثة صنوف من العيشة: أولها: عيشة الاستمتاع بضروب الملذات المادية، وثانيهما: العيشة السياسية أو العمومية، وثالثها: العيشة التأملية أو العقلية، لها علاقة وآصرة بتقسيم أرسطبس الذي وضعه لضروب اللذة.
على أننا سنعود بعد ذلك إلى المقابلة بين تقاسيم قال بها أرسطوطاليس في الخيرات وعناصر النفس والاستعداد الخلقي، وبين تقسيم أرسطبس للذة، ولم نشأ أن ندخل فيها تقسيم أرسطوطاليس لضروب المعيشة؛ اكتفاء بالإشارة هنا إلى ذلك. •••
كل ما ورد عن أودكسس في كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخس» وقع تحت عنوان «نظرية أودكسس البديعة على اللذة»، ويسبق هذا كلام في أن السعادة أولى بالاحترام لا بالمدح، وأن طبيعة الأشياء التي يمكن مدحها هو دائما إضافي وتبعي، وإليك ما جاء في كتاب أرسطوطاليس ص217-218، ج1 من الباب العاشر:
إذا كانت هذه هي الأشياء التي ينطبق عليها المدح فمن الجلي أنه لا ينطبق البتة على الأشياء الأكمل، ففي حق هذه، ينبغي شيء أكبر وأحسن من المدح، ودليل ذلك هو أننا نعجب بسعادة الآلهة وبركتهم، كما أننا نعجب بسعادة أولئك الناس الذين هم بين أظهرنا أقرب إلى الآلهة، وكذلك نصنع بالنسبة للخيرات، ولا أحد يفكر في أن يثني على السعادة كما يثني على العدل، بل يعجب بها كما يعجب بالشيء الأقدس والأحسن.
وهذا ما أجاد أودكسس إيضاحه ليبرر إيثاره اللذة، وبملاحظة أنه لا يثني على اللذة، ولو أن اللذة خير، كان يظن أودكسس أنه يستطيع أن يستنتج من ذلك أن اللذة هي فوق هذه الأشياء التي يمكن الثناء عليها، كما هو الشأن في حق الله والكمال، اللذين هما الغايتان العلييان اللتان يرجع إليهما كل ما عداهما. •••
كذلك نجد أن أرسطبس أقرب إلى مناهج العلم الحديث من أرسطوطاليس، فإنك إذا رجعت إلى (الفصل الخامس) من هذا المؤلف واستوعبت ما كتبنا في «تأصل مشاعر الغيرية ومذهب پافلوف» تجد أن مذهب أرسطبس، وبالأحرى مذهب بعض رجال المذهب القوريني، قد قارب الأوضاع العلمية الحديثة في تحول الغرائز. لذلك ننقل عبارة عن «أخلاق» أرسطوطاليس نتخذها أساسا للموازنة، قال في ص225-226، ج1، الباب الأول من الكتاب الثاني:
لما أن الفضيلة على نوعين: أحدهما عقلي والآخر أخلاقي، فالفضيلة العقلية تكاد تنتج دائما من تعليم إليه يسند أصلها ونموها. ومن هنا يجيء أن بها حاجة إلى التجربة والزمان، وأما الفضيلة الأخلاقية فإنها تتولد على الأخص من العادة والشيم، ومن كلمة الشيم عينها بتغيير خفيف، اتخذ الأدب اسمه المسمى به.
والمتبادر من عبارات أرسطوطاليس أن الفضيلة العقلية والفضيلة الأخلاقية كلتاهما تحتاجان إلى عنصرين خارجين عن طبيعة الإنسان إلا قليلا، وهما: التجربة والزمان للأولى، والعادة والشيم للثانية. ولولا أنه ذكر «الشيم» لجاز لنا أن لا نحتاط وأن لا نقول إلا قليلا.
أما إذا رجعنا إلى ما كتبناه عن الفيلسوف أنقريز (الفصل الخامس) فإننا نجد أن هذا الفيلسوف قد وصل إلى حقيقة نفسية (سيكولوجية) صحيحة، مجملها أن مشاعر الغيرية مهما كانت مصادرها وأصولها تحرز - تدرجا - قوة مستقلة خاصة بها، وأن هذه المشاعر تحتفظ بتلك القوة حتى ولو لم تتزن مع اللذة، وقد ذكرت أن كلام أنقريز يتضمن تفسيرا رائعا لحقيقة الأفعال العكسية المتحولة، وهو المذهب النفسي الذي أدخله پافلوف الروسي، في حيز العلم ببحوثه وتجاريبه.
ولا شك في أن أرسطوطاليس إذا كانت قد عنت له فكرة في «الفضيلة» تشابه فكرة أنقريز في «مشاعر الغيرية» لثبت رأيه في الفضيلة ثبوتا قاطعا، ولكنه يعتقد أن «أشياء الطبع» - ويقصد بها «أشياء الغرائز» - ضرورة لا يمكن بفعل العادة أن تصير أغيار ما هي كائنة، فقال تعقيبا على العبارات التي نقلناها عنه ما يلي:
لا يلزم أزيد من هذا، ليبين بوضوح أنه لا توجد واحدة من الفضائل الأخلاقية حاصلة فينا بالطبع، إن أشياء الطبع لا يمكن بفعل العادة، أن تصير أغيار ما هي كائنة، مثال ذلك الحجر الذي يهوي إلى أسفل لا يمكن أن يأخذ عادة الصعود، ولو حاول المرء تصعيده مليون مرة، لما طبع على هذه العادة، والنار لا يمكن كذلك أن تتجه إلى أسفل، ولا يوجد جسم واحد يمكن أن يفقد خاصيته التي تلقاها من الطبيعة ليتخذ عادة مخالفة.
حينئذ فالفضائل ليست فينا بفعل الطبع وحده، وليست فينا كذلك ضد إرادة الطبع، ولكن الطبع قد جعلنا قابلين لها، وإن العادة تنميها فينا. ا.ه.
وإذا تأملنا في هذه العبارة وجدنا أن فيها مآخذ:
الأول:
أن أرسطوطاليس قاس طبيعة الجوامد على صفات الأحياء ومنها الإنسان، فقال: إن الحجر الذي يهوي إلى أسفل، لا يمكن أن يأخذ عادة الصعود، في حين أن الأحياء فيها أشياء زائدة على ماهية الجوامد جعلها حية وجعل لها خصائص وكيوفا غير تلك.
الثاني:
أنه يقول: إن الفضائل ليست فينا بفعل الطبع وحده، وإنها كذلك ليست فينا ضد إرادة الطبع، على أن قوله هذا يستتبع القول بأن الرذائل لا تخرج عن حكم ذلك، فكأنه أراد بهذا أن يقول إن الطبع في أصله صفحة نقية بيضاء، تقبل الفضائل والرذائل، وأن هذه تنمو فينا بحكم العادة وحدها، وهذا المذهب لا يقره عليه عالم واحد من علماء النفس؛ لأن الطبع يولد وفيه آثار ثابتة من الوراثة أو على الأقل من الميل إلى اللذة والفرار من الألم، وأن الطبيعة نفسها تستخدم هذا الطبع الأصيل في الأحياء العليا ليكون أداتها في تسيير المخلوقات، والاحتكام فيها بما يكفل لها الوصول إلى النتائج التي ترمي إليها النواميس الجبرية.
الثالث:
أن القول بأن العادة وحدها هي التي تنمي الفضائل وتتمها قول واسع غير محدود، لا من ناحية الاصطلاح اللفظي، ولا من ناحية المعنى المدرك منه، ولو كان للعادة من الأثر بقدر ما يقول أرسطوطاليس، لكفت المثل والمثلات أن تكون أبلغ الأشياء أثرا في غرس الفضائل في النفوس، ولكنا نرى أن الأكثرين لا ينتفعون بأرقى المثل ولا يكادون يزدجرون بأقسى المثلات كما يقول أرسطوطاليس نفسه.
تكلم أرسطوطاليس في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخس» (ج1 الباب الثالث من الكتاب الثاني ص233-236) في إحدى عشرة مسألة تتعلق برأيه في «اللذة والألم» ولا بد لنا من أن نذكر هذه المسائل ونستطرد في نقدها، وبيان مراميها، لنصل إلى غرضنا من البحث قال: (1)
علاقة ظاهرة للملكات التي نحصلها، هي «اللذة والألم»، أحدهما يقترن بأفعالنا ويعقبها، إن الإنسان الذي يمتنع عن لذات الجسم، ويرتاح لهذا الامتناع نفسه، هو معتدل (عفيف)، وذلك الذي لا يحتمله إلا بأسف، عنده شيء من عدم الاعتدال، والإنسان الذي يقتحم الأخطار ويرتاح لذلك، أو على الأقل لا يضطرب فيها؛ هو إنسان شجاع، والذي يضطرب فيها هو جبان، ذلك في الواقع بأن الفضيلة الأخلاقية، تتعلق بالآلام واللذات، ما دام أن طلب اللذة هو الذي يدفعنا إلى الشر، وخوف الألم هو الذي يمنعنا من فعل الخير. ا.ه.
ويتبين من هذا بديا أن أرسطوطاليس يعتقد أن «اللذة والألم» ظاهرتان تتعلقان بناحية من التطبع، بدليل قوله إنهما من الملكات التي نحصلها؛ أي من الملكات التي قد تحدث فينا أثرا حينا، وتتعطل عن إحداث هذا الأثر حينا آخر، وهذه القضية تناقض المبدأ الأساسي الذي يقيم عليه أرسطبس مذهبه، فاللذة والألم عند أرسطبس ليسا من الملكات التي تحصل فينا بالإضافة إلى الطبع، بل هي من جوهر الطبع نفسه، فهي تدمغ الأخلاق بطابعها وتوجه السلوك بمقتضياتها.
فهي عند أرسطبس ليست من الأشياء التي تحصل بالإضافة إلى الطبع كالشجاعة والجبن، كما يقول أرسطوطاليس، بل هي من جوهر الطبع نفسه؛ فالشجاعة والجبن قد يتعطل أحدهما، فيكون المرء شجاعا فحسب أو جبانا فحسب، فتمحى إحدى الظاهرتين، ولا يكون لها أثر في توجيه السلوك، أما اللذة والألم فمن جوهر الطبع نفسه تتناوبان التأثير في النفس، ولا تمحى إحداهما، فاللذة جزء من الطبع لا يمكن أن يزول أثره، وكذلك الألم على الضد؛ من الظاهرات التي تتولد فينا بالإضافة إلى الطبع، وتكون المرانة أو البيئة سببا فيها، كالشجاعة والجبن والكرم والبخل، وما إلى ذلك.
لهذا يقول أرسطوطاليس: «إن الفضيلة الأخلاقية تتعلق بالآلام واللذات.» ومعنى هذا عنده، أن طلب اللذة يدفعنا إلى الشر، وخوف الألم هو الذي يمنعنا من فعل الخير، وعجيب أن تصدر هذه القولة عن أرسطوطاليس، فإذا كانت اللذة هي التي تدفعنا إلى الشر، وخوف الألم هو الذي يمنعنا من فعل الخير، فكأنه لم يبق من مجال للذة والألم، ليؤثرا فينا أثرا حسنا، على إطلاق القول. وبذلك ينفي أرسطوطاليس عن اللذة والألم كل ما يحتمل أن يصدر عنهما من الآثار الرفيعة، تلك الآثار التي نجدها بينة جلية في سلوك أرسطبس وشخصيته وفي استعلائه واحتقاره الشديد للدنيويات، وفي مثاليات أبيقور التي تضع اللذة العقلية فوق كل اللذائذ الأخرى.
ولا يقف بك العجب عند هذا ، بل إنك ليزداد عجبك أن يقول أرسطوطاليس: (2) «ينبغي منذ الطفولة الأولى - كما يقول بحق أفلاطون - أن نوجه بحيث نضع مسراتنا وآلامنا في الأشياء التي ينبغي أن نضعها فيها، وفي هذا تنحصر التربية الطيبة.»
وفي هذه القولة شواهد أخرى تؤيد ما ذهبت إليه، فإن توجيه «المسرات والآلام إلى الأشياء التي ينبغي أن نضعها فيها» يشعر بأن أرسطوطاليس يريد أن يقول بأن «اللذة والألم» يتقبلان أثر المرانة والبيئة، والشيء الذي «يقبل» الآثار هو من الجواهر لا من الأعراض، وإذن لا تكون «اللذة والألم» من الملكات التي نحصلها كما يقول في الفقرة الأولى بل تكون على ما يؤخذ من هذا القول من جوهر الطبع، فكأن أرسطوطاليس ينزع عن غير قصد نزعتين، تضطره الأولى إلى القول بأن اللذة والألم من ظواهر الطبع، وتضطره الثانية إلى الإشارة تضمينا بأنهما من جوهر الطبع نفسه، ولهذا كان من الصعب أن تدرك على الوجه الأكمل حقيقة الفكرة الهيدونية التي يقول بها أرسطوطاليس، كما يتعذر أن تعرف ماذا يرفض وماذا يقبل من مذهب أرسطبس، اللهم إلا عندما يتكلم في الأشياء البينة التي لا تحتمل التباسا، كالموازنة بين اللذات الغليظة واللذات الرفيعة؛ أي لذات البدن ولذات العقل.
ويؤيد هذا الرأي الذي نراه أن أرسطوطاليس يكاد يصرح بأن «اللذة والألم» من جوهر الطبع، لا من الملكات، وذلك في عبارته الآتية إذ يقول: (3) «وفوق ذلك، فإن الفضائل لا تظهر البتة إلا بالأفعال والميول، فلا عمل ولا ميل إلا نتيجة إما اللذة وإما الألم، وهذا هو دليل جديد على أن الفضيلة تتعلق فقط بآلامنا ولذاتنا ... إلخ.»
ذلك بأن الأفعال والميول ظواهر تتعلق بجوهر، فإذا تعلقت هذه الظواهر «باللذة والألم» لم يسعنا إلا أن نقول إنهما - أي اللذة والألم - من جوهر الطبع لا من الملكات، ولن نكون أكثر اقتناعا بهذا منا إذا قال أرسطوطاليس - كما يقول هنا: «إن الفضيلة تتعلق فقط بآلامنا ولذائذنا.» فكأنه بذلك يريد أن يقول صراحة لا تلميحا ولا تضمينا، إن الفضيلة عرض يتعلق بجوهر هو اللذة والألم، وهو هنا أقرب إلى أرسطبس من سقراط ومن أفلاطون، وربما كان في قوله هذا أقرب إلى أرسطبس من أودكسس الهيدوني المتقشف نفسه.
ويقول أرسطوطاليس بعد ذلك: (4) «وهذا أيضا هو ما تشهد به العقوبات التي تتبع أفعالنا أحيانا، هذه العقوبات هي بوجه ما علاجات، والعلاجات لا تفعل عادة وفي مجرى الأمور الطبيعي؛ إلا بالأضداد.»
ولقد نذكر أن أرسطبس يقول إن العقوبات التي تفرض على التلاميذ في المدارس أمر موجب للنظر، ولقد نذكر أيضا أنه قال بما يقرب مما قاله به أرسطوطاليس، من أن العقوبات هي بوجه ما علاجات، ولقد نذكر مرة ثالثة أن أرسطبس يعتقد أن العلاجات لا تفعل - أي تؤثر - إلا بالأضداد، فاللذائذ قد يترتب عليها أفعال تكسبنا الرضا، وراحة البال حينا، وقد يترتب عليها أفعال تكسبنا القلق وحساب الضمير حينا آخر، وكذلك الآلام، قد يترتب عليها نتائج موجبة لمنتهى الرضا حينا، وبالغة منتهى الشدة والعنف حينا آخر، وهذا نستخلصه من مجمل المذهب القوريني ومن تفاصيله، ذلك بأن هذه النتائج المتضادة ما هي إلا علاجات نفسية لا بد من أن تترك أثرها الباقي في الأخلاق والسلوك.
وهنا نجد أن أرسطوطاليس قد اقترب في مذهبه الأخلاقي مرة أخرى من القورينيين، فكان أدنى إليهم مما كان سقراط ومما كان أفلاطون، بل إنه سلم بهذا المبدأ تسليما بغير احتياط، فكان أقرب إليهم من أنقريز نفسه، وهو من أقطاب المذهب القوريني، ثم يقول: (5) «يمكننا أن نكرر - زيادة على ذلك - ما قلناه آنفا، وهو أن كل ملكة للنفس هي بطبعها الحقيقي ذات علاقة بالأشياء، ولا تتعلق إلا بالأشياء التي تصيرها بالطبع أحسن أو أقبح، وأن ملكات النفس لا تفسد إلا باللذة أو الألم متى طلب الإنسان أحدهما أو فر من الآخر، في حين أنه لا ينبغي له - ومن غير تقدير للظرف الذي فيه يحصلهما ولا للطريقة التي بها ينبغي تحصيلها - ارتكاب كثير من الخطيئات الأخرى المجانسة التي يسهل على العقل تصورها، ولهذا استطاعوا أن يحددوا الفضائل بأنها حالات النفس التي هي خالية من التأثر وفي راحة تامة، ولكن هذا التعريف ليس حقا؛ لأنه وارد على وجه مطلق أكثر مما ينبغي، ولم يعن بإضافة بعض شروط إليه فيقال «بأنه ينبغي» أو «لا ينبغي» أو «متى ينبغي» وتعديلات أخرى يمكن إدراكها بسهولة.» ا.ه.
ولا شك عندي أن في قول أرسطوطاليس هذا مواضع كثيرة للنظر والبحث، فهو ما دام يسلم بأن «كل ملكة للنفس هي بطبعها الحقيقي ذات علاقة بالأشياء، وأنها لا تتعلق إلا بالأشياء التي تصيرها بالطبع أحسن أو أقبح»؛ وجب أن يسلم استتباعا أن أثر هذه الأشياء في الملكات، سواء أكان من أثرها أن تحول الملكات إلى ما هو أحسن أم أن تحولها إلى ما هو أقبح؛ لا بد من أن يتكيف بمقتضى الظرف الحاصل فيكون باعثا على اللذة أو باعثا على الألم.
وإذا لم أكن مخطئا في تصور هذه النتيجة التي تترتب على المقدمة التي وضعها أرسطوطاليس - ولا أخالني إلا محقا في استنتاجها - جاز لي أن أقرر أن قول أرسطوطاليس «بأن ملكات النفس لا تفسد إلا باللذة أو الألم متى طلب الإنسان أحدهما أو فر من الآخر»؛ ليس له من مبرر، اللهم إلا مبرر الفرار من النتيجة المحتومة التي تترتب عليه، وهي القول بأن علاقة ملكات النفس بالأشياء، لا بد من أن تتكيف دائما بإحدى صورتين، فتكون في إحداهما لذة، وتكون في الأخرى ألما.
ولكن هل صحيح أن ملكات النفس لا تفسد إلا باللذة والألم وحدهما، إن كان هناك مجال لإفسادها؟ وهل هذا الحكم الذي يطلقه أرسطوطاليس إطلاقا، يفيد أن اللذة والألم لا يترتب عليهما في توجيه ملكات النفس إلا الفساد؟ إن في هذا القول إنكار كلي لحقيقة المذهب القوريني وحقائقه القائمة على الحس الإنساني، وعلى حقائق الطبع البشري، وما ينتجان من آثار ثابتة في الأخلاق والسلوك.
وهنا نقول بأن النتائج المستبطنة التي تترتب على مقررات أرسطوطاليس، تختلف تماما عن ظاهر مذهبه، وهي في جوهرها عريقة في الهيدونية، مفضية بطبعها إلى التسليم بأن «اللذة والألم» مبدأ تصدر عنه أفعال النفس المختلفة، وأن هذه الأفعال في مجموعها ما نسميه بالأخلاق، وفي تفصيلها ما نسميه السلوك.
ولقد غلب على أرسطوطاليس حب الترفع عن ذكر أسماء الفلاسفة الذين تلقح مذهبه بمذهبهم فقال: «ولهذا استطاعوا أن يحددوا الفضائل بأنها حالات النفس التي هي فيها خالية من التأثر وفي راحة تامة.»
ولعلك تسأل: من هم أولئك الذين استطاعوا؟ إن القورينيين لم يقولوا بهذا، ولكن قاله الأبيقوريون، أنسباؤهم في المذهب، ونظراؤهم في الهيدونية.
والذي يخيل إلي أن أرسطوطاليس قد توسع في التعبير لأكثر مما يحتمل المذهبان اللذان يضعهما نصب عينيه في كلامه هذا، فإن كلا من أرسطبس وأبيقور لم يتكلم في الفضيلة إلا على أنها «الخير» الذي ينشده الإنسان في الحياة، فقال أرسطبس: إن اللذة خير مهما كانت، وعرف «أخير» صورها بأنها «حركة لطيفة»، لا إلى الإفراط ولا إلى التفريط، أما الإفراط عنده فلذة جامحة يعقبها من الألم ما يرجح اللذة، وأما التفريط فحالة سلبية، وهذه الحالة السلبية هي التي يفضلها أبيقور، فقال: إنها لا تطلب اللذة الجامحة، ولا تطلب الحركة اللطيفة، وإنما تطلب التحرر من الألم.
فهل لنا بعد ذلك أن نقول: إن أرسطوطاليس قد خلط بين مذهب أرسطبس ومذهب أبيقور؟ هل لنا أن نقول: إنه لم يميز بينهما تمييزا صحيحا؟ الأرجح عندي أن أرسطوطاليس كان يقذف بكل هؤلاء في أتون واحد، ويحمي عليهم من وقود فكره، ولكن ناره كانت تضعف بعض الأحيان، فيبرز من خلال اللهب وجه أرسطبس مرة، ووجه أبيقور أخرى فيقرآه السلام.
فصلنا حتى الآن خمس مسائل، من إحدى عشرة مسألة، شرح بها أرسطوطاليس رأيه في اللذة والألم على أن الشروح التي مضينا فيها حتى الآن كافية لأن تجعل فهم المسائل الست الباقية ونقدها سهلا على من يفهم ما تكلمنا فيه فهما صحيحا، ولهذا أكتفي بأن أنقل المسائل الست الباقية لتكون مرجعا للباحث، إذا ما أراد أن يطبق شيئا من نقدنا السابق عليها، قال أرسطوطاليس في الباب الذي ذكرناه قبلا: (6) «يجب حينئذ أن يقرر مبدئيا أن الفضيلة هي ما يصرف أمرنا تلقاء الآلام واللذات، بحيث يكون سلوكنا أحسن ما يكون، والرذيلة هي على التحقيق ضد ذلك.» (7)
هاك ملاحظة تفهمنا بأجلى من ذلك أيضا، جميع البحوث المتقدمة، توجد ثلاثة أشياء تطلب وتوجد ثلاثة تجتنب، فالمطلوبات هي: الخير والنافع والملائم، والمجتنبات أضدادها الثلاثة: الشر والضار وغير الملائم، وتلقاء جميع هذه الأشياء يعرف الرجل الفاضل أن يسلك سلوكا حسنا، ويتبع الطريق المستقيم، والشرير لا يرتكب فيها إلا خطايا، ويرتكب منها على الخصوص ما يتعلق باللذة؛ لأن هي بديا إحساس عام لجميع الكائنات الحية، وفوق ذلك فإنها توجد على أثر جميع الأفعال المتروكة لإيثارنا واختيارنا الحر، ما دام أن الخير نفسه والمنفعة، يمكن أن يكونا كاسيين ظاهرا من اللذة.
6 (8)
نضيف إلى هذا أنه منذ طفوليتنا الأولى، منذ تلك السن التي فيها لا نكاد نرت، قد غذيت اللذة بوجه ما وشبت معنا، قد يكون حينئذ صعبا جدا أن نتخلص من وجدان تأصل في حياتنا وتلون بجميع ألوانها، وفي حين أن اللذة والألم في اعتبار الأشخاص هما قاعدة تنظم سلوكهم تماما، كثيرا أو قليلا.» (9) «هذا هو ما يجعل ضروريا جدا أن هذه الدراسة التي تلي، يجب أن تحمل على هذين الإحساسين، فليس شيئا صغيرا فيما يتعلق بأفعالنا أن يعلم المرء كيف يحسن أو يسيء التلذذ أو التألم».
7 (10) «تنبيه آخر، إن قهر اللذة هو أيضا أصعب من قهر الغضب، كما يقول هيرقليطس؛ إذن الغنى والفضيلة يؤثر تطبيقها دائما على ما هو الأصعب، ما دام أنه في الأمور التي هي أصعب، يكون جزاء الخير جزاء أوفى، وهذا نفسه سبب آخر في أن الفضيلة والسياسة يجب أن تعنى كلتاهما بدرس اللذات والآلام؛ لأن هذا الذي يحسن استعمال هذين الإحساسين يكون خيرا، والشرير هو الذي يسيء استعمالهما.» (11) «على هذا إذن قد أثبتنا أن الفضيلة لا تشتغل في الحقيقة إلا باللذات والآلام، وأنها تنمو بالأسباب التي تولدها، وأنها تفسد بتلك الأسباب عينها متى تغير اتجاهها، وأنها تفعل وتتمرن على هذه الإحساسات التي منها تولدت، تلك هي المبادئ التي وصفناها آنفا.»
والتعمق في البحث يدلنا على أن أرسطوطاليس أخذ كثيرا من أصول مذهب أرسطبس، وأدمجها في مذهبه الأخلاقي، وأنه طبق النظرية القورينية في درجات اللذة، على ثلاثة أشياء من مقومات مذهبه.
فإن أرسطوطاليس عندما يتكلم في «الخيرات» وفي «عناصر النفس» وفي «الاستعداد الأخلاقي» يقسم كلا من هذه الأشياء ثلاثة أقسام، كل قسم منها يقابل درجة من درجات اللذة عند أرسطبس، وسنشرح ذلك بعد أن نبين عن الأقسام التي وضعها أرسطوطاليس لهذه الأشياء.
فالخيرات عند أرسطوطاليس على ثلاثة أنواع: (أ)
خيرات خارجية. (ب)
خيرات النفس. (ج)
خيرات البدن.
وعناصر النفس عنده ثلاثة: (أ)
الشهوات. (ب)
الخواص. (ج)
العادات.
والاستعداد الأخلاقي عنده على ثلاث درجات: (أ)
إفراط. (ب)
فضيلة. (ج)
تفريط.
فإذا رجعنا إلى كلامنا من قبل في الفصل الثالث (أبيقور وشروح في فلسفة أرسطبس، رأينا أن اصطلاح اللذة لم يؤد عند أرسطبس أدنى ما تصل إليه الانفعالات عند أبيقور، كما ذهب البعض، بل عبر عن حد ليس بالأدنى ولا بالأعلى في قياس الانفعالات من طريق إيجابي صرف، ثم وضحنا هذه النظرية بنظرية نفسية تعرف عند علماء النفس بنظرية الوعي، ومثلنا لنظرية أرسطبس بالبيان الآتي مع تحوير قليل في التفاصيل:
وهنا نرجع إلى شرح أقسام أرسطوطاليس، ونقارنها بدرجات اللذة عند أرسطبس، وسوف نجد أن كل قسم من أقسام أرسطوطاليس يقابله درجة من درجات اللذة عند أرسطبس، ولا شك عندي في أن بين أقسام أرسطوطاليس وبين درجات اللذة عند أرسطبس أكبر الآصرة.
وسنمضي في المقارنة بين تقسيم الفيلسوفين على الطريقة التي يتبعها الإحصائيون في بيان نسبة الإحصائيات بالرسوم، ليكون ذلك أبين وأجلى، على أن نعرف أن الخيرات عند أرسطوطاليس هي «السعادة» وعناصر النفس هي «الطبع» والاستعداد الأخلاقي هي «الملكات».
وليس لنا أن نمضي في المناقشة في هذه الأقسام بعد هذا البيان، بل نكتفي بأن نورد أقوال أرسطوطاليس فيها، ولا شك عندي في أن كل من درس مبادئ القورينيين التي شرحناها من قبل يستطيع أن يدرك منها الحقيقة التي نريد إثباتها.
قال أرسطوطاليس في ص340 جزء أول الباب الخامس من الكتاب الثاني في الأخلاق ما يلي:
ليس في النفس إلا ثلاثة عناصر؛ الشهوات أو الانفعالات، والخواص، والملكات المكتسبة أو العادات، فيلزم أن تكون الفضيلة واحدة من هذه الأخلاق.
وجاء في ص258 وما بعدها ج1 الباب الثامن من الكتاب الثاني ما يلي:
الاستعدادات الأخلاقية الثلاثة التي منها رذيلتان: إحداهما بالإفراط، والأخرى بالتفريط، ومنها فضيلة واحدة تكون في الوسط بين الطرفين؛ هي كلها بوجه ما متضادة بعضها لبعض ، فبديا الطرفان للوسط، ومتضادان بينهما أيضا، ثم إن الوسط هو مضاد للطرفين، كما أن المساوي - مقارنا بالحد الأصغر - هو أكبر من هذا الحد وأصغر من الحد الأكبر في نسبته له، كذلك الكيوف والاستعدادات المتوسطة في تناسبها مع الاستعدادات بالتفريط تظهر إفراطات، وبالضد في نسبتها إلى الاستعدادات بالإفراط تصير هي نفسها بوجه ما، تفريطات في الانفعالات وفي الأفعال على السواء.
وجاء في ص261 جزء أول الباب التاسع من الكتاب الثاني ما يلي:
قد بان حينئذ أن الفضيلة الأخلاقية هي وسط، وقد علم كيف هي، أعني أنها وسط بين رذيلتين: إحداهما بالإفراط، والأخرى بالتفريط، وقد بان أيضا أن مميز الفضيلة هذا، يأتي من أنها تطلب دائما هذا الوسط القيم في كل ما يتعلق بانفعالات الإنسان وأفعاله، تلك نقط يظهر أنها وضحت تماما، يجب علينا أن نفهم أيضا من ذلك؛ لماذا يجد الإنسان مشقة في أن يكون فاضلا، فإن إدراك الوسط في كل شيء أمر صعب جدا، كما أن استكشاف مركز دائرة لا يتيسر لجميع الناس، وأنه يلزم لإيجاده بالضبط أن يعرف المرء حل هذه النظرية.
إن أول ما يعنى به من يريد أن يصيب ذلك الوسط القيم هو أن يبتعد عن الرذيلة التي هي أشد ما يكون تضادا وإياه.
لأن هذين الطرفين أحدهما هو دائما أكبر إثما والآخر أقل، ولما أنه من الصعب جدا إيجاد هذا الوسط المرغوب فيه، لزم إذن أن يقال بتغيير الطرائق والأخذ بأقل الشرين.
على هذا يجب علينا أن نعلم حق العلم، الميول التي هي فينا أدخل في الطبع؛ لأن الطبع يعطينا ميولا مختلفة جدا، وإن ما يجعلنا نعرف ذلك بسهولة، هي انفعالات اللذة أو الألم التي نشعر بها.
يلزم أن نجعل أنفسنا نميل نحو الجهة المضادة؛ لأننا بابتعادنا بكل قوانا عن الخطيئة التي نخشاها، نقف في الوسط كما يفعل تقريبا حينما يطلب تقويم قطعة خشب معوجة.
إن الخطر الذي يلزم دائما اتقاؤه بغاية الانتباه، هو ذلك الذي يرضينا، هو اللذة؛ لأننا لا نكون البتة في هذه الحالة قضاة لا يرتشون.
ثم جاء بعد ذلك:
لأجل تلخيص فكرتنا في بعض كلمات، نقول إننا بهذا السلوك على الأخص ننجح في إيجاد الوسط والخير، وفي الحقيقة إنها نقطة صعبة، وإنها لكذلك على الخصوص في مجرى الحياة اليومية، مثال ذلك أنه ليس من السهل أن نعين بالضبط سلفا، كيف، وضد من، ولأي سبب، ولأي مدة من الزمن؛ ينبغي للإنسان أن يغضب؛ لأننا تارة يجب علينا أن نمدح أولئك الذين يقصرون عن هذا الحد ويمتنعون، ونقول إنهم مملوءون حلما، وتارة نمدح كذلك الذين يغضبون ونجد فيهم حزما خليقا بالرجل.
حق إن من لا يحيد إلا قليلا جدا عن الخير، لا يستهدف للذم سواء حاد عنه إلى جهة الأكثر، أو حاد إلى جهة الأقل، في حين أن الذي يبتعد عنه أكثر لا يمكن أن يفر من الانتقاد على خطيئة امرئ يراها.
ثم يجيء بعد ذلك:
ومهما يكن فإن من الواضح أن الملكة الوسطى هي وحدها الممدوحة، وأنه لتقويم أنفسنا يلزمنا أن نميل تارة نحو الإفراط، وتارة نحو التفريط؛ لأننا بهذه المثابة يمكننا بأسهل ما يكون أن نصيب الوسط والخير. ا.ه.
وبعد، فهذا هو تلخيص أرسطوطاليس الذي يعقب به على تقاسيمه التي أوردناها وقابلناها بدرجات اللذة عند أرسطبس.
وهل تجد من الشرح والبيان ما هو أروع من تفسير أرسطوطاليس لفضيلة «الوسط» التي هي لذة (حركة لطيفة) عند أرسطبس؟
أما إذا كانت الملكة الوسطى هي وحدها الممدوحة كما يقول أرسطوطاليس، وأن تقويم النفس، على ما يقول، يلزمنا أن نميل تارة نحو الإفراط (الألم) وتارة نحو التفريط (التحرر من اللذة والألم) لأننا بهذه المثابة يمكننا بأسهل ما يكون أن نصيب الوسط والخير (الحركة اللطيفة)؛ أي اللذة عند أرسطبس، فأي شيء بقي بعد ذلك من مذهب أرسطبس لم يدخل في مذهب أرسطوطاليس الأخلاقي؟ وأي شيء من مذهب أرسطوطاليس في السعادة لم يرجع إلى هيدونية أرسطبس؟
ورأينا الأخير أن مذهب أرسطوطاليس لا يختلف عن مذهب أرسطبس من حيث القواعد، إلا في موضعين:
الأول:
أن أرسطبس يحدد الخير بأنه اللذة، على أن تكون «حركة لطيفة» لا إفراط فيها فتصبح ألما، ولا تفريط فيها فتصبح سلبا، في حين أن أرسطوطاليس يقول بأن الخير هو فاعلية النفس، على أن تكون هذه الفاعلية مقودة بالفضيلة.
والثاني:
أن أرسطبس يقيم مذهبه على اللذة والألم، وهما من جوهر الطبع، في حين أن أرسطو يقيم مذهبه على مثالية عليا، وبالأحرى على مجهولات.
ولا شك في أن مذهب أرسطبس أقرب إلى أساليب العلم الحديث من مذهب أرسطوطاليس.
هوامش
الفصل الخامس
في تطبيق المذهب على الحقائق الجديدة
«كان أنقريز» من معاصري هجسياس، ولقد بلغت الآداب القورينية بظهوره أسمى مبلغ من الصفاء والتهذيب، على أنه كان ابن عصره، طبع بطابعه ودرج على سنته، فإنه لم يكن أثبت من هجسياس عقيدة في توقع الحصول على السعادة الفعلية، ولكنه قضى بأن الحكيم «سعيد» وإن كان نصيبه من اللذة ضئيلا جهد تصورك.
حقائق العلم
قضينا بأن مذهب أرسطبس أقرب إلى أساليب العلم الحديث من مذهب أرسطوطاليس، وقصدنا بهذا أن مذهب أرسطبس مذهب عملي، يقوم على أصول ثابتة في جوهر الطبع، فهل في علم النفس الحديث ما يؤيد هذا المذهب الذي نذهبه في تعريف المذهب القوريني؟ يخيل إلي أن طرق البحث في الطبيعة الإنسانية تؤيد مذهب أرسطبس تأييدا كبيرا، فهو يغلب الشهوة والميول على العقل وعلى الإرادة، ويجعل السيطرة في السلوك البشري خاضعة للنواحي المحررة من قسر القوانين الحديدية، تلك التي حاول أرسطوطاليس أن يخضع لها الخلق والسلوك، ذلك بأن تلبية نداء الفطرة، مهما كان فيه من مخالفة للمثل العليا الخيالية، ومهما كان فيه من تعرض للمخاطر وبعد عن السلام ، فإنه أرضى للنفس وأرخى للميول والرغبات.
ولكن هل ما ندعوه الطبع البشري شيء محدود محصور؟ لا شك في أننا لا نستطيع أن نحصر نزعات الطبع البشري في كل التفاصيل التي تتجلى فيها مظاهره، ولكن في مكنتنا أن نحصر الكليات التي تنطوي تحتها ظواهر الطبع البشري، والتي نجد في كل لغة من اللغات ألفاظا تدل على التعريف بما يقصد منها، ولا شك في أنك إذا قلت «الطبع البشري» فإنما تقصد بذلك مجموعة من الصفات الفطرية تتجلى مظاهرها في كل أفراد النوع البشري، أمراء وصعاليك، علماء وجهلاء، نبلاء ودهماء، أغنياء وفقراء.
يدلك على صحة هذا القول أنه لا يستعصي عليك - بقليل من صفاء النفس والحب والعطف - أن تكسب صداقة من تريد من الناس، مهما بعد ما بينك وبينهم من الفوارق الثقافية والسلالية، ذلك بأن الطبع البشري أصيل في كل الناس، ولا شك في أنه يستجيب لبواعث بعينها، ويستيقظ مطاوعة لمنبهات خلقية واحدة، ولا شبهة في أنك لا تحتاج إلى وسيلة اللغة لتوقظ في غيرك استجابات الطبع، فإن الابتسامة توقظ الابتسامة، والخير يوقظ الخير، والحزن يوقظ الشفقة، والألم يبعث العطف، كذلك نجد أن الغضب والخوف والمقت والتعجب والفخر والاستكانة والحب إلى غير ذلك من الصفات الفطرية؛ تظهر ملابسة لصور واحدة، وتتبعها حركات وإشارات لا تتغير على وجه التقريب بتغير الأفراد والشعوب، وليس هذا بمحصور في الأفراد البالغين، فإن الأطفال الذين لا يستطيعون استعمال كثير من الكلمات يفقهون من تلك الحركات والإشارات نفس ما تؤديه الكلمات، وتستقوي عليهم معها نفس الاستجابات التي توحي بها اللغة، وهنالك أشخاص يرهبهم الأطفال على اختلاف سلالاتهم، وهنالك غيرهم يألفهم الأطفال ويلجئون إلى أحضانهم وعلى شفاههم ابتسامة الغبطة والحبور.
وفي كل هذا براهين ظاهرة على أن خصائص الطبع البشري مشاع بين كل السلالات البشرية، ولكن مم تتكون هذه الصفات؟ وإلى أي حد يذهب أثرها؟ وعلى أن العلم يعجز عن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة على صورة محدودة كاملة، فإن شرح بعض الأصول التي يتكون منها الطبع البشري يكفي في هذا الموطن للدلالة على ما نقصد من الكلام، في أن مذهب أرسطبس أقرب إلى مطالب الطبع البشري من كل المذاهب الأخلاقية التي ذاعت في بلاد الإغريق القديمة، وعلى الأخص فلسفة أرسطوطاليس.
وليس لنا في هذا الموطن أن نستطرد إلى بحث كل من تلك الصفات الفطرية، ولكن لنا أن نعدد أكثرها أثرا في سلوك الإنسان، وأظن أن مجرد تعدادها يظهر الباحث على أنها من خصائص الطبع وليست الملكات التي تكسب بالمرانة والعادة، وإليك هي: (1)
الذكاء. (2)
الميول الانفعالية. (3)
قواسر الطبع. (4)
الميل الجنسي.
هذه بعض الطبائع الرئيسة في فطرة الإنسان، وتحت كل منها ينطوي عدد من الصفات الثابتة في تضاعيفه، فهل يجدر بنا أن ننكرها لنقول بالمثاليات، أم ندرسها لنهذبها ونضبط انفعالاتها، ودرجات تنوحها بين حدي الإفراط والتفريط.
إن أرسطوطاليس يقول بنكرانها البتة بجانب المثاليات التي يدعو إليها، بل يقول بقمعها لتصح نظرياته، أما أرسطبس فيعترف بها ليستطيع أن يحكمها ويهذبها، وهذا فرق بين فلسفة المعلم الأول، ومذهب الفيلسوف القوريني، ولهذا كان اعتماد أهل الكلام على فلسفة أرسطوطاليس عاما شاملا، كما أن نفورهم من أصحاب اللذة والقائلين بالمذهب الذري كان عاما شاملا.
ولكن لنا أن نتساءل بجانب هذا: متى، وفي أي عصر من العصور استقوت النظريات الأخلاقية على نزعات الطبع؟ وفي أية جماعة من الجماعات الإنسانية استطاع المنطق - مهما كان سليما - أن يخضع الميول والشهوات؟ إنما يكون الطريق إلى تحويل النزعات وتهذيبها ممهدا ذلولا، والعمل في سبيل الاستقواء على بعض الميول الدنية بتقوية بعض الميول السامية ممكنا مستطاعا، إذا نحن أكببنا على درسها الدرس الوافر أو تحليل أجزائها والنظر في مفصلاتها نظرا شاملا صحيحا، وكيف يمكن الوصول إلى هذا إذا نحن أنكرنا خصائص الطبع وميول الفطرة وحاولنا أن نقمعها بالنظريات والمنطق؟
أودكسس هيدوني متقشف
يقول العلامة جومبرتز إنه مهما يكن من أمر فإن الواجب يدعونا لأن نحتفظ بالمذهب القوريني في اللذة منفصلا عن الصفات الشخصية ونواحي السلوك العملي التي اتصف بها مؤسس هذا المذهب.
1
أما الضرورة التي تحفز بعض الكتاب إلى الفصل بين شخصية أرسطبس ومذهبه فتظهر جلية، إذا رجعنا إلى حالة مشابهة ذكرناها ومثلنا فيها بالفيلسوف أودكسس الذي وضع مذهبه في الأخلاق على نفس القاعدة التي اتخذها أرسطبس أساسا لفلسفته، وهي الحصول على «اللذة»، بل قضى بأن كل المخلوقات - عاقلة وغير عاقلة - إنما تتطلع إلى «اللذة»،
2
ولكنه ظل في حياته الخاصة - كما قال أرسطوطاليس - بعيدا جهد البعد عن كل سعي في سبيل اللذة، وقد أفلح في أن يضم إلى مذهبه عددا عديدا من الأتباع الذين أجلوا فيه سلوكه وأنزلوه منزلة التقديس والاحترام الكلي، وما حياة الفيلسوف جرمي بنتام في الأعصر الحديثة إلا مثلا متجددا من فيلسوف القدماء، فقد عاش بنتام طوال حياته مكبا كل الإكباب على العمل المنتج، راضي النفس، مضحيا بكل لذائذه في سبيل أن يرفع مستوى الحياة الإنسانية.
تقلبات المذهب القوريني عند النظر في الحياة الإنسانية
يدلنا تاريخ المذهب القوريني على أن وجهة النظر التي نظر من ناحيتها أعلام المذهب في الحياة الإنسانية، قد انتابتها تغايرات عديدة، ولقد دار الخلاف بينهم على أمرين: الأول: هل السعادة شيء في منال الإنسان؟ والثاني: مم تتكون السعادة؟
وعلى الرغم من الخلاف الذي قام حول البحث عن جواب مقنع لهذين الأمرين، فإن الفكرة الأساسية التي قام عليها المذهب ظلت ثابتة لم تتغير ولم تعصف من حولها رياح الفكر، أما العنصر الطبيعي الذي تقوم عليه تلك الفكرة الأساسية واستنتاجها للنواميس الأدبية من «الحياة الطيبة» التي تحياها «الذات» فأمر شائع في كل المذاهب الأدبية التي نقلت عن القدماء، فإن كل المذاهب إنما ترتكز على أساس رمى واضعوه إلى العمل على خير الإنسانية
Eudaimonism ، وسواء أسمينا الغاية أو الغرض من الحياة «سعادة» أم حللنا ذلك الغرض وتلك الغاية على غموضهما واختلاط مكوناتهما إلى عناصرهما الأولية، ويقصد بها الإحساسات الفردية المصبوغة بصبغة «اللذة» ومن مجموعها تتكون السعادة، فإن المبدأ يظل واحدا غير متأثر بأي أثر خارجي.
بالرغم من هذا كله يبقى أمامنا سؤالان خطيران لتفهم حقيقة المذهب: أولهما: «ما هي العناصر العملية التي يقوم عليها هذا المذهب أو غيره من المذاهب الأخلاقية؟» وثانيهما: «كيف يمكن استنتاج قواعد السلوك التي يدعو إليها هذا المذهب استنتاجا نظريا من المبادئ الجوهرية التي يقوم عليها؟»
العناصر العملية في المذهب القوريني
ليس لدينا من مصادر صحيحة مفصلة الأبواب يمكن الاعتماد عليها في درس العناصر العملية التي يقوم عليها المذهب القوريني باعتباره مذهبا أدبيا، على أن انعدام المصادر نفسه مع القليل مما وصل إلينا عن حقيقة هذا المذهب، كمذهب أدبي، من العبارات التي لا تقل عن مقطوعة ولا تزيد عن مقطوعتين، يمكن أن نستنتج معه أن مثل الحياة التي عكف عليها هؤلاء السقراطيون لا تختلف كثيرا عن المثل التقليدية التي عرف بها المذهب السقراطي، ويقال: إن أرسطبس نفسه قد أجاب على سؤال وجه إليه مرة «عما هو الخير الذي يمكن أن يجنى من الفلسفة؟» فقال: «إن الغرض الأول منها هو أن تمكن الفيلسوف من أن يعيش حتى لو فرض وألغيت كل الشرائع كما كان يعيش وهي قائمة.»
على أن القيمة التاريخية التي يمكن أن تعزى إلى مثل هذه الأقول المأثورة وما يجري مجراها من الأمثال والحكم؛ ضئيلة من غير شبهة، وكلمة مأثورة كهذه على الرغم من أننا نكاد نجزم بأنها لم تقل إلا لتظهر مقدار ما يسمو إليه ذو الحكمة من الاستعلاء فوق قسر الشرائع، لا يمكن أن تنتحل على رأس المدرسة القورينية ومؤسسها، إذا كانت تختلف في مرماها وغايتها مع المثاليات المقبولة في المذهب القوريني، شأن نظام الكلبيين مثلا.
وهذا التخريج يكون - ولا شبهة - أكثر تقبلا لدى الباحث، إذا عرف أن كل الذين أكبوا على درس الفلسفة اليوناينة لم يعثروا في طيات المذهب القوريني على إشارة أو بادرة أو معنى يرمي إلى معاندة النظام الاجتماعي، وأن كل رجال هذا المذهب حتى من تطرف منهم في الهرطقة الدينية مثل ثيوذورس كانوا على أحسن صلات الود مع حكام عصورهم، وفي هذا دليل قاطع على أنهم لم يعاندوا النظم الاجتماعية ولا التقاليد لا قولا ولا فعلا.
ومما يدل على حقيقة هذا الأمر أن العلامة روبرتسون الإنجليزي قد قرر في كتابه «مختصر تاريخ الأخلاق» ص132، لدى الكلام عن القورينيين أشياء تدل على صحة هذا التخريج، فقال بأن من تعاليم هذه المدرسة «أن الناس يجب أن ينشدوا اللذة، وأن الاختيار العقلي ونشدان اللذة، هما غايتا الحياة العقلية، تلك التي لا يجب أن تعتبر الفضائل والنفائس الخلقية، إلا وسائل تؤدي إليها.»
قواعد في السلوك تستنتج نظريا من مبادئ جوهرية
ليس بنا من حاجة لأن نكرر القول هنا بأن القورينيين لم يقصدوا باللذة اللذة الحسية وحدها؛ فقد أشاروا بين الكثير مما أشاروا إليه في مذهبهم، أن الآثار الواحدة التي تتقبلها العين أو تسمعها الأذن إنما تحدث نتائج انفعالية مختلفة، على مقتضى الأحكام التي يجريها عليها العقل،
3
فصرخات الألم التي تؤذينا عندما تخرج من أفواه الذين يتألمون فعلا، إنما تبعث فينا اللذة عندما تكون في درج استعراض تراجيدي فوق المسرح.
والحقيقة أن هذا المذهب، أو بالأحرى قسما منه؛ قد خص اللذائذ الحسية بأوفر قسط من الانتباه، وعزى إليها أعظم الآثار، ومن أجل هذا أيد الفكرة السائدة في استخدام العقاب البدني في دور التعليم وفي تطبيق قانون العقوبات بصرامة.
وهنا ينتقل المذهب برمته إلى أوج جديد تدرجت فيه مبادئ المذهب القوريني الأدبية، وهو أوج دلف فيه المذهب نحو أمرين: الأول: الإمعان في الرفه، والثاني: الإمعان في التشاؤم.
على أن التشاؤم كان الطابع الثابت الذي ترك أثره الباقي في جبين كل ما أخرجت ثقافة ذلك العصر من الآثار.
هجسياس: رسول الموت
بعد أجيال أربعة قطعتها دورة الزمان بعد أرسطبس ظهر «هجسياس
Hegesias » الذي كني «رسول الموت»، ففي كتاب له عنوانه «الانتحار» أو بالتحقيق «الانتحار جوعا» قد أبان كما أبان في محاضراته عن مفاسد هذه الحياة ونقائصها على صورة حزت في أشد القلوب حبا في الحياة، حتى إن أهل الحكم في مدينة الإسكندرية قد اضطروا إلى منعه عن إلقاء محاضراته، ليتقوا بذلك خطر الدعوة إلى الانتحار.
فلا عجب إذن بعد هذا إذا عرفنا أن هذا الفيلسوف قد اعتقد بأن السعادة لا تنال في هذه الحياة، وأن واجب الحكيم ينحصر في اتقاء الشرور أكثر من نشدان الخيرات، على أن الذين لم يتعودوا التغلغل في مختلف الاتصالات الفكرية العميقة، مع ما يتولد عنها من الحنايا والشعاب التي تفرعت فيها الفكرة السقراطية؛ ليعجبون أشد العجب لما يرون من تواتر فكرة عدم المبالاة في المذهب القوريني، وهي فكرة تكاد تكون خصيصة بمذهب الكلبيين.
فلقد دعا هجسياس إلى عدم المبالاة بكل الظواهر والأمور الخارجية ، لا على الصورة أو الطريقة التي دعا بها الكلبيون، ولكن على قاعدة أنه ليس من شيء هو بالطبع ملذ أو مؤلم، بل الجدة والندرة، التي نجد أحدهما في شيء ما أو إشباع الشهوة بالحصول على ذلك الشيء، هي التي تحدث اللذة والألم.
على هذا كان يعلم، وإلى هذا كان يدعو، وما هذا لدى الحقيقة سوى مغالاة في التعبير عن شعور صحيح بأن «السعادة» يمكن أن تزيد إلى القدرة على الصبر والاحتمال، وأن تخفف من حدة المشاعر.
وفي مذهب سقراط الذي قال فيه بعدم الاختيار في فعل الشر؛ نرى الجرثومة الأولى لذلك التمادي نحو الخطأ الذي أخذه هجسياس قضية مسلما بها، ودعا إليه بعد أن شرب به المذهب القوريني بكل ما أوتي من حماسة وقوة.
لا تكره ولا تبغض بل علم وثقف، هذا هو الحمل الثقيل الذي حمله هجسياس، ودعا الناس أن يحملوه معه، وإن هذا ليذكرنا ببعض الفلاسفة المحدثين، مثل: إسبينوزا، وهلفتيوس، فكلاهما بدأ شوطه بمثل هذه المقدمات.
أما العنصر الأصيل في فلسفة هجسياس فينحصر في أنه عارض أرسطبس، فقال: إن التحرر من الألم هو الخير الأسمى، ولهذا فضل الموت على الحياة.
4
تلاقح المذاهب من القورينيين إلى الرواقيين
من الأمثال التي نضربها على تلاقح المذاهب جملة وتفصيلا، أن المذهب الرواقي - وهو مذهب نشأ من تدرجات دقيقة، تدرج فيها المذهب الهيدوني - قد نقل عن هجسياس فكرته في الانتحار، ولكنه جعل الانتحار وسيلة يحقق بها الإنسان حريته إذا أراد، ولا شك في أن هذه الفكرة تنطوي من ورائها فكرة الحياة الأخرى، فكان ذلك من الممهدات الأولية التي أفسحت السبيل لذيوع الديانة النصرانية، بما فيها من فكرات أساسية في الحياة بعد الموت، وفكرة الثواب والعقاب والخلاص وما إلى ذلك.
جمعت الفلسفة الرواقية بين فكرتين، فكما أنها حضت على أن لا يفر الإنسان من القيام بواجب من واجباته فإنها أجازت للإنسان أن يتخلص من حياته وأن يتصرف فيها بكامل حريته، وفي الفكرة الأولى عنصر قوريني أصيل، أما في الثانية فعنصر دخيل منقول عن هجسياس ترجيحا.
على أن الانتحار عند الأقدمين لم يعتبر قط من كبائر الإثم، فإن أبيقور مثلا قد حض الناس على أن يوازنوا بدقة بين أن يأتيهم الموت وبين أن يذهبوا للموت بأنفسهم، ولقد انتحر كثير من أتباع أبيقور مثل «لوقرشيوس
Lucretius » شاعر الرواقيين المعروف، و«قشيوس
Cassius » وكان داعية شديد الخطر ضد الطغاة يدعو إلى قتلهم، و«أتيقوس
Atticus » صديق قيقرون الخطيب و«فطرنيوس
» الشهواني الخليع، وديودورس الفيلسوف، ولنا هنا أن نتساءل: هل من علاقة بين فكرة أبيقور هذه وبين دعوة هجسياس للانتحار؟
أما «بلنيوس
» فقد ذهب إلى أن حظ الإنسان من حيث قدرته على التخلص من الحياة يفوق حظ الخالق، ذلك بأن للإنسان القدرة على أن يذهب إلى القبر باختياره، بل قال بأن من أكبر البراهين على كرم العناية القدسية، أنها حبت الناس بكثير من أنواع الأعشاب المسمة التي يجد فيها المتعبون والمتبرمون بالحياة، موتا سريعا لا ألم فيه.
غير أن فكرة الانتحار لم تبلغ مبلغها الأقصى إلا في عصر الإمبراطورية الرومانية، وعند رواقيي الرومان، حيث تحددت فكرتها وكملت صورتها الفلسفية، فمنذ عهد من الزمان عهيد، كانت فكرة التضحية بالذات قد حبذت على اعتبار أنها من الطقوس الدينية.
ولقد تجمعت في أواخر العصر الوثني أسباب كثيرة قادت الناس إلى الإخلاد لفكرة التضحية بالذات، ولن تجد من الأشياء الدنيوية ما هو أكثر مسا للقلب من ذلك الجدل الشعري الذي حوط به «سنيكا
Seneca » الانتحار في عصر نيرون المستبد الروماني على أنه الملجأ الوحيد للمستبد بهم والمظلومين، والنهاية الحلوة التي ينشدها العقل المضطرب الحائر، قال:
بالموت وحده نعرف أن الحياة ليست عقابا، وإني لأقف قوي الأعصاب تحت أنواء الحظ والأقدار، إذ أستطيع أن أحتفظ بعقلي غير مضطرب، وأن أمضي به سيدا لنفسه، فإن لدي الملاذ الأخير، ولقد أرى المخلعة وأرى السندان،
5
مهيأة لأن تلقم كل طرف من أطرافي، وكل عصب من أعصابي، غير أني أرى الموت أيضا بجانب هذه الآلات الجهنمية، إنه يقف بعيدا عن أن تناله أيدي أعدائي، وقصيا عن أن تمتد إليه قدرة عشيرتي ، إن العبودية لتفقد ما فيها من مرارة، ما دمت قادرا بخطوة واحدة أن أصل إلى الحرية، ومن كل متاعب الحياة لي في الموت مهرب وملاذ.
أينما أدرت وجهك رأيت رذائل، وإنك لترى أيضا تلك الهاوية السحيقة، ففيها تستطيع أن تهبط إلى الحرية، هل أنت تنشد طريق الحرية والخلاص؟ إنك لتجدها في أي شريان من شرايين جسمك الزائل.
لو خيرت بين ميتة عنيفة وأخرى هينة لينة، فلماذا لا أختار الثانية؟ وكما أختار السفينة التي أمخر فوق ظهرها العباب، والمنزل الذي أعيش فيه، كذلك أستطيع أن أختار الميتة التي أفارق بها الحياة، وليس من شيء يجب أن نكون أكثر حرية في اختياره، منا إذا أردنا أن نموت بطريقة ما.
فارق الحياة بالطريقة التي توحي إليك بها قواسرك كيفما كانت بالسيف أو بالحبل أو بالسم يسري في شرايينك، اقتحم طريقك وحطم سلاسل العبودية، يحاول الإنسان في حياته أن يحوز ما يستحسن غيره، أما ميتته فذلك أمر له وحده حق اختياره، إن القانون الأبدي لم يبدع من شيء أروع من أن للحياة مدخلا واحدا، في حين أن لها مخارج كثيرة، لماذا أحتمل آلام الأمراض وقساوة الاستبداد الإنساني، ما دمت قادرا على أن أحرر نفسي من كل الأوجاع، وأن ألقي بعيدا بكل الأصفاد والقيود؟ لهذا السبب وحده أرى أن الحياة ليست شرا ما دام الإنسان غير مجبر على أن يعيش، إن الإنسان لسعيد طالما أنه لا يعيش شقيا إلا بإرادته، إذا حسنت لديك الحياة فعش، أما إذا لم تحسن لديك، فلك الخيار في أن تعود من حيث أتيت.
من هذه الفقرات التي اخترناها من كثير من أشباهها تدرك إلى أي حد بلغت شهوة أكبر ممثل للمدرسة الرواقية وأعظم رجالها تأثيرا في العصر الروماني في الدفاع عن فكرة الانتحار، ولا شبهة في أن لمذهب هجسياس أثرا في هذا غير قليل، ولكن ألا نستطيع أن نرد هجسياس والرواقيين معه - وكلاهما فرع من دوحة المذهب القوريني - إلى مبادئ أصيلة عند أرسطبس؟ أليست الحرية التي دعا إليها الرواقيون حتى بالموت صورة ارتكاسية من صور التحرر من الألم؟
ولقد نقل ديوجنيس لايرتيوس (راجع واجبات قيقرون، ج3، ص33) مقطوعات عن متأخري القورينيين من أمثال ثيوذورس وهجسياس، قضوا فيها بأنه من الواجب أن يصفى المذهب القوريني من بعض المقررات التي تضمنتها هيدونية أرسطبس، فقال ثيوذورس بأن أسمى حالات السعادة التي يبلغها الإنسان «حالة من الجدل النفسي»، في حين أن هجسياس قد علم أن كل أعمال الإنسان يجب أن ترمي إلى احتقار كل الأشياء الخارجية، وما الحياة عند القدماء إلا صورة خارجية للروح التي هي خالدة، ولا ينبغي لنا أن ننسى بجانب هذا أن الفلسفة القورينية، إنما ترجع في ماهيتها إلى أخلاق مؤسس المذهب وإلى الجو الاجتماعي الذي حوط المدينة التي نشأت فيها فلسفته، أكثر من رجوعه إلى احتياج المذهب السقراطي الذي استمدت منه إلى التحوير والتنقيح.
6
أنقريز
كان «أنقريز
Anneceris » من معاصري هجسياس، ولقد بلغت بظهوره الآداب القورينية أسمى مبلغ من الصفاء والتهذيب على أنه كان ابن عصره طبع بطابعه، ودرج على سنته، فإنه لم يكن أثبت من هجسياس عقيدة في توقع الحصول على السعادة الفعلية، ولكنه قضى بأن الحكيم «سعيد» وإن كان نصيبه من اللذة ضئيل جهد تصورك.
والظاهر أنه علم أن نصيب الفرد من السعادة الدنيوية تتمة أو تكملة تلك الانفعالات العاطفية التي نطويها تحت عنوان الصداقة وعرفان الجميل والتقوى والوطنية، ولا مراء في أنه رفض الاعتقاد بالمذهب القائل بأن «سعادة الصديق يجب أن تنشد لذاتها»، على أنه مذهب منقوض من ناحية سيكولوجية (نفسية) كما رفض هلفتيوس في الأعصر الحديثة، الاعتقاد بحقيقة المذهب القائل بحب «الخير لمحض الخير » على قاعدة أن القول به تناقض نفساني.
ولقد اعتقد أنقريز أن سعادة الغير لا يمكن أن تكون موضع شعور مباشر، ولكنه لم يعتقد كل فعل كثير من الهيدونيين بأن الأصل في انفعالات الغيرية
Altruistic Emotions
باعتبارها آثارا ثانوية، إنما يرجع إلى مجرد النفع خالصا لوجه النفع، فإن الصداقة عنده لا تقوم على مجرد المنافع التي تجنى منها؛ فحسن النية وحده مفصولا عن كل مظهر من المظاهر العملية التي قد تصحبه؛ يمكن أن يصبح للصداقة أساسا كافيا.
وفضلا عن هذا فإنه أنصف كل الإنصاف عند الكلام في تلك الحقيقة السيكولوجية التي محصلها أن مشاعر الغيرية - مهما كانت مصادرها وأصولها - تحرز، تدرجا، قوة مستقلة خاصة بها، وأن هذه المشاعر تحتفظ بتلك القوة حتى ولو لم تتزن مع اللذة، وهذا تفسير رائع لحقيقة الأفعال العكسية المتحولة، وهو المذهب النفسي الذي أدخله پافلوف الروسي في حيز العلم ببحوثه وتجاريبه، والفارق بينه وبين أنقريز ثلاثة وعشرون قرنا من الزمان، وليس هنا موضع شرح هذا المبدأ، ولسوف نشرحه بعد.
بيد أن أنقريز لم يأخذ هذه الظاهرة على أنها حقيقة لا غير، بل إنه برر تضحية الذات باعتبارها أسمى مراتب الغيرية، مثبتا أن الحكيم وإن كان يستمسك باللذة على أنها الغرض الأسمى ويتأفف من كل ما ينتقصها؛ فإنه يرضى قانعا بما ينتقص ملذاته في سبيل الحب لصديقه، على أنه لم يصلنا - مع أشد الأسف - شيء من البراهين التي أقامها على تأييد موقفه وتبرير مذهبه هذا.
ومما يدل أوضح دلالة على أن أنقريز وضع فكرته هذه موضع التنفيذ أن أفلاطون أسر عندما كان عائدا من رحلته في «صقلية
Sicily »؛ فإن مدينة «أجينا
Aegina » كانت في حرب مع أثينا، فلما هبطها أفلاطون أخذ أسير حرب وسيق إلى سوق الرقيق، غير أن أنقريز - وكان من أصدقائه - افتداه بمال وفك إساره، ولما أراد أفلاطون أن يرد المال لصديقه رفض أنقريز أن يسترد المال، فاشتريت بالمال حديقة بجوار مدفن البطل «أكاديموس
Academus » حيث أسس أفلاطون سنة 387ق.م مدرسته التي سماها «الأكاديمي» نسبة إلى البطل اليوناني.
7
وعلى الرغم من أن أنقريز وتلاميذه قد حاولوا أن يجعلوا مراعاة القيام بالواجبات المدنية والاجتماعية، التي يصح أن تتخذ حادثة أفلاطون مثلا عليها من بين الأشياء التي تحدث اللذة، فإنهم قد اعترفوا بأن الأعمال الإنسانية التي تؤتى في سبيل الغير لا يمكن أن تتحرر من دوافع الأنانية وحب الذات.
8
والمحصل أن أنقرير وتلاميذه قد فضلوا أن يقيموا مذهبهم على قواعد أقرب إلى المذهب الهيدوني لدى أول نشأته ، وقد يصح أن يكون هذا سببا في أن يلحقهم كثير من الكتاب بالمذهب الأبيقوري الذي حل بعدهم محل الفلسفة القورينية وتحول عنها، والواقع الذي لا مراء فيه أن أنقريز وشيعته حلقة الوصل بين ذينكم المذهبين العظيمين.
9
يدلك على صحة هذا أن المبادئ القورينية تتضمن لأول وهلة فكرة أن اللذة مرهونة على المشاعر الجسمانية أو بالأحرى على الحالات العضوية، وهذا المذهب أدمجه القورينيون في نظرية المعرفة
Theory of Knowledge
التي استمدوا عناصرها من بروطاغوراس، أما الخلافات التي وقعت بين أرسطبس والمتأخرين من رجال مذهبه، فينحصر في أن أرسطبس قد عرف اللذة بأنها حركة عابرة
في حين أن متأخري رجال المذهب قد عرفوا اللذة بشيء فيه علاقة بالفكرة الأبيقورية القائلة بأن اللذة عبارة عن حالة أي «حالة» دائمة محررة من الألم.
حلقات وصل بين الأنانية والغيرية
نصل هنا إلى بحث على جانب عظيم من الشأن هو بمثابة الجسر الذي يعبر عليه المذهب القوريني في أوسع معانيه من البحث في سعي الفرد للحصول على سعادته إلى الاعتراف بحقيقة الواجبات الاجتماعية، وما للعواطف الغيرية من قيمة، أما أن المذهب القوريني قد حاول أن يجد في كل ألوانه، وعلى مختلف اتجاهاته، بل ويدعي رجاله بأنهم قد عثروا بالفعل على حلقة وصل بين الطرفين: طرف الفرد وطرف المجتمع؛ فأمر لا يساورنا فيه أقل ريب، فعلى الرغم من أنهم استطاعوا أن يستكشفوا في العرف (العادات والتقاليد) عنصرا أعمق من العنصر الذي يتخذ قاعدة عامة عند الحكم على ما هو عدل وما هو ظلم، وعلى ما هو نفيس وما هو وضيع، وبالرغم من أنهم صرحوا بأن التفريق بين ما هو حق وما هو باطل، إنما يقوم بحكم العادة والوضع من ناحية، وبقسر الشرائع من ناحية أخرى، لا بالطبع، وهو مذهب أراد القورينيون كما أراد «هفياس الأليسي
Hippias » من قبلهم أن يؤيدوه مستندين إلى ما ظهر من وجوه الخلاف الكبير عند الحكم على مثل هذه الأشياء في مختلف الأزمان وعند مختلف الأمم بالرغم من هذا كله، فإنهم آمنوا كما نستطيع أن نثبت بكثير من الشواهد، بأنه ينبغي للحكيم أن يتنكب كل ما هو ظلم، وكل ما هو باطل.
أما الأستاذ إردمان فيقول في كتابه «تاريخ الفلسفة»:
إن أرسطبس لا يعترف بأن شيئا من الأشياء هو حق بالطبيعة، ويقول بأن كل شيء إنما هو نتيجة شريعة أو قانون، ويخفف من حدة هذا المذهب قوله: إن الحكيم يعيش بالقوانين كما يعيش بغيرها؛ أي إنه لا يؤثر في سلوكه قيام القانون أو عطله.
على أنني لا أرى في قول أرسطبس من الحدة ما يرى الأستاذ إردمان، فضلا عن أن الأستاذ جومبرتز قد أبدى كثيرا من الشك في الحكم والأمثال السائرة التي تنسب إلى أرسطبس، وله في ذلك أكبر الحق؛ لأن المذهب الذي لم تصلنا منه إلا نتفا وفقرات لا يصح أن يعتمد في تفسيره على كلمات مأثورة تنسب إلى واضع المذهب، تنوقلت على مدى أزمان طويلة، من غير أن يقوم على صحة نسبتها إلى أرسطبس أي دليل إلا دعوى قائليها. •••
عندما تعوزنا الأسانيد الوثيقة الكاملة في بحث أية نقطة من نقط التاريخ فإننا نضطر إلى الاستعانة بالأقيسة التمثيلية
Analogy
ولا نذهب في تبرير هذا بعيدا، فإن الأساليب التي اتبعها الذين روجوا للمذاهب المتلاحمة، ونقصد بها المذاهب ذوات الآصرة والعلاقة في عصور أخرى، مما يبرر هذه السبيل التي نريد اتباعها، وإن أقرب ما نذكر من أمثال الروابط التي تعبر عليها المذاهب ليتصل بعضها ببعض، ما نرى من عبور فكرة «المصلحة إذا حسن فهمها» من عصر إلى عصر ومن مذهب إلى مذهب؛ فإن هذا الضرب من الموازين الأدبية - وهي الموازين التي تدعو إلى التحرر من الرذائل لما تجر الرذيلة على مرتكبيها من النتائج الضارة، ولأن التحرر من الرذائل يزود الإنسان ببواعث تدفعه إلى فعل الخير - لم يكن بعيدا عن أذهان القائمين بحركة التجديد الحديث في أوروبا.
وإذا أردنا أن نقف على أسلوب هذه الفكرة في جوهرها، فإننا نقع على تفصيلها في كتاب صغير كتبه «فولني
Volney » اللاديني
Deist
10
الفرنسوي مؤلف كتاب الخرائب
Ruins ، أما ذلك الكتاب الصغير فعنوانه «أصول الإحساس بالخير» ثم «پالي
» الآلهي الإنجليزي الذي يحصر عقاب الحياة الأخرى وثوابها في حدين: أولهما «السعادة الشخصية كرائد في الحياة»، و«إرادة الله كقانون» وبهذا تجد أنه أوسع من نطاق فلسفة الحياة، بحيث جعل أثرها يتعدى الدنيا ليشمل الآخرة.
ولقد أشرنا من قبل إلى الخطبة الأخيرة في كتاب أفلاطون المسمى «بروطاغوراس» فنظرنا فيه نظرة أشمل وأدق، أما هنا فنقول بأنه مما لا يبعد احتماله أن يكون أفلاطون قد كتب هذا الكتاب موليا بنظره شطر أرسطبس زميله في التلمذة، وهذا الحكم يمكن أن نجعله يشمل ذلك الجزء من كتاب «فيدون
» الذي يحاول أن يثبت فيه أفلاطون أن الفضيلة إنما هي نتيجة التبصر
على أن تأملات شبيهة بهذه هي التي تحتل مركز الدائرة في مذهب أبيقور الأدبي.
لقد اتبع أبيقور خطوات القورينيين في المسائل الأخلاقية غير أن طبيعته المتقدة المتوثبة لم تجد في أسلوبهم الذي اتبعوه لدى استنتاج «النواهي» الخلقية ما يرضيها الرضا الكامل، فإنه لم يرض بأن يقف «تهذيب الأخلاق» عند حد وضع القواعد الأولية، فتكون كالأمثال السائرة كقولك: «الأمانة أحسن سياسة»، أو كقولك: «إذا لم توجد الأمانة لوجب أن نوجدها»؛ فإن هذه القاعدة الأخلاقية إذا بلغت هذا الوضع - أي الوضع الذي تصل معه حد التوسط بين «حب الفرد لنفسه» وبين «الخير العام» - لم تصبح بعد مجرد نظرية تحذيرية في الأخلاق، بل وجب أن تكون كقوة القانون، التي تكمل من ناحية، وتنظم من أخرى؛ قوة الرأي العام.
على أن كلا من هذين المؤثرين يظهران جليين في تعاليم القورينيين، فقد اعتبروا أن احترام العقوبات القانونية واحترام الرأي العام مؤثران لهما نتائجهما الثابتة في ضمان حسن السلوك، وقد نجد في العصور الحديثة أن الذين مثلوا هذا الوضع من الفكرة الأخلاقية كانوا جميعا من القائلين بوجوب «الإصلاح التشريعي» فإن هلفتيوس قد وضع نصب عينيه الوصول إلى غرض واحد هو أن يلبس القانون ذلك الثوب الذي يمكن به التوفيق بين المصالح الذاتية والمصالح العامة، وكذلك بنتام، فإنه حاول أن يحقق هذه الناحية نفسها مستخدما في سبيلها كل ما أوتي من قوة تفكير ونبوغ، وكل ما خص به من خصب القريحة وكفاية الخلق والإبداع.
وضح لنا الآن أن أول وجه من أوجه العلاقة بين الذاتية والغيرية، إنما يقوم على احترام القانون واحترام الرأي العام، أما الوجه الثاني فيقوم على فكرة تقدير المشاعر الغيرية باعتبارها عنصرا من عناصر السعادة الذاتية.
وتطبيق هذه الفكرة ينحصر في العمل على «تأصيل» هذه المشاعر، بأن ننسى أصلها الأناني الذي نشأت عنه، وأن نحيا حياة كلها «صبر واحتمال وتضحية» في سبيل ما يعود من خير على إخواننا الذين يعايشوننا باعتبار أن عملنا هذا ما هو إلا وسيلة نصل من طريقها إلى سعادتنا الذاتية.
ولأجل أن نضرب مثلا على ما يعني بهذه القاعدة، نذكر كلمة دالمبير المأثورة «إن حب الذات إذا استنار أصبح المصدر الذي تنبع منه تضحية الذات»، أو نذكر تعريف هولباك الذي استعاره من لبنتز في الفضيلة، بأنها «فن إسعاد الذات بالعمل على إسعاد الغير.»
هنالك وجه ثالث في هذا البحث نقع به على حقيقة وسطى تربط بين الذاتية والغيرية، ويكفي فيه أن نرجع إلى الكلام في بعض الحقائق السيكولوجية (النفسية)، فهنالك حالات عديدة استطاعت فيها العادة وتداعي الأفكار
Association of Ideas
أن تحورا ما كان في أصله وسيلة لأشياء أخرى، وتحولاه إلى غاية مطلوبة لذاتها، خذ لذلك مثلا الرجل البخيل الكانز، فإن جمع المال لذاته ولمجرد جمعه واكتنازه يصبح عنده غاية، بعد أن كان في أصله وسيلة لجلب الطيبات والمتعة به، وكذلك الرجل المدمن فإن الشرب عنده يصبح غاية مطلوبة لذاتها بعد أن كان وسيلة لجلب السرور، وهو يستمر يشرب حتى بعد أن يعجز الشرب عن أن يمده بأي باعث من بواعث السرور، والمشاعر الاجتماعية لا تخرج في طبيعتها عن هذا، فإن هذه المشاعر مؤصلة في الأنانية وقائمة عليها، وهي تستمد قوتها من المدح والذم، ومن الثواب والعقاب، ومن انتظار الفكرة الطيبة، ومن حسن اعتقاد الغير في حسن نيتنا، ومن اشتراك المصالح، وهذه المشاعر تكتسب بالتدريج قوة تتمكن بها من أن تتحول عن أصلها الذي نشأت عنه، ومن ثم تؤثر في النفس تأثيرا مستقلا تمام الاستقلال عن أصلها الأناني.
وقد نقع على آثار تدلنا على أن الوجهين الثاني والثالث من أوجه العلاقة الهيدونية (إسعاد الذات) وبين الأخلاق الاجتماعية (إسعاد الغير) قد تناوبا التأثير في أخلاقيات أبيقور وفي أخلاقيات القورينيين من قبله، ولا يسعنا إلا أن نذكر الباحث بما سبق لنا الكلام فيه عند شرح مذهب أنقريز الأخلاقي، وأن نضيف إلى ذلك قولا ننقله عن هذا الفيلسوف أطلقه على المذهب القوريني في مجموعه، ولم يخص به ناحية بعينها منه فقال: «إن سعادة أوطاننا ورفاهيتها واعتبارها مساوية لسعادتنا؛ كافية وحدها لأن تغمرنا بالابتهاج.»
تأصيل مشاعر الغيرية ومذهب پافلوف
ما من شك في أن الفيلسوف أنقريز قد بلغ بالمذهب القوريني أسمى المراتب عمليا ونظريا؛ فإنه من حيث النظر قد بلغ من تصور التضحية بالذات إلى ذروة ما يبلغ التصور من الكمال المستطاع، ومن الوجهة العملية وضع للمذهب قاعدة ثابتة لم يعرف ما لها من أثر إلا ببحوث پافلوف الاختبارية، كما عرفناها نظريا من كتابات هرتلي، فإن قول أنقريز: «إن مشاعر الغيرية مهما كانت مصادرها وأصولها تحرز - تدرجا - قوة مستقلة خاصة بها، وإن هذه المشاعر تحتفظ بتلك القوة، حتى ولو لم تتزن من اللذة، يدل على أن هذا الفيلسوف قد نفذ ببصيرته الوقادة إلى أعماق لم يبلغها أحد قبله من الذين حاولوا وضع نظريات الأخلاق موضع التطبيق العملي، على أن هذا الأثر الذي خلفه أنقريز لم نقف على ما له من نتائج عملية إلا في عصرنا هذا» - خيل إلى المشتغلين بالبحث العلمي عندما طغت المادية العلمية على فروع المعرفة الإنسانية في أواخر القرن الثامن عشر بطوله؛ أن الفلسفة قد انقضى عهدها وبادت، فلم تصبح أكثر من أحاديث تذكر عن الماضي، وآدابا قديمة يقصد بالوقوف عليها تنمية الإطلاع وتوسيع دائرة المعارف؛ أي إنها أضحت وسيلة إلى أغراض ثانوية، وإنها لم تصبح أداة للتأثير في الحياة الإنسانية من طريق عملي.
وكان هذا ولا شك طغيانا وإفراطا في تقدير ما للعلم العملي من قيمة، فلما أشرف القرن التاسع عشر على الختام نامت عاصفة العلم وهبط طغيان العلماء؛ إذ بان للناس أن للعلم حدا يقف عنده، بان لهم أن وظيفة العلم تنحصر في وصف الظاهرات الطبيعية وآثارها وعلاقة بعضها ببعض، وأنه بعيد عن أن يفسر «الماهيات» أو يتناول كثيرا من الأشياء الإنسانية بتجاريبه، وبين جدران معامله، أو في ثنايا قواريره وأنابيبه، بل ظهر لهم أن العلم خدم الفلسفة بقدر ما خدمت الفلسفة العلم، ولكن ما أعطت الفلسفة للعلم، كان أضعاف ما أعطى العلم الفلسفة، وما تطبيقات پافلوف إلا مثلا رائعا يبين لنا وجوه الارتباط بين الطرفين. •••
كان الفيلسوف «لوك
Locke » الإنجليزي أول من أشار إلى ظاهرة تداعي الأفكار
Association of Ideas
في درج مبحث من مباحثه في «الفهم الإنساني» ثم عقب عليه الفيلسوف هتشنسون الإنجليزي، فقال بأننا قد «نرغب» في بعض الأشياء التي تكون بذاتها «ملذة»، وقد نميل إلى أشياء أخرى تكون وسيلة للالتذاذ، أما الأشياء التي نرغب فيها لأنها وسيلة إلى اللذة، فقد دعاها «الرغبات الثانوية» وقضى بأنها تتحول فتصبح من حيث القوة والأثر في منزلة الأولى، فإننا بمجرد أن ندرك منافع المال أو السلطة، في إرضاء بعض رغباتنا الأصيلة، لا نقف عند حد الرغبة في الانتفاع بهما، بل نتحول إلى حبهما لذاتهما. ثم ظهر مؤلف لرجل من رجال الدين يدعى «جاي
Gay » ما لبث أن نسي دراكا، غير أن الواقع أن هرتلي أخذه أساسا لما كتب في شرح هذه النظرية، ولقد خرج جاي على ما كتب هتشنسون وأنكر أن في الإنسان أية حاسة أدبية فطرية، أو مبدأ أخلاقي أصيل في جبلته ، يدفعه إلى حب الخير، ولكنه سلم بأن الإنسان الراشد - أي الذي بلغ سن الرشد - تتكون فيه حاسة أدبية، كما يقول هتشنسون، وحاول أن يوفق بين هذا الرأي ومبدأ الفيلسوف لوك في «الرغبات الثانوية».
وفي سنة 1747 ظهر كتاب هرتلي الذي أوسع نطاق هذه النظرية وشرحها أمتع شرح، وطبقها أقوم تطبيق، وضرب مثلا بحب المال، فقال: إن المال في ذاته ليس فيه من جمال أو لذة، ولكنه لما كان الأداة التي تمكننا من الاستمتاع بالجمال وجلب اللذات وإكفاء الكثير من رغباتنا، تحول الحب إليه بالذات، ثم تطرف «المال» في الاستيلاء على النفس، فقضى على كل المثاليات التي كان يرغب الإنسان في الوصول إليها من طريق المال، باعتباره وسيلة، وتفرد هو بالبقاء دونها حتى لترى البخلاء يضحون بكل معاني الجمال وينبذون كل لذائذهم في سبيل المال، وكذلك الحال إذا نظرت في حبنا للقوة والسلطة، فإننا إنما نحب القوة لأنها بديا وسيلتنا إلى إكفاء كثير من رغباتنا، وما نلبث غير بعيد حتى يشترك حبنا للقوة مع هذه الرغبات، ثم نستدرج إلى حالة نطرح فيها هذه الرغبات ونشغف بالقوة لذاتها كل شغف، ونهيم بها كل هيام، وعلى هذا فقس كثيرا من ظاهرات الخلق الإنساني. أما پافلوف فقد تلقى هذه الظاهرة كنظرية، وأخرجها بتجاريبه علما صرفا.
على أن الفلسفة القديمة لم تهمل النظر في هذه الظاهرة كما قدمنا، فقد تضمنها المذهب القوريني، ونماها أنقريز ثم تلقاها أرسطوطاليس، فتجد في مذهبه الأخلاقي آثارا منها، وطبقها بعض الأبيقوريين على الصداقة، فقالوا بأننا إذا أحببنا أصدقاءنا أول شيء لما تبعث صداقتهم فينا من شعور اللذة، فإن هذا يتحول مع الزمن إلى حب الصديق من أجل ذاته، بعيدا عن كل الاعتبارات الأخرى.
أما ما تطورت إليه هذه النظرية في العصر الحديث؛ فينحصر في تجاريب العالم پافلوف الروسي كما قدمنا، ولقد حصر هذا العالم الكبير كل تجاريبه في الكلاب، فإنه من المعروف أن الكلب إذا رأى قطعة من الحلوى سال لعابه، فكان پافلوف يستغل هذه الظاهرة ويدخل في فم الكلب أنبوبة حتى يتستطيع أن يعرف بالضبط مقدار اللعاب الذي يسيل من فم الكلب عند مرأى الحلوى. وسيل اللعاب في الفم عند تناول الطعام أمر غير اختياري، ولذا سمي فعلا عكسيا؛ أي إنه أحد تلك الأفعال التي يؤديها الجسم بقاسر ذاتي، ومن غير أن يكون لتجاريب الحياة فيها أقل نصيب
وهنالك كثير من الأفعال العكسية بعضها أصيل، والبعض الآخر مؤصل، ومن هذه الأفعال ما يمكننا مشاهدته في الأطفال ، ومنها ما يتأصل على قدر من العمر، ومرور من الأيام، فالطفل يعطس ويتثاءب ويتمطط ويرضع ويحول عينيه نحو النور، ويأتي غير ذلك من الأفعال في مختلف أطوار عمره وظروفه، من غير أن يكون في حاجة إلى أن يتلقاها عن غيره، وكل هذه الأفعال تدعى الأفعال العكسية، أو بالأحرى - كما دعاها پافلوف - أفعال عكسية أصيلة
Unconditioned Reflex Actions
وهي بذاتها التي كانت تدعى من قبل الغرائز
Instincts ، والغرائز المركبة كغريزة بناء الأعشاش في الطير، تلوح كأنها جملة مندمجة من أفعال عكسية، والأفعال العكسية في الحيوانات الدنيا قلما تؤثر فيها تجاريب الحياة، فإن البعوضة تستمر تحوم حول الضوء، حتى بعد أن يحترق جناحاها، وعلى الضد من ذلك تجد الحال في الحيوانات العليا، فإن تجاريب الحياة فيها لها في هذه الأفعال العكسية الأصيلة تأثير بالغ، ولا يخرج الإنسان عن حكم هذه القاعدة، ولقد حصر پافلوف تجاريبه على سيل اللعاب في فم الكلاب، فخلص من تجاريبه بالقاعدة الآتية التي استخلصها من تحول الأفعال العكسية الأصيلة:
عندما يقترن بالمنبه الذي يبعث أي فعل عكسي أصيل أو يتقدم عليه مرات عديدة أي منبه ثان، فإن هذا المنبه الثاني يحدث مع الزمن نفس الاستجابة
Response
التي كان يبعثها المنبه الأول في إحداث فعل عكسي متحول
Conditioned Reflex Action .
فإن سيل اللعاب فعل عكسي أصيل، لا يحدث أصلا إلا عند وجود الطعام في الفم، ومن ثم يحصل عند مرأى الطعام أو شم رائحته، أو عند حدوث أية علاقة أو إشارة تسبق مباشرة الأكل، وكل هذه الأفعال يدعوها پافلوف، الأفعال العكسية الأصيلة، على أنك تجد أن نفس الاستجابة (سيل اللعاب) واحدة في الفعل العكسي الأصيل والفعل العكسي المتحول، وأنه لم يجد في الأمر من شيء إلا المنبه
Stimulus
الذي يشترك أو يتحد مع المنبه الأصلي من طريق التجربة، وهذه القاعدة هي أساس كل تعليم أو استيعاب للمعلومات، وأساس الظاهرة التي كانت تدعى من قبل «تداعي أو اشتراك الأفكار» وأساس تعلم اللغات وأساس استحكام العادات، وعلى الجملة الأساس العملي لكل مناحي السلوك الإنساني الخاضع للتجربة.
بعد أن استرشد پافلوف بهذه القاعدة مضى يطبقها على ما يخطر بباله من ممكنات التطبيق، فإنه لم يقتصر على امتحان منبهات الطعام الشهي، بل عمد إلى الأحماض المكروهة، يأخذ منها منبهات يستعملها في تجاريبه حتى يستطيع أن يؤصل في كلابه استجابات «التوقي» كما يؤصل فيهم استجابات «التشهي». فبعد أن ينبه فعلا عكسيا أصيلا، يعمد إلى قمعه بفعل آخر، فإذا كانت العلامة أو الإشارة التي يعمد إليها تعقبها نتيجة مرغوب فيها طورا، ونتيجة مكروهة طورا آخر، فإن الكلب يصاب حتما باضطراب عصبي مثل الهستيرية أو النيروستانية، وتظهر عليه العلامات المميزة لأحد المرضين.
ويروي پافلوف رواية يجدر بكل المشتغلين بالتربية أن يحيطوا بها، فقد جرب في بعض كلابه تجاريب عديدة، فكان يرسم أمام كلب منها دائرة من الضوء اللامع عندما يعطيه الطعام، وإهليلجا (شكلا بيضيا تقريبا) عندما يقذفه بشحنة كهربائية، فاستطاع الكلب أول الأمر أن يميز تماما بين الدوائر والإهليلجات، فكان يسر بمرأى الأولى، ويمتعض من مرأى الثانية، فأخذ پافلوف يقلل شيئا بعد شيء من تفلطح الإهليلج حتى يظهر - تدرجا - أقرب إلى الدائرة، ولكن الكلب ظل قادرا على التمييز بين الاثنين، فلما زادت استدارة الإهليلج إلى درجة كبيرة، انقلبت الآية تماما، فقد حدث أنه كان يحاول أن يميز بينهما، ولكنه كان يخطئ دائما! واستمر على هذا أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، ثم فقد كل قدرة على التمييز بين كل من الدرجات التي تدرج فيها من قبل، وحتى بين الإهليلج والدائرة جليين، وتغيرت أخلاقه وساء سلوكه، فكان بدلا من أن يقف ساكتا، أخذ يعربد ويعوي عواء شديدا، فأعاد عليه پافلوف الكرة في نفس التجربة، مبتدئا بها كما بدأها أول مرة، فكانت قدرة الكلب على التمييز بين الشكلين أضعف بكثير من المرة الأولى، وأخذت تصيبه نوبات العربدة والعواء، عندما أصبح التمييز بين الشكلين أكثر صعوبة بعض الشيء.
ولا شك مطلقا في أن حالات كهذه تتكرر كل يوم بين جدران المدارس وفي معاهد التنشئة، وإليها يرجع السبب في كثير مما يبدو على الطلاب من مظاهر البلادة والخمول، بله اضطراب الأعصاب في بعض الحالات، فإن كل طالب له استعداد خاص به يوجهه توجيها خاصا، فمنهم من يميل إلى اللغات ويمقت الرياضة، ومنهم من هو على عكس ذلك تماما، وهذا الاستعداد الذي كثيرا ما يلوكه المربون، ولا يدركون من سره شيئا، هو بعينه «الاستجابة» عند پافلوف؛ فإذا أخذنا المثل الأول من طالب يحب اللغات ويمقت الرياضة كان تعلم اللغات هو الدائرة البيضاء، وكان تعلم الرياضة هو الإهليلج في كلب پافلوف، فإذا فرض على هذا الطالب قسرا أن يجتاز امتحان الرياضة، كما يجتاز امتحان اللغات، وهو يعلم أن ذلك فرض عليه، كما يفرض پافلوف على كلبه طعاما شهيا عند ظهور الدائرة، وشحنة كهربائية عند ظهور الإهليلج، كانت النتيجة اضطرابا عصبيا يقل أو يزداد أثره بمقتضى الظروف، ولا أظن أن طالبا واحدا يفلت من هذا التأثير في معاهد التعليم قاطبة، ولكن النتائج تختلف باختلاف الأشخاص، ومقدار ما في أعصابهم من قدرة على تحمل هذه التجاريب القاسية، ولو كان التخصص في دور العلم يبدأ مع ظهور الاستعداد، أو بالأحرى الاستجابة في الطالب؛ إذن لاستطعنا أن نخلق أمة جديدة خلال جيل واحد، ناهيك بأن التخصص من مميزات العصر الحديث بل هي ميزته التي ندعي أنه يمتاز بها على العصور الفارطة، وناهيك أيضا بأن الطالب الذي لا يستجيب استعداده لفرع ما من فروع المعرفة، لن يفلح فيه أبدا، بل لا بد من أن يرتد إلى استجابته الأصيلة، بعد أن يكون قد فقد في أطوار تعليمه جزءا لا يستهان به من ملكاته الفطرية، فإن سبنسر كان مهندسا فارتد فيلسوفا، وولز كان عالما فانقلب أديبا، ودروين كان بليدا في استيعاب المبادئ فانقلب عالما طبيعيا فذا في تطبيق المبادئ واستكشافها، وإنما نقول إننا نقتل أولادنا ونحطم مستقبلهم كرجال، في معاهد التعليم بنظاماتها الحاضرة وبرامجها.
قال الفيلسوف المعاصر الكبير «برترند رسل» في كتابه «التربية والنظام الاجتماعي» ص165-166 ما يلي:
إذا اضطر الطلاب والطالبات أن يعالجوا موضوعات تفوق كفايتهم ومقدرتهم العقلية، فلا شبهة في أن ذلك يؤثر في عقولهم وأعصابهم تأثيرا شديدا يوقعهم في الفزع والخوف، ولا يقتصر هذا الفزع على الموضوعات التي يتناولونها بالذات، بل إنه يصيبهم من كل فروع العلم التي تمت إلى هذه الموضوعات بسبب، والواقع أن كثيرا من الناس يظلون ضعافا في الحساب والرياضيات طوال أيام عمرهم، ولا سبب في هذا إلا أنهم بدءوا يدرسون هذه العلوم مبكرين في السن، وكذلك لا يجب أن ننسى أن كفاية إدراك المجردات، هي آخر الكفايات تكوينا ونضجا في الأحداث، كما أثبت ذلك العلامة «بياجت
» في كتابه «التمييز وحكم العقل في الأطفال» بكثير من الشواهد والملاحظات السديدة، والمعلم إذا لم يكن واقفا على أسرار السيكولوجية، مطلعا واسع التجربة، فإنه يصعب عليه أن يدرك أن عقول الأحداث قد تتهوش وتختلط بالقدر الذي يقع فعلا، والخطأ الذي يقع فيه المربون، أنهم يبدءون بتدريس الرياضيات في سن مبكر، ويلزمون الأحداث معالجة مسائلها المعقدة، فلا يلبثون أن يصابوا بالخبال العصبي على درجات قد تزيد أو تقل بعض الشيء عن الدرجة التي بلغها كلاب پافلوف من البلادة واضطراب الأعصاب، ومن أجل أن تتقى هذه الآثار السيئة، وجب أن يكون المدرسون على علم بقواعد السيكولوجية الأساسية، مزودين بمبادئ قويمة في التدريس والإلقاء، وأن يكونوا أحرارا في تحوير الأسلوب الذي تدرس به البرامج إلى الحد الذي تدعو إليه الضرورة.
وما من شك في أن نظام التعليم في العصور القديمة كان أقوم من هذه الوجهة منه في العصور الحديثة، فكان المدرس حرا والطالب حرا، كان المدرس مختصا. وكان التلميذ مختارا في تنمية الناحية التي يتفوق فيها استعداده أو «استجابته»، ولا بد لنا من الرجوع إلى نظام يشابه هذا النظام، وإلا فإن التعليم والتربية سيكونان محنة العصر الحديث، وعلى الأخص بعد أن أخذت المعرفة الإنسانية تدخل في مفاوز مظلمة موحشة، أين منها هندسة فيثاغورس أو رياضيات إقليدس.
يؤيدنا في هذا الاستنتاج أن پافلوف يعتقد في صحة التقسيم الذي قسم به «أبقراط» الأمزجة، فقد قسم «أبقراط» الأمزجة أربعة أقسام: الصفراوي
Choleric
والسوداوي
Melaucholic
والدموي
Sangiune
واللمفاوي
، ويعتقد پافلوف أن هذا التقسيم صحيح، بل ويزيد إلى هذا أن أصحاب المزاج اللمفاوي والمزاج الدموي هم المثل الأعلى في الرصانة والتعقل، أما أصحاب المزاج الصفراوي والمزاج السوداوي فهم الأكثر تعرضا للاضطرابات العصبية، وهو يقول بأن تقسيم الأمزجة إلى هذه الأقسام جلي في الكلاب التي أجرى فيها تجاريبه، ويعتقد فوق هذا أن أمر الإنسان لا يخرج عن طوق ذلك.
فإذا صح معتقد پافلوف فلا شك في أن أصحاب المزاجين الصفراوي والسوداوي تقتلهم معاهد العلم قتلا بطيئا، مع أن المرجح أنهم أكثر ذكاء من أصحاب المزاجين الآخرين، كما أننا لا نشك في أن أصحاب المزاجين اللمفاوي والدموي تؤثر فيهم طرق التعليم تأثيرا يضعف من مواهبهم الطبيعية.
أما المحصل من هذا كله - وإن كنا قد استطردنا إلى نواح لا تمت إلى موضوعنا بسبب مباشر - فينحصر في أن أنقريز الهيدوني وبعض الأبيقوريين، قد نفذوا ببصيرتهم النقادة إلى أعماق قصية في تعليل السلوك الإنساني، يؤيدهم فيها العلم الحديث بطريق عملي تجريبي، سوف يكون له أكبر الأثر على مستقبل الحضارة.
الهيدونية والنفعية
إن اللمحة السابقة كافية لأن تقنعنا بأن الهيدونية، وبالأحرى النظرية التي تجعل اللذة والألم عند شعور الذات بهما النبع الأصيل الأوحد للأفعال الإنسانية - لا تنطوي على إنكار ما يتضمن الخلق الإنساني من ممكنات الأنانية وحب الذات، فضلا عن أنها لم ترسم طريقا عمليا يقضي على الأنانية ويمحو أثرها من الدنيا.
على أن كثيرا من أنصار هذه النظرية، المتفانين في الإيمان بها؛ كانوا مع اعتقادهم بصحتها، من محبي الإنسان
الذين امتلأت قلوبهم بحب الناس وشغفوا بخير البشر، ومثلنا جرمي بنتام وغيره من متحمسي الارتقائيين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهم الذين اعتقدوا بأن الإنسان مستعد للارتقاء والتقدم إلى غير حد.
ولقد تحولت النظرية في أيديهم إلى مبدأ آخر، إن كان قد اختلط وامتزج بالنظرية الهيدونية إلى حد أن كثيرا ما تبلبل المبدأ والنظرية على الكثيرين، فإنه مبدأ جديد يختلف عن النظرية القديمة كل الاختلاف، ونعني به مبدأ النفعية
Utilitarianism
وهو النظام الأخلاقي الذي اتخذ الخير العام هدفا يرمي إليه، وجعل حكمته الأساسية محصورة في القول بالخير الأعظم للعدد الأعظم
The greatest good, for the greatest number
ولا شك في أن كثيرا من البواعث التي ظهرت خلال عصور «التنور» في العهدين القديم والحديث كان من شأنها أن تفضي إلى ظهور هذا المذهب وأن تزوده بكل عناصر القوة والحض عليه كما حدث في فرنسا خلال القرن التاسع عشر وفي بلاد اليونان خلال القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، وقد نحصر هذه البواعث فيما يلي:
أولا:
انحلال أسلوب التفكير اللاهوتي في دوائر العلم.
ثانيا:
ظهور كفاية المشاهدة والاختبار وتساميها إلى درجة عليا بالتحرر من كل ميل إلى الزخرف والتنميق اللفظي.
ثالثا:
الرغبة في إقامة الحياة الفردية والحياة المشتركة على أساس عقلي على وجه العموم، وعلى أساس علمي على وجه التخصيص، وللوصول إلى هذا الغرض شاعت فكرة الشك في كل الظواهر الخلابة، والاستعاضة عنها لدى البدء في بحث أي موضوع، بمقدمات أقل ما تكون عرضة للانتقاص والجدل؛ لأن المقدمات إذا كانت كذلك أصبحت أقل خضوعا لروح المداورة وتضمنت فكرات واضحة جلية.
انتقاد النظرية الهيدونية
يدعونا الواجب أن لا نحصر انتباهنا في بحث المبادئ الإيحائية
Inspiring Principles
11
وحدها، بل ينبغي علينا أن نتوجه أيضا إلى بحث النتائج التي تتربت على مثل هذه الميول الفكرية، على أن أقلية من المفكرين هم الذين ينكرون أن في كل من هذه الميول الفكرية ناحية من الحق، ولكن إذا استجمعنا تلك النواحي وأخذناها باعتبارها «كلا» واحدا، فهل تشمل الحق كله؟
علينا الآن أن نمضي في شرح الأسباب التي تحملنا على الاعتقاد بأنه من الصعب أن نجيب على هذا السؤال بصيغة الإيجاب، وهذا رأي الأستاذ جومبرتز، لهذا ينبغي علينا أن نمضي في سرد أدلته التي سوف نرد عليها بعد أن نكمل سردها بإسهاب.
إن الهيدونية لا تستحق كل ذلك اللوم الذي يوجه نحوها عادة، غير أن الظاهر أنها تعجز دائما عن أن تزودنا بتفاصيل وافية في شرح الحقائق التي تحاول تبيانها، أو ترمي إلى الكشف عنها، وهي ككثير غيرها من المذاهب القديمة مدخولة بنقيصة، هي الناحية العكسية لما ندعوه «جوهر الموضوع»، وتنحصر هذه النقيصة في أن الهيدونية تغالي في السعي وراء الحصول على درجة من الغرارة (البساطة) لا تحتملها الحقائق، فإن تلك الظاهرة الإنسانية التي اتخذتها الهيدونية، كما اتخذها بنتام أعظم نصرائها في العصور الحديثة؛ أساسا لكل ما يصدر من الأعمال الإنسانية - تنزل في غور سحيق بعيد العمق، ولكنه مع ذلك ليس بأبعد الأغوار التي يمكن أن تصل إليها عين الباحث المستعمق.
ولنأخذ للبحث مثلا من سعي الإنسان والحيوان لطلب الغذاء، فهل صحيح أن الإنسان والحيوان إنما يرغبون في الغذاء بسبب اللذة التي يستشعرونها عند الأكل؟ أما إذا بحثنا هذا الموضوع بحثا أدق، فالظاهر أننا سوف نجد أن الحقيقة على خلاف ذلك، فإن رغبتنا في الغذاء رغبة عاجلة، تنشأ من قاسر غريزي يدفعنا إلى حفظ الحياة وتقويمها، أما اللذة فظاهرة تأتي تبعا لذلك، وتشترك معه اشتراك كل الأفعال الأخرى التي تحفظ الحياة وتوازن مكملاتها، والغالب أننا لا نخطئ كثيرا إذا فسرنا هذه الحقيقة على قاعدة طبيعية.
فإن تركيب المادة التي يتكون منها جسم الحيوان عرضة دائما إلى التحلل، وهذا التحلل يستمر إذا لم تعوض الأجسام عما تفقده من طريقه، ونجد من جهة أخرى أن تركيب مادة الأجسام الحية فيه قوة المقاومة، وهي حقيقة تظهر جلية في الفعل العكسي الذي يصدر عن الخلايا الحية تلقاء المؤثرات المضرة، وهذا الفعل العكسي وغيره من الحقائق ذوات الآصرة به مما نقع عليه في الطبيعة، لا يمكن تعليلها بغير هذا.
وقد نسعتين بذكر ناموس الوراثة الذي يرتكز على نزعة في نظام طبيعي، بدأت مرة لتستمر في تأثيرها إلى غير نهاية، ثم الناموس الأول من نواميس الحركة الذي تتجلى فيه هذه النزعة على صورة نتبين منها كيفية تطبيقها بوضوح تام، وعلينا بعد هذا أن نذكر أيضا أن المفاعلات الطبيعية التي تحدث في الكائن العضوي تشرف عليها، إشرافا جزئيا على الأقل، ظاهرات لها طابع نفسي، يتجلى فيه أثر الحركة الانفعالية، ومن هنا يحصل بتأثير قوة من قوى التكافؤ القصدي أو الغائي، إن لم تكن لتبعث فينا شيئا من العجب الشديد، فإنها عميقة المدى بعيدة الأثر، أن تستشعر الكائنات الحية بلذة تستخلصها من كل المفاعلات الطبيعة المؤدية إلى بقائها، وأن تستشعر ألما في كل المفعالات التي لا تؤدي إلى هذه الغاية، ومن هنا تتحول اللذة والألم إلى ظاهرات تصحب هذه النزعة البدائية، على أننا في كل هذه الملاحظات التي نقع على جرثومتها في كتابات أرسطوطاليس، قد اعتبرنا الإنسان جزءا من الطبيعة، لا شيئا منفصلا عنها وقائما إلى جانبها.
ولا جرم أنه يساء فهم هذه الملاحظات إذا فرضنا أن الإنسان برغم أنه مزود بالعقل والشعور مجرد عبد أو آلة تحركها قواسر بدائية مؤصلة في تضاعيفها؛ لأن الإنسان بفضل الصور والفكرات التي يستخزنها في وعيه، أو بوجه أدق بفضل منازعه الإرادية التي تصدر عن هذه الصور والفكرات؛ يستطيع أن يظهر مقاومة لأقوى قواسره، فإنه يقدر أن يموت، وأن يموت جوعا، ولكنه ما دام بعيدا عن أن «يريد شيئا يقمع غرائزه الطبيعية» فإن غرائزه تمضي في إبراز نتائجها العاجلة، من غير أن تنظر في ما إذا كانت هذه النتائج يمكن أن تحدث لذة، حتى ولو كان إشباع هذه الغرائز ينتج لذة بالفعل، وفي هذه الحالة كما في غيرها من الحالات نجد أن السقراطية
Socratism
وغيرها من مذاهب الفكر التي تمت إليها بسبب لم تصب الهدف في صبغ الحياة الإنسانية بصبغة عقلية، ولا شبهة مطلقا في أن الفكرة في إرجاع شريعة السلوك الإنساني إلى قاسر معين فيها عظمة وفيها جلالة، غير أن هذه الأحدية
Monism ، أو بالأحرى هذه المركزية
Centralism ، إذا تجاوزنا بعض الشيء في استعمال هذا الاصطلاح؛ لا يمكن أن تثبت دعائمها إزاء ما في الطبيعة من تنويع، أو اصطلاحا إزاء كل ما فيها من تعددية
، أو تجاوزا إزاء ما فيها من «تحالفية»؛ أي تحالف القوى والمؤثرات
Feaderalism .
هذا مجمل الانتقاد والشرح الذي يمضي فيه الأستاذ جومبرتز إزاء النظرية الهيدونية في هذه الناحية، غير أنه بدأ بحثه بسؤال لا يجاب عليه بغير ما أجاب به في نقده هذا، ولكن قليلا من التأمل يدلك على أن السؤال قد وضع بصورة عكسية ليؤدي إلى جواب واحد.
تساءل جومبرتز: «هل صحيح أن الإنسان والحيوان إنما تحفزهم الرغبة إلى الغذاء بسبب اللذة التي يستشعرونها عند الأكل؟» ثم مضى في التدليل متخذا من هذا السؤال أساسا لبحثه، غير أنك إذا وضعت السؤال في صيغة أخرى تلتئم والحالة الطبيعية، وقلت: «هل يشعر الإنسان والحيوان برغبة في الغذاء ليطرد بالغذاء ما يستشعر من ألم الجوع؟» حصلت على نتائج تنافي النتائج التي وصل إليها جومبرتز تماما، ولم يصبح بك من حاجة لأن تستطرد إلى بحوث ما وراء الطبيعة كالقصد والغاية، وغيرهما من البحوث المجردة أنت في غنى عنها.
إن الجوع يحدث ألما يتحرر منه الكائن الحي بالغذاء، فإذا اعتبرنا الجوع سبب الرغبة في الغذاء، أتت اللذة عن طريق التحرر من الألم الذي يحدثه الجوع، لا مجرد لذة يحدثها الأكل لذاته، وأصبح الاحتفاظ بالذات من طريق التغذية تابعا لما يستشعر الإنسان من لذة التحرر من ألم الجوع بالغذاء، والسبب في خطأ الأستاذ جومبرتز يرجع إلى أنه أهمل النظر في السبب الذي يحدث الرغبة في الغذاء، وهو ألم الجوع، واتخذ اللذة التي يستشعرها الحي عند التحرر من ألم الجوع، أصلا للرغبة في الأكل والالتذاذ به.
وهنا نرجع إلى ما شرحنا من تطبيقات پافلوف، فإذا كان ألم الجوع فعلا عكسيا بسيطا
Unconditioned reflex action
يقسرنا على طلب الغذاء كان «حفظ الذات» فعلا عكسيا متحولا
Conditioned reflex action
يأتي تبعا لآخر وليس هو أصيلا بذاته، وهذه الحقيقة لا تؤيد نقد جومبرتز ولا تنفي النظرية الهيدونية في اللذة والألم، بل على الضد من ذلك تثبت أن الرغبة في الغذاء لا تتولد من حب الطعام والالتذاذ به، بل تأتي من حب التحرر من ألم الجوع، أما اللذة فلا تأتي من مباشرة فعل الأكل نفسه، بل من طريق التحرر من ألم الجوع.
على أن الأستاذ جومبرتز كان يستطيع أن يقع على حالة أبعد غورا في الطبيعة الحيوانية من رغبة الحيوانات في الغذاء، تلك هي رغبة الأحياء في التناسل، فإن الغذاء إذا حفظ الذات فإن التناسل يحفظ النوع، والطبيعة لا تقيم للذوات وزنا بجانب النوع، فهي تضحي بالذوات لتحتفظ بالنوع، ومع هذا يمكن تعليل الرغبة في حفظ النوع تعليلا علميا لا ضرورة معه للالتجاء إلى مباحث ما وراء الطبيعة، فإن التبادل الجنسي في الأحياء، استجابة لرغبة ملحة في التحرر من ألم تشعر به، واللذة إنما تحدث بشعور التحرر من هذا الألم عند مباشرة الفعل نفسه، فالألم الذي تحدثه الرغبة في التبادل البعولي هو لدى الواقع «فعل عكسي بسيط» يدفع الأحياء إليه، أما حفظ النوع فأمر يتولد عن ذلك الفعل، وبذلك يكون حفظ النوع عبارة عن «فعل عكسي متحول» على مقتضى تطبيقات پافلوف وهذا يزيد الهيدونية قوة، ويكسبها ضد النقد مناعة كبرى.
نقد الهيدونية ونشوء مشاعر الغيرية
يعتقد الأستاذ جومبرتز بأن للنقد الذي مضى فيه صلة بالوجه الثاني من أوجه العلاقة بين الذاتية والغيرية؛ أي بحث العنصر الأخلاقي الذي يولد المشاعر الغيرية، وهو يقول بأن ظاهر الأشياء يدل على أن مكتشفات العلم الحديث تؤيد النظريات الهيدونية، وتزودها بعناصر جديدة على أعظم جانب من القوة، وكل هذا حق، غير أننا نعجب كيف أنه لم يلاحظ أنه بنقده الأول يعاند حقيقة يقول فيها هنا إنها من أكبر مؤيدات المذهب، ولكن السبب في هذا أن خطأه كان في التطبيق، لا في إدراك المبدأ الذي أراد أن يطبقه.
لقد عمد القورينيون ومن بعدهم أبيقور، كما عمد أخلافهم من المحدثين وعلى رأسهم «هرتلى
Hartley » (1704-1757) و«مل
Mill » (1775-1836) الكبير - عند دفاعهم عن نظرية أن مشاعر الأنانية هي وحدها المشاعر الأصيلة، وأن مشاعر الغيرية تبع لها وكل عليها؛ إلى القول بأن العادة وتداعي الأفكار
Association of Ideas
هما الوسيلتان الوحيدتان اللتان من طريقهما يستحدث تحول المشاعر والقواسر الإرادية من طريق التفاعل الطبيعي، وعلى الرغم من أن هؤلاء المفكرين لم يؤمنوا بأن هذه الوسيلة كافية وحدها لأن تحدث الآثار التي أسندوها إليها، بحيث تنقل شخصا خلال حياته من أحط درجات الأنانية إلى أسمى مراتب التضحية، فإن العلم في القرن التاسع عشر قد يزودهم بحل لهذه المعضلة أقل تعرضا للنقد، ونشير بهذا إلى نظرية التطور على الصورة التي لابستها في العصور الحديثة.
بالرغم من أن الواجب يحملنا على أن نتنكب المبالغات، ونتقي أسلوب التطبيق الذي كثيرا ما يعتور هذه النظرية، وعلى الأخص عند تطبيق مذهب الانتخاب
Selection
فإن نظرية التطور تظل بعد ذلك كله قادرة على أن تفسر لنا كيف يخطو الإنسان نحو الغيرية، فإن أقل ما هنالك أن هذه النظرية تسهل علينا فهم الطريقة التي أمكن بها خلال عدد غير محدود من الأجيال، أن تستقوي تلك الميول العقلية التي تنزع إلى الاشتراكية الاجتماعية وتبادل المنافع العام، وعلى الأخص الميول التي تقسرنا على الإذعان للنظام الضمامي
Collectivism
شيئا فشيئا على غيرها من الميول، من طريق تطور الأعضاء التي يقوى مع تطورها وتهذيبها قمع الغرائز من طريق الإرادة.
غير أننا إذا أردنا أن نستهدي بضوء هذه النظريات لم يكن لدينا من مندوحة عن أن نرجع بتصوراتنا إلى الماضي السحيق الذي نعجز - حتى إذا أحاطت به تصوراتنا - عن أن نجيب مع تصوره جوابا مقطوعا بصحته، إذا نحن تساءلنا عن الأصل الذي نشأت منه أو تحولت عنه المشاعر الاجتماعية. فإذا حاولنا أن نؤول ذلك التصور تأويلا حرفيا كان تأويلنا له سببا في أن تفقد لغة الطبيعة معناها وبلاغتها، ذلك بأن هذه المشاعر قد يتفق أن تكون أصيلة كما يتفق أن تكون متحولة عن غيرها، وإذا خيل إلينا أنها أصيلة في الإنسان، فهل يبعد أن تكون في غرارتها الأولى مشاعر متحولة اكتسبها أصل قديم من أصولنا المتوحشة؟
أما المشاعر البدائية التي كانت سببا في ظهور ما ندعوه «التكوين الاجتماعي» البدائي، فما نشك في أن هذه الاحتمالات تعلل حدوثها، ولذا يجب علينا أن نأخذها على أنها حقائق ثابتة لا تقبل الريبة، فإن السرب
Herd
يتقدم في الوجود على العشيرة
Horde
وكذلك نجد أن العواطف الشعورية الفطرية في السرب لها نتائج واسعة بعيدة الأثر في حياة المتعضيات
12
وما يقال هنا عن «السرب» يمكن أن يقال بغير تحفظ عن كل ما يتعلق ببقاء الأنواع، والحالة في الأنواع لا تختلف عن حالة المشاعر والموازنات الشعورية التي تؤدي إلى حفظ الحياة الفردية.
التطور والآداب
إن الصورة التي لابست نظرية التطور في العصر الحديث كانت نتاجا لجهود العلامة دروين خلال القرن التاسع عشر، على أنه أحاط بهذه النظرية على قدر ما أهلت به الظروف، وبحث في كثير من ملابساتها، ولم يفته أن يبحث علاقة التطور بنشوء الآداب، قال في كتابه أصل الإنسان:
لما أن ضرب الإنسان بقدمه الثابت في مدارج المدنية، واتحدت الفصائل الصغيرة فكونت جماعات كبيرة، همس وحي الغريزة في ضمير كل فرد من أفراد تلك الجماعات، بأنه ملزم بأن يمد بيد الحب والعطف وبكل ما أوتي من الغرائز الاجتماعية إلى كل أعضاء الجماعة التي هو تابع لها، ولو لم يكن على صلة مباشرة بهم، أما وقد وصلت الإنسانية إلى هذا الحد، فلم يبق أمامها من حائل يصد موجة الحب الأخوي والعطف المتبادل أن تطمو على خبائث الطبع الحيواني، اللهم إلا حوائل مصطنعة مفتعلة.
ومن هنا نستدل على أن (دروين) يتنبأ بأن المستقبل كفيل بتحطيم تلك الحوائل التي تقيمها القوميات، إذا ما وجهت الإنسانية نحو العمل على سعادة النوع البشري، ومن هنا نعرف أن تعاليم الأديان العظمى جميعها لا تتنافى مع ما يؤدي إليه قانون الارتقاء التدرجي من النتائج.
ولدينا باعث آخر ظل عاملا على صد تيار التقدم الإنساني نحو المثل الأسمى من الآداب، ذلك باعث المؤثرات السيئة التي تنتج عن البيئات المصطنعة التي نخلقها من حولنا، فلقد أظهر (دروين) تأثير البيئات المصطنعة وما لها من الأثر في تغاير صفات الصور العضوية، إذا ما وقعت تحت تأثير الإيلاف، والإنسان المتمدين لن يفلت من مؤثرات ما تحدث تلك العوامل.
ولكن كيف نشأت هذه الغرائز؟ ذلك ما بحثه «هرنج
Hering » و«صموئيل بطلر
Samuel Butler » فقد أيدا نظرية أن في الحياة العضوية ظاهرة خفية سمياها الذاكرة اللاشعورية
Unconscious memory
وقضيا بأنها ظاهرة تلازم الحياة العضوية في جميع مظاهرها وعلى مختلف وجوهها.
ولقد تبعهما «سيمون
Simon » فبحث هذه الظاهرة من ناحية حيوية صرفة، وكشف خلال بحثه عن كثير من البراهين المقنعة الدالة على أن كل منبه لا بد من أن يترك في الأحياء - فضلا عن الانبعاث الظاهري الموقوت - تأثيرا ثابتا في مادتها، وهذا التغيير الثابت إذا تكرر حدوثه واقترن أثره بما تحدث الظروف الخارجية من آثار، استجمع في الأفراد صفات تتوارثها أعقابها جيلا بعد جيل، ويقوى أثرها في الأحياء على مقتضى ما يكون فيها من الفائدة لها في حالات حياتها.
على أن هذه الذاكرة اللاشعورية
Mneme
تصبح مبدأ من مبادئ الاحتفاظ بالذات وبالنوع، إذ هي تستجمع على مدى الزمان تجاريب الأفراد خلال حياتهم، كما أنها عامل أولي في استحداث تغايرات ارتقائية في الأحياء.
ولقد جهر فرنسيس دروين في خطاب الرئاسة الذي ألقاه في مجمع العلوم البريطاني الذي التأم في «دبلن» أنه من أنصار سيمون. كما أن العلامة هيكل لم يتردد في أن يعبر عن اعتقاده الثابت في أن مذهب سيمون يعد أكبر دعامة ترتكز عليها نظرية دروين في الانتخاب الطبيعي.
ولكن ألا يمكن أن تكون نظرية سيمون هذه فيها أصول تمت إليها تطبيقات پافلوف بأقوى الأسباب؟ هذا ما يحتاج إلى درس ليس هنا موضعه، ولكن يكفي أن نقول في تطبيق مبدأ سيمون على الأخلاق والآداب، إننا لا نجد صعوبة تحول دون القول بأن تكرار «الفعل الأدبي» حادثا بما تبعث في النفس قوة الإرادة من عوامل «التنبه»؛ لا يقتصر على أن يصبح عادة ثابتة في الفرد، بل يحدث تغييرا ثابتا في طبيعته تتوارثه الأجيال المتعاقبة، ماضيا في الارتقاء جيلا بعد جيل.
وهنا يجدر بنا أن نذكر أن «الذاكرة اللاشعورية» قد خرجت من حيز النظريات إلى حيز العلم التجريبي. فقد سبق لنا أن شرحنا تطبيقات پافلوف في الأفعال العكسية «المتحولة»، ولنا اليوم أن نقول إن هذه التطبيقات أخذت تتدخل في العلوم الأخرى، فإن الدكتور متالنيكوف أحد علماء معهد پاستور بباريس استطاع أن يولد في الأجسام الحية «ذاكرة لا شعورية» بها يمكن أن تتقى الأمراض، وكانت الطريقة التي اتبعها هي نفس الطريقة التي اتبعها پافلوف في الاستعانة بمنبه خاص عند العمل على توليد فعل عكسي متحول.
فمن المعروف أن فائدة الأمصال التي تحقن بها الأجسام الحية توقيا من المرض، إنما تكسب الجسم مناعة بطريق ما تولد فيه من الوحدات المضادة للمرض
Anti-bodies
وتوليد هذه الوحدات موقوف على الحقن بالمصل الواقي من المرض. فأجريت تجربة على «خنازير الهند» حقنت بمصل واق من مرض من الأمراض الميكروبية ثم حقنت بمكروب المرض نفسه، بعد أن مضت مدة الحصانة، فمرضت. وحقنت غيرها بالمصل الواقي من هذا المرض غير أنه زيد على هذه التجربة أن عملية الحقن كانت تقترن بقرع جرس، وأعيدت عملية الحقن بالمصل مع قرع الجرس سبع مرات، وبالضرورة تولدت فيها مناعة ضد المرض الذي حقنت بالمصل الواقي منه، فلما أن مضت مدة الحصانة حقن بعضها بمكروب المرض فمرضت، أما الباقي فحقن بمكروب المرض بعد أن قرع لها نفس الجرس الذي كان يقرع وهي تطعم بالمصل الواقي فلم تمرض! لأن الوحدات المضادة تكونت في جسمها بفعل عكسي متحول، بمجرد أن تنبهت «ذاكرتها اللاشعورية» تنبيها عمليا.
على هذه القاعدة التي تلتئم ومذهب دروين، وتؤيد نزعة القورينيين في الوقت نفسه تقضي بأن ارتقاء الفرد من حيث الإحساس الأدبي ارتقاء راجعا إلى جهاده المستمر في سبيل التخلص من بواعث الاستغواء ونزعاته - لا بد من أن يكون قد حفز الإنسان إلى منازل ذات بال من الرقي فرديا واجتماعيا، ما دام قد ثبت لدينا أن كل فعل تنبهي ممثل لقوة تبعثها في الإنسان حواسه الأدبية، محتوم أن تحتفظ به الطبيعة كأثر ثابت في الأفراد، ينتقل إلى أعقابهم بالوراثة.
هوامش
الفصل السادس
نظرية المعرفة عند القورينيين
«إن تاريخ مذاهب اليونان الفلسفية يدل على أن حركة الفكر وحلقات الدرس في هذا الشعب الممتاز كانت متواصلة، فإذا أردنا أن نعرف النبع الذي استقى منه القورينيون أصل الفكرة في نظريتهم في المعرفة، وجب علينا أن نعود بالقارئ لماما إلى مقررات لوسيفوس وإلى مذهب ديمقريطس في الذرات.»
نظرية المعرفة عند القورينيين
ألمعنا من قبل إلى نظرية المعرفة عند القورينيين عندما لخصنا عن الأستاذ إردمان شرحه للعنصر الأساسي في فلسفة أرسطبس، وقد جاء في ذلك التلخيص ما يلي : «إن النتيجة التي تترتب على القول بأن كل «المعرفة» إدراك بالحس
Sense perception
وأن كل إدراك بالحس إنما «ندرك» به كيف أثر فينا ذلك الإدراك، تحصر «معرفتنا» في الوقوف على حالات «الوعي» أو الشعور
Consciousness
الكائن في تضاعيفنا، وعلى هذا يكون إدراك حالات الوعي النفسي وأساليبها، كل ما في مذهب أرسطبس من علاقة بالطبيعة.»
كذلك اضطررنا إلى الكلام في نظرية «المعرفة عند القورينيين» عندما تكلمنا في علاقة أفلاطون بالنظرية القورينية في كتابه «ثياطيطوس». غير أننا نريد قبل أن نمضي في بحث هذه النظرية أن نقرر أمرا ذا بال، فنتساءل: «أكانت نظرية اللذة عند أرسطبس الأصل الذي جره إلى وضع نظرية المعرفة، وقوله: إن المعرفة «إدراك بالحس» أم كانت نظرية المعرفة هي الأصل الذي جره إلى نظرية اللذة؟»
والراجح عندي أن نظرية المعرفة كانت الأصل الذي جره إلى القول بنظريته في اللذة، والحكم بأن اللذة هي الخير الأسمى، وأن لذة «الحس» أسمى اللذات جميعا كما سيتضح لك من سياق هذا البحث.
ويجدر بنا قبل أن نتغلغل في صميم هذا البحث، أن نلمع ثانية إلى العلاقة الفكرية والمذهبية التي تربط بين بروطاغوراس وأرسطبس. فقد سبق لنا أن قررنا أنه من المستطاع أن نرد فكرة أرسطبس إلى مبدأ رئيس، قال به الفيلسوف بروطاغوراس إذ قضى بأن معرفة الإنسان تقف عند الحد الذي تؤهل به إليه حواسه، كذلك أثبتنا أن الآصرة التي تربط بين الحواس واللذة، أمتن الأواصر وأقواها، فإذا أضفنا إلى هذا قول بروطاغوراس: «إن الإنسان لا يستطيع أن يعرف إلا ما يظهر له (أي الظواهر) لا ما هي طبيعة الأشياء في ذاتها (أي الماهيات)» - استطعنا أن نجر إلى ذهن القارئ حقائق تكفي عنده لتأييد ما نرجحه من أن نظرية أرسطبس في المعرفة كانت الأصل الذي استمد منه فكرته في اللذة، ذلك بأن الواقع كما قررنا من قبل أن الوعي أو الشعور الذي هو أساس المعرفة عند أرسطبس، إنما تلابسه إحدى حالات ثلاث: إما عنف، وإما اعتدال، وإما سلب. وهذه الحالات بعينها هي التي أثبتها أرسطبس تمييزا لدرجات اللذة، وإذن يكون مذهب أرسطبس الأخلاقي - وبالأحرى السلوكي - تقريعا على مذهبه في المعرفة، الذي استمده أصلا من بروطاغوراس. •••
كذلك عرض لنا أن نتكلم في أرسطبس وأفلاطون في كتابه «ثياطيطوس» في نظرية المعرفة عند القورينيين، وشرحنا طرفا منها، فلا مندوحة لنا في هذا المقام من أن ننقل تلك العبارات توطئة للكلام في نظرية المعرفة عند القورينيين، جاء في الموضع الذي أشرنا إليه:
ويكفي هنا أن نعرف أن أرسطبس وشيعته لم يزودوا الفكر الإنساني بنظرية فذة في الأخلاق لا غير، بل أضافوا إلى ذلك نظرية في المعرفة شرحوها ودافعوا عنها، وكان لها أكبر الأثر في كل ما ظهر من صور الفكر الفلسفي على مدار العصور، أما محصل هذه النظرية فيكفي أن نعرف منه هنا أن القورينيين كانوا يقيمون نظريتهم في المعرفة على قاعدة بسيطة، تنحصر في قولهم: «إن الأساليب أو الكيفيات التي تتأثر بها، هي وحدها التي يمكن معرفتها.» ولما كانت هذه القاعدة هي لب النظرية، فيكفي أن نقول فيها إن القورينيين مضوا في شرحها مستعينين بكل ما يخطر ببال من المثل التي تستمد من «إدراك الحس»، فهم يقولون مثلا بأننا لا نعرف أن العسل حلو، وأن الطباشير أبيض، وأن النار تحرق، وأن السكين تقطع، وإنما تعرف من هذه الأشياء وأمثالها حالات الوعي التي نعيها، وبالأحرى حالات الشعور التي نشعر بها؛ أي إن لنا إحساسا بالحلاوة، وآخر بالبياض، وثالثا بالحرق، ورابعا بالقطع، وهكذا، وإن هذه الحسوس المختلفة هي طريقنا إلى المعرفة؛ أي إننا إنما نعرف الآثار التي تتركها الأشياء فينا من طريق الحواس ، لا ما هي حقيقة الأشياء في ذاتها.
ولا شك في أن قوة التحليل الفلسفي الذي امتازت به الشيعة القورينية قد أدت بهم إلى الذهاب في بحث نظرية المعرفة التي اعتنقوها إلى أغوار أعمق من تلك الأغوار التي بلغوها في بحث نظريتهم في الأخلاق على عمقها وتغلغها في صميم الأشياء الإنسانية، لهذا سوف نطنب بعض الشيء في شرحها والكلام فيها، ومقارنتها بغيرها من النظريات، والبحث عن منابعها الفكرية وتطورها، ولا جرم أن إطنابنا سوف يشفع لنا فيه تلك الثمار الشهية التي سنجنيها من هذا البحث الفلسفي العميق. •••
إن تاريخ مذاهب اليونان الفلسفية، يدل على أن حركة الفكر وحلقات الدرس في هذا الشعب الممتاز كانت متواصلة، فإذا أردنا أن نعرف النبع الذي استقى منه القورينيون أصل الفكرة في نظريتهم في المعرفة، وجب علينا أن نعود بالقارئ لماما إلى مقررات لوسيفوس وإلى مذهب ديمقريطس في الذرات.
فقد نجد أنه منذ عهد أنكساغوراس مضى العقل اليوناني يفتش - بما عرف فيه من نزعة تأملية عميقة الأثر في استجلاء حقائق الأشياء - عن نظرية يعلل بها «المعرفة»، ويخلص من طريقها إلى تعليل يقبله العقل في حقيقة المادة، ولقد نجد أيضا أن البحث في هذه الناحية قد أدى إلى نظريات وفروض تخالطت فيها نواحي التفكير تخالطا، وتشابكت فيها جهات العقل، من تأمل واستنتاج إلى بحث واستقراء حتى صبغت الفلسفة اليونانية في هذه الناحية بصبغة من الغموض لم يتح لعقل أن يجلو عنها شيئا منه، إلا عقل ديمقريطس العظيم.
يقول أرسطوطاليس: إن الفضل في ذلك إنما يعود إلى لوسيفوس، ولكنا نعلم يقينا أن هذه النظرية لم تصلنا مجلوة في ثوبها المنطقي الطبيعي إلا في مقررات ديمقريطس إذ يقول:
يحاول العرف
1
أن يبث في روعنا أن هنالك شيئا حلوا وآخر مرا، وأن شيئا حارا وآخر باردا، وأن هنالك شيئا يقال له اللون، ذلك في حين أن الحقيقة توحي إلينا بأن هنالك شيئين واقعين لا غير هما: الجوهر الفرد والخواء.
أما إذا أخرجنا من حسابنا مؤقتا الجوهر الفرد والخواء، وحصرنا تفكيرنا فيما ندعوه «الناحية السلبية» في طريقة تفكير ديمقريطس، رأينا أن هذا الفيلسوف قد ساق كلامه في قالب يشعرنا بأن تلك «الصفات»، وبالأحرى «الأعراض» التي ندعوها الحرارة واللون والذوق، ثم الشم والسمع؛ إنما هي أشياء ليس لها وجود موضوعي
Objective
مما يدلنا دلالة واضحة على أن الفرق بين «العرف» وبين أشياء الطبع، أو بالأحرى «الطبيعة»، كان من الأشياء المدركة إدراكا كافيا في ذلك العصر، وأن العرف هو ما نمثل له بالعادات والتقاليد والشرائع، وبالأحرى الأشياء التي تواضع عليها الناس اتفاقا، وهي أشياء تختلف باختلاف الجماعات، وتتغير بتغير البيئات، كانت قد اتخذت عنوانا على التغير والحدوث، مقيسة على ما في الطبيعة من ثبات وقدم، لهذا اتخذ العرف مثالا للتغير وعدم الثبات، وعنوانا على الخضوع للاختيار وحكم الحوادث، كيفما وقعت وعلى أية صورة كانت.
من هنا أخذ ديمقريطس يقيس العرف على إدراك الحواس، فرأى أن هنالك كثيرا من الحقائق دلته على أن إدراك الحواس إنما يرجع إلى خواص كائنة في تكوين الأفراد وإلى التغيرات المختلفة التي تلحق حالات الفرد الواحد وفي النهاية على الصور المختلفة التي تتشكل فيها «ذرات المادة»، فالمصاب باليرقان يحس العسل مرا، وأن درجة البرودة أو الحرارة - أفي الماء كانت أم في الهواء - يتوقف مقدار الإحساس بها على حالات الجسم، ومقدار ما فيه من برودة أو حرارة في وقت ما، إلى غير ذلك من الأمثال التي أفاض في تعدادها إفاضة فيلسوف ملم بحقائق الأشياء.
ولو أن فلاسفة الأقدمين كانوا قد أوتوا من قوة التعبير ما أوتي المحدثون، وطاوعتهم اللغة على أن يضعوا مصطلحات محدودة المعاني يستعان بها على تعيين المراد تماما؛ إذن لاستطاع ديمقريطس في عصره أن يكون أدق تعبيرا عما أراد، ذلك بأن تطور معاني المفردات اللغوية يكسب الفلسفة، كما يكسب العلم، صفات جديدة أهمها صفة تحديد المعنى الذي يحمله كل لفظ من الألفاظ الاصطلاحية.
فإننا قد نعرف الآن الفرق الظاهر بين الصفات المطلقة والصفات النسبية، وبين الحقائق الذاتية والحقائق الموضوعية، أما في عصر ديمقريطس، فلم تكن هنالك ألفاظ يكفي مجرد ذكرها استيراد كل هذه المعاني في ذهن الباحث، ولو أن شيئا من ذلك كان قد عرف في عصر ديمقريطس؛ إذن لاستطاع أن ينزل إلى أعماق من الفكر، مثل تلك الأعماق التي ننزل إليها الآن، بأن عرفنا من تحديد المصطلحات مثلا أن هناك عنصرا ذاتيا
Subjective
يتغلغل في صميم الحقائق الموضوعية، وإننا لا نشك الآن مثلا في أن تلك الصور غير المتناهية من الآثار الذاتية، ليست عبارة عن خيالات تشوبها الفوضى، وإنما هي خاضعة لسلسلة منظومة من قوانين السببية.
ولو أننا كنا نتكلم هنا في ديمقريطس بالذات؛ إذن لاستطردنا إلى الكلام في العلاقة الفكرية التي تربط بين فلسفة ديمقريطس من هذه الناحية، وبين فلسفة خليفتيه توماس هبز وجون لوك المحدثين، ولكنا قد سردنا حتى الآن من مبادئ ديمقريطس في الذرات وإدراك الحس، ما يكفينا لمتابعة الكلام في نظرية المعرفة عند القورينيين.
لما أراد الأستاذ جومبرتز الألماني - وهو من ثقات المؤلفين في تاريخ الفكر اليوناني - أن يلم بشيء من تاريخ التطور الذي لحق نظرية المعرفة عند القورينيين، لم يتبع طريق التسلسل التاريخي في ظهور الفكرات والمذاهب متعاقبة بحسب ترتيبها الزماني، وإنما عمد إلى طريقة تبويبها من حيث المكانة والشأن والأثر في تطور الفكر، فجاء تعقيبه رجعيا؛ إذ بدأ بالفيلسوف «سقسطوس
Sextus »
2
وانتهى بأفلاطون، وخلل فيما بينهما بالفيلسوف «أرسطوقليس
Aristocles ».
وهو على اعتقاد بأن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، أكثر من ألم بهذه النظرية وأن ترتيبهم على هذا الوجه يلائم عنده قيمة بحوثهم فيها.
أما سقسطوس فمن الفلاسفة التجريبيين الذن شغفوا بدرس الطبيعيات، ظهر حوالي سنة 200 بعد الميلاد، ذلك في حين أن أرسطوقليس مشائي من أتباع أرسطوطاليس، ظهر قبل سقسطوس بجيل واحد، ولقد وصل إلينا من آثاره الفلسفية عبارات مطولة نقلها المؤرخ الكنسي «أوزبيوس
Eusebius » في كتابه المسمى “Prœparatis Evangelica” .
أما السبب في أن يذكر الأستاذ جومبرتز الفيلسوف الإلهي أفلاطون في آخر هذه الحلقة، مع أنه أولها ظهورا، فيرجع إلى أن الأولين عالجا النظر في نظرية المعرفة عند القورينيين بالذات، في حين أن أفلاطون لم يعالجها باعتبارها نظرية قورينية أصيلة ، وإنما هو خصها بجزء ضئيل من كتابه «ثياطيطوس» باعتبار أنها نظرية غامضة من نظريات السفسطائي بروطاغوراس، على العكس مما يذهب إليه الآن كل ثقات المؤرخين في المذاهب الفلسفية اليونانية؛ إذ هم يؤمنون - وعلى رأسهم البحاثة الكبير فردريخ شليرميخر - أن هذه النظرية من نتاج الفيلسوف أرسطبس، ذلك بأنه تلقاها من الفلاسفة الدارجين من قبله فرضا غامضا، فصاغها في قالب نظرية فلسفية يسلم بها العقل ويؤيدها المنطق، فأدخلها بذلك في حيز الفكرات المميزة ذوات الحدود والتعاريف.
على أننا مع هذا لا نشك في أن الفيلسوف أرسطوقليس قد نم بما كتب على أن كفاياته لم تؤهل به إلى معالجة الصعاب التي تكتنف هذه النظرية الفذة، ولم تصل به إلى ذلك الحد الذي يستطيع عنده أن يقدر القيمة الحقة لهذه النظرية، ويكفي عندك أن تعرف، لتقتنع بهذا، أن أرسطوقليس قد اكتفى بذكر بعض نتف مثل بها القورينيون لبيان مذهبهم في المعرفة، ثم راح يجادل فيها جدلا طويلا ويناقش في ما يدور حولها، مناقشات لم تتناول لب النظرية بحال من الأحوال، وإنما كانت أقرب إلى الجدل الفرضي الذي اتصفت به الفلسفة في عصور الانحطاط، إذ كان طابعها الفرار من الصعاب التي يواجهها الفكر عند النظر في حقائق الأشياء، ليأنس اللين والبساطة عند النظر في الأعراض.
أما سقسطوس فقد كان - فضلا عن مشائيته وحبه البحث في الجواهر الطبيعية - من أنصار مذهب الشك، على أن تأييده لمذهب الشك لم يكن ليضيره شيئا، لو أنه استطاع أن ينظر في مذاهب الفلسفة نظرة استقلال بعيدة عن التعصب المذهبي، أما وأنه يحاول أن يجر المذاهب كلها، بما فيها مذهب المعرفة عند القورينيين، إلى مفاوز موحشة من الجدل، ليجعلها تلائم القول بالشك على القواعد التي اعتنقها فيه، فإن ذلك كان سببا في أن يقلل من قيمة شكه، بل وكان عاملا من العوامل التي أثرت في فلسفته، فرماها الباحثون بالشك فيها، وقلة الثقة بمقرراتها.
آية ذلك أنه ألبس عباراته التي بحث فيها نظرية المعرفة عند القورينيين ثوبا محيكا من لغة مذهبه في الشك، وشرحها بحيث جعل للناحية الشكية فيها، وبالأحرى مثل الناحية السلبية، المقام الأول.
غير أننا نعثر بجانب هذا على أشياء أثارت في الباحثين، وما زالت تثير، أشد العجب، فإن تلك العبارات التي حاول بها فلاسفة من أمثال سقسطوس أن يجروا نظرية المعرفة عند القورينيين إلى مفاوز الشك والسلب، قد تضمنت كلمات أو عبارات هي أبعد ما تكون عن لغة الشك وعن مقررات الشك، بل هي أقرب إلى التقرير المذهبي، كأن يقولوا في شيء مثلا «هذا حق» أو «غير منقوض» أو «ثابت» أو «معصوم عن الشك» أو «حقيقي» أو «يمكن الاعتماد عليه» ولا شك في أن هذا مما يثير رغبة الباحث في معرفة السبب في هذا التناقض بين ظاهر المذهب الشكي، وأخذهم بمثل هذه التعبيرات التي يقول بها غير المؤمنين أو أصحاب التعصب المذهبي؛ وإذن ينبغي لنا أن نستعمق بالبحث في عقل هؤلاء الفلاسفة، وفي المبادئ الفلسفية التي كان لها الزعامة الأولى على الفكرات التي حومت في رءوسهم، ولقد نرى فيما بعد أن ما سيظهر لنا أنه فرضي خيالي، سوف يصبح، مع التحليل والبحث المنطقي، من الحقائق التي يسلم بها العقل. •••
كان للكشف عن الفرق بين الصفات الأولية والصفات الثانوية - وهو كشف من أعظم ما زود به الفيلسوف لوسيفوس مذاهب الفلسفة من المبادئ - أثرا جر الباحثين إلى الفحص عن أثر العنصر الذاتي
Subjective
في إدراك الحس بوجه عام، أما الفحص عن «العنصر الذاتي» في الصفات فكان خطوة خطتها الفلسفة إلى الأمام، بل هي خطوة رئيسة، كان لها أثر كبير في البحث عن أصل الإحساسات، غير أن أوجه الفحص عن ذلك لم يتأت إلا للذين درجوا بعد لوسيفوس من الفلاسفة، أضف إلى ذلك أن تأثير «العنصر الذاتي» في الصفات لم يكد يستقر على قاعدة، حتى تغلغل في عقول الباحثين وأحاط بأسلوب تفكيرهم وثبت فيه، وازداد ثباتا على مر الأيام، وبتقدم البحوث الفلسفية.
عندما استقر الاعتقاد بأن في الصفات «عنصرا ذاتيا» تدرج العقل إلى التساؤل عن المدركات التي نفي عنها تأثير العنصر الذاتي، وهل هي في الحقيقة بعيدة عن ذلك التأثير؟ فقد قيل مثلا: إن إدراك اللون خاضع للعنصر الذاتي، وليست كذلك الأشكال والصور. غير أن التفرقة بين مثل هذه الأشياء - اللون والصورة مثلا، على وثيق اتصالهما - لا يمكن أن تظل مأخوذا بها عقلا، إذا ما تنبه العقل إلى عدد من أكاذيب الحس التي في العين، غير إدراك اللون، فإن العصا تظهر للعين منكسرة إذا غمست في الماء، والشيء الواحد يظهر بأقدار مختلفة، إذا ما نظر مرة بالعين سليمة، ومزدوجة الأشباح أخرى، وهي حالة مرضية، أو بالضغظ على طرف العين ثالثة. وكذلك حس اللمس - وهو من الحسوس التي اعتبرت أول الأمر مثالا لما سمي «الحس الموضوعي»؛ أي الذي لا يدخله «العنصر الذاتي» - فقد وجد بعد الاستبصار أنه عرضة لنقائص كبيرة، ولقد ضرب سقسطوس أمثالا على ذلك كثيرة.
على أن بعض الفلاسفة أراد أن ينمي نظرية جديدة حاولوا بها أن يقللوا من شأن «العنصر الذاتي» في الصفات، فقالوا: إن حسا من الحسوس أو عضوا من الأعضاء، إذا عجز عن تأدية وظيفته كاملة، أعانه حس أو عضو آخر على إتمامها على وجه الكمال والتمام، كما تتم حالة سوية
Normal
نقائص أخرى غير سوية
Abnormal
غير أن هذه النظرية قد لقيت من الاعتراض والشك قدرا، رجها وزعزع الثقة بها.
فقد قال المعترضون: «من ذا الذي ينبئنا أن في حالات أخر قد ينعدم ذلك التعاون بين الحسوس المختلفة، فتنشأ الأكاذيب الحسية؟» أضف إلى ذلك أن ديمقريطس قد قرر من قبل أن تمييز الحق من الباطل لا يتوقف على العدد - أي عدد المؤيدين والمعارضين - ولا على الأغلبية أو الأقلية، سواء أمن الأشخاص أم من الحالات.
كذلك لا ينبغي أن ننسى أن الإلياويين
Eleatics
قد حملوا من قبل حملات صادقة على ما يمكن أن يعزى من إدراك الحقائق بشهادة الحس، ذلك بأن مذهب الإلياويين لم يكن قد قضي عليه بالزوال من عقول المفكرين في عصر أرسطبس وعصر شيعته الذين درجوا على مذهبه من بعده، فإن مذهبهم قد عاش من بعدهم في «ميغارة
Megara » وقد نعرفه باسم المذهب «الميغاري» نسبة إلى المدينة التي نما وانتعش فيها بعد «زيون» رأس ذلك المذهب، حتى إن بعض ثقات الباحثين المحدثين يطلقون على «المذهب الميغاري» اسم الإلياوية الجديدة
Neo-Eleaticism
إشارة إلى العلاقة بين المذهب الإلياوي الأول وبين المذهب الميغاري.
ولا ريب في أن الصيحة التي أرسلها القدماء بقولهم: «إن الحسوس كواذب فلا نؤمن بها، وإن الحقيقة إنما تكون في عالم خارج عن عالم الحس» - لم ترتفع بها أصوات الفلاسفة بأكثر مما ارتفعت في ذلك العصر، ولقد كان لها صدى كبيرا في عقل أفلاطون الآلهي.
غير أنه لا ينبغي أن يغيب عنا أن الإلياويين كان لهم نظراء يناظرونهم، فإن بروطاغوراس كان له أنصار وشيعة، كما كان للإلياويين أنصار وشيعة، ولا شك في أن الحرب الفكرية بين الشيعتين كانت سجالا، ولكن بأية أسلحة قامت الحرب؟ ذلك ما يجب أن نعرفه، لنعرف شيئا من طبيعة ذلك السجال.
كان للقول «بأن كل ما يدرك حقيقي» - صبغة ذاتية
Subjective
ما كانت تتضح وضوحا قويا، قدر ما تتضح عند القول بأن «الإنسان» إنما هو «مقياس كل الأشياء». وذلك ما شرحه بروطاغوراس في مقاله المعروف «في الفنون»، ففي هذا البحث تناول بروطاغوراس ناحية منه تدرج فيها إلى القول: «إذا كان اللاكائن يرى كأنه كائن، فإني لا أفهم كيف يجوز لإنسان أن يقول إنه غير كائن، ما دام أن العين تراه، والعقل يسلم بوجوده.»
على أن هذه العبارة التي مرقت من عقل بروطاغوراس مروق الومضة العابرة، قد أصبحت في عصرنا هذا المعقل الذي يتحصن فيه العقل ليدافع عن شهادة الحواس، عند القول بأن الحواس سبيل المعرفة، على أن المدافعين عن مذهب إدراك الحس في المعرفة في الأعصر الحديثة، قد تركوا لمهاجميهم أسوار ذلك المعقل الأولية، واحتموا بقلبه - أي بالحسوس ذاتها - فإنك مهما قلت بأن الحس لن يكون المجس الذي تسبر به الطبيعة أو الوجود الخاص بالأشياء الخارجية، فإن وجود الحس نفسه لا يمكن أن ينكر، ذلك بأن وجود الحس له قوام غير مشروط على غيره، وأنه باتحاده مع غيره من نظم الوعي أو الشعور يحدث جملة من المعرفة نجد أنها كافية كل الكفاية لتأدية أغراض الإنسان.
إن من يعتقد بصحة هذا المذهب لأول مرة - مذهب أن الحسوس كواذب - ويمضي موقنا - مجاراة لظاهر هذا المذهب - بأن العالم الخارجي لا وجود له؛ يمكن أن تلتمس له كل الأعذار، إذا ما خيل له أنه انتقل فجاءة إلى دار من دور المجانين، ذلك ما حدى بالفيلسوف «بركلي
Berkeley » وأنصاره إلى القول : «إنك إذا اعتقدت بصحة هذه النظرية، فلا حرج عليك إذا أنت رميت برأسك إلى الجدار، ذلك بأن الجدار غير الموجود لا يمكن أن يضير رأسك التي هي غير موجودة.»
وعلى هذا القول أجاب أنصار مذهب أن الحسوس كواذب بقولهم: «إننا لا ننكر حس المقاومة، ولا غيره من الحسوس التي منها يتكون جدار أو صورة جدار، أو رأس أو صورة رأس، أو أي شيء من الأشياء التي نأنسها في العالم الخارجي، أما الذي ننكر، وبالأحرى نعتقد أننا لا نعرف من حقيقته شيئا؛ فذلك الشيء الغامض المبهم الذي نؤمن بأنه كائن من وراء الظواهر؛ تلك الظواهر التي تلوح شيئا واحدا وعلى صورة معينة لكل من يحوزون ضربا واحدا من الوعي، والتي ترتبط جميعا برباط من السنن الثابتة، آيتها المتابعة والاشتراك في الوجود.»
يزودنا باحث من أعلام الباحثين المحدثين، هو «مل» الكبير،
3
بعبارات تشرح المقصود من هذه النظرية شرحا وافيا، قال: «إن ما ندعوه فكرة الشجرة، أو فكرة الحصان، أو فكرة الإنسان، إنما هي في الأصل مجموعة من الفكرات المفردة يؤديها عدد من الحسوس، كثيرا ما تلتقي دفعة واحدة، فنعبر عن التقائها وتجمعها بفكرة الوحدة.»
كذلك نقرأ لأفلاطون في كتابه «ثياطيطوس» قوله: «إننا نطلق على مثل هذه المجموعة من الحسوس اسم إنسان أو شجرة أو حجر أو غير ذلك، مما يقع عليه نظرنا في العالم الخارجي.»
وإنما يخاطب أفلاطون بقولته هذه نخبة من مفكري عصره، آنس فيهم القدرة على التأمل وسعة العقل، وفرق بينهم وبين من سماهم بامتعاض «الماديين»، أولئك الذين لا يؤمنون بشيء ما لم يقع في قبضة يدهم، هم الذين قال فيه أفلاطون: «إنهم يحللون كل شيء إلى نظم طبيعية وأحداث مادية، وينكرون بتاتا تصور الوجود المجرد.» ثم رماهم من بعد ذلك بأنهم «أتباع بروطاغوراس السفسطائي». •••
ينبغي للباحث في هذا الموطن أن يعرف أن معاصري أفلاطون الذين تصدق عليهم الصورة التي صورناها، إنما هم أولئك الذين آمنوا بأن ما يمكن معرفته محصور في أسلوب التأثر بالأشياء، وأن الأشياء الخارجية التي يظن أنها تتضمن مجموعة من هذه الأساليب، من الممكن اعتبارها موجودة، ولكنها مع ذلك بعيدة عن منالنا على أية حال.
كذلك ينبغي لنا أن نعي أن العبارات التي شرح بها أفلاطون نظرية معاصريه هؤلاء في الحس قد خالطها كثير من الاستطرادات التي كان يأبى عقل أفلاطون إلا أن يستطرد فيها، ولذا يجب أن نقصر النظر على الأسس الأولية التي تقوم عليها نظرية معاصري أفلاطون، وأن نحصر بحثنا في المبادئ الجوهرية التي تتضمنها تلك النظرية.
تقضي هذه النظرية بأن هنالك عنصرين: أحدهما سلبي، والآخر إيجابي، لا بد من أن يقترنا لإحداث كل إحساس من الإحساسات، وهذا التعاون الذي يجب أن يحصل بين العنصرين، إنما هو عبارة عن «حركة» عمد أصحاب هذا المذهب في إثباتها إلى نظرية هيرقليطس فيما سماه الفيض الدائم
وأنه باقتران مثل هذين العنصرين اللذين باقترانهما تتميز شخصية أحدهما من الآخر، من حيث السلبية والإيجابية - ينشأ الإحساس، ومعه وفي الوقت ذاته موضوع الإحساس، فالألوان التي هي موضوعات إحساس البصر تنشأ مع الإحساس البصري، والأصوات التي هي موضوعات إحساس السمع تنشأ مع الإحساس السمعي، وهكذا، وبذلك ينكرون كل وجود سابق لما ندعوه الصلابة والطراوة، أو الدفء والبرد، أو الأبيض والأسود. فإن هذه إنما يتحقق وجودها في الوقت الذي يتحقق فيه الإدراك.
ولكن كيف نستطيع أن نفسر حقيقة هذا النظام الذي يحدث في وقت واحد الإحساس الذاتي
Subjective
والصفة الموضوعية
Objective quaeliy ، هذا إذا لم يعز إليه إحداث الشيء الذي يحمل الصفة الموضوعية ذاتها؟
لقد أشرنا من قبل إلى أن أفلاطون قد عبر عن هذا النظام بأنه «حركة » ولا شك في أنه عزى إلى تلك الحركة آثارا واسعة النطاق. كذلك يجب أن نشير هنا إلى أن «العنصرين» اللذين قيل إن أحدهما سلبي والآخر إيجابي - وهما المنتجان «للحركة» - قد تركهما أفلاطون غير محددين وخلفهما محاطين بإبهام واستغلاق، وكان ذلك سببا أن يظلا غير جليين في سياق هذا المذهب، غير أنه لا ينبغي أن يفوتنا أن أنماط التفكير التي قام عليها المذهب بكلياتها وجزئياتها لم تعرض في ناحية من النواحي إلى ذكر «المادي» أو «الهيولى» واتخاذهما جزءا مكونا من أجزاء المذهب. ولا شك أن مذهبا كهذا يحاول أن ينقض مذهب الماديات، ويقول «بالوجود المطلق»؛ لن يكون فيه من محل لذكر الماديات والهيولانيات والجسمانيات إلى غير ذلك من الأشياء التي يحاول نفيها بتاتا، غير أننا يجب أن نعي، إذا ما أردنا أن نفقه حقيقة الأمر، أن كثيرا من فلاسفة الأقدمين - ومنهم أفلاطون وأرسطوطاليس - قد حاولوا أن يخلقوا للعقل تصورا يحل فيه محل تصور المادة، ولكن محاولتهم هذه لم تخلص إلا بتصورات اعتراها الغموض واكتنفها الإبهام، لهذا لا يبعد - على ما يقول كثير من الباحثين - أن يكون هؤلاء الفلاسفة قد تصوروا بادئ الأمر ضربا من المادة لا صورة ولا صفات لها، واتخذوه أداة لما سموه «الحركة» في هذا المذهب.
هذا جائز وإن لم يمكن استبانته من قضايا المذهب استبانة تامة. غير أننا إذا عرفنا أن أرسطبس قد مضى مسترشدا في بحثه بوجود نظام مادي صرف، استطعنا أن نعرف لماذا تصور معارضوه وجود مادة مفروضة، لا صورة ولا صفات لها. ومن هنا جاء اعتراضهم على المذهب القوريني، إذ قالوا: إنه إنما يسير في دائرة كلما فرغ من آخرها دخل في أولها، بأن يفرض أن الهيولانيات تستحيل إلى إحساسات، والإحساسات تستحيل إلى هيولانيات.
هنا نستطيع أن ننتقل خطوة أخرى، بأن ننظر في اعتراض منابذي مذهب أرسطبس لنقرر بديا أن وجوه اعتراضهم عليه مدخولة بكثير من الشك، ذلك بأنه لا يعقل أن يلزم القائلون بأن المعرفة مقصورة على ظواهر الطبيعة، بحال من الاحوال، أن يكفوا عن درس وظائف الحواس، أو درس العلم الطبيعي في مختلف نواحيه درسا عمليا أو استقرائيا، لمجرد أن هنالك فروضا أو نظريات قد تلائم ظاهر الأشياء، بل ينبغي لمن يريد بحث الطبيعة أن يبدأ شوطه بأن يعرف أن الأجسام أو الجواهر المادية ما هي غير موضوعات حسية، وبالأحرى عبارة عن مجردات تدين بوجودها للحواس.
ذلك، ما للقائل بأن المعرفة مقصورة على ظواهر الطبيعة؛ من حق فيه، أما ما ليس من حقه، فهو البحث في الحالات الجسمانية الخاصة بكل إحساس أو الحالات المادية الخاصة بأي نظام من النظم التي يختار بحثها، ومحصل هذا أنه من الجائز لناقد أن يعترض على قبول تحليلات يقررها غيره، ولكن ليس له من حق في أن يناقش في المشروعية العقلية التي تخول لباحث ما، أن يطبق تحليلاته على الأشياء بوجه من الوجوه.
وهذا مثل مما وقع لرجال المذهب القوريني، فإنهم عمدوا في آخر عصورهم إلى إلقاح المذهب بالطبيعيات وبالمنطق، تلك التي بدءوا مذهبهم بتصفيته من آثارها، والدليل على هذا أنهم توجوا المذهب في النهاية بأن خصوه بالبحث في «الأسباب» (أي الطبيعيات) و«أسس البرهان» (أي المنطق). •••
ما هي تلك الصبغة التي اصطبغ بها منطق القورينيين؟ سؤال ينبغي لنا أن نجيب عنه قبل أن نختم هذا البحث، ذلك بأن الإجابة عليه أساس لما يقوم عليه مذهبهم في المعرفة.
على أننا يجب أن ننبه هنا إلى أن البحث في طبيعة منطق القورينيين تنقصنا فيه المواد الأولية التي تجعل بحثنا إياه قائما على شيء من اليقين، هنا نرجع - كما رجعنا من قبل في مواضع عديدة من هذا البحث - إلى الاستعانة بقياس التمثيل، فقد يخيل إلينا بديئة
a priori
أنه في العصور القديمة كما في العصور الحديثة، اقترنت نظرية الحس في المعرفة كما اقترنت النظرية الهيدونية النفعية في الأخلاق
Ethics
بنزعة منطقية أساسها الاختبار والاستقراء. ولقد عرفنا الآن أن صورة من صور هذا المنطق قد اعتنقها متأخرو أصحاب المذهب الأبيقوري، وعرفناها منذ ثلاثين سنة لا غير، عندما عثر في خرائب «الهركيولانوم» على مؤلف لفيلسوف يدعى «فيلوذيموس
» عرض لبحث هذه المسألة الدقيقة.
عندما شرح الباحثون الذين أكبوا على درس كتاب فيلوذيموس ليكونوا من أطرافه المتناثرة كلا يعتمد عليه، استطاعوا بالدرس أن يعودا بمذهب الأبيقوريين المنطقي إلى عبارات عرضت في ما كتب رجال المذهب الشكي، وإلى ما كتب زعماء المذهب التجريبي من علماء الطبيعة، ولكن من أي نبع استمد هؤلاء وهؤلاء أصل هذا المذهب؟ هيئ لباحث ألماني هو «إرنست لاس
Ernst Laas » أن يتنبه إلى عبارات في جمهورية أفلاطون تمت إلى هذا الموضوع بأسباب كثيرة، وكانت قد عدت أعين الباحثين من قبل.
عالج أفلاطون في جمهوريته مسألة خزن «الذكريات»، فالذاكرة تخزن الحوادث الماضية، وترتبها بإتقان فتعرف ما وقع أولا ثم ما تلاه، وكذلك تعرف الحوادث التي وقعت معا، وبالاستقراء من هذه الذكريات المخزونة، يمكن معرفة ما سوف يقع في المستقبل على قدر ما هيئ للعقل الإنساني من قدرة على ذلك. ولقد شرح أفلاطون قوله هذا بلغة كثيرا ما تذكرنا باللغة والعبارات التي استعملها محدثو المؤلفين والفلاسفة من زعماء مذهب المنطق الاستقرائي.
أما الأستاذ جومبرتز فيقول بأننا في هذا البحث إنما نكون أكثر أمنا، إذا نحن وصلنا فكرة أفلاطون هذه بأرسطبس ومذهبه، ولم نصلها بمذهب بروطاغوراس كما يذهب بعض الباحثين. بل يقول: إن كل البحوث التي بذلت في هذا الشأن قد زودت المؤرخ بأسباب يستطيع على مقتضاها أن يقضي بأن أرسطبس قد وضع منطقا، غير منطق أرسطوطاليس قائما على مجموعة من القواعد ترعى أول شيء تتابع وقوع الظاهرات وتلازمها الوجودي، فكان بذلك أول رائد من رواد المنطق الاستقرائي وأول مقنن لنظرية إدراك الحس في المعرفة.
هوامش
Unknown page