الإهداء
تصدير
المقدمة
الباب الأول: المنهج الاستقرائي هل يصلح معيارا لتمييز العلم
تمهيد
1 - المعيار التقليدي: المنهج الاستقرائي
2 - المعرفة موضوعية
3 - حل مشكلة الاستقراء
4 - الاستقراء خرافة
5 - منهج العلم
6 - تعقيب
الباب الثاني: موقف بوبر من الوضعية المنطقية ومعاييرها لتمييز العلم
تمهيد
1 - الوضعية المنطقية ومعاييرها لتمييز العلم
2 - نقد بوبر للوضعية المنطقية
3 - بوبر ينقد معايير الوضعية لتمييز العلم
4 - تعقيب
الباب الثالث: معيار القابلية للتكذيب
تمهيد
1 - معيار القابلية للتكذيب
2 - العبارات الأساسية
3 - درجات القابلية للتكذيب
4 - تطبيقات المعيار
5 - تعقيب
الخاتمة
ثبت المراجع
الإهداء
تصدير
المقدمة
الباب الأول: المنهج الاستقرائي هل يصلح معيارا لتمييز العلم
تمهيد
1 - المعيار التقليدي: المنهج الاستقرائي
2 - المعرفة موضوعية
3 - حل مشكلة الاستقراء
4 - الاستقراء خرافة
5 - منهج العلم
6 - تعقيب
الباب الثاني: موقف بوبر من الوضعية المنطقية ومعاييرها لتمييز العلم
تمهيد
1 - الوضعية المنطقية ومعاييرها لتمييز العلم
2 - نقد بوبر للوضعية المنطقية
3 - بوبر ينقد معايير الوضعية لتمييز العلم
4 - تعقيب
الباب الثالث: معيار القابلية للتكذيب
تمهيد
1 - معيار القابلية للتكذيب
2 - العبارات الأساسية
3 - درجات القابلية للتكذيب
4 - تطبيقات المعيار
5 - تعقيب
الخاتمة
ثبت المراجع
فلسفة كارل بوبر
فلسفة كارل بوبر
منهج العلم ... منطق العلم
تأليف
يمنى طريف الخولي
الإهداء
إلى كنز قلبي ... أبي الحبيب
الذي علمني كيف أجد المتعة كل المتعة بين جدران هذا العالم الرائع الثر المثير عالم الثقافة والمعرفة والعلم.
يمنى
سبتمبر 1980م
تصدير
منذ سبع سنوات خلت تقدمت لنيل درجة الماجستير، من كلية الآداب جامعة القاهرة، بأطروحة هي أول دراسة عربية على وجه الإطلاق، لفلسفة العلم عند كارل بوبر.
إن المبادأة والمبادرة باقتحام المعاقل الرحيبة الدافقة لهذا الفيلسوف المجدد العملاق لم تأت جزافا، بل كادت تكون ضرورة قومية فرضت نفسها، فبوبر من أهم فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين؛ وذلك أولا لأنه أقدر من استوعب وتمثل ومثل أحدث تطورات العلم المعاصر، وغني عن الذكر مسيس احتياجنا الحضاري الملح في هذه المرحلة المتعثرة إلى جرعات متزايدة من روح المنهج العلمي، إلى التشبع به؛ كيما يداني بيننا وبين اللحاق بركاب العصر، وكيما نكف عن استيراد الحلول الجاهزة لمشاكل واقعنا والذي يبلغ حد استيراد الإدارة الأجنبية لبعض المؤسسات! ولكي نتجاوز مرحلة أن نظل مستهلكين مقتصرين على النقل دون الإضافة في العلم؛ أي في البحث الهادف إلى استكناه المجهول وإشباع نزوع العقل الإنساني نحو الفهم والتفسير، ومستهلكين في التكنولوجيا؛ أي في التطبيق العملي لنتائج هذا البحث، غير منتجين لا في هذا، ولا في ذاك. فقط مستهلكون، هذا اللفظ الذي تربطه أواصر القربى اللغوية والواقعية بالهلاك، بينما ينتج آخرون، في شرق آسيا وشرق أوروبا، أضعاف احتياجاتهم، وهم ذوو موارد طبيعية أقل كثيرا مما وهبنا الله إياه، لكنهم يملكون ما هو أهم، يملكون الأسلوب الأمثل لمواجهة الواقع واستغلال الطبيعة وتسخيرها؛ أي المنهج، أصول التفكير العلمي وطبائع الروح العلمية.
فكان لا بد من مد الجسور إلى كارل بوبر؛ لإثراء الفكر العربي بفلسفته الثرية، التي تحمل أكمل وأنضج النظريات في هذا الصدد.
وعلى الرغم من أنني تحت وطأة مقتضيات الطبع والنشر قد اضطررت لحذف الكثير من متن أطروحتي الضخمة، فإن الكتاب في صورته الراهنة ظل يحوي مجمل فلسفة بوبر، بسائر عناصرها بل وتفاصيلها، لم يترك كبيرة ولا صغيرة إلا وعالجها بإطناب أو أشار إليها باقتضاب، حسبما يقضي السياق. وعلى الرغم أيضا من أن الأطروحة كانت أصلا صدرت عنه خلال السنوات الماضية دراسات بوبرية أو متعلقة ببوبر ... على الرغم من هذا وذاك، فإن هذا الكتاب يظل يحوي أشمل إحاطة عربية بنظريات بوبر، التي هي أشمل إحاطة فلسفية بالعلوم الطبيعية.
وبعد، فإن أطروحتي المتواضعة جدا، قد تجللت وتكللت بأن ناقشتها - في السابع عشر من شهر يونيو عام 1981م - لجنة من كبار أساتذة الفلسفة في مصر، مكونة من أستاذتي الأثيرة الدكتورة أميرة مطر رئيس قسم الفلسفة بآداب القاهرة، وأستاذي الجليلين الدكتور يحيى هويدي والدكتور صلاح قنصوة، وقد أجازتها اللجنة بامتياز، مع التوصية بتبادلها مع الجامعات الأخرى.
ويبقى امتناني وعرفاني لزوجي الفاضل، فبفضل ما أفاءه علي من ظلال وريفة طوال رحلة العمر؛ استطعت إنجاز هذا العمل، وكل ما أنجزته قبله وبعده، بتوفيق من العزيز الحكيم.
يمنى طريف
منيل الروضة، في فبراير 1988م
بدأ عملي في فلسفة العلم منذ خريف عام 1919م، حينما كان أول صراع لي مع المشكلة: متى تصنف النظرية على أنها علمية؟ أو هل هناك معيار يحدد الطبيعة أو المنزلة العلمية لنظرية ما؟
لم تكن المسألة التي أقلقتني، متى تكون النظرية صادقة، ولا متى تكون النظرية مقبولة، كانت مشكلتي شيئا مخالفا، إذا أردت أن أميز بين العلم والعلم الزائف،
1 ⋆
وأنا على تمام الإدراك بأن العلم يخطئ كثيرا، وأن العلم الزائف قد يحدث أن تزل قدمه فوق الحقيقة.
كارل بوبر
Conjectures and Refutations, p. 33
ما زلت أعتبر معيار القابلية للتكذيب مركز فلسفتي.
كارل بوبر
Replies to my Critics
إنه طريقة وقائية تحدد ما هو علمي وما هو غير علمي في مجال العلم، فتحمي العلم من الأفكار الدخيلة والأعشاب الضارة، والنظريات الخاطئة غير العلمية والأفكار البالية، وترسم مبادئ ثابتة تساعد على استقرار العلم.
لنوربرت فيير تصريح شهير فحواه أن 5٪ من الرياضيات هي من صنع الرياضيين والباقي قدره 95٪ يقوم بدور وقائي في حماية الرياضيات من آفة النظريات التي تفتقر إلى قدر كاف من الدقة.
ف. ف. ناليموف
مقتبسا من مقال «قبول الفرضية العلمية»
المقدمة
(1) أهمية البحث في فلسفة العلم، وعند كارل بوبر (1) إحدى وجهات النظر الشائعة في تبيان ماهية الفلسفة، وما وظيفتها وجدواها، هي تلك الوجهة من النظر التي يتبناها كثير من الفلاسفة المعاصرين - لا سيما التحليليين منهم - التي تنظر إلى الفلسفة بوصفها تحليلا للمقومات والعمد والدعائم التي تقوم عليها الحياة العقلية في العصر الذي توجد الفلسفة بين ظهرانيه، فإن كانت تلك العمد دينية - كالعصور الوسطى - كانت مهمة الفلسفة تحليل دعائم الدين وإثبات مقوماته؛ بعبارة أخرى كانت الفلسفة هي فلسفة الأديان. وإن كانت تلك العمد سياسية اجتماعية - فرنسا إبان ثورتها مثلا - كانت مهمة الفلسفة تحليل النظم السياسية القائمة والتي ينبغي أن تقوم، والبحث في مقومات المجتمع وعناصره وطريقه إلى الحياة المثلى ... وهكذا.
وغني عن الذكر أن عصرنا هذا يحتل العلم مكان السبق من واجهته العقلية والفكرية والثقافية حتى شاع نعته بأنه عصر العلم، وتمشيا مع هذه الوجهة من النظر، تكون فلسفة العصر الراهن أولا وقبل كل شيء هي الفلسفة التي تحاول فهم ظاهرة العلم فهما يعمقها، فتبحث في خصائصه ومقوماته والتنظيم الأمثل لمناهجه، ومحاولة حل مشاكله التي تخرج عن دوائر اختصاص العلماء؛ أي فلسفة العلم.
هذا ما يراه بعض أقطاب المدارس المعاصرة، الذين بهر التقدم الساطع للعلم أنظارهم فآمنوا بعلمية الواقع وعلمية الحياة الإنسانية، وأرادوا أن تنسحب هذه الخاصة العلمية على الفلسفة مثلما انسحبت على سائر قطاعات الحياة، فتكون الفلسفة إما علمية - أي تحل المشاكل الفلسفية التقليدية مستفيدة بإنجازات العلم، كما يرى رسل مثلا
1 - وإما مقصورة على فلسفة العلم، أي تبحث في مشاكل العلم فقط، كما يرى الوضعيون المناطقة مثلا. إنهم معبرون عن تيارات أخذها العلم جملة وتفصيلا، فنجد الكثيرين من المشتغلين بالفكر الفلسفي، لا سيما في الغرب حيث معقل العلم، يقرون كبديهية في غير حاجة إلى نقاش أن كل ما عدا فلسفات العلم ومناهج البحث، من مخلفات عصور الجهالة، ينبغي أن يوضع في متاحف التاريخ. (2) وإن كان عرض هذه الفكرة لا يحمل اقتناعا بها، فإن الاقتناع - كل الاقتناع - بأن فلسفة العلم لا يجادل أحد في جدواها بالنسبة للفكر المعاصر، وهي من ناحية ثانية أقل فروع الفلسفة حظوة في المكتبة العربية، ومن ناحية ثالثة فبحكم كونها نقطة التقاء بين القطبين الأساسيين لنتاج العقل ومحوري المعرفة «العلم والفلسفة» فإن البحث فيها أكثر إثراء. هذا كله بالإضافة إلى أن فلسفة العلوم الطبيعية بالمعنى الناضج المعاصر لم يكتمل نموها، ويتم الاعتراف بها كعلم مستقل قائم بذاته، إلا بعد أن ازدهرت العلوم الطبيعية نفسها ازدهارا فائقا في الآونة الأخيرة؛ لذلك فهي أصغر الأبناء في الأسرة الفلسفية؛ ومن ثم أحقهم بالعناية، أين هي من فروع الفلسفة الأخرى التي يعد عمرها بالمئات من السنين وتكاد تكون قد قتلت بحثا ودراسة؟! (3) وبخلاف دوائر احتراف التفلسف، فإننا من الناحية القومية، لو أردنا اجتياز الهوة الحضارية السحيقة التي تفصلنا عن الغرب، وتدارك ما فاتنا من خطواته العلمية الواسعة، فالخطأ كل الخطأ يتمثل في تعجيل الوصول إلى عصر العلم دون تأصيل لمناهجه، عن ظن بأننا نستطيع أن نأخذ بما حققته الدول التي سبقتنا على الطريق، غير ملتفتين إلى الطريق نفسه: من أين بدأ، كيف اتجه وسار.
أي لا بد من الإلمام بأسلوب التفكير العلمي - أي منهجه - أولا؛ كي نستطيع أن نعيشه ونمارسه ثانيا، فقد أثبت منهج العلم - ولا جدال - أنه الطريق الأمثل، والأوحد، لحل المشاكل الواقعية العملية، وربما كان العامل الوحيد الذي فجر تقدم الغرب هو تشربهم حتى النخاع بالمنهج العلمي في مواجهة المشاكل العملية، وبجذور تمتد حتى نتاج عصر النهضة حيث رينيه ديكارت وفرنسيس بيكون، بينما نحن مفصولون عنه بفراسخ وأميال.
ولا يكابر أحد بادعاء أننا أخذنا بالعلمية، مشيرا إلى أكاديميات العلوم ومجامعها والميكنة والتقنية التي تعمر أرجاء البلاد، فقد أخذنا بهذا ونحن غافلون عن أن العلم هو المنهج، فنهلل فقط لنتائجه (أي قطع التكنولوجيا) غير مدركين أننا لو استوردنا كل تكنولوجيا الغرب، فسيظل علمنا - بداهة - حيث هو، ما لم نكن على وعي بروح هذا العلم، بمساره وكيفية تقدمه (أي منهجه). إغفال حضارتنا لمنهج العلم، كقانون التفكير العملي السليم، هو الباعث على التشكك في مسايرتنا لروح العصر، فكل ما نقلناه من أنظمة علمية وأجهزة تكنولوجية محض مظاهر سطحية، لم تشكل رافدا جديدا، شق ليثري نهر حضارتنا الخالد.
على هذا يبدو من الملائم تماما اختيار فلسفة العلوم - التي هي مناهج بحثها - ميدانا للدراسة، وعساها أن تساهم في نمط من اليقظة الفكرية، بلاد الشرق من أحوج بقاع الدنيا له. (4) ومن الملائم أكثر اختيار كارل بوبر بالذات (1902م-؟)
Karl
؛ لأنه فيلسوف العلم ومناهج البحث الأول، وبغير منازع على هذه الأولوية.
فهو أصلا دارس للرياضة والطبيعة، بجانب الفلسفة بالطبع، ثم مدرس لهما، إذن يستند في فلسفته للعلم على خلفية صلبة وأرض ثابتة من الإلمام الأكاديمي الواسع بالعلم ذاته، إنه - كما قال العالم الفيزيائي الكبير هنري مارجينو - على خلاف معظم معاصريه، قد أخذ على عاتقه دراسة موضوع تفلسفه أي الفيزياء المعاصرة،
2
وهو رغم سعة إلمامه بالعلم وفلسفته، ليس من قبيل الفلاسفة الذين بهرهم هذا العلم فذابوا معه وراحوا ينكرون أدنى فعالية لشتى ضروب الأنشطة العقلية، بل إنه من خلال العلم ذاته ينظر بعين الاعتبار لسائر تلك الضروب، وعلى رأسها جميعا الميتافيزيقا.
وهو أحد المعاصرين القلائل - إن لم يكن الوحيد بعد رحيل رسل - الذين تتميز بحوثهم بالسمة شبه الموسوعية، لا نجد ميدانا من ميادين النشاط العقلي لم يسهم فيه بوبر، له بحوث في العلم، لا سيما الفيزياء البحتة ونظرية الكوانتم، ونظريات في فلسفته ومناهج بحثه، وهو مجدد في المنطق ونظرية المعرفة، ومبدع في الميتافيزيقا، أما نظريته السياسية، فهي من أشهر ما اشتهر به، وقيل إن كتابه: «المجتمع المفتوح وخصومه» من أهم منجزات القرن العشرين في مجال الفلسفة السياسية والاجتماعية، وقد أردفه بعمل آخر هو «عقم النزعة التاريخية» الذي كتب عنه الناقد آرثر كوستلر
Arthur Koestler
في مجلة التايمز البريطانية يقول: إنه العمل الوحيد في مناهج العلوم الاجتماعية الذي سيخلد إلى ما بعد هذا القرن.
3
ورغم ذلك فبوبر يؤكد في كل مناسبة أن اهتمامه الأساسي هو فلسفة العلوم الطبيعية.
4 (5) وفلسفة بوبر - رغم دقتها وصرامتها الأكاديمية - تتخطى الحدود الأكاديمية وتؤثر تأثيرا فعالا في الحياة العملية، فنجد مثلا: (أ)
العلماء التجريبيون الحاصلون على جائزة نوبل - أمثال سير بيتر ميداوار، وجاكس مونود، وسير جون إكسلس - يؤكدون أنهم وصلوا إلى تلك النتائج العلمية الباهرة بفضل اتباع تعاليم بوبر المنهجية، والاسترشاد بفلسفته للعلوم؛ إذ كانت نصيحة إكسلس
John Eccles
للعلماء الآخرين هي أن «يقرءوا ويتأملوا كتابات بوبر عن فلسفة العلوم وأن يتخذوا منها أساسا للعمل في حياة الفرد العلمية.» (ب)
لم يتبن هذا الرأي العلماء التجريبيون فقط؛ فعالم الفلك البحت والرياضي الشهير سير هيرمان بوندي
Sir Herman Bondi
قال: «ببساطة ليس العلم شيئا أكثر من منهجه، وليس منهجه شيئا أكثر مما قاله بوبر.» فأثر بوبر إذن امتد ليشمل كلا من العلماء التجريبيين وعلماء العلوم البحتة. (ج)
وليس العلماء فقط، بل وبعض رجال السياسة من الوزراء البريطانيين في كل من الحزبين الأساسيين؛ حزب المحافظين وحزب العمال، على سبيل المثال: سير أنطوني كروسلاند، وسير إدوارد بويل
E. Boyle
يقرون أن أيديولوجياتهم السياسية متأثرة تماما بفلسفة بوبر. (د )
وبوبر أحد عشاق الفن ومتذوقيه ، يلعب الفن ولا سيما الموسيقى دورا كبيرا في حياته، ورغم أنه نادرا ما يتعرض في فلسفته للفن، فإن أثره يمتد حتى مؤرخي الفن؛ فمؤرخ الفن الكبير سير إرنست جومبريش
Sir Ernest Gombrich
يقول في كتابه «الفن والخداع
Art and Illusion » إنه سيشعر بالفخر لو أحس القارئ بأثر بوبر يشيع في كل مكان من هذا الكتاب.
5 (ه)
أما أشعيا برلين
Isaiah Berlin
فيصرح في كتابه الشهير عن سيرة كارل ماركس - وله ترجمة عربية - أن نقد بوبر للماركسية يمثل أخطر ما قد وجه لها من نقد حتى الآن. وهو يعتقد مع بريان ماجي أنه لا يمكن أن يطلع أحد على نقد بوبر للماركسية ويظل على اقتناع بمبادئها. (6) وإيراد الشواهد التي تثبت أن أهمية بوبر لا يقربها أي فيلسوف آخر من الفلاسفة الأحياء لا نهاية له، ولكن الغريب حقا أنه لا يتمتع بالشهرة الكافية، ولا يلقى ما يستحقه من التقدير، خصوصا في عالم الدراسات الفلسفية العربية؛ إذ لا يتبين الكثيرون فلسفته بوضوح، فضلا عن أنه شبه مجهول لمثقفي العربية العاديين.
لذلك سيحاول هذا البحث سد فجوة كبيرة. (2) سيرة الفيلسوف وأعماله (1) وقد ولد كارل ريموند بوبر، في فيينا، في 28 يوليو عام 1902م، لأسرة نمساوية خليقة بأن تنجب فيلسوفا، فهذا أبوه «دكتور سيمون سيجموند كارل بوبر» حاصل على درجة الدكتوراه، وكذا أخوه، وكان أستاذا للقانون في جامعة فيينا، ومحاميا. ويبدو أنه كان مثقفا ثقافة رصينة، حتى إننا لا نجد - كما يخبرنا الابن كارل بوبر - حجرة واحدة في منزله غير مكتظة بالمراجع العلمية، وأمهات الكتب الفلسفية وآيات التراث الإنساني، باستثناء حجرة المعيشة، وكانت بدورها مكتظة بمكتبة موسيقية تحوي أعمال باخ وهايدن وموزار وبيتهوفن وشوبيرت.
6
ويبدو أن الرجل - كما نلاحظ من متفرقات في السيرة الذاتية لبوبر - كان حريصا على تنشئة ابنه؛ فهو الوحيد بين ثلاث أخوات، فمنذ نعومة أظفار الصبي كارل بوبر ووالده يحفزه على قراءة الكتب الفلسفية الكلاسيكية، ويناقشه في مشاكل اللامتناهي والماهية والجوهر، وحينما تعييه حذلقة الصبي يعهد به إلى عمه ليستأنف المناقشة.
أما عن أمه «جيني ني شيف، جيني بوبر» فهي تنتمي لأسرة تسري في دمائها الموهبة الموسيقية، كانت هي وشقيقاتها شأن غالبية مواطني النمسا - عاصمة الألحان الرائعة وكعبة الموسيقى - عازفات ماهرات على البيانو، أختها الكبرى وأبناؤها الثلاثة عازفون محترفون؛
7
لذلك نجد الموسيقى تلعب دورا كبيرا في حياة الابن بوبر، فهو متذوق لها وعازف على البيانو، مما ساعده على صقل شخصيته وإرهاف مشاعره، وهو يخبرنا في تفصيلات مسهبة كيف أن الموسيقى الأوروبية المتعددة النغم
كانت ملهما لبعض اتجاهاته الفكرية.
8 (2) والحق أن كل ما في سيرة الفيلسوف مدعاة للإجلال والإكبار، فهو ذو حس إنساني رفيع، شديد التعاطف مع مظاهر البؤس والحرمان والشقاء، وكانت منتشرة في أحياء فيينا الفقيرة - نتيجة حرب أهلية - إبان صبا الفيلسوف، وكان أول حب خفق له قلبه وهو طفل صغير، يرفل في الخامسة من عمره لطفلة صغيرة في روضة أطفال ذهب إليها مرة واحدة، وبرؤية وجهها انفطر قلب الطفل بوبر، وهو لا يدري، ألروعة ابتسامتها الأخاذة؟ أم لمأساة كف بصرها؟
وحينما شب عن الطوق ورث عن أبيه العمل الاجتماعي من أجل الأطفال المهملين والأيتام.
ولما وضعت الحرب الأولى أوزارها (1919-1920م) ترك منزل والديه - رغم توسلاتهما - كي يستقل بنفسه، وكي لا يشكل عبئا عليهما؛ فقد أصبح أبوه شيخا جاوز الستين، فقد كل مدخراته في التضخم المالي الذي استشرى في أعقاب الحرب،
9
وأقام في مبنى قديم لمستشفى عسكري مهجور، حوله الطلبة لبيت طلاب بدائي جدا، فعمل بغير أجر في عيادة النفساني ألفرد أدلر، وبأجور زهيدة في أعمال أخرى كمساعد نجار أو تدريس أو تدريب لطلبة أمريكيين، ولم يكن يدخن أو يحتسي خمرا، كان يأكل قليلا ويرتدي رث الثياب، المتعة الوحيدة التي لم يستطع التخلي عنها هي التردد على حفلات الموسيقى السيمفونية، وكانت التذاكر رخيصة ولا سيما وأنه كان يستمع واقفا.
وبخلاف العمل الاجتماعي من أجل الأيتام، والموسيقى، كان اهتمام بوبر الثالث هو الفلسفات السياسية اليسارية، فقد أمضى إبان مراهقته ثلاثة أشهر ماركسيا، ولكنه انقلب بحماس إلى الاشتراكية الديمقراطية.
10 (3) أما عن دراساته، فكان بوبر يحضر محاضرات علوم مختلفة في جامعة فيينا؛ التاريخ، الأدب، علم النفس ، الفيزياء ... بل حتى العلوم الطبية، لكنه سرعان ما ترك هذا وقصر حضوره على محاضرات الفيزياء النظرية والرياضة البحتة، حيث كانت المحاضرات رائعة بحق.
11
وفي عام 1922م أصبح طالبا منتظما مقيدا بالجامعة، فأمضى عامين للحصول على إجازة للعمل في المدارس الابتدائية، حصل عليها إبان عمله كنجار، لكنه واصل دراساته حتى حصل على إجازة التدريس في المدارس الثانوية من معهد
Institution ، كان قد أنشئ حديثا وهو مستقل ولكنه مرتبط بالجامعة، حيث كانت بعض مقرراته إجباريا كعلم النفس، والبعض الآخر اختياريا،
12
في هذا المعهد تعرف بوبر على محبوبته، التي أصبحت زوجته حتى الآن، وما فتئ بوبر في كل موضع ينوه بفضلها، وفضل حبهما العظيم عليه. (4) وبعد تخرجه من الجامعة استأنف دراساته حتى حصل على شهادة
D.
في الفلسفة، وكسب عيشه من العمل كمدرس طبيعة ورياضة في المدارس الثانوية، ولم يكن هذا شيئا يسيرا في النمسا آنذاك.
ونظرا لأنه ينحدر من أصول يهودية، فقد اضطر إلى الهجرة من النمسا عام 1937م؛ خوفا من النازية واتجه إلى نيوزيلاند حيث قضى سني الحرب وظل يدرس الفلسفة في جامعتها حتى عام 1945م، وفي عام 1946م هاجر إلى إنجلترا واستقر في إحدى ضواحي لندن - حتى الآن - إذ عمل أستاذا للمنطق ومناهج العلوم في جامعة لندن، وفي عام 1965م منح رتبة شرف في المجتمع الإنجليزي (لقب سير) وفي عام 1969م بلغ سن التقاعد. (5) أما عن أعماله: فقد بدأت بكتاب «منطق البحث العلمي»، وقد صدر بالألمانية عام 1933م وهو من أكثر كتب بوبر إيغالا في منطق العلم وفلسفته بالمعنى الفني الدقيق، وقد صدرت له ترجمة إنجليزية عام 1959م، بعنوان «منطق الكشف العلمي» وهي مصحوبة بملحق مطنب تحت عنوان «بعد عشرين عاما»، ولو كانت قد ظهرت هذه الترجمة قبل ذلك بربع قرن، لكان وجه الفلسفة الإنجليزية على صورة مغايرة تماما. مع ملاحظة أن بوبر يتقن اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليونانية فإن كتبه بعد ذلك كلها بالإنجليزية؛ لأنه اتخذ من إنجلترا موطنا، وهي «المجتمع المفتوح وخصومه » في جزأين عام 1946م، حيث ينادي بالديمقراطية الليبرالية، المفتوحة للمناقشة النقدية لكافة أنواع حلول المشاكل، ويحارب فيه الديكتاتورية وكافة الفلسفات المغلقة التي تحاول أن تحدد النظام السياسي الاجتماعي بأيديولوجية محددة، وأبرز الأمثلة: أفلاطون وهيجل وماركس، الذين ينقدهم بوبر نقدا لا يبقي منهم ولا يذر، ثم أعقبه «بعقم النزعة التاريخية» وهو أصلا مجموعة مقالات رفضت مجلة مايند
Mind
نشرها، وهو يكاد يكون ملحقا للمجتمع المفتوح؛ لأن بوبر ينقد فيه الاتجاه الفلسفي المعتقد في مسار محتوم للتاريخ، الذي يرى أن وظيفة العلوم الاجتماعية هي التنبؤ بهذا المسار، وواضح أن المجتمع المغلق يستند على الدعوى بمسار محتوم للتاريخ، ويريد أن يغلق المجتمع على أساس حدود هذا المسار.
13
وقد أخرج بعد ذلك: «الحدوس الافتراضية والتفنيدات»
Conjectures and Refutations
نمو المعرفة العلمية عام 1963م، ثم «المعرفة الموضوعية: تناول تطوري»، وهما مجموعتان من المقالات، تدور حول مختلف جوانب فلسفته، وبالطبع الجانب الإبستمولوجي العلمي هو البارز، وهذه المقالات كان قد سبق نشرها من قبل في المجلات المتخصصة والأوساط الفلسفية المختلفة، وبالطبع يوجد خلافا لها مقالات أخرى لم تنشر في كتاب كامل، أو نشرت كجزء من كتاب بالاشتراك مع آخرين، وحينما أخرج بول آرثر شيلب في مكتبته الثمينة عن الفلاسفة الأحياء، مجلدين قيمين عن فلسفة بوبر، استهل بوبر الجزء الأول بسيرته الذاتية العقلية، نشرها بعد ذلك في كتاب مستقل، كما ختم الجزء الثاني بردود مسهبة على نقاده، كما هو متبع في هذه السلسلة. وفي العام الماضي أخرج كتابين هما «النفس ودماغها» مشاركة مع جون إكسلس، ويدور حول مشكلة العقل والمادة، ثم كتاب «الفلسفة والفيزياء».
هذه هي أعماله التي طرحها حتى الآن، ما زال يعمل في كتب أخرى، ويؤكد أصدقاء الفيلسوف المقربون أن لديه كثيرا من الأعمال حبيسة أدراجه يحجبها عن الناشرين لاقتناعه بأن هناك دائما متسعا من الوقت لمزيد من التحسينات والإضافات. (6) تلك خلاصة لسيرة حياة الفيلسوف، مسار أعماله، أما موقفه الفلسفي فمن الأليق الحديث عنه في الخاتمة، بعد أن نتعرف تماما على بوبر من سياق تفاصيل البحث. (3) مشكلة تمييز المعرفة العلمية (1) وقد تناولنا فلسفة العلم عند كارل بوبر عن طريق مشكلة هي بالنسبة لهذه الفلسفة نقطة البدء، وتخطيط الطريق والهدف المنشود، ألا وهي مشكلة وضع معيار يحدد متى تكون النظرية علمية ومتى لا تكون، وقد تبدو غريبة لأنها غير مألوفة، ولم تطرح من قبل في المكتبة العربية، وهذا هو الغريب حقا، فالمفروض أن هذه المشكلة هي الأساسية، وهي التي تحدد نطاق باقي المشاكل، إنها بحق المحور الجوهري بالنسبة لكل من: (أ)
الأيدلوجية الحضارية المعاصرة. (ب)
العلم. (ج)
فلسفة العلم. (د)
فلسفة بوبر. (أ)
بالنسبة للحضارة المعاصرة، فهي الحضارة العلمية التي أثبتت الفائدة القصوى للعلم ماديا ومعنويا، فجعلته يتبوأ أرفع منزلة معرفية، أصبح كل نشاط يطمح إلى مثل هذه المنزلة يتسمى بمصطلح العلم، غير أن هذا المصطلح شأنه شأن سائر المصطلحات ذات القيمة العليا: الحرية، الديمقراطية، الحقيقة ... مبهمة وغير واضحة، فلا بد وأن نتساءل: ما هو العلم؟ هل هو النشاط الذي يضم علم الكف وعلم الفيزياء البحتة، وعلم التحليل النفسي، وعلم التنجيم، وعلم الديناميكا الحرارية ... أم أن بعض هذه الأنشطة علوم حقيقية، والبعض الآخر علوم زائفة أي أشباه علوم
، ما هو العلم الحقيقي وكيف يمكننا تحديده؟ ... الإجابة على هذا بحل مشكلة التمييز. (ب)
وهو حل يعني العلم ذاته، لا بد وأن يتبين العالم ما هي حدود عمله، ما هي النظريات العلمية الحقة التي يأخذ بها، وكيف يمكنه تحديد الحدود التي يطرح فيها الفروض، فلا يطرح فرضا غير علمي لحل مشكلة علمية. (ج)
وهي بالتالي أساسية لفلسفة العلم، فهي شأنها شأن أية فلسفة أخرى، تحاول فهم ظاهرة مجالها «الأخلاق، السياسة، الدين، الجمال ...» فهما يضم بين شطآنه سائر جزئيات الظاهرة محاولا الارتفاع عنها ارتفاعا يليق بعمومية الفلسفة وكليتها، ويمكنها من تجاوز ما هو كائن؛ لتصور ما ينبغي أن يكون، إنها محاولة لفهم ظاهرة العلم، وهي حديث يأتي بعد العلم نفسه لأنه حديث عنه؛ لذلك يسمى باللغة البعدية
Meta Language
لغة فلاسفة العلم، المتميزة عن اللغة الشيئية
Object Language
التي هي العلم نفسه محتواه المعرفي، أي عمل العلماء أنفسهم . إذا صدق هذا، وصدق أيضا أن الإبستمولوجيا مبحث رحب واسع عريق عراقة الفلسفة ذاتها، يبحث فيما يمكننا أن نعرف، أيا كان: الله المطلق، الطبيعة ... وكيف يمكن معرفته وبأية وسيلة: العقل، الحس، الحدس، الإلهام الصوفي ... وأن فلسفة العلم بدورها فرع متطور محدد جدا من الإبستمولوجي يبحث فقط في الأسس المنطقية والفلسفية لنمط معين مخصوص جدا من المعرفة، إذا صدق كل هذا، وجب على فلسفة العلم أن تعرف كيف تميز هذا النمط، أي العلم، عن بقية أنماط الإبستمولوجي العديدة، وإنه حد لمختلط بها، «فكلمة العلم
Science
مشتقة من الكلمة اللاتينية
Scire
ومعناها أن يعرف؛ لذلك فالعلم إذا أخذ بمعنى فضفاض،
14
كان يدل على ما نعرفه، وعلى مجموع المعرفة البشرية بأسرها.»
15
والعرب أيضا يطابقون بين العلم والمعرفة، فيقولون: علم الشيء بالكسر (كسر اللام) يعلمه علما، أي: عرفه،
16
أي من الناحية الفيلولوجية، ليست هناك حدود بين العلم وبين المعرفة، وإن كان العرف الإسلامي قد جرى على أن ينسب إلى الله تعالى العلم لا المعرفة فنقول: «عليم» بينما ينسب إلى العبد المعرفة فقط، وهذه لفتة ثاقبة؛ لأن العلم أرسخ من المعرفة، والعلم - لا المعرفة - هو الذي ينقض الجهل، ولكنها للأسف لم تقنن ترمينولوجيا بما يكفي وحتى المصطلح الفلسفي للعلم يرادف بينه وبين المعرفة؛ فالعلم «هو الإدراك مطلقا تصورا كان أو تصديقا، يقينا كان أو غير يقيني، وقد يطلق على التعقل، أو على حصول صورة الشيء في الذهن، أو على الإدراك الكلي مفهوما كان أو حكما، أو على الاعتقاد الجازم المطابق للواقع أو على إدراك الشيء على ما هو به، أو على إدراك حقائق الأشياء وعللها، أو على إدراك المسائل عن دليل، أو على الملكة الحاصلة عن إدراك تلك المسائل، والعلم مرادف للمعرفة لكنه يتميز عنها.»
17
فكيف لنا أن نميزه؟
إن مشكلة التمييز إذن أساسية في فلسفة العلم، أو على حد تعبير بوبر هي المشكلة الأساسية التي تتفرع عنها كل المشاكل الأخرى في فلسفة العلم.
وعلى هذا تتفق جميع الأطراف المعنية على ضرورة تمييز العلم، على ضرورة الإجابة على التساؤل: ما هو العلم؟ فكيف يمكن مثل هذا التمييز؟
أولا وقبل كل شيء، فكرة التعريف الجامع المانع قاصرة، وهي مستحيلة، فلو قلنا مثلا: العلم هو البحث عن الحقائق، لكانت الجاسوسية علما. أو قلنا: هو بناء نسقي من المعلومات الواقعية، لكانت شجرة العائلة علما ... أو هو بناء نسقي من المعلومات الواقعية المفيدة، لكان دليل التليفون علما ... وهكذا يستحيل وضع تعريف يحصر جميع الأنشطة العلمية ويميزها، وهذا شيء يكاد يكون مسلما به، فهل يمكن مثلا تمييز العلم بواسطة مجموعة من الخصائص، كأن نقول: هو النشاط الذي يتسم: بالعمومية والموضوعية والتجريد والنسقية وثبات الصدق، والتسليم ببعض مبادئ معينة،
18
بالطبع هذه محاولة ليست أقل قصورا من فكرة التعريف، فبغض النظر عن أن العلم ليس ثابت الصدق، وليس هناك أية مبادئ معينة من الضروري التسليم بها، فإنه من الممكن مثلا تناول مشكلة شخصية تناولا موضوعيا، كما يمكن تكميم ميزانية الشركة بل وسائر أنشطتها، ويمكن تجريد خطوط الرسم في لوحة فنية ... إن الصفات كيفية، وهي فضفاضة يمكن أن تجتمع في أي نسق، وهو ليس علميا، لا سيما وأن أنساق العلوم الزائفة تقوم على تنسيق عقلاني خلاب، وإلا فلماذا نخشى اختلاطها بالعلم؟ العلم نشاط دقيق، فلا بد وأن يكون تمييزه على أساس دقيق دقته، إن لم يكن أكثر، بعبارة أخرى: لا بد من تمييز العلم على أساس منطقه، أي منهجه. (2) ولو رمنا مثل هذا التمييز؛ لوجدنا أن نظرية كارل بوبر، تمييز العلم على أساس قابليته المستمرة للتكذيب هي أصوب وأدق ما طرح حتى الآن من معايير لتمييز العلم، والأهم أنها لا تميز فحسب، فنظرية التكذيب - كما سيوضح الباب الثالث - هي أوفى وأشمل دراسة ميثودولوجية للبنية المنطقية للنظرية العلمية، توضح أفضل منهج للتعامل معها، كي نصل بها إلى الصورة المثلى الممكنة. لكل ذلك كانت هي المدخل الأمثل لدراسة نظرية بوبر في فلسفة العلم الطبيعي، لا سيما أنها، كما يقول بوبر نفسه: كانت نقطة البدء في هذه الفلسفة، كما ظلت دائما مركزها.
19
وإن لم يكن بوبر أول من أثارها، فأول من فعل ذلك بوضوح هو إيمانويل كانت؛ لذلك يسميها بوبر مشكلة كانت؛ لأنه أول من انشغل بمشكلة الحدود التي تميز العلم التجريبي، وأول من تساءل عن معيار يحدد العبارات التي تنتمي للعلوم التجريبية، ويميزها عن تلك التي لا تنتمي لها، وتنتمي للميتافيزيقا مثلا. (3) أما الذي جعلها نقطة البدء، فهو أن بوبر قد نشأ في جو يسيطر عليه سقوط الإمبراطورية النمساوية، وقيام ثورات ملأت الجو في النمسا بشعارات وأفكار ثورية ونظريات جديدة، ثار حولها الكثير من الجدل والهراء، لا سيما:
النظرية النسبية.
النظرية الماركسية في التاريخ.
نظرية فرويد في التحليل النفسي.
نظرية أدلر في علم النفس الفردي.
كان الإعجاب شائعا بعلمية النظرية الماركسية، ونظريات فرويد وأدلر وقوتها البادية، حتى بدت هذه النظريات وكأنها قادرة عمليا على شرح كل شيء يحدث في مجالات بحثها، فلا بد وأن تجد الحالات التي تؤكدها في كل مكان، وامتلأت الدنيا بإثباتات لها، وأيا كان ما يحدث فهو دائما يؤكدها، لقد ظهر صدقها جليا، واتضح أن المنكرين كانوا قوما لا يريدون أن يروا الصدق الجلي، أو رفضوا أن يروه، إما لأنه ضد مصالح طبقتهم، وإما هو بسبب عقد مكبوتة لديهم.
ولم تكن المنزلة العلمية للنسبية - التي جذبت بوبر بشدة - قد ثبتت بعد، لكن بوبر كان ضمن مجموعة من الطلبة يدرسون نتائج ملاحظات آدنجتون عن الخسوف، التي جلبت عام 1919م أول تحقيق هام لنظرية آينشتين في الجاذبية، في حين أنه كان مغامرة، كان يمكن جدا أن تجلب ملاحظات آدنجتون عكس ما توقع آينشتين؛ مما يعني ببساطة أن النظرية مرفوضة؛ لأنها غير متوائمة مع نتائج معينة محتملة للملاحظة، وهي في الواقع نتائج كان يمكن أن يتوقعها أي باحث قبل آينشتين.
ألحت مشكلة التمييز بشدة على بوبر، ومن جراء هذا بدا له من السهل جدا الحصول على وقائع تؤيد أية نظرية، وأن القوة البادية لنظريات فرويد ويونج وأدلر على شرح كل شيء، هي في الواقع مكمن ضعفها الحقيقي،
20
فهي غير قادرة على التنبؤ بأي شيء؛ إذ إن العسير حقا هو وضع النظرية في موقف يستطيع منع حدوث وقائع معينة، يمكن جدا أن تحدث فتكذبها.
على هذا توصل إلى أن إمكانية تكذيب
Falsifiability
النظرية إمكانية تصادمها، أي تعارض النتائج المستنبطة منها مع وقائع ملاحظة ممكنة الحدوث منطقيا هي المعلم المميز للعلم الطبيعي، معلم يرسم حوله حدودا تحدد صورته المنطقية، بوصفه النسق الوحيد - بين أنساق عدة - القادر على إعطائنا قوة شارحة، مضمون معرفي ومحتوى إخباري، عن العالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نعيش فيه، القابلية للتكذيب هي التي تميز العلم التجريبي دون سواه، فتفرده عن العلوم الزائفة، وعن الميتافيزيقا، وعن المنطق والرياضة ... وعن سائر الأنشطة العقلية التي لها دورها العظيم، وربما الأعظم في بناء الحضارة، وتقدم الإنسان ولكن اختلاطها، بالعلم الطبيعي، ادعاءها القدرة الإخبارية عن العالم التجريبي، من شأنه أن يلحق الضرر بالحضارة المعاصرة وبالعلم وبالفلسفة، ولا سيما أن العلوم الزائفة
كالتحليل النفسي مثلا، تقوم على تنسيق عقلاني خلاب، يجعلها تتشح بوشاح العلم، في حين أنها مجردة من أية قوة شارحة معرفية، إنها دجل العصور الحديثة، المناظر للتنجيم والسيمياء، دجل العصور الغابرة.
معيار القابلية للتكذيب، يكشف عن كل هذا، إذ يميز العلم، ويعطينا صورة المنهج الأمثل للتعامل معه. (4) لكن ليس من السهل قبول هذا المعيار.
أولا: هناك رأي شائع مؤداه أن النظرية تكون علمية، إذا كنا قد أتينا بها عن طريق المنهج الاستقرائي، أي لو كانت تعميما لوقائع مستقرأة من العالم التجريبي، فلا بد وأن تكون إخبارا عن هذا العالم، غير أن بوبر يرى أن عملية التعميم الاستقرائي هذه مستحيلة الحدوث أصلا، فكيف لها أن تميز العلم؟
لذلك أفردنا الباب الأول لمناقشة المنهج الاستقرائي، وإثبات أنه محض خرافة، وأن منهج العلم الحقيقي، منهج المحاولة والخطأ النقدي، لا يميز العلم فقط، فهو منهج كل نقاش عقلاني، وأي نشاط مجد أو مثمر.
ثم أفردنا الباب الثاني للوضعية المنطقية وموقف بوبر منها، فصلب هذا المذهب هو المعيار الذي يفصل بحسم قاطع بين الأحاديث التي تنصب على الواقع الحسي التجريبي وبين الأحاديث أو الثرثرة الميتافيزيقية التي تتجاوزه، وهذا فقط لأن العلم يقصر أحاديثه على الواقع التجريبي وقد بذلوا محاولات عدة لإقامة مثل هذا المعيار ، أشهرها معيار التحقق كما وضع كارل همبل معيار القابلية للتأييد، ووضع رودلف كارناب نسقا اصطناعيا للغة، أو مشروعا له، يحاول استيعاب العلم واحتواءه ونبذ كل ما عداه، كما وضع فتجنشين محاولة متأخرة.
كل هذا بالإضافة إلى أن الوضعية المنطقية أهم المؤثرات الفلسفية على بوبر، فقد هيمنت على الجو الفلسفي الذي نشأ فيه، كما أن بوبر بدوره من أهم المؤثرين على هذا المذهب، كما يرى الوضعي المنطقي فيكتور كرافت، أو هو بالأصح من أقسى نقاده، كما يرى الوضعي المنطقي أوتونيورات.
لهذا كان الباب الثاني للوضعية المنطقية، ونقد بوبر الشامل والمحيط لها ولمعاييرها لتمييز العلم، لتنتهي في النهاية إلى أن هذه المعايير محاولات فاشلة، بل وأن المذهب نفسه فاشل.
حتى إذا وصلنا إلى الباب الثالث «معيار القابلية للتكذيب»، ألفينا أنفسنا بإزاء المعيار الأصوب لتمييز العلم؛ لأن قوام العلم هو منهجه، ومنهجه هو منهج أية مناقشة عقلانية أي المنهج النقدي الساعي دوما إلى حذف الخطأ وتقليل نطاقه، أي تقليل مواطن الكذب، والذي جعل العلم يتقدم هذا التقدم الفائق إنما هو - وهو فقط - معلمه المميز الداخل في نسيج منطقه، أي القابلية للتكذيب، فقد تتم محاولة التكذيب وقد لا تتم، وقد تتم في وقت لاحق، المهم هو الإمكانية المنطقية لها، الإمكانية المنطقية لاكتشاف الخطأ والوصول إلى الأقرب من الصدق، وبالتالي التقدم المستمر نحو الحقيقة.
في هذا الباب سنلقي دراسة منطقية لنسق العلم، محيطة بالجوانب الميثودولوجية، والإبستمولوجية؛ لنتمكن في النهاية من تمييز النظرية العلمية، وتقنينها تقنينا دقيقا، على أساس درجة قابليتها للتكذيب، وبالطبع معنيون - في فصل خاص - بتطبيق نتائج هذا المعيار.
كل باب من الأبواب الثلاثة ينتهي بفصل خصص لمناقشة الدعاوى المطروحة فيه، لكن لا بد وأن ينتهي البحث بخاتمة عن موقف بوبر بصفة عامة. (5) والآن في هذا الموضع - وفي كل موضع - لن يكفي كل ما في الأرض من آيات عرفان وامتنان كيما أرفعها إلى الرحاب الرحب لأستاذتنا الدكتورة أميرة مطر، حيث ننهل جميعا من أرفع قيم للبحث العلمي، ومن أعمق حب للفلسفة ومتفلسفيها، لقد تفضلت سيادتها منذ البداية بإرشادي إلى موضوع هذا البحث، ثم بقبول الإشراف عليه، فلم أجد إلا تثبيتا لدعائم مثل عليا، كانت قد أرستها في نفسي قبل هذا البحث بسنوات.
الباب الأول
المنهج الاستقرائي هل يصلح معيارا لتمييز
العلم
تمهيد
لقد فهمت تماما لماذا حصنت بهذا الإحكام نظرية العلم الخاطئة، تلك التي سادت منذ بيكون - والتي ترى أن العلوم الطبيعية هي العلوم الاستقرائية، وأن الاستقراء هو عملية تأسيس أو تبرير النظرية بواسطة ملاحظات أو تجارب متكررة - والسبب هو أن العلماء كان عليهم أن يميزوا أنشطتهم عن العلوم الزائفة، وبالمثل عن اللاهوت، والميتافيزيقا، وقد أخذوا من بيكون المنهج الاستقرائي كمعيار يميزهم، ومن ناحية أخرى: كان العلماء متشوقين لتبرير نظرياتهم، متوسلين بمصدر للمعرفة يمكن مقارنته من ناحية الوثوق بمصادر الدين.
1 (1)
أولى تلك المصادر التي وضعت لحل مشكلة التمييز وأكثرها شيوعا، حتى لتكاد أن تكون هي الموقف المعتمد، هي تلك التي ترى أن استخدام المنهج الاستقرائي هو - وهو فقط - الذي يدمغ المعرفة بالسمة العلمية ويميزها عن سواها. (2)
وقد فطن بوبر إلى أن أساس التشبث بأهداب المنهج الاستقرائي، بوصفه معلم العلم هو رغبة العلماء في معيار يحدد حدودا حصينة لهم، وفي نفس الوقت يؤكدها، هذا بعد أن ظل فترة طويلة (1920-1926م) معتقدا أن مشكلة الاستقراء ومشكلة تمييز العلم هما مشكلتان منفصلتان تماما حتى اهتدى إلى العلاقة الوثيقة بينهما، وكيف أن مشكلة الاستقراء مجرد نتيجة لمشكلة التمييز أي تابعة أو ملحقة بها، وكيف أن الذي يجعل الاثنتين مشكلتين مستعصيتين هو الخطأ الشائع في أن التمييز يتم عن طريق المنهج الاستقرائي. (3)
يقف بوبر بحسم وبقطع - وبشجاعة أيضا - رافضا هذا المعيار المسلم به، معتزا بحله لمشكلة الاستقراء، وحينما نرى كم حيرت هذه المشكلة الفلاسفة منذ هيوم حتى رسل العظيم، سندرك أنه محق في هذا الاعتزاز، مصرا على أن الاستقراء بجلال سلطانه محض خرافة، آتيا بمنهج جديد للعلم ... كل ذلك لكي يفسح المجال أمام معياره في التمييز. (4)
على هذا يجمل بنا رسم صورة عامة للمنهج الاستقرائي ولمشكلته الشهيرة، حتى يتضح الميراث الفلسفي الذي تسلمه بوبر من علم مناهج البحث، ثم نوضح موقفه الفلسفي من هذا الميراث.
الفصل الأول
المعيار التقليدي: المنهج الاستقرائي
(1) الاستقراء معيار تمييز العلم (1) تطبيق المنهج الاستقرائي في العلوم التجريبية، ومراعاة قواعده مراعاة دقيقة، يعتمد بوصفه الفيصل الحاسم بين العلم واللاعلم، ويعتبر ذلك من المسلمات التي تعلو فوق النقاش.
فانظر إلى هذه المقتبسات:
تعريف العلم على أساس منهجه، أمر يطابق العادات المألوفة في كل حالة لا يكون فيها خلاف؛ لهذا السبب فسأستعمل كلمة علم للدلالة على مجمل المعرفة التي يصار إلى جميعها بواسطة المنهج العلمي.
1
ومنهج تأسيس العبارات العامة على الملاحظات المتراكمة لحالة معينة يعرف بالاستقراء، وينظر إليه على أنه سمة العلم، بعبارة أخرى فإن استخدام المنهج الاستقرائي، يعتبر معيار التمييز بين العلم واللاعلم، وبذلك تتعارض العبارات العلمية القائمة على أدلة ملحوظة تجريبيا - أي القائمة باختصار على حقائق - مع أية عبارات من نوع آخر، سواء قامت على النفوذ أو العاطفة أو التقاليد أو التأمل أو الانحياز أو العادة، أو أي أساس آخر.
2
تطلق العلوم الطبيعية على كل دراسة تتناول الظواهر الجزئية بمناهج الملاحظة والتجربة والاستقراء.
3
الالتزام بالمنهج العلمي في أية دراسة؛ أي اتباع الموضوعية، والاستناد إلى الملاحظة الدقيقة، والاعتماد على الاستقراء السليم، وإجراء التجربة المنضبطة؛ يجعل الدراسة بحق علما.
4
مجتمعات كثيرة من البشر تجهل أو ترفض قاعدة العلم - أي الاستقراء - ومن بين هؤلاء: أعضاء المجتمعات المناهضة للتطعيم، والمعتقدون في التنجيم، وأية مناقشة مع هؤلاء بغير جدوى، لا يمكن قسرهم على قبول نفس المعيار، الاستقراء السليم، الذي نؤمن بأنه شريعة القوانين العلمية.
5
ويقدم ستانلي بيك تعريفا للعلم هو: «ضرب من المعرفة الموضوعية المختبرة، نكتسبه ونبعث الوحدة فيه - من حيث المبدأ - بالمناهج الاستقرائية.»
6 (2) اختصارا للقول، فإننا لا بد وأن نلقي قولا يحمل مثل هذا المعنى، تقريبا في كل كتاب يتعرض لهذه المواضيع؛ إذ وجد العلماء فيه ضالتهم المنشودة، التي تحقق بغيتهم في تأكيد المعارف العلمية تأكيدا يميزها عن غيرها، إلا أنه رغم كل شيء لم يكن تأكيدا ممهدا، بل ملغما بلغم خطير فجره هيوم فيما يعرف بمشكلة الاستقراء.
وكيف يعود الفضل كل الفضل في تقدم العلوم الطبيعية إلى هذا المنهج الاستقرائي، وكيف شكل مفتاحا ذهبيا لفض مغاليق أسرار هذا الوجود، ولحل مشاكل البشر العلمية والعملية وكيف ميز العلم الطبيعي تمييزا، وحدده بسياج ذهبية جعلته يتقدم المسيرة المعرفية، وكيف أنه رغم كل ذلك مقلقل مضطرب مزعزع، بفعل شكاك أسكتلندا المثير للمتاعب، ويفيد هيوم ... حول هذا تكاد تنحصر الأحاديث التقليدية التي لا بد وأن نسمعها تتردد في كافة أحاديث فلسفة العلوم ومناهج البحث التقليدية.
لكن ماذا عسى أن يكون هذا المنهج، وماذا عسى أن تكون مشكلته. (2) التعريف بالمنهج الاستقرائي (1) المنهج هو الطريقة، بمعنى الطريق الواضح المستقيم الذي يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى غاية معينة،
7
ويوضع اصطلاح «المنهج» في اللغة العربية كترجمة للاصطلاح الأوروبي
Method
في الإنجليزية، و
Methodè
في الفرنسية، و
Methode
في الألمانية، وسائر البدائل في اللغات الأوروبية الأخرى، «وكلها تعود في النهاية إلى الكلمة اليونانية
Mἐθoaδ ، وهي كلمة يستعملها أفلاطون بمعنى البحث أو النظر أو المعرفة، كما نجدها كذلك عند أرسطو وأحيانا كثيرة بمعنى «بحث»، والمعنى الاشتقاقي الأصلي لها يدل على الطريق أو المنهج المؤدي إلى الغرض المطلوب خلال المصاعب والعقبات.»
8
فاصطلاح «المنهج» في أشد معانيه عمومية، هو وسيلة تحقيق الهدف، وهو الطريق المحدد لتنظيم النشاط، أما معناه الفلسفي على وجه الخصوص فهو وسيلة المعرفة، فالمنهج هو طريق الخروج بالنتائج الفعلية من الموضوع المطروح للدراسة، هو الطريقة التي يتبعها العقل في دراسة موضوع ما، للتوصل إلى قانون عام أو مذهب جامع، أو هو فن ترتيب الأفكار ترتيبا دقيقا بحيث يؤدي إلى الكشف عن حقيقة مجهولة أو البرهنة على صحة حقيقة معلومة. (2) أما المفهوم الفلسفي لمصطلح المنهج العلمي خصوصا، أي قواعد الوصول إلى الحقيقة في العلم بالذات فهو لم يظهر مستقلا إلا منذ عصر النهضة، ومثله مثل
9
جل المفاهيم الفلسفية قد اتخذ عبر العصور معاني عدة متقاربة غير متباينة، تتحدد تبعا لروح التفلسف العلمي في العصر، والحديث التاريخي عن مفهوم المنهج العلمي يمكن إجماله على النحو التالي: (أ)
هو مجموعة القواعد التي توضع لتنظيم عملية اكتساب المعرفة بالعالم بصفة عامة (الفلسفة القديمة). (ب)
هو مجموعة القواعد التي توضع كتنظيم لعملية اكتساب المعرفة الطبيعية، التي تعرف بوصفها معرفة علمية (بدايات الفلسفة الحديثة). (ج)
هو المبادئ التي نجردها من الممارسات العملية للأفراد الذين عملوا بنجاح في عملية اكتساب المعرفة العلمية (المائة سنة الأخيرة) وهذا التجريد ليس مجرد وصف لسلوك العلماء، بل إنه يتضمن تقييما للمغزى
Significance
الذي يدل عليه هذا السلوك، كما عبر عنه بوبر قائلا هو تقييم للعبة العلوم التجريبية،
10
هذا هو أقصى تطور وصل إليه مفهوم المنهج. (3) والواقع أن العلماء لهم أساليب عدة في ممارسة بحوثهم؛ فهذه أساليب لعالم الفيزياء، تخالف تلك التي ينتجها عالم البيولوجيا، تناقض تلك التي يمارسها عالم التاريخ، بل إننا نجد داخل العلم الواحد أكثر من منهج؛ إذ يستعمل الباحث لكل مشكلة المنهج الذي يلائم طبيعتها، وفي ذلك ضرورة لإضفاء المرونة على البحث العلمي، غير أن العرف قد جرى على حصر المناهج في فرعين:
المنهج الاستنباطي:
تسير فيه من فروض أولية إلى نتائج تلزم عنها بالضرورة، متبعين في ذلك قواعد المنطق، دون التجاء إلى التجربة، هذا هو منهج العلوم الصورية، أي الرياضة والمنطق على وجه الخصوص، ويفيد أيضا في علوم الشريعة والقانون، وبعض المباحث اللغوية.
المنهج الاستقرائي:
أي المنهج الذي نبدأ فيه بجزئيات تجريبية غير يقينية غير ضرورية، لكي نصل إلى قضايا عامة كلية، هذا هو منهج العلوم الطبيعية، وما تحاوله العلوم الإنسانية من احتذاء حذوها، وطالما نتحدث الآن حديثا تقليديا فلا بد وأن نطابق بين منهج العلوم التجريبية وبين الاستقراء.
بالطبع هناك مناهج فرعية ثانوية أخرى كالمنهج الاستردادي الذي نسترد فيه الماضي تبعا لما تركه من آثار، وهو منهج العلوم التاريخية والأخلاقية، والمنهج الجدلي الذي يحدد مناهج التناظر والتحاور بين الجماعات العلمية
11
في نتائج المناهج السابقة، والأهم من كل هذا نظريات المنهج التجريبي الحديثة، لكننا الآن معنيون بالاستقراء فقط، فما هو هذا المنهج الاستقرائي: (4) الاستقراء في اللغة هو التتبع، من استقرأ الأمر فقد تتبعه لمعرفة أحواله، وعند التطبيقيين هو الحكم على الكلي لثبوت الحكم في الجزئي،
12
إما باستقراء جميع الجزئيات أو بعض منها، والمقصود بالمنهج الاستقرائي هو «عملية الانتقال من حالات جزئية ملاحظة تجريبيا إلى صيغة كلية فرض أو نظرية؛ وذلك بأن يقوم الباحث بملاحظة مجموعة من الجزئيات المتماثلة أو المتشابهة، إما بملاحظتها كما هي في الطبيعة، وإما باصطناعها في المعمل وإجراء التجارب عليها؛ بغية اكتشاف ما تسببه العلل فيها من معلولات، وفقا للواقع المحسوس، ثم يخرج من ملاحظة هذه الجزئيات بتعميم لها في صيغة كلية على هيئة قانون عام يحكم جميع الحالات المتماثلة أينما وقعت ووقتما وقعت حتى إذا وقعت العلة تنبأ الباحث بوقوع المعلول؛ أي إذا حدثت الظروف التي لاحظ أنها توجب وقوع الظاهرة؛ أمكنه التنبؤ بوقوعها.
فالاستقراء إذن هو الطريق: أي المنهج إلى وضع قوانين عامة تفسر الظواهر الطبيعية، وهي طبعا مستحيلة اليقين أي احتمالية، ولكنها تعميمات تصنع تقدم العلم من ناحية، وأساس سير الحياة العملية من الناحية الأخرى، ومن المعروف أن عملية التعميم هذه يبررها قانونان: (أ) قانون السببية
Law of Causality :
وهو الاعتقاد بأن لكل ظاهرة علة سببتها، ولكل علة معلول ينشأ عنها، فحوادث هذا الكون تسير في عملية تسلسل على كل ظاهرة علة للظاهرة التي تليها، ومعلول للظاهرة التي سبقتها. (ب) قانون اطراد الطبيعة
Law of Uniformity of Nature :
وهو الاعتقاد بأن ظواهر الطبيعة تجري بشكل مطرد على وتيرة واحدة لا تتغير، ما حدث اليوم سوف يحدث في الغد وإلى الأبد، فكل شيء حدث وسوف يحدث هو مثال لقانون عام
13
لا يعرف الاستثناء، طالما أنه محكوم بعلاقة عليه ضرورية.
ووظيفة العلم التقليدي، هي الكشف عن هذه العلاقات السببية التي تحدد قوانين اطراد الكون، وذلك الكشف بالطبع عن طريق المنهج الاستقرائي، وجدير بالذكر أن هذين القانونين ليس لهما ما يبررهما. (3) تناول تاريخي للاستقراء (1) وترجع نشأة الاستقراء بوصفه منهج العلم، إلى الحين الذي ضاق البحاث فيه بعقم وإجداب المنطق الأرسطي بوصفه المنهج، ذلك الذي هيمن هيمنة غريبة على الفكر البشري شرقا وغربا طوال العصور الوسطى بعد أن قدم توما الأكويني
Thomas Aquinace (1225-1274م) كتابه «الخلاصة اللاهوتية» أو المجموعة اللاهوتية، موفقا فيه بين العقل والدين ومقدما تفسيرا عقليا لمشكلات العلم الإلهي والعلم الإنساني والسببية والقضاء والقدر، والمشيئة الإلهية وحرية الإرادة، وفكرة الوجود والعدم والخلق المستمر المرتبط بالحفظ الإلهي للكون، وغيرها من العقد التي كانت أزمة الفكر الديني في المسيحية، ولما كانت حلوله لهذه المشاكل مستمدة من فلسفة أرسطو بالإضافة إلى ما قدمته هذه الفلسفة من براهين عقلية بحتة على وجود «آلة» مفارق للكون، محرك له، فقد اعتمدت الكنيسة فلسفة أرسطو فلسفة رسمية لها، حتى إذا وصل الباحث إلى فكرة تخالف مثيلتها عند أرسطو، أو حتى لم يقل بها أرسطو وجب أن يتغاضى عنها، وإلا تعرض لهلاك محاكم التفتيش بوصفه كافرا زنديقا، فالكنيسة اعتبرت فلسفة الحقيقة الحقة، أما منطقه القياس فهو المنهج المفضي إلى اليقين؛ لأن هناك كتابا منزلا أو كتبا منزلة، تنطوي على حقائق مسلم بصحتها، يمكن أن نأخذها كمقدمات في القياس، ثم نتوصل إلى نتائج ضرورية الصدق على أساس المقدمات اليقينية الإلهية بواسطة قياس المنطق الأرسطي.
ولنفس هذا السبب اعتبره فقهاء الإسلام، ومنهم الغزالي نفسه، معيار العلم ومحك النظر والقسطاس المستقيم، وفيصل التفرقة بين الخطأ والصواب وآلة العلوم وعلم قوانين الفكر الثابتة؛ فالأصوليون قد انتفعوا به كثيرا في استنباط الأحكام الشرعية، هكذا كان المنطق الأرسطي هو منهج البحث الوحيد طوال عشرين قرنا.
وغني عن الذكر ما يتسم به هذا المنطق وقياسه، من دوران منطقي ومصادرة على المطلوب وتحصيل لحاصل ... إلى آخر ما قيل في نقده، غير أن الذي عابه على وجه الخصوص هو مجافاته للواقع، فهو لا يعنى إلا باتساق النتائج مع المقدمات، فحتى وإن كانت نتائجه صادقة على الواقع، فهي ولا بد وأن تكون متضمنة قبلا في مقدماته، أي إننا نعرفها سلفا، أما إذا أردنا أن نكتسب أدنى إخبار عن الواقع أو فهما أكثر للطبيعة المتأججة من حولنا، فإن هذا شبه مستحيل باتخاذ هذا المنطق وقياسه منهجا، فإن انتهجناه سنين عدة - كما حدث طوال العصور الوسطى - ألفينا أنفسنا نلف وندور في دائرة مفرغة، فينتهي بنا المطاف إلى حيث بدأنا ولا جديد البتة، ومن أين الجديد والعملية كلها انتقال من معلوم كلي إلى معلوم جزئي، ولا مساس إطلاقا بآفاق المجهول الرحيبة.
وقد بلغ هذا الضيق أوج مداه في نهايات عصور النهضة، وبدايات العصر الحديث؛ إذ تطور العلم تطورا ملحوظا وتوصل العلماء إلى قوانين فسرت الطبيعة تفسيرا عقليا واقعيا مكنهم من فهمها وبالتالي من السيطرة عليها، واكتشفوا أشياء رائعة كالقارات والكواكب والأجهزة العلمية والفلكية والطباعة، ومن ثم أصبح هم الفلاسفة الأول هو البحث عن منهج جديد يلائم الروح الجديدة للعصر، فكان القرن السابع عشر بحق هو قرن المناهج «منهج ديكارت - مالبرانش: البحث عن الحقيقة - فلاسفة بور رويال: فن التفكير، اسبينوزا: رسالة في إصلاح العقل - ليبنتز: يحلل ويبحث في فكرة منهج رياضي»، ولكن الجدير بالاعتبار من بين كل هؤلاء هو فرنسيس بيكون الذي يتصدر قائمة طويلة من الفلاسفة ذوي العقول العلمية، أولئك الذين أكدوا أهمية الاستقراء كنقيض للاستنباط»
14
وما يدخل في حوزة هذا الاستنباط من قياس أرسطي، وعلى مدى عصور العلم الحديث حتى بداية القرن العشرين، تلا بيكون العديد من المعنيين بالمنهج العلمي؛ لينكبوا على تأكيد الاستقراء، وتخليصه من الشوائب التي شابت محاولة بيكون وبلورته، نذكر منهم: كلود برنار
Clauide Bernard (1813-1818م) ووليم ويول
Wè Whewell (1794-1866م)، وجون ستيورات مل الذي يعد بحق أكثر الاستقرائيين استقرائية حتى استقام المنهج الاستقرائي في صورة خطوات محددة، على العالم اقتفاؤها، فيصل في النهاية إلى القانون ويضيف لحصيلة العلم. (2) لكن والحق يقال - رغبة الباحثين في العود إلى الطبيعة، واستخلاص المعرفة بها عن طريق جزئياتها الحسية، قديم قدم الفكر البشري، فقد عرفت البشرية روادا عدة مهدوا لهذا المنهج الاستقرائي، منهم أرسطو نفسه الذي فطن إلى أهمية الحواس بوصفها أبواب المعرفة، بل إن إيمانه بالاستقراء يبلغ درجة إيمانه بالقياس، فكما أن القياس هو الوسيلة اليقينية لربط الحد الأصغر بالحد الأكبر عن طريق الحد الأوسط، فإن الاستقراء هو الوسيلة اليقينية، بل والوحيدة لتكوين المقدمات الكبرى، أي لا مقدمات بغير استقراء ولا قياس بغير مقدمات، إذن لا قياس بغير استقراء، هكذا كان أرسطو استقرائيا كبيرا، وأكثر من ذلك فهو صاحب مصطلح الاستقراء نفسه «إيباجوجي
Epagogya
15 ⋆
وإن استخدمه بأكثر من معنى: (أ)
الاستقراء التام
Complete Induction : وهو عملية إحصاء تام
Complete enumeration
ليجمع الأمثلة الجزئية التي تنطوي تحت الحكم الكلي، وهذا ما يسميه بعض المناطقة بالاستقراء التلخيصي
Summary Induction ،
16
ومن الواضح أنه مجرد عملية عد ساذجة. (ب)
الاستقراء الحدسي
Intuitive Induction : وهو الانتقال الحدسي من مثالي جزئي واحد أو عدد بسيط من الأمثلة إلى حكم كلي عام، وواضح أن هذا هو القريب من المعنى المعاصر للاستقراء العلمي. (ج)
الاستقراء الجدلي: وهو لا يبدأ من عدد كلي أو عدد بسيط من الأمثلة، لكنه يبدأ من مقدمات مشهورة أو ظنية أو شائعة؛ لهذا فهو قياس نتائجه ليست يقينية بل موضعا للشك والاحتمال والجدل.
وواضح أن النوعين الأولين يحملان الفحوى الحديثة للاستقراء، أي الوصول إلى الحكم الكلي أو القانون العام عن طريق الاستقراء الحسي لجزئياته، ويلقب هذا الاستقراء الأرسطي عادة بالاستقراء القديم.
غير أن الظروف الفكرية الإغريقية لم تكن تسمح لأرسطو أن يمارس هذا الاستقراء جديا، أو أن يتوقف لينتظر نتائج التجربة، فعاقه هذا كثيرا كثيرا عن أن يكون مؤسسا للمنهج، أو حتى داعية له، وعاق أكثر البشرية بأسرها معه. (3) وبخلاف أرسطو فإنا نلقى نفرا من مفكري العرب - لا سيما الكيمائي جابر بن حيان (المتوفى عام 813م)، وعالم البصريات الحسن بن الهيثم (المتوفى عام 1039م) - بشروا بهذا المنهج بل ومارسوه.
وهناك أيضا نفر من مفكري العصور الوسطى ذاتها لا سيما روجرز بيكون
R. Bacon (1214-1294م) - جد فرنسيس بيكون - الذي لقب بأمير الفكر في العصور الوسطى؛ لأنه مارس التجريب ووصل به إلى نتائج علمية باهرة، لا سيما في طب العيون والفلك والكيمياء، بل ووضع تنبؤات علمية حدثت بالفعل في ميادين الفلك والميكانيكا والجغرافيا، وكان هذا مدعاة للنقمة عليه، ومثارا لمتاعب كبيرة في حياته بوصفه راهبا فرنسيسكانيا، فكيف يدعو إلى التجريب العلمي بل ويمارسه. (4) (أ) أما فكرة الاستقراء بوصفه منهجا محدد المعالم، ينبغي على العالم أن يقتفي خطاه في بحوثه، فتعود في ميلادها بصورة كاملة مهيئة للنمو والنضوج إلى فرنسيس بيكون
Francis Bacon (1561-1626م)، الذي يعد بحق ذا الأهمية العظمى كمؤسس للمنهج الاستقرائي الحديث والرائد في محاولة التنسيق المنطقي لمسار الإجراءات العلمية.»
17
هذا بصرف النظر عن أن فلسفته بصورة عامة لم تكن مرضية إلى حد كبير، ولكن كفاه فخرا ذلك الكتاب الذي وضعه وأسماه «الأورجانون الجديد»
Novum Drganum
نشر عام 1620م أي الآلة الجديدة، منوها بذلك إلى أن منطق أرسطو قد أصبح آلة بالية قديمة عفا عليها الدهر، وها هو ذا يقدم لنا الآلة الجديدة الفعالة المناسبة لاحتياجات العصر، وما هذه الآلة سوى المنهج الاستقرائي. (ب) منهج بيكون
يبدأ بيكون وضعه لهذا المنهج، بأن ينبه الباحثين إلى أن العقل «أداة تصنيف وتجريد مماثلة.»
18
وإنه ليقع في أخطاء عظمى، لا سيما إذا سار معتمدا على نفسه بغير ما تعويل على التجربة، وهذه الأخطاء قد تتحكم فيه تحكما رهيبا، وتحجبه عن جادة الصواب فتكون بمثابة أصنام يعبدها أو أوهام يتشبث بها.
وبعد أن ينبهنا إلى الأخطاء - كيما نتجنبها - يوضح المنهج الذي ينبغي اتباعه في البحث عن المعرفة، وعلى هذا يقسم عادة منهج بيكون إلى قسمين؛ قسم سلبي وقسم إيجابي.
القسم السلبي
وهو المختص بالتنويه إلى الأخطاء ولكن يوضحها بيكون يقوم بتقسيمها إلى أربعة أنماط على النحو التالي: (1)
أوهام الجنس أو القبيلة
Idols of Tribe : وهي التي يقع فيها الجنس البشري عامة، أو القبيلة بأسرها؛ أي إنها أخطاء مفطورة في الإنسان بصفة عامة وليست خاصة بفئة معينة، ومن أمثلتها: (أ)
التعميمات السريعة وسرعة التوصل إلى الأحكام العامة، دون أن نتأكد من الأساس الذي أقمنا عليه هذه التعميمات،
19
وهذا من شأنه أن يقودنا إلى تعميمات خاطئة، إذن لا ينبغي أن نتسرع في عملية التعميم. (ب)
سيطرة فكرة معينة على الذهن سيطرة تجافي النزاهة، فنختار من الأمثلة والوقائع ما يؤيدها ونغض البصر عما ينفيها، وهذا من شأنه أن يثبت الأفكار الخاطئة ، ينبغي إذن توخي النزاهة. (ج)
افتراض الانتظام والاطراد في الطبيعة أكثر مما هو متحقق فيها حتى إذا صادفنا مثال شارد حاولنا إدخاله بأية طريقة في أي قانون إدخالا قد يكون خاطئا، لا ينبغي إذن أن نفترض أكثر مما هو متحقق. (د)
ما يميل إليه عقل الإنسان من تجريد، وإضفاء معنى الجوهر والحقيقة الواقعية على الأشياء الزائلة، وهذا يقود إلى عدم التمييز بين طبائع الأشياء ومظاهرها. (2)
أوهام الكهف
Idols of the Cave : المقصود بالكهف ... البيئة التي نشأ فيها الفرد، فيكون لعوامل مكوناتها وثقافتها تأثير كبير عليه يجعله يقصر جهوده المعرفية على إثبات الأفكار التي تلقاها في كهفه أو بيئته فيحول هذا بينه وبين اقتفاء جادة الصواب، هذه إذن نوعية من الأوهام خاصة بالفرد المعين الذي نشأ في بيئة معينة، بخلاف أوهام الجنس العامة. (3)
أوهام المسرح
Idols of the Theatre : كتلك التي يقع فيها المتفرجون على مسرح، حين يأسرهم الإعجاب بالممثلين، يأسر الإنسان الإعجاب بممثلي الفكر السابقين، إعجابا ينزل أفكارهم منزلة التقديس نوع من الدوجماطيقية المرضية والتعصب الذي يعمي الإنسان ويصرفه عن اكتشاف الجديد من الواقع، ولما جناه الفكر الأرسطي من سيطرة على البشرية طوال العصور الوسطى، سيطرة جعلتها عصورا مظلمة، خير مثال على هذا النوع من الأوهام، أوهام المسرح. (4)
أوهام السوق
Idols of the Market : يرتفع في الأسواق ضجيج يحجب الإنسان عن الإدراك الواضح لما يسمعه، أي للغة، فأوهام السوق إذن هي الأوهام التي يقع فيها الإنسان نتيجة لسوء استخدام اللغة، فيأخذ اللغة وكأنها غاية، بدلا من أن يعتبرها - كما هي في الواقع - مجرد وسيلة في التعبير
Expression Communication
والتوصيل.
وقد قسم بيكون هذا النوع من الأخطاء إلى قسمين: (أ)
أسماء لأشياء لا وجود لها، ثم نتصور نحن وجود هذه الأشياء الزائفة. (ب)
أشياء تركنا بلا أسماء نتيجة لنقص في الملاحظة. (ج)
ويحذرنا بيكون من محاولة تلافي هذه الأخطاء عن طريق التعريفات اللفظية، فذلك من شأنه أن يجعلنا ندور في متاهات لغوية، بل نصلح الأخطاء عن طريق الرجوع دائما إلى الواقع والتعويل عليه.
ولأننا قد عرفنا ما هي الأخطاء التي تعيقنا عن التقدم المعرفي؛ وجب علينا إذن تجنبها ونحن نبحث عن الحقيقة باستخدام المنهج السليم، الذي يستقرئ الحقائق بالاعتماد على التجربة الحسية، ووضع بيكون لقواعد هذا المنهج هو ما يعرف بالجانب الإيجابي في منهجه.
القسم الإيجابي
كان بيكون بحق هو أول من وضع القواعد الحقيقية لجمع المعلومات عن طريق إجراء التجارب وقد سمى بيكون هذه القواعد باسم «صيد بان»
20 ... وبان هو آلة الصيد والقنص والبراري والطبيعة عند الإغريق، وكانت الأساطير القديمة في الميثولوجيا الإغريقية تصور أن صيد بان يبلغ من البراعة والمهارة حدا يجعل من يمارسه أو يحاكيه يقتنص شوارده من الطيور لم يكن يقصد إليها من البدء، بيكون إذن يقصد من هذه الاستعارة التعبير المجازي عن أن ممارسة هذا المنهج تشبه ممارسة صيد بان؛ أي ييسر لنا اكتشاف أشياء في الطبيعة، لم نكن نفكر قبلا في اكتشافها، ولم نسع قصدا إلى هذا الاكتشاف.
لا بد وأن نتنبه جيدا إلى أن بيكون كان يهدف من الاستقراء هدفا مغايرا تماما للمفهوم الحديث لهدف العلم الطبيعي؛ فبيكون يريد من هذا المنهج أن يفضي به إلى معرفة الصور
Form
صورة الطبيعة البسيطة
Simple Nature
فهو يرى أن كل شيء في هذا العالم يمكن رده إلى مجموعة من الطبائع البسيطة، عددها 12 طبيعة، كالضوء والوزن والحرارة ... إلخ، ومن اجتماع هذه الطبائع وتفرقها تتكون سائر الموجودات، وهدف للعلم الطبيعي هو اكتشاف أسباب وقوانين هذه الطبائع - أي صورها - فالصورة إذن ليست تجريدا أو فكرة مثالية، بل هي شرط فيزيائي للطبيعة، وأساس لها مباطنة فيها، فهي تمثل علة، ومعلولها هو الطبيعة البسيطة.
والسبيل الوحيد إلى معرفة هذه الصور هو تطبيق المنهج الاستقرائي، بأن نجري سلسلة من التجارب على الظواهر في المواد والجزئيات التي تتبدى فيها الطبيعة البسيطة، ثم نقوم بتسجيل نتائج هذه التجارب تسجيلا تصنيفيا في قوائم ثلاث تنظم لنا المعلومات تنظيما يتيح لنا معرفة صور هذه الطبيعة البسيطة.
أولا: مرحلة التجريب
هذه المرحلة تتناول وضع أنواع ودرجات التجريب وهي: (1)
تنويع التجربة: فإما أن تنوع مواد التجريب، فإن عرفنا مثلا أثر عامل معين على مركب كيميائي معين، نحاول أن ننوع المادة؛ لنرى إن كان لهذا العامل نفس الأثر على مركب كيميائي آخر، وإما أن ننوع مصادر الدراسة، فإذا عرفنا مثلا أن المرايا المحرقة تستطيع أن تركز أشعة الشمس نحاول أن نعرف هل من الممكن أن تركز أيضا أشعة القمر. (2)
تكرار التجربة: مثل تقطير الكحول الناتج عن تقطير أول.
21 (3)
إطالة التجربة: أي مدها، فنحاول أن نجعل المؤثر يؤثر لأطول فترة زمانية ممكنة لنعرف هل طول التأثير من شأنه أن يخلق ظواهر جديدة. (4)
نقل التجربة: أي إجراؤها في فرع آخر من فروع العلم، لعل هذا يكشف عن خواص أخرى في مجال جديد. (5)
قلب التجربة: أي جعلها في وضع مقلوب؛ فمثلا لدراسة أثر التسخين على قضيب نجعل مصدر الحرارة من أعلى ثم نجعله من أسفل، فنجد مثلا أن الحرارة تنتقل من أعلى إلى أسفل، أكثر مما تنتقل من أسفل إلى أعلى. (6)
إلغاء التجربة: أي طرد أو استبعاد الكيفية المراد دراستها لمعرفة أثر غيابها. (7)
تطبيق التجربة: أي استخدامها في اكتشاف ما ينفع، وهذا قريب من مفهوم التكنولوجيا. (8)
جمع التجارب: أي الزيادة في فاعلية مادة ما؛ فالجمع بينها وبين فاعلية مادة أخرى، مثل خفض درجة التجميد بالجمع بين الثلج والنطرون.
22 (9)
صدف التجربة: أي جعلها مجرد مصادفة، فهنا لا نجري التجربة للتأكيد من حقيقة، بل فقط لأنها لم تجر من قبل، ولا يعرف ماذا عسى أن ينشأ من إجرائها.
تلك هي مرحلة التجريب كما صورها بيكون، وهي - كما نرى - مجرد مجموعة من الإرشادات إن اتبعها الباحث، حقق التجارب على نحو أوفى وأكمل.
23 ⋆
ثانيا: مرحلة التسجيل
وهنا يرشد بيكون الباحث إلى الكيفية، التي يسجل بها ما يكون قد أجراه من تجارب تسجيلا تصنيفيا في ثلاث قوائم: (1)
قائمة الحضور والإثبات : ويسميها أحيانا بالقائمة الجوهر، فهنا الباحث يضع جميع الحالات التي لاحظ عن طريق التجربة أن الظاهرة أو الطبيعة البسيطة، موضوع الدراسة تتبدى فيها. (2)
قائمة الغياب أو النفي : يسجل فيها الحالات التي تغيب فيها الظاهرة أو الطبيعة البسيطة، ومن الواضح أن محاولة حصر جميع حالات غياب ظاهرة ما أمر شبه مستحيل، فضلا عن أنه نوع من العبث الذي لا يجدي، إنما المقصود «أن نأتي في مقابل كل حالة من حالات الحضور بالحالة التي لا تحدث فيها الظاهرة بالنسبة إلى هذه الحالة عينها، سواء أكانت حالة غياب واحدة أو أكثر من واحدة.»
24
فمثلا: إذا كان موضوع الدراسة هو أثر ضوء الشمس على نمو النبات، نحاول أن نعرف ماذا يحدث لهذا النبات إذا غاب عنه ضوء الشمس، لا أن نعرف جميع الأحوال التي يغيب فيها ضوء الشمس. (3)
قائمة التفاوت في الدرجة : حيث يسجل الباحث الدرجات المتفاوتة لحدوث الظاهرة أو الطبيعة البسيطة موضع الدراسة، وهنا تنويه لأهمية التكميم في العلم، لكن بصورة ضعيفة.
وقد أكد بيكون على أهمية القوائم، فيقول: إن الجزئيات والأمثلة أشبه بجيش كبير العدد مبعثر ومتفرق؛ مما قد يؤدي إلى تشتت الفكر واضطرابه، والأمل قليل في العثور على الأمثلة النافية وإذا لم تنتظم الجزئيات المتعلقة بموضوع البحث، فقد ينحرف مسار الفكر؛ ولذا فمن المفيد استخدام الوسائل الموضحة في قوائم الكشف، فعن طريقها يمكن تصنيف الجزئيات وتحديدها، وترتيب آثارها ودرجاتها؛ مما يساعد الإدراك الذي يعمل حينئذ وفقا لما تمده به هذه القوائم.
25
ومن المعروف أن بيكون قد طبق المنهج السالف على الطبيعة البسيطة؛ الحرارة، محاولا استكشاف صورتها، فانتهى إلى أن صورتها هي الحركة. (ج) تقييم
هذه خلاصة المنهج الاستقرائي، كما وضعه إمامه الرسمي فرنسيس بيكون أعظم رواد الحضارة المعاصرة، والذي يوضع في مقدمة المسئولين عن نهضة العلم.
ويقول ول ديورانت عن فلسفة بيكون: إنها كانت مشروعا عظيما، لا مثيل له في تاريخ الفكر باستثناء أرسطو؛ وهي تختلف عن كل فلسفة أخرى بالاتجاه إلى الناحية العلمية أكثر من الناحية النظرية؛ حيث تقوم على إنتاج متماسك خاص أكثر من قيامها على تناسق الفكر والتأمل، وأن المعرفة قوة، وليست نقاشا أو زينة، وليست فكرة نتمسك بها، بل عملا علينا عمله، وكان بيكون يعمل لوضع أساس، لا لمذهب أو مبدأ، ولكن لفائدة وقوة، لكل ذلك كان صوته أول نغمة جديدة للعلم الجديد.
26
فقد كان بيكون نازعا بصدق نحو الاتجاه العلمي، يرغب في التخلص من كلمة مصادفة تماما، ويحلم بمجتمع للعلماء، ينظمهم فيه التخصص، ويجمعهم التعاون والاختلاط الدائم ، على أساس نهج العلم السليم؛ الاستقراء.
وإن نظرية بيكون العلمية المتطورة واسعة بطريقة جديرة بالإعجاب حقا؛ إذ يقول في الأورجانون الجديد: «كما أن المنطق القائم الآن لا يقتصر بأقيسته على العلم الطبيعي وحده بل يشمل جميع العلوم، فمنهجنا الاستقرائي - بالمثل - يمتد لكل العلوم، فإننا نعتزم تجميع تاريخ وقوائم الاكتشافات المتعلقة بالغضب والخوف، وما شابهها، بالحياة المدنية، وبعمليات الذاكرة والتركيب والتقسيم، واتخاذ القرارات والامتناع عنها، بنفس المقدار الذي نجمع به تاريخ وقوائم الحرارة والبرودة، والضوء والنباتات وما إليها.»
27
وربما كان هذا هو المنطلق، الذي قال منه ول ديورانت عن بيكون: إنه من أول المبشرين بأحدث العلوم؛ السلوكية في علم النفس، وعلم النفس الاجتماعي.
بل وإنه - أي بيكون - أحد مؤسسي علم مناهج البحث، أي فلسفة العلوم؛ إذ توصل في نهاية بحثه إلى أن العلم في حد ذاته لا يكفي، حيث ينبغي إيجاد قوة ونظام خارج العلوم لتنسيقها وتوجيهها إلى هدف، فالعلوم تحتاج إلى الفلسفة لتحليل الطريقة العلمية؛ أي المنهج وتنسيق الأهداف والنتائج العلمية. وكل علم بغير هذا يكون سطحيا.
28
وبعد كل هذا لا بد وأن نسجل لبيكون بلاغة أسلوبه؛ إذ تعد أعماله من قمم النثر الإنجليزي اللاتيني. والأهم من ذلك قدرته الفائقة على تركيز العبارة، وتكثيف الأسلوب؛ بحيث لا تتسلل كلمة واحدة زائدة.
إلا أن بيكون تعرض لانتقادات شديدة، ونقد أشد، ربما لما شاب سيرته من فضائح أخلاقية؛ كالغدر بالأصدقاء وتملق ذوي السلطان، وتقاضي الرشاوى والاختلاس، وربما لأنه لم يكن عالما ولا حتى ملما بتقدم العلوم، فرغم أن العلم كان يسير بخطا حثيثة في عصره، فإنه لم يهتم بأبحاث فيساليوس
Visaliud (1514-1564م) رائد علم التشريح، ولا وليم هارفي
William Harvey (1578-1657م) مكتشف الدورة الدموية، بل ولم يرض عن أبحاث كوبرنيقوس (1473-1543م)، فهو إذن لم يعرف حق قدرها، وبخس قيمة أبحاث وليم جلبرت
William Gilbert (1544-1603م) في المغناطيسية والكهرباء، كانت ثقافة بيكون العلمية ضحلة، فلم ينتفع بمنهجه في خلق إضافة تذكر إلى تقدم العلم، ويعود ذلك أيضا إلى أنه لم يفهم الاستقراء الفهم الحديث له، أي على أنه منهج لاكتشاف القوانين الطبيعية وتعلق الظواهر الطبيعية ببعضها تعلقا عليا، بل وضعه لتحقيق غاية ميتافيزيقية أسماها تصور الطبائع البسيطة، فقد اعتقد أن ما بالكون من مركبات، إنما هي مؤلفة بدرجات متفاوتة من عدة طبائع محدودة العدد، وهذا بالطبع اعتقاد ساذج، والكون أكثر تعقيدا مما تصور بيكون،
29
هذا بالإضافة إلى أن تسليمه بالعلية كان مستمدا من فلسفة أرسطو التي أراد أن يطيح بها.
غير أن النقد قد يمتد ليشمل أصالة المنهج ذاته، فهذا توماس بابينجتون ماكولي
T. B. Macaulay (1800-1859م)، الكاتب والسياسي الإنجليزي الكبير وأشهر مؤرخي القرن التاسع عشر،
30
قال عن بيكون: إن شهرته طغت على شهرة والده الذي لم يكن شخصا عاديا، لكنه أنكر عليه كل ريادة وأصالة، وقال: إن منهجه هذا هو طريقة الناس في التفكير في كل زمان ومكان.
لكن النقد الجدير بالاعتبار حقا هو ما يشوب منهجه من نقائص خطيرة، فهو لم يفطن إلى أهمية التسلح باللغة الرياضية، في حين أن قوة العلم - لا سيما الطبيعي منه - تكمن في استخدامه لهذه اللغة، والأخطر من ذلك أنه لم يفطن إلى أهمية الفروض والنظريات، بل وحذر منها، وكان يسميها استباق الطبيعة
Anticipation of Nature
أي الإدلاء بآراء غير تجريبية، نظن أنها تفسير لما أمامنا من وقائع تجريبية، في حين أنها سر تقدم العلم إن لم تكن هي العلم نفسه. وبغير وضع الفروض واختبارها لما تمكن العالم إطلاقا من إضافة أي جديد، ولما اختلف العالم عن دارس العلم فضلا عن أن بيكون - بعد إنكار الفروض - كان هو نفسه يستخدمها ولا يدري، وإلا فكيف توصل إلى أن الحركة علة الحرارة؟ وليست الحركة هي الظاهرة التي بحثها وإنما كان يبحث ظاهرة الحرارة، ولم تكن الحركة مذكورة في أي من القوائم الثلاث؛ فالحركة اقتراح، أي فرض، لتفسير تلك القوائم،
31
بخس قيمة الفرص كان أعظم أخطاء بيكون قاطبة.
لكن كل هذا لا يبخس فضل بيكون العظيم في التنويه إلى أهمية التجربة، والتعويل عليها في اكتساب المعارف بالواقع المحيط بنا، وكان تنويها حقق مأربه العظيم في تحطيم سيطرة منطق أرسطو كمنهج، بالإضافة إلى هذا، كان منهجه رحبا مرنا، يرشد الباحث ويدله، بغير أن يقيده تقييدا ملزما، وبغير أن يدعي أنه يفضي به إلى البرهان القاطع. (5) من أبرز من صححوا أخطاء بيكون: ألفرنس كلود برنار
Claud Bernard (1813-1878م) وذلك في كتابه الشهير: مقدمة لدراسة الطب التجريبي
Introduction to the Study of Empirical Medtcine
الذي يعد بحق درة الدراسات المنهجية في القرن التاسع عشر وإن كان قد كتب خصيصى لباحثي العلوم الطبية.
وكلود برنار فيلسوف علم ومناهج بحث أصيل؛ إذ يرى أن «فن البحث العلمي هو حجر الزاوية من كل العلوم التجريبية»،
32
ولكن قيمة برنار العالية في فلسفة العلم تأتي أولا من كونه عالما رفيع الشأن في ميدان العلوم الطبية، خصوصا الفسيولوجي (علم وظائف الأعضاء)، الباثولوجي (علم الأمراض)، ثم شعر أثناء بحوثه العلمية الثمينة، بضرورة الوقوف هنيهة، وإعادة النظر في أسس العلم العقلية والتجريبية، وفي صلة العلوم ببعضها، وفي القوانين من حيث يقينها ومن حيث هي عنصر من عناصر تفسير الكون بأسره، وقد ضمن برنار آراءه في هذه المشاكل الفلسفية، في عدة مقالات وفي كتابه السالف الذكر.
ويرى برنار أن عماد البحث العلمي شقان هما التجريب والفرض؛ لذلك هاجم الذين عابوا استخدام الفروض والأفكار السابق تصورها أثناء البحث العلمي، وأوضح أنهم خلطوا بين ابتداع التجربة وبين تسجيل نتائجها. «وصحيح أنه من الواجب تسجيل نتائج التجربة بذهن خلا من الفروض وتجرد من الأفكار السابق تصورها، لكن واجب المجرب في الوقت نفسه أن يحذر العدول عن استخدام الفروض والأفكار، حين يكون الأمر خاصا بوضع التجربة أو تصور وسائل الملاحظة، وعلى المرء أن يفعل عكس هذا فيطلق لخياله العنان، ذلك أن الفكرة هي أصل كل استدلال واختراع، وإليها يرجع الفضل في البدء، ولا يجوز للمرء وأدها أو استبعادها بحجة أنها قد تضر، وكل ما يقتضيه الأمر هو تنظيمها وإخضاعها لمقياس.»
33
وإن الفروض، وحتى ولو كانت فاسدة، تفيد في اهتدائنا إلى الاكتشافات، وينطبق هذا الحكم على جميع العلوم؛ فقد أسس كيمائيو العصور الوسطى علم الكمياء بمحاولتهم لحل مسائل وهمية متعلقة بالسيمياء؛ أي تحويل المعادن الأخرى إلى ذهب؛ لذلك لا يمكن إطلاقا الاستغناء عن الفروض، وإن فائدتها ترجع إلى أنها تجعلنا نتجاوز حدود الواقع ونسير بالعلم إلى الأمام، فليس من شأن الفروض أن تسمح لنا بالقيام بتجارب جديدة فحسب، بل كثيرا ما تجعلنا نكتشف وقائع جديدة لا يمكن لنا أن نلحظها بدونها، وقد يكون الفرض مستنبطا منطقيا من نظرية ما، غير أن هذا الاستنباط لا يخرج عن كونه فرضا يجب التحقق من صحته بواسطة التجربة، فالنظريات في هذه الحالة لا تخرج عن كونها وقائع سابقة يستند إليها الفرض، لكنها لا تغني عن التحقق التجريبي.
أي إن برنارد هنا يعني أن الاتساق المنطقي لا يغني عن وقائع التجريب.
وعلى أساس كل هذه الأهمية للفرض، يفرق كلود برنار تفريقا حاسما قاطعا بين الملاحظة والتجربة، وبين العلوم القائمة على الملاحظة، والعلوم القائمة على التجربة، بين الطب القائم على الملاحظة - أي على محض تراكم وقائع الخبرة - وبين الطب التجريبي الذي يطمح في معرفة قوانين الجسم السليم والمريض؛ بحيث لا نتمكن من توقع حدوث الظواهر فحسب، بل ونتمكن أيضا من تنظيمها وتعديلها في حدود معينة، كل هذا الفارق بين الملاحظة والتجربة يعود إلى الفرض.
إذن فقد صحح برنار خطأ بيكون الكبير في إغفال أهمية الفرض، وصحح خطأ أكبر حين رفض النظرة البيكونية إلى العالم المجرب على أنه طفل يجلس بين يدي الطبيعة، يتعلم منها ما تمليه عليه؛ إذ يقول برنار: إن العالم المجرب هو - من وجهة ما - قاض يحقق مع الطبيعة، وإن كان لا يواجه أفرادا يضللونه بالشهادات الكاذبة، بل يتناول ظواهر طبيعية هي بالنسبة له بمثابة أشخاص يجهل لغتهم وطباعهم، يعيشون وسط ظروف يجهلها، ويريد من ذلك أن يعرف أغراضهم ومراميهم، وهو يستخدم من أجل ذلك كل ما يستطيعه من حيل.
34
ويبدو عمق تفكير برنار في دعواه الملحة بضرورة اعتبار الظواهر الحيوية تماما مثل الظواهر الفيزيائية الكيميائية، نخضعها لنفس المنهج؛ أي التجريب؛ بغية تحقيق نفس الهدف؛ أي اكتشاف العلل القريبة؛ فالمنهج التجريبي ومبادئ البحث والتفكير واحدة في ظواهر الأجسام الجامدة، وظواهر الأجسام الحية على السواء. وقد تبدو هذه الدعوة مألوفة بل ومسلم بها الآن، غير أنها لم تكن هكذا أيام برنار، بل كانت الغلبة لفريق الحيويين، الذين يرون وجود قوة حيوية في الأجسام الحية لا تنفك تصارع القوى الفيزيوكيمائية، وإلا فكيف يحتفظ الحيوان بحرارته في الجو البارد مثلا، وكان كوفييه هو أبرز الحيويين المناهضين لبرنار، وكان تبعا لهذا يرى أن الفسيولوجي فقط علم ملاحظة واستنتاج تشريحي، ويقول: إن جميع أجزاء الجسم الحي مرتبطة وهي لا تعمل إلا متضامنة معا، والرغبة في فصل جزء من أجزاء الجسم معناها إرجاعه إلى نظام المادة الميتة، أي تغيير جوهره تغييرا كليا.
35
برنار بالطبع يؤكد الترابط المتسلسل في وظائف الجسم الحي، لكنه يرى أن هذا الترابط ذاته يمكن دراسته بالمنهج التجريبي كمادة محضة.
ولم يفت كلود برنار أن يدعو إلى التكميم والإحصاء، فأكد أن القانون لن يكون علميا ما لم يثبت عدديا علاقات الشدة الموجودة بين الظواهر وبعضها، وذلك في سياق ما أسماه «بالتجريب المقارن»؛ إذ يرى برنار أن جميع الأخطاء التجريبية تقريبا تنشأ من إهمالنا الحكم على الوقائع حكما مقارنا، أو من اعتقادنا بأن حالات معينة يمكن مقارنتها في حين أنها في الحقيقة مما يتعذر مقارنته.
36
ويتم برنار نظراته الثاقبة بتوضيح الفارق بين الفلسفة والأدب وبين العلم؛ فالفلسفة معبرة عن طموحات العقل البشري، من حيث هو عقل في أي زمان ومكان، والأدب يعبر عن عواطف غير قابلة للتغير؛ لذلك فهما من آيات التراث الإنساني، التي تظل إلى الأبد جديرة بالبحث والدراسة، ولكن العلم أمره مختلف؛ إذ هو يعبر عن حقائق، عن وقائع تجريبية تكشفت أمام الباحث، ولما كانت هذه الوقائع في ازدياد مستمر، كان العلم في تقدم مستمر وكان علم الأمس غير ذي جدوى لنا اليوم؛ لذلك يحذر برنار الطلبة من إضاعة أي وقت في البحث في كتب الأقدمين، ويؤكد لهم أن العالم في صعود مستمر في بحثه عن الحقيقة، وإذا قدر له ألا يجدها أبدا كاملة، فإنه يكتشف منها أجزاء هامة جدا، وهي تلك الأجزاء المقتبسة من الحقيقة الكلية التي تكون العلم؛ أي تبلج أمام برنار قبس من أحدث الاكتشافات المنهجية، وهي أن العلم لا يصل إلى نهاية الحقيقة أبدا؛ فقد أكد أن النظريات ليست سوى فروض، أثبتتها عدد قليل أو كثير من الوقائع، غير أن هذه الفروض لن تكون أبدا نهائية، فلا يجب أن نثق في صحتها بطريقة مطلقة، ولا يجب أن نهتم إلا قليلا بالفروض والنظريات، وأن نكون دائما في حالة يقظة وفطنة لملاحظة كل ما يظهر أثناء التجربة.
37
كل هذا يؤكد كم كان برنار كسبا عظيما للدراسات المنهجية ولا يزال وسيزال دائما.
أما عن أهم المآخذ التي نأخذها على برنار، فتتمركز في أنه للأسف من أبرز ممثلي النظرية المنهجية التقليدية من حيث كونها استقراء يوضح الروابط العلية الضرورية الحتمية التي لا تحتمل أدنى استثناء، بل وحتى حين يدعو الباحث دعوة متبصرة بأن يتسلح بروح النقد؛ لأن الحالة الراهنة لعلم الحياة لا تمثل إلا حقائق محدودة غير ثابتة مصيرها إلى الزوال، يعود فيقول: إن النقد التجريبي يشك في كل شيء، ما عدا مبدأ الحتمية العلمية والعقلية المسيطر على الوقائع.
38
وفعلا «مقدمة لدراسة الطب التجريبي» من أبرز المراجع التي تؤكد الحتمية، وصحيح أننا عرفنا اليوم أنها خرافة، غير أن برنار لا حيلة له في ذلك، فقد عاش في القرن التاسع عشر، العصر الذهبي للحتمية. (6) أما الفيلسوف الإنجليزي وليام ويول
William Whewell (1794-1866م) فهو أيضا من أبرز الرواد في حقل الدراسة الفلسفية للمنهج العلمي، مؤكدا أنه الاستقراء والإضافة الحقيقية لويول هي تأكيده للنقطة الغامضة
Mysterious step
في الانتقال من الملاحظة إلى القانون، وعلى أساس هذه الخطوة طور ما أسماه بالمنهج الغرضي الاستنباطي
hypothetico-deductive Method ، وهو تشكيل عدة فروض للاختيار بينها،
39
لقد كان تفكير ويول متقدما بدرجة معجزة، «وكان أسبق من عصره بكثير فقد صحبه شعور في السنوات الأخيرة من عمره بضرورة إسقاط الاستقراء ؛ لذلك نادى بالمنهج الفرضي الاستنباطي، أحدث النظريات المنهجية، لكن عصر ويول لم يكن يسمح له بالتخلي عن الاستقراء؛ لذلك اكتفى بالقول: «إن الاستقراء والاستنباط يصعدان ويهبطان نفس الدرج»،
40
يعني بذلك نفس ما يعنيه عالم المنطق الكبير ستانلي جيفونز
William Stanely Jevons (1835-1882م) الأستاذ في جامعة لندن بقوله: إن كل استدلال استقرائي ليس إلا تطبيق استدلال استنباطي معكوس.»
41
ولقد تعرض ويول لنقد عنيف من «مل»،
42
الذي اعتبر فكرة الفرض عند ويول نزوعا منه نحو المثالية الألمانية، وتأثرا بفلسفة كانط، وكانت هي وسائر الفلسفة الألمانية في نظر مل كتابا مغلقا بسبعة أختام، لم يجد في نفسه أدنى رغبة لفتحه، ولكن لا نقد ولا نقد غيره، ينفي عن ويول الفضل العظيم في التأكيد على أهمية الفرض، وذلك في كتابيه الشهيرين: «تاريخ العلوم الاستقرائية» الذي صدر عام 1837م، ثم «فلسفة العلوم الاستقرائية». (7) أما عن جون ستيورات مل
John Stiwart Mill (1806-1873م) فهو تجريبي شهير، متطرف في تجريبيته؛ فقد بلغ إيمانه بالاستقراء مبلغا لم يبلغه أحد لا من قبله ولا من بعده؛ فهو - في نظره - الطريق الأوحد، الذي لا طريق سواه، إلى أية معرفة حقيقية صحيحة، فكل المعلومات والمبادئ والأفكار والمفاهيم ... باختصار كل مكونات الذهن ومحتوياته مجرد تعميمات استقرائية، لا يستثنى من ذلك شيء البتة، حتى قوانين الرياضة البحتة مثل القضية: (2 + 2 = 4)، بل وحتى قوانين الفكر الصورية كالذاتية والهوية وعدم التناقض، كلها ليست إلا تعميمات استقرائية لكثرة ما لاحظته حواسنا من أن اقتران 2 و2 ينتج عنه دائما 4، ومن أن «أ» هي دائما «أ»، فهذا لا يعني أكثر من تقرير ما نفعله في خبراتنا التي هي أولا وأخيرا حسية، فمصدرها فقط هو الذاكرة، وتفسر فقط على أساس قوانين تداعي المعاني؛ لذلك يبدو طبيعيا أن «يعتبر مل المنطق الاستقرائي هو الأصل، والمنطق الصوري فرعا منه.»
43
ومن زاوية الحديث المنطقي، فإن أعظم ما يسجل لمل هو نقده المعروف للقياس الأرسطي، وعلى الرغم من أن مل قد عاش قبل ثورة المنطق العظيمة؛ الثورة الرياضية الرمزية، التي تفجرت تماما مع جورج بول
George Boole (1815-1864م)، وعلى الرغم من أن المنطق أيامه كان لا يزال يعني منطق أرسطو،
44
فإن مل في مقدمة الثائرين الرافضين لهذا المنطق؛ فأكد على ضرورة وضع منطق الحقيقة
Logic of Truth
كما وضع أرسطو منطقا للاتساق؛ إذ رفض مل اعتبار المنطق متعلقا بالبرهنة أو إقامة الحجج؛ لأن هذه هي النظرة الأرسطية، أما هو فالمنطق في عرفه متعلق بالبحث عن الحقائق، وتعقبها في الواقع التجريبي، والذي لا واقع سواه، على أن تكون هذه الحقائق نتائج الاستدلال - الاستدلال الاستقرائي بالطبع - وليست البتة حقائق حدسية،
45
فالاستقراء هو منطق العلم، وهو ذاته منطق العمل والحياة،
46
وهو يعني استدلالا حقيقيا، أما منطق أرسطو فمجرد استدلال ظاهري وليس حقيقيا؛ فهو لا يتضمن أية إضافة، النتيجة لا بد وأن تكون موجودة سلفا في المقدمة الكبرى؛ لذلك فهو تحصيل حاصل ومصادرة على المطلوب ودوران منطقي ... إلى آخر ما قاله مل في نقده المعروف للمنطق الأرسطي، والذي انتهى منه إلى أن هذا المنطق أسلوب تفكير لا يناسب إلا الله، الذي يعلم كل شيء، فيستنبط من هذا العلم الشامل ما يريد، أما نحن فبحاجة إلى معرفة جديدة، وهي معرفة لن تكون إلا بالاستقراء.
47
ومعروف عن مل إخلاصه وتفانيه في البحث والعمل؛ لذلك استفاد من أبحاث سابقيه؛ أولهم ريتشارد ويتلي
Richard Whately (1787-1863م) رئيس أساقفة دبلن؛ إذ نشر عام 1826م «كتابه عناصر المنطق
Elements of Logic »، ورغم أنه كتاب مدرسي في المنطق الأرسطي، إلا أنه هو الذي نمى في مل النزوع إلى المنطق والانشغال ببحوثه،
48
وأهم من ويتلي بحوث الموسيقار والعالم الفلكي الألماني البارز سير وليام هرشل
William Herschel (1738-1822م) الذي صنع بنفسه وبمعاونة شقيقته كارولين هرشل مرصدا يحوي عديدا من التلسكوبات المحسنة، وهو وصل إلى العديد من الاكتشافات الفلكية الخطيرة، على رأسها كوكب أورانوس (في 13 / 3 / 1781م) واكتشف أقماره، كما اكتشف القمرين السادس والسابع لزحل، وقد تميز هرشل بأنه استقرائي كبير، فزود المهتمين بالاستقراء بثروة من المادة مستقاة من العلوم الطبيعية، وقد أصدر كتابا بعنوان: مقال تمهيدي لدراسة الفلسفة الطبيعية
Discourse on the Study of Natural Philosophy ، وضع فيه إرشادات تشبه المناهج التي وضعها مل في كتابه الشهير «نسق المنطق»، وفي هذا الكتاب لا يمكن إغفال ألكسندر بين
Alexander Bain (1818-1903م)، أبرز تلاميذ مل وأقرب أصدقائه، فقد وافق على مراجعة الكتاب بأسره مع تركيز خاص على الاستقراء، وقد نفذ مل كثيرا من مقترحاته حرفيا.
49
وهذا هو الكتاب، الذي حاول مل أن يحقق فيه حلمه بأن يكون نبي الاستقراء مثلما كان أرسطو نبي القياس، وكما وضع أرسطو للقياس أشكالا وضروبا، فقد وضع مل للاستقراء مناهج أو لوائح خمسا، يمكن للباحث عن طريقها التحقق من صحة الفروض التي افترضها؛ بغية اكتشاف العلاقات العلية التي تحكم الظواهر الطبيعية، ومعروف أن العلية هي محور تفكير مل، فهو من أبرز من آمنوا بالعلية وبضرورتها وبحتميتها التي لا تقبل أدنى استثناء، ولا حتى نقاش واهتمامه الأساسي بالمنطق منصب على خصائص القوانين العلية العمومية، وشرح المناهج التي يمكن أن تقيمها،
50
والتي هي مناهج الاستقراء، وهذه المناهج هي: (1)
منهج الاتفاق
Method of Agreement :
أي التلازم في الوقوع، وهو ينص على أنه إذا اتفق مثالان أو أكثر للظاهرة المطروحة للبحث، في نفس الظرف كان هذا الظرف الذي تتفق فيه كل الأمثلة علة (أو معلولا) لهذه الظاهرة.
51
يقوم هذا المنهج على أساس تلازم العلة والمعلول في الوقوع؛ بحيث إذا حدث الأول تبعه الثاني، والعكس بالعكس، ويستلزم هذا المنهج جمع أكبر عدد ممكن من الحالات التي تبدو فيها الظاهرة والمقارنة بين عناصرها؛ أي البحث عما هو السابق واللاحق في حدوث تلك الظاهرة، فالسابق هو العلة واللاحق هو المعلول.
ويمكن التعبير عنه رمزيا كما يلي:
الظاهرة: «أ»1 أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. ج. د. ه. «أ»2 أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. و. ز. ح. «أ»3 أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. ط. ي. ك. «أ»4 أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. ل. م. ن.
52
وهذا المنهج يعبر عن طريقة شائعة الاستعمال في الحياة اليومية، أكثر منها في البحوث العلمية، ونقدها أظهر من أن يذكر؛ فالظواهر الطبيعية ليست بهذه البساطة بحيث يظهر دائما العامل الواحد الذي لا يتغير، فالظروف متشابكة تختلط ببعضها، والعنصر قد يتضافر هو وعنصر آخر في جميع الأحوال، دون أن يكون هذا العنصر علة حقيقية له إنما يوجد بالعرض دائما.
لذلك شأن هذا المنهج يشجع مغالطة أخذ ما ليس بعلة على أنه علة؛ فقد يكون توالي حدوث العامل ليس بعلة بل مجرد مصادفة.
ويعضد هذا النقد الكشف الحديث من أنه لا حتمية في العلم، ومن إعطاء الدور الأكبر للمصادفة - أي للاحتمال - في القوانين العلمية، بينما كان مل، وعصر مل مشبعا بالحتمية حتى النخاع، حتمية اقتران العلل بالمعلولات والظروف ببعضها، وهو على أية حال منهج ضعيف، حذر كلود برنار من الاعتماد عليه، وإن كان من الممكن تقليل خطورته بتنويع التجارب قدر المستطاع، كما نصحنا فرنسيس بيكون من قبل. (2)
منهج الاختلاف
Method of Difference :
أو التلازم في التخلف والافتراق، وهو نوع من البرهان العكسي الذي حبذه كلود برنار، وينص على أنه إذا حدث مثال تقع فيه الظاهرة المطروحة للبحث، ومثال آخر لا تقع فيه هذه الظاهرة، واتفق المثالان في كل شيء إلا في ظرف واحد، وهو الذي يظهر فيه المثل الأول وحده دون سواه، كان الشيء الذي يختلف فيه المثالان معلولا لهذه الظاهرة أو علة لها، أو جزءا ضروريا من علتها.
53
فالعامل المختلف هو علة اختلاف النتيجتين، في الحالة الأولى سبب ظهوره حدوث الظاهرة، وفي الحالة الثانية كان هذا العامل الوحيد الغائب هو العلة إذ غاب معلولها بغيابها.
وواضح أن مل استفاد في هذا المنهج بمنهج الحذف والاستبعاد الذي نادى به فرنسيس بيكون،
54
وهو يحوي نفس خطأ المنهج السابق؛ أي منهج الاتفاق؛ فقد يكون اختلاف العاملين مجرد تصادف، هذا بالإضافة إلى صعوبة تحقيقه؛ إذ يصعب بعض الشيء استبعاد العلة المؤثرة، فهذا قد يعني استبعاد الظاهرة بأسرها، لكن الوسائل التحليلية التفتيتية التي توصل إليها العلم الآن، تغلبت على هذه الصعوبة كثيرا، وهذا المنهج هو أهم المناهج الخمسة، وفكرته الأساسية بصفة عامة خصبة، وعلماء المناهج منذ بيكون حتى بوبر ما فتئوا يؤكدون أهميته. (3)
منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف
Joint Method of Agrement and Difference :
وينص على أنه إذا حدثت ظاهرة ما في مثالين أو أكثر، واختلف هذان المثالان في كل شيء ما عدا شيئا واحدا دون سواه، وكان هناك مثالان آخران (أو أمثلة أخرى) لا يحدث فيها هذه الظاهرة، ولا يشتركان إلا في غياب الشيء الذي وجد في المثالين الأولين (أو الأمثلة الأولى)، استنتجنا أن الشيء الذي يشترك فيه هاتان الفئتان من الأمثلة (وهو الذي يوجد في المثالين الأولين، ويختلف في المثالين الآخرين) هو معلول الظاهرة أو علة لها أو جزء ضروري منها.
55
وواضح أن هذا المنهج لا يعني أكثر من الجمع بين الطريقتين السابقتين، أي محاولة التحقق من ظهور المعلول بظهور العلة واختفائه باختفائها، أو ما أسماه الإسلاميون: دوران العلة مع معلولها وجودا وعدما، وهذا تأكيد أكثر للعلاقة السببية التي نبحث عنها. (4)
منهج البواقي
Method of Residues :
وهو منهج لوضع الافتراض أكثر منه لتحقيقه، وهو ينص على أنه إذا كان لدينا ظاهرة ما لها عناصر عدة، عرفناها بالعمليات الاستقرائية السابقة على أنها علة لمعلولات لاحقة معينة، فإن ما يتبقى من عناصر تلك الظاهرة هو علة لما يتبقى من معلولاتها اللاحقة.
56
ويمكن التمثيل لهذا المنهج على النحو التالي: لو كان لدينا حالتان: «أ» و«ب»، وكانت «أ» هي علة «ب»، وتبينا في «أ» عدة عناصر هي «س»، «م»، «ق»، وتبينا في «ب» عدة عناصر هي «ص»، «ل»، وإذا عرفنا أن «س» هي علة «ص»، و«م» هي علة «ل»، فإننا نفترض أن العنصر المتبقي في «أ» وهو «ق»، لا بد وأن يكون علة لعنصر آخر في «ب»، فنفترض وجود هذا العنصر، وليكن مثلا «ك» ونعتبره نتيجة للعلة «ق» أي معلولا لها.
ويمكن التعبير عن هذا المنهج رمزيا كما يلي:
57
وقد نوه مل إلى أن هذا المنهج يستحيل أن يستقل عن الاستنباط، ورغم أنه يتطلب هو الآخر خبرات معينة، فإننا لا نستطيع اعتباره من بين مناهج الملاحظة المباشرة والتجريب إلا بشيء من التجاوز،
58
وواضح أنه منهج يعتمد أساسا على نتائج الممارسات السابقة لبقية المناهج الأخرى؛ لذلك كان من الأليق أن يأتي هذا المنهج في مؤخرة قائمة المناهج، غير أن مل وضع المناهج في «نسق المنطق» بهذا الترتيب. (5)
منهج التغير النسبي
Method of Concomitant Variation :
أو منهج التلازم في التغير، أو بمصطلح أدق: منهج التغيرات المساوقة المتضايفة أو التغيرات المساوقة النسبية،
59
وهو ينص على أنه إذا تغيرت ظاهرة ما بطريقة معينة، وصاحب هذا التغير في ظاهرة معينة أخرى بنفس الطريقة المعينة، كانت تلك الظاهرة علة للثانية أو معلولة لها، أو مقترنة بها اقترانا عليا من ناحية ما.
60
أي إن هذا المنهج للكشف عن العلاقة الكمية بين العلة والمعلول، عن التناسب الطردي بين شدة العلة وبين شدة معلولها، فإذا كان هناك تغير فيما نفترضه من عوامل الظاهرة يتبعه تغير وبنفس النسبة في نتيجتها، كان ذلك تثبيتا للعلاقة العلية التي افترضناها.
ويمكن التعبير عن هذا المنهج رمزيا هكذا.
61
في العلاقة الطردية (الاتفاق):
أ + 0
ب + 0
أ + 1
ب + 1
أ + 2
ب + 2
في العلاقة العكسية (الاختلاف):
أ + 0
ب − 0
أ + 1
ب − 1
أ + 2
ب − 2
هذا المنهج أسهل المناهج الخمسة عمليا وأدقها؛ لأنه يأخذ في الاعتبار التكميم؛ أي إن مل ينبه فيه إلى سر التقدم العلمي. (ب) تقييم
هذا هو الاستقراء بالصورة المنهجية التي وضعها مل، وهو يختلف عن بيكون في أنه يلزم الباحث إلزاما مقيدا، ويدعي أنه يفضي به إلى البرهان، وهو لا يريد للباحث أن يتخطى حدوده أبدا إذ يقول مل: إن هذه هي - وهي فقط - أساليب البحث التجريبي ومناهج الاستقراء المباشر، وإنه لا يعرف ولا حتى يستطيع أن يتخيل سواها،
62
بالطبع هذه نظرة غاية في القصور، أن يتصور أن علم مناهج البحث قد وصل إلى ذروة المنتهى على يديه، وبصفة عامة، فإن فلسفة مل المنهجية مليئة بأوجه القصور، فهو مثلا خلط بين اكتشاف الفروض؛ أي اختراعها، وبين تأييدها، ودافع مل عن هذا بأن القانون العلمي ليس فرضا، بل هو حقيقة نريد أن نثبتها، وهو قد وضع مناهجه لتوضيح كيف يمكن التثبت من أنها فعلا قوانين،
63
وبالطبع مل على خطأ بين، ليست الفروض هي التي في جوهرها قوانين، بل إن القوانين هي التي في جوهرها وفي مظهرها فحص فروض، كما سيثبت هذا البحث.
ثم إن مل قال: إنه سيأتينا بأربعة مناهج، ثم أتانا بخمسة، وبعد أن شرحها ظل مصمما على أنها أربعة! وقد اختلف الباحثون؛ أية الطرق هي الزائدة؟ ترى سوزان ستبنج أن البواقي هي الزائدة، أما جوزيف فيرى أن منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف هو الزائد، بينما يذهب وليم نيل إلى حذف طريقتي البواقي والتغير النسبي.
لكن ثمة تحليلا معقولا، خلاصته أن منهجي البواقي والتغير النسبي يعتمدان على المناهج الثلاثة الأولى، في حين أن المنهج الثالث - منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف - مجرد تكرار للمنهجين الأول والثاني معا، زد على ذلك أنه يمكن رد المنهج الأول إلى المنهج الثاني؛ لأن الوقائع لن تكشف لنا بطريق مباشر أن الحادثة «أ» مثلا علة الحادثة «س»، وإذا لوحظت عدة وقائع تثبت أن «أ» علة «س»، فإن تلك الملاحظات لا تقدم دليلا على أن «أ» علة «س»، بل يجب أن نتثبت أنه لا يوجد علة للحادثة غير الحادثة «أ»، ذلك يستلزم القيام بتجارب سالبة؛ أي منهج الرفض أو الاختلاف، وهو المنهج الثاني، وبذلك ننتهي إلى أن هذا المنهج الثاني هو فقط الأساس، ومع ملاحظة أن فرنسيس بيكون قد سبقه إليه، ننتهي إلى أن مل لم يأت البتة بأي شيء جديد لم يقله أحد من قبله.
ويمكن أن نضيف إلى هذا أن المنهج الأساسي - أي التخلف - هو في جوهره قياس شرطي منفصل، يتخذ الصورة:
علة «س» إما أن تكون «أ» أو «ب» أو «ج».
لكن علة «س» ليست «ب» أو «ج».
لكن علة «س» هي «أ».
64
بالإضافة إلى أنه يمكن إثبات المقدمة الصغرى في هذا القياس بأقيسة شرطية متصلة؛ مما يجعل موقف مل محرجا؛
65
لأنه لم يقدم منهجه إلا لدحض القياس الأرسطي كمنهج، والآن هذا الدحض سوف يعني بدوره دحض منهج الاختلاف؛ مما يؤدي إلى دحض بقية مناهج مل.
الحق أن هذا النقد فيه شيء من السفسطة؛ لأن القياس الأرسطي يدور حول قوانين الفكر الصورية؛ لذلك من السهل جدا إثبات دخوله بطريقة أو بأخرى في شتى أنواع الاستدلال.
أما النقد الجدير بالاعتبار حقا، فإنه للعلية التي جعلها مل محور تفكيره، بينما لم يقدم لها أي إثبات، وأصر على أنها تقوم على أساس الخبرة الإنسانية، فلم يزد موقفه في هذا عن موقف رجل الشارع، ثم إن العلية بالصورة التي آمن بها مل كانت تحتاج إلى استقراء تام لأحداث الكون تقتضينا أن ننتظر حتى نهاية العالم، إن مل رأى فعلا أنه من الممكن رد حادثة واحدة إلى عدة علل اشتركت في أحداثها، لكن مناهجه - خصوصا منهجي الاتفاق والاختلاف - كانت تشير بوضوح إلى أن لكل معلول علة واحدة، وهذا بالطبع خطأ، كما أن التفسير العلمي ليس هو كل التفسير العلمي، وليست القوانين العلمية دائما قوانين الربط العلمي فقط.
66
لقد كان مل عظيما عظيما بوصفه إنسانا وبرلمانيا، وما هكذا بوصفه فيلسوفا وميثودلوجيا، فقد كان رفيع الخلق جم الفضائل مرهف المشاعر، نموذجا للباحث الجاد والمفكر الملتزم، يبذل قصارى ما يستطيعه، مهدرا الكثير من حقوقه الخاصة، غير أنه لم يكن يستطيع الكثير، فلا هو ذو مقدرة عقلية غير عادية، ولا هو ذو طاقة إبداعية، ولا حتى حس فني أو قدرات جمالية، وفي تذوقه للفنون كان يبحث فيها عن المضمون ولا يلقي بالا إلى القيم الجمالية؛ لذلك فنصوصه الكثيرة ثرية ولكنها جافة، لكل ذلك ليس غريبا أن يبلغ إيمانه بالتجريبية وبالاستقراء هذا المبلغ، والحق أن مبلغ هذا الإيمان كفيل بأن يفقد أبحاثه المنطقية والميثودولوجية والإبستمولوجية أية قيمة لها، فستانلي جيفونز بعد أن درس كتابه «نسق المنطق» عشر سنوات - كما يقضي برنامج الجامعة - صرح بأن هذا الكتاب يسيء إلى تكوين عقلية الطالب ونمو تفكيره المنطقي، بل وإن عقلية مل ليست عقلية منطقية، وإنه استعار طرق البحث العلمي من بيكون، وسلب المادة التي بنى عليها فصوله في الاستقراء من سابقيه ويول وهرشل؛
67
ولذلك أيضا قال عنه برتراند رسل: «ناطحات السحاب لا يمكن بناؤها في لندن؛ لأنها تقتضي أساسا صخريا، وكذلك آراء مل كانت كناطحات سحاب مقامة على أساس من الطفل، تظل مهزوزة لأن أساسها غائر على الدوام»،
68
وأيا ما كان يعنيه رسل بهذا الطفل من خضوعه لتأثير والده وإتيانه في مرحلة تحول فلم يضف جديدا إلى السابقين، وعزف عنه اللاحقون ... فإنا نشير به ها هنا إلى التجريبية المتطرفة؛ أي الاستقراء المباشر.
وأخيرا فإن هذا المثلب التجريبي لمل، لا يشفع فيه إلا شيء واحد، هو أنه من أوائل من نادوا - في الأمة الإنجليزية - بضرورة إخضاع العلوم الأدبية والعقلية - خصوصا علم النفس - للمنهج التجريبي، وكان يؤازره في هذا صديقه الفرنسي أوجست كونت، وقد قوبل باستنكار ورفض شديدين، ولكننا بالطبع أصبحنا اليوم ندرك قيمة هذه الدعوة. (8) تلك هي الخطوط العريضة في تاريخ المنهج الاستقرائي؛ إذ لم يتعرض الاستقراء إلى إضافة تذكر بعد مل، بل اتخذ مفهوم المنهج العلمي طريقا مغايرا، بلغ أوج انحرافه على يد بوبر.
السالف ذكرهم هم الأعلام الذين مكنوا من عقيدة الاستقراء كل هذا التمكين.
ومن هذا العرض التاريخي، نخرج إلى استعراض خطوات المنهج الاستقرائي. (4) خطوات الاستقراء
أما عن خطوات الاستقراء، فقد يختلف الباحثون اختلافا يسيرا في ترتيب خطوة أو أخرى ولكن الترتيب التالي هو الأمثل: (1) الملاحظة والتجربة
Observation and Experiment
يبدأ الباحث عمله بملاحظة عدة أمثلة للظاهرة موضوع الدراسة ملاحظة دقيقة، مقصودة ومنتقاة وهادفة، أي مقصورة فقط على ما يخص الظاهرة موضوع الدراسة، وقد فرق كلود برنار بين الملاحظة البسيطة وهي بالحواس المجردة وبين الملاحظة المسلحة، وهي التي يستعان فيها بالأجهزة الدقيقة التي تمكن الحواس من عملية الملاحظة بكفاءة أعلى ودقة أكثر.
والملاحظة العلمية يجب أن تكون متواترة ومرتبة، وإذا كانت متعلقة بظواهر تستغرق حيزا زمانيا واسعا كمسارات الأفلاك، أو دورات الحياة مثلا، تكون الملاحظة فيها متصفة بالتعاقب الاستمراري.
وبديهي أن الملاحظة العلمية يجب أن تتصف بالدقة والنزاهة وتوخي الموضوعية، وأن تستند على الدقة التي توجب استخدام الأجهزة المذكورة آنفا، أما النزاهة والموضوعية فيوجبان: التجرد عن كل هوى شخصي، والتعبير الكمي القياسي عن الملاحظة.
ولكن بعض الظواهر - وبالذات الظواهر الكيميائية - لا ينتظر الباحث فيها أن تحدث الظاهر فيلاحظها، بل يصطنعها أمامه في المعمل، فتكون الملاحظة هنا بالتجريب، وهذه التجربة تسمى التجربة الابتدائية
Elementary Experiment
69
أو العابرة، أي التي تجري فقط لتحقيق الملاحظة وجمع المعلومات عن مسار الظاهرة فهي بغير فروض تحققها، بل إنها تجرى للتوصل إلى هذا الفرض.
على ذلك فالخطوة الأولى التي هي جمع المعلومات، قد تكون إما بالملاحظة وإما بالتجريب الابتدائي حسب طبيعة العلم:
فهناك علوم تعتمد فقط على الملاحظة؛ لا سيما الفلك والجيولوجيا.
وهناك علوم تعتمد فقط على التجريب؛ لا سيما الكيمياء والطبيعة.
وهناك علوم تجمع بين الاثنين؛ لا سيما علوم الطب والحياة.
هذه هي المرحلة الأولى: مرحلة العيان الحسي، الذي نجمع به الحقائق التمهيدية عن الظاهرة موضوع الدراسة. (2) التعميم الاستقرائي
Inductive Generalization
ومن الأمثلة التي لاحظها الباحث أو جربها، يخرج بتعميم مطلق لنتيجة الملاحظة، تعميم يطبق فيه الباحث ما رآه، على ما لم يره من جميع الحالات المماثلة للأمثلة موضوع ملاحظته، تلك التي حدثت والتي تحدث الآن، والتي سوف تحدث، فمثلا إذا لاحظ الباحث أن بعض قطع من الخشب كلما تعرضت للهب اشتعلت؛ خرج بتعميم استقرائي ينطبق على جميع قطع الخشب في كل زمان ومكان وهو «الخشب قابل للاشتعال»، أو مثلا كما لاحظ باستير من تجاربه على بعض عينات لمواد قابلة للفساد، ملاحظة خرج منها بتعميم استقرائي هو «لا تفسد المواد القابلة للفساد إلا إذا تركت مكشوفة.» (3) افتراض الفرض
Hypothesis
ثم يحاول الباحث افتراض فرض يعلل به ما وصل إليه من تعميم استقرائي، كأن يفترض أن الخشب قابل للاشتعال لأنه يتحد بالأكسجين، أو كما فعل باستير حين افترض أن الهواء يسبب الفساد؛ لأنه يحتوي على كائنات دقيقة، الفرض إذن هو محاولة اكتشاف العلاقة العلية التي تحكمها في كل زمان ومكان، هو - على حد تعبير إرنست ماخ - تفسير مؤقت للظاهرة.
أما عن نشأة الفرض فهي تقوم على عوامل خارجية وأخرى باطنية؛ العوامل الخارجية هي الخطوة الأولى التي جمع الباحث فيها الملاحظات، وعليها يتأسس الفرض، وقد يلقى الفرض فيها مصادفة؛ أما العوامل الباطنية فهي نصيب العالم من الذكاء وحصيلته المعرفية، وبتفاوت قدرات العلماء تتفاوت قيمة فروضهم.
والفروض على نوعين؛ فهي إما فروض جزئية متعلقة بأحوال معينة لأحداث معينة، وإما هي فروض عامة، والفروض العامة على قسمين؛ المبادئ والنظريات.
المبادئ هي الروابط العامة التي تربط بين جملة قوانين؛
70
أي إنها قوانين مفرطة في الكلية، شديدة العمومية، أما النظريات فهي التي تفسر مجموعة من الظواهر تدخل في نظام واحد، أما عن شروط الفرض لكي يكون علميا فهي: (أ)
يقوم على أساس الملاحظة والتجريب، فلا يكون فرضا خياليا، ولا يكون مجرد ربط منطقي بين الأفكار، فمثلا قانون الديناميكا الحرارية يقول: إن الحرارة تنتقل من الأجسام الأكثر سخونة إلى الأجسام الأقل سخونة في حالة التماس بينهما، في حين أن التفكير المنطقي الخالص لا يمنع افتراض أن الجسم الأسخن هو الذي يسحب الحرارة فتزداد حرارته، ويزداد الجسم الملامس له برودة. (ب)
ألا يكون متناقضا،
71
لا مع نفسه ولا مع الوقائع المسلم بها. (ج)
أن يقبل التحقق، فيمكن للتجربة أن تثبت صحته أو خطأه، وهذا شرط غاية في الأهمية؛ لأنه هو الذي يكفل استمرار الإجراءات الاستقرائية، حتى نصل في النهاية إلى الهدف، وبعد أن يضع العالم على هذا النحو فرضا مستوفيا لهذه الشروط، ينتقل للخطوة التالية. (4) التحقق من صحة الفرض
Verification of Hypothesis
وهنا تبرز أهمية التجريب، فيلجأ العالم إلى التجربة لكي تحسم له القول في صحة أو خطأ ما افترض من فروض، والتجربة هنا مخالفة للتجربة الابتدائية التي لجأ إليها العالم في الخطوة الأولى، التجربة هنا علمية حقيقة، يصطنعها العالم من أجل التحقق من فكرة معينة في ذهنه وهي افتراضه.
وبعض الباحثين يميلون إلى تقسيم خطوة التحقق إلى قسمين:
الجانب السلبي:
يمارس فيه الباحث ما أسماه كلود برنار: منهج برهان الضد أو شاهد النفي؛ إذ يحاول الباحث أن يأتي ببرهان مضاد للحالة التي يفترضها الفرض، ففي امتحان العكس إثبات للأصل.
الجانب الإيجابي:
يحاول فيه الباحث التثبت من صحة الفرض في الأحوال المتغيرة على قدر الإمكان.
72
وهذه الخطوة هي أهم خطوات البحث العلمي، فهي الخطوة الفاصلة، وعليها سيتوقف ما إذا كان العالم سيضيف إلى المعرفة العلمية، أم أن جهوده العلمية ما زال عليها استئناف المسير.
ولا ينبغي الإطناب أكثر من ذلك، فالتناول التاريخي في الحديث عن مل، لم يكن إلا حديثا عن كيفية التحقق من صحة الفرض. (5) البرهان أو الدحض
وتلك هي المحصلة الطبيعية للخطوة السابقة، فإما أن تنتهي إلى إدخال الفرض في نطاق الحقائق العلمية إذا ما ثبتت صحته، وإما أن ننتهي إلى دحضه، فنتركه ونلجأ إلى غيره إذا ثبت خطؤه، ومن هنا يتضح كيف أن الفرض من شأنه أن يوحي بتجارب وملاحظات جديدة.
ولا بد على العالم أن يترك فرضه إذا ثبت خطؤه، وليس ذلك باليسير فالعالم يعتز بالفرض الذي توصل له يسعد به فيتمسك به، ويتغاضى عن الوقائع التي تدحض هذا الفرض، يجب على العالم أن يتخلى عن الفرض سريعا ويحاول أن يضع غيره، ولا يعلن أن فرضه قد تم البرهان عليه إلا إذا كان هذا البرهان مراعيا لأدق دقائق الموضوعية والنزاهة الكاملة.
وإن أثبتت التجارب صحة الفرض على هذا النحو، فقد أصبح قانونا ويكون الباحث قد وصل إلى الخطوة الأخيرة. (6) المعرفة
Knowledge
وهذه بالبداهة هي غاية البحث العلمي، فماذا يبغي العالم من كل ما سلف إلا الإضافة إلى بنيان المعرفة، وزيادة عدد القوانين الطبيعية التي ظفر بها الإنسان قانونا وإزاحة حدود الجهل خطوة إلى الوراء، وتقديم حدود العرفان خطوة إلى الأمام.
ذلك هو الاستقراء وخطواته، فما هي مشكلته تلك التي ما فتئ فلاسفة العلوم ومناهج البحث والمناطقة يثيرونها في كل مناسبة وبغير مناسبة؟ (5) مشكلة الاستقراء (1) لقد اتضح الآن أن العلوم التجريبية هي - من الوجهة التقليدية - علوم استقرائية؛ أي عمليات تعميم استقرائي يقوم بها الباحث، وقد اتضح ما هو الاستقراء، وكيف تطور على يد الأعلام الذين مكنوا له.
لكن أوليس لنا الحق بوصفنا باحثين في الأسس المنطقية للمعرفة العلمية أن نتساءل عن مبدأ هذا الاستقراء، و«هذا التساؤل ليس إثارة لكشف جديد، فأرسطو أول من لاحظ الاختلاف بين الحجة الصورية والحجة الاستقرائية، وأن الأخيرة ليست مبرهنة
non demonstrative .»
73
والمقصود بمبدأ الاستقراء
«عبارة تمكننا من وضع الاستدلالات الاستقرائية في صورة مقبولة منطقيا.»
74
فهو تساؤل عن مصدر الاستقراء، كيف أتينا به ولماذا نأخذ به، وكيف لنا أن نقيمه كأساس للعلم؟ في الإجابة على هذا، هناك اتجاهان:
الاتجاه التجريبي
العقل لا يعرف ولا يصل إلى المبادئ أو غيرها إلا عن طريق التجريب، فالاستقراء مردود إلى السببية، والسببية توصلنا إليها عن طريق التجريب كما توصلنا إلى كل شيء في عقولنا، فتجاربنا قد دلتنا على أن الظواهر ترتبط ببعضها ارتباطا ضروريا، هو - بلا شك - ارتباط العلة بالمعلول، وعلى أساس السببية نقيم الاستقراء ومبدأه إقامة تجريبية، وأهم الممثلين لهذا الاتجاه جون ستيورات مل.
ونلاحظ أن الدوران المنطقي هنا شديد الوضوح، فمبدأ الاستقراء قد أتينا به من نفس الاستقراء، من التجريب الذي دلنا على السببية، وهو على هذا مرفوض بالطبع؛ لأنه يقود إلى ارتداد لا نهاية له
Infinite Regress ، نقيم الاستقراء بمبدأ استقرائي نبحث له عن أساس فنأتيه بأساس استقرائي نبحث له عن أساس ... وهكذا.
الاتجاه العقلي
وهو يتفق مع الاتجاه السابق في أن الاستقراء يعود إلى السببية ولكن السببية مبدأ عقلي سابق على التجربة، إذن مبدأ الاستقراء كامن في الذهن سلفا، ولم نشتقه من التجريب الاستقرائي، أهم الممثلين لهذا الاتجاه: إيمانويل كانط (1724-1804م) وبرتراند رسل.
وهذا الاتجاه مرفوض بدوره؛ لأنه يقود إلى الأولية
Apriorism
أي الإيمان بمبادئ أولية، تدعي أنها كامنة في الذهن سلفا، وهم في العادة يلجئون إلى هذا الادعاء حين يستحيل عليهم العثور على مصدر معقول لهذه المبادئ، لكن المبادئ العقلية لا تكون إلا تحصيل حاصل؛ فالعقل لا يستقل بنفسه إلا في التعامل مع العلوم الصورية التحليلية كالمنطق والرياضة، فيكاد يقتصر عمله على فك الرموز وإعادة تركيبها دون أن يأتينا بفتوى عن الواقع، لكن من الواضح أن قانون السببية قضية إخبارية تركيبية، فكيف للعقل الخالص أن يكون مصدرها كما ادعى كانط ورسل؟
إذن مصدر المبدأ لا يمكن أن يكون العقل، وقد سبقت استحالة أن يكون مصدره التجربة، هكذا فإن أية محاولة لوضع مبدأ الاستقراء، إما أن تقود إلى ارتداد لا نهاية له، وإما أن تقود إلى الأولية،
75
لقد استحال تأسيس الاستقراء على مبدأ، فكيف إذن نقيم العلم على غير ذي مبدأ؟ لقد أصبح هذا المنهج موضع شك كبير ومشكلة تؤرق الفلاسفة تعرف باسم مشكلة الاستقراء. (2) وهذه المشكلة لا تقتصر على البحث عن مبدأ، بل هي أساسا قائمة في صلب الاستقراء، وإن كانت نتيجة لمشكلة أخرى هي مشكلة السببية والاطراد، اللذين يبرران الاستقراء.
فقد أتانا ديفيد هيوم
David Hume (1711-1776م) في أواسط القرن الثامن عشر حاملا معه تساؤلات واعتراضات جد خطيرة، خطيرة حول المبررات المنطقية للاعتقاد في هذين القانونين، وبالتالي في صحة الاستقراء الذي يستند عليهما:
مشكلة السببية
إذا كان الاستقراء منهجا يحقق هدف العلم الطبيعي من الكشف عن العلاقات العلية، فهو إذن يفترض مسبقا فكرة العلية أو السببية، والسببية بدورها راسخة رسوخ البداهة في التفكير الفلسفي قبل التفكير العلمي، وفي تفكير الحياة اليومية قبلهما؛ فالحس المشترك والفلسفة والعلم التقليديان يعتبران ترتب ظاهرة على أخرى ترتبا متكررا مطردا مرجعه إلى السببية التي تجعل الظاهرة الأولى علة والثانية معلولا لها.
وتعود الأصول الأولى للسببية إلى افتراض الفلاسفة الميتافيزيقيين أن كل ما يحدث في الطبيعة يمكن أن ينحل إلى حوادث منفردة قد تتجمع أزواجا أزواجا على صورة تكون فيها حوادث كل زوج متصلة بعلاقة العلة والمعلول،
76
وحين جاء أرسطو فسر فكرة السببية تفسيرا يوائم العقلية الميتافيزيقية الإغريقية؛ إذ اعتبرها، بمبادئها الأربعة؛ المادية والصورية والفاعلة والغائبة، فكرة أولية سابقة على الوجود ومسببة له، فهي إذن إحدى الأفكار التي يتوصل إليها العقل الخالص معتمدا على نفسه، ثم يفهم الوجود عن طريقها؛ ولذلك اعتبر أرسطو هدف العلم الطبيعي هو الكشف عن علل التغير في الكون، وجاء المدرسيون من فلاسفة العصور الوسطى، فسلموا بالسببية تسليما يوائم الدين، حين قبلوها بمعنى العلة الفاعلة الأرسطية أحيانا، بمعنى القوة الخفية التي تنتج الظواهر أحيانا أخرى، وبالمثل افترضت الفلسفة الديكارتية العلاقة العلية بوصفها علاقة ضرورية، إلى أن جاء فرنسيس بيكون فكان أول من ذهب من المحدثين إلى تفسير معنى السببية على أنها علاقة توضح معنى الاطراد في ظواهر الطبيعة،
77
وكان هذا هو التفسير الذي لزم العلم الطبيعي، وثبته وقواه مل حين وضع مناهج اكتشاف العلل.
وأول متحد ظهر لهذا الافتراض الراسخ هو توماس هوبز
Thomas Hobbes (1588-1679م)، وهو تلميذ لفرنسيس بيكون ومساعد له، نظر في منهج أستاذه فرضي تماما عن اعتبار التجريب الحسي مصدرا للمعرفة، غير أن الحواس لا تعطينا ذلك الكائن الغيبي المسمى بالسببية، فكيف نربط بين المعطيات الحسية عن طريقها، بل وربطا معمما؟ لكن هوبز على الرغم من ماديته وتجريبيته بل ونزعته العلمية المتطرفة، كان شديد الإعجاب بالرياضيات؛ لذا لم يؤمن أبدا بجدوى الاستقراء، وبالتالي لم يتوقف كثيرا عند السببية، فكان أول متحد ذي خطر لها هو هيوم الذي بدأت معه الفلسفة الحديثة للسببية.
وهيوم هذا تجريبي شديد التطرف، لا يعترف بمصدر للمعرفة إلا انطباعات الحس التي تخلف وراءها الأفكار، وكل ما يخرج عن المنطق والرياضة لا بد وأن يرتد إلى انطباعات الحس، وإلا كان حديث خرافة، والسببية ليست علاقة منطقية، فلا بد إذن أن نبحث عن أصولها في الخبرة الحسية، غير أن الحواس لا تعطينا إلا سلسلة من الأحداث متعاقبة زمانيا ومتجاورة مكانيا، وكل ما أدركناه هو وقوع هذه الأحداث في هذا الآن وعلى هذا النحو، ولم يصل إلى انطباعاتنا للحسية ما يفيد بالعلاقة العلية بينهما، فمن أين أتينا إذن بالاعتقاد في السببية؟ هذا اعتقاد ليس له ما يبرره لا تجريبيا ولا منطقيا.
وقد أثار هيوم مشكلة السببية في الصورة الآتية: لماذا نستنتج أن المؤثرات المعينة سوف يكون لها بالضرورة تلك الآثار المعينة؟ ولماذا نستدل من الواحدة على الأخرى؟ ثم اتخذت المشكلة فيما بعد صورة تساؤل أكثر عمومية هو: لماذا نخرج من الخبرة بأي استنتاجات تتجاوز الحالات الماضية التي مرت بخبرتنا؟ أي لماذا نمارس الاستقراء؟
وهي أسئلة بغير إجابة، فقد أوضح هيوم أن أي إجابة سوف تلتجئ إلى مبدأ عام يحكم بأن الحالات التي لم تمر بخبرتنا لا بد وأن تماثل تلك التي مرت، وأن مسار الطبيعة يسير دائما بصورة مطردة،
78
غير أن الاطراد بدوره ليس له ما يبرره.
مشكلة الاطراد
حين نلاحظ أن الحادثة «أ» قد أعقبتها في أكثر من مرة أو حتى في كل المرات الحادثة «ب»، فإننا لا نستطيع الاعتقاد بأن ذلك قد نشأ لأن «أ» علة معلولها «ب» - فقد رفضنا السببية - بل لأن «أ» قد أعقبتها «ب» فحسب، وليس لدينا ما يبرر توقع الحادثة «ب» حين نرى الحادثة «أ» مرة أخرى، فتوقع الاطراد عادة مسألة سيكولوجية بحتة وليست منطقية حتى نأخذها أساسا للمعرفة، وينطلق هيوم مستغرقا في تحليلات سيكولوجية للاعتقاد وأبعاده وأثر التكرار، تحليلات يخرج منها بأن افتراض الاستقراء وهو فقط تكويننا السيكولوجي ولا نملك أن نحيد عنه، التكرار يرسخ في الذهن الاعتقاد في قانون الطبيعة.
وإن تكرار الخبرة التي يقع فيها «ب» بعد «أ» تخلق في الإنسان عادة لتوقع «ب» كلما رأى «أ»، وليس في الإنسان فحسب، بل - كما يقول رسل - وفي الحيوان أيضا، والحيوانات المنزلية تتوقع الطعام حين ترى الشخص الذي يطعمها عادة،
79
ولكن أوليس قد يأتي يوم يطيح فيه برقبة الدجاجة نفس الشخص الذي اعتادت الدجاجة أن تتلقى منه الطعام كل يوم؟ ذلك يعني أن تكرار الخبرة لا يعني شيئا، فمن أدرانا أن الطبيعة لن تفعل بنا ذلك في الغد، فتسممنا ثمرة فاكهة اعتدنا أنها شهية، وإذا كان الاطراد هكذا بلا أساس، فلا بد وأن ينهار الاستقراء؛ لأن التنبؤ هو هدفه؛ إذ يمكن أن نضع الاستقراء على الصورة الآتية: «عمم الاطراد المكتشف في الأحداث الملاحظة، وضعها كاطراد يحكم كل الأحداث من نفس النوع.»
80
حكما يتنبأ بوقوعها في كل مكان وزمان، والآن كيف يمارس العالم التنبؤ، وهو سر الروعة الأخاذة للعلم، طالما أن اطراد الطبيعة افتراض وجب استبعاده، مثله مثل السببية، فهما مرتبطان بعلاقة تبادلية، وقد سقطا معا على أي حال. (3) وفي إطار الحديث عن انهيار السببية والاطراد تلوح مشكلة شهيرة في فلسفة العلم، جديرة حقا بالذكر، وهي مشكلة انهيار الحتمية
Determinism ،
81 ⋆
والحتمية هي المذهب الذي يرى أن كل ما يقع في الكون من أحداث نتيجة حتمية للأحداث التي سبقتها ومقدمة ضرورية للأحداث التي ستلحقها ولا استثناء، فهذا الكون نظام مغلق صارم يؤذن حاضره بمستقبله، وتخضع سائر أجزائه لقوانين صارمة يكتشفها العلم، إنها تتحدث عن كون مثالي لممارسة التعميمات الاستقرائية.
وقد اعتمدت الحتمية على الصورة الميكانيكية التي رسمها نيوتن للكون، على أنه كتل تتحرك على السطح المستوي عبر الزمان المطلق في اتجاهه من الماضي إلى المستقبل، لتغدو كل حركة قابلة للتحديد والتنبؤ الدقيق.
لكن ظهرت نظرية النسبية لآينشتين التي تحطم هذه الخلفية المفترضة والضرورية للحتمية؛ أي فكرتي الزمان والمكان المطلقين، وظهرت نظرية الكوانتم، فلم نجد في عالم جسيمات الذرة الدقيقة أية مقدمات ضرورية ولا نتائج حتمية، ولا علية ولا اطراد على وجه الإطلاق، فانهارت الحتمية بعد أن كانت هي نفسها حتمية ورفضتها الغالبية العظمى من الفلاسفة والعلماء المعاصرين، وتشبثت بها قلة.
لكن الغلبة بلا شك لأساطين العلم الرافضين، وبالطبع ينضم إليهم بوبر، فهو يعتبر الحتمية كابوسا مزعجا ويحمد الله كثيرا لأنه خلص البشرية منها.
82 (4) وبعد انهيار السببية والاطراد ثم الحتمية، أصبح الاستقراء مبدأ لاعقلانيا، بل ليس بمبدأ البتة، فإذا سئلنا مثلا: لماذا نعتقد أن الشمس سوف تشرق غدا؟ سنجيب: لأنها في الماضي أشرقت كل يوم، وهذا مثل أي تعميم استقرائي ليس له ما يبرره. «إلا أن أحدا قد يقول: لكننا في الواقع نستطيع التنبؤ بالوقت الدقيق الذي سوف تشرق فيه الشمس غدا؛ وذلك بواسطة القوانين الثابتة في الفيزياء كما تنطبق على أحوال مثل تلك التي نعيشها هذه اللحظة، غير أن هذا يمكن الرد عليه مرتين، فأولا حقيقة أننا قد وجدنا أن قانون الفيزياء يصح في الماضي لا يستتبع ذلك منطقيا أن يستمر في الصحة في المستقبل، ثانيا أن قوانين الفيزياء هي نفسها عبارات عامة لا تتضمنها منطقيا وقائع الملاحظة التي تساندها مهما كثرت وتعددت» ...
83
إنها هي نفسها قائمة على أساس الاستقراء الذي جئنا بها لتقيمه، وقد يستمر الجدل والنقاش فندعي أننا نملك السبب الذي يعلل أن المستقبل سوف يماثل الماضي؛ ذلك لأن كل المستقبلات الماضية قد شابهت كل الماضيات الماضية إلا أن الخبرة التي لدينا هي بالمستقبلات الماضية ،
84
ها نحن ذا ما زلنا نحتاج إلى تعميم أحداث الماضي على المستقبل على أساس الاستقراء، وهذا الدوران المنطقي ينطبق على شق المشكلة الأول الخاص بالسببية، فكلما تكرر توالي «ب» ل «أ» استنتجنا أن «أ» علة ل «ب»، لماذا نعتبر «أ» علة ل «ب»؟ لأن «ب» تتبع «أ » دائما، ولماذا تتبع «ب» «أ» دائما؟ لأن «أ» علة «ب». (5) هكذا تعقدت مشكلة الاستقراء واستعصت على الحل، وهذا رسل يصفها بأنها واحدة من أصعب المشاكل الفلسفية وأكثر إثارة للمناقشة والجدل،
85
فقد حيرت الفلاسفة منذ هيوم وحتى الآن، وحين عجزوا عن حلها وقفوا منها عدة مواقف، هاك أمثلة لها: (أ)
المنطق الأرسطي، وقد كان متضمنا لباكورة الاستقراء، قد حل هذه المشكلة بادعاء أن كل استدلال استقرائي يحتوي على مقدمة كبرى عقلية قبلية مؤداها أن الصدفة لا تتكرر دائما ولا حتى كثيرا، ومقدمة صغرى هي «أ» و«ب» اقترنتا في كل الحالات المستقرأة، إذن «أ» علة ضرورية ل «ب».
86
وواضح أن هذا لا يحل المشكلة بل يؤكدها، يؤكد وقوعها في الأولية
Apriorism
وما زالت المشكلة قائمة، من أين أتينا بهذه المقدمة الكبرى؟ (ب)
التجريبيون المتطرفون التقليديون قالوا: لا داعي لإثارتها، فالعلم يتقدم سواء حلت هذه المشكلة أم لا، وهم بهذا دعاة لما يمكن أن نسميه باللاعقلانية التجريبية.
إنهم الاستقرائيون المتعصبون تعصبا هو الذي قادهم اللاعقلانية، أبرز ممثليهم في الوقت الحاضر ستراوسون، الذي يرى أن الاستقراء ليس بحاجة إلى تبرير، تماما كما أن الاستنباط ليس بحاجة إلى تبرير؛ لذلك فالاستدلال الاستقرائي صحيح تماما، كما أن الاستدلال الاستنباطي صحيح.
87
وقد ذهب الباحث فارهانج تسابيه
Fahrhang Zabeeh
مذهب الفيلسوف ستراوسون، فقد رأى أن الاستقراء تماما كالاستنباط هو منهج لتبرير المعتقدات، المنهج نفسه لا يمكن أن يبرر، وإن كان من الممكن تحسينه،
88
وأكثر من هذا فقد اتخذ تسابيه من رأي بوبر نفسه في خرافية الاستقراء معينا له ... فقد أثبت بوبر أن الباحث يفترض قبل التجريب فرضا، ثم يجرب فقط لكي يمتحنه، فيكون القانون ليس مشتقا من الوقائع المستقرأة، وبالتالي لا استقراء البتة - كما سنرى بالتفصيل - لقد راح تسابيه يناظر هذا الافتراض السابق على التجريب بمقدمات الاستدلال الاستنباطي ... كي يثبت أن مكانة الاستقراء تكافئ منطقيا مكانة الاستنباط، رغم أنه أوضح أن بوبر يقصد بهذا استحالة الاستقراء وخرافيته، بل وأوضح أيضا أن بوبر في هذا الموقف قوي متماسك!
89
بالطبع مضاهاة الاستقراء بالاستنباط قول أجوف، وإلا فأين مشكلة الاستقراء التي تكاد تكون الفكرة الفلسفية الوحيدة المقبولة من الجميع، والتي تحكم حكما لا جدال فيه بأن الاستقراء غير صحيح
invalid . (ج)
الاستقرائيون المحدثون، سلموا بمشكلة الاستقراء، فقد أكد رايشنباخ فضل هيوم الكبير على الاستقراء بتأكيده استحالة وضع تبرير حاسم له،
90
لكنهم كانوا ليتركوا الاستقراء لو أنهم يبحثون به عن اليقين، لكن طالما أن جميع القوانين العلمية احتمالية، فلا بأس أن يكون أساس الاحتمال ليس ثابتا، أبرز من حاولوا تبرير الاستقراء على أساس الاحتمال كينز
Keynes
وبيرس ورايشنباخ.
91
لكن أبسط ما يقال لهم هو قول بوبر: إن الاحتمالية لن تنقذ الاستقراء، فإذا أسندنا درجة الاحتمالية للقضايا القائمة على استدلال استقرائي، فلا بد من تبرير درجة الاحتمالية عن طريق مبدأ استقرائي جديد، وهذا المبدأ الجديد لا بد من تبريره وهكذا ...
92
لا نلقى مناصا من الارتداد الذي لا نهاية له والذي يوقعنا فيه الاستقراء، إنهم لم يفعلوا شيئا أكثر من سحب السمة اللاعقلانية من القوانين اليقينية لتغطي أيضا الفروض الاحتمالية، والمحصلة أن العلم، سواء كان يقينا أم احتماليا، هو لاعقلاني. (د)
من المدارس التي استطاعت بحق حل المشكلة: المدرسة الأداتية التي ترى في العلم مجرد نسق منطقي من عبارات هي دالات منطقية؛ لأنها لا تعدو أن تكون محض أدوات تستنبط منها العبارات التي تعين على فهم العالم وتحقيق الهدف التكنولوجي للعلم.
وبهذا تنتهي مشكلة الاستقراء، فإذا كانت العبارة العلمية دالة وليست إخبارية فإنها لن تكون مجرد حصر لجميع الحالات التي وقعت في الخبرة، فتكون تحصيل حاصل، وهذا خلف لأنه مناقض للطبيعة الإخبارية، ولا هو قياس على الشاهد فتواجهنا مشكلة الاستقراء أن دالة القضية المنطقية تعفي نفسها من اختبار الصدق والكذب
93
ومن الاعتماد على الوقائع المستقرأة، الدالة المنطقية مقولة مبهمة غير محددة معفاة من أي قيود سببية أو استقرائية، فهي إذن بلا مشاكل.
هذا موقف متماسك فعلا، لكن المشكلة هي صعوبة التسليم معهم بافتراضهم الأولي من أن العبارات العلمية محض أدوات، فالغالبية العظمى ترى في العلم عبارات تركيبية إخبارية لها محتوى معرفي عن الواقع تعرقله مشكلة الاستقراء. (ه)
والجدير بالذكر حقا أن الوضعية المنطقية اضطرت إلى الالتجاء لهذا الملجأ الأدائي لكن فقط بالنسبة للقوانين الكلية، فاعتبروها محض قواعد أو أدوات للاستدلال على العبارات الجزئية
94
الإخبارية، فهي بغير محتوى معرفي تقيم حوله دلالته الإخبارية مشاكل استقرائية، بالطبع الرد عليهم نفس الرد السابق. (و)
أما البراجماتيون فقد قالوا: ليكن الاستقراء مجرد عادة كما قال هيوم، إلا أنها ليست عادة مرذولة، بل هي عادة حسنة تفضي بنا إلى حصاد هائل، فلماذا لا نبقي عليها طالما أنها مفيدة، وقد وقف بجانب البراجماتيين رايشنباخ، فهو استقرائي متطرف، يحاول تبرير الاستقراء بكل الطرق، و«على أساس أنه أفضل الوسائل للوصول إلى معرفة عن الطبيعة، هذا الموقف مقبول على نطاق واسع إلا أنه بالطبع غير حاسم.»
95
فهو لم يفعل من تبرير اللاعقلانية بأنها مفيدة، والمنطق ليس مرابيا يتغاضى عن حقوقه نظير الفائدة المادية.
وبالإضافة لهذه المدارس فهناك فلاسفة آخرون حاولوا أيضا حل المشكلة بصورة مستقلة. (ز)
المنطقي المعاصر وليام نيل
William Kneale ، حلها بالتمييز بين أربعة أنواع من الاستقراء:
الاستقراء التلخيصي، وهو الذي سماه أرسطو بالاستقراء التام، وهو مجرد عملية حصر الوقائع.
الاستقراء الحدسي، أو التجريبي، وهو موضع المشكلة، فهو إقامة مبدأ كلي عام اعتمادا على حالات محددة،
96
وقد اعترف نيل بأننا لن نستطيع تبرير الاستقراء على أساس احتمالية نتائجه ولا على أساس صدقها، فلا صدق الآن، ولكن يمكن تبريره فقط بالنظر إليه على أنه خطة معقولة (
) على أنه النهج الوحيد الذي يوصلنا إلى تنبؤات صحيحة صادقة صدق مؤقت، أي معرض للمراجعة والحساب في المستقبل،
97
ومن هذا المنظور ينبغي التمييز بين نوعين من الاستقراء:
الاستقراء الأولي
، ينصب على اكتشاف القوانين المعبرة عن اطرادات موجودة في الطبيعة، كما اتفقنا في الخطة الاستقرائية، واستمرارنا فيها يكون من أجل الحصول على بينات مخالفة
Counter-Evidence ، ليمكن رفض الفروض الخاطئة، ولا يبقى في النهاية إلا أرسخ الفروض.
الاستقراء الثانوي
Secondary-Induction ، يهتم بالنظريات الكلية التي هي مجموعة من القوانين المترابطة؛ أي بالفروض الصورية ذات الطابع التفسيري الذي ينطوي على تبسيطات فتكون النظرية تقترح علينا موضوعات نبحثها بالاستقراء الأولي.
98
والحق أن هذه محاولة جادة من نيل للإبقاء على كيان عزيز وغال يسمونه الاستقراء، لكنها لا تعدو الإقرار الواقعي الصريح باحتمال إتيان الخطأ في غضون المستقبل، حتى لا يتسرب خفية، فيمثل مشكلة الاستقراء التي لا تحل أبدا. (ح)
من قبل نيل كان فيلسوف العلم الكبير وايتهد استطاع أن يحل المشكلة على أساس نظريته الشهيرة: النظرة العضوية للطبيعة، التي ترفض النظر إلى الطبيعة على أنها واقعة سكونية آلية، بل تنسب إليها نوعا من الحياة وتراها مترابطة
99
ارتباط التعضون، بواسطة العلاقات الداخلية التي يمكنها أن تبرر الاستقراء، فالارتباط الداخلي بين الحوادث يجعل إدراكنا الحسي للحوادث كافيا لاستبصار ما بينها من علاقات سببية ضرورية،
100
وقد أوضح وايتهد أولا أنه يختلف مع هيوم في أن الأمثلة متشابهة لا تنطوي أي منها على أكثر مما في بقيتها من مضمون، كلا هذه الأمثلة ليست بهذه البساطة المتناهية والانفصال عن بعضها كما اعتقد هيوم، وحينئذ نكون مضطرين بالفعل إلى ضرورة عقلية للربط بينها؛ فالتحليل في حد ذاته ضروري للفهم، ولكن الوقوف عند نهاياته والزعم بأنها تمثل الحقيقة هو جريمة في حق الطبيعة العضوية، فالأمثلة الجزئية هي الحوادث وهي ليست مفككة، بل يمتد بعضها فوق البعض الآخر في متواليات تزداد تركيبا وعينية، ومغزاها وضرورتها لا يتضمان إلا في تلاحمها على هذا النحو، بحيث نعطي لأنفسنا الحق في التنبؤ بما سيكون قياسا لما كان، وتستطيع الفلسفة أن تهدأ بالا من مشكلة الاستقراء التي أرقتها زمنا طويلا.
101
الآن هذا قول لا بأس به، ولكن عضوية الطبيعة وعلاقاتها الداخلية محض افتراض ميتافيزيقي ليس لوايتهد أن يلزمنا به، والحق أنه في حد ذاته ليس مقنعا، فكيف نقيم أساس العلم؛ منطقه ومنهجه على افتراضات ميتافيزيقية، يمكن أن نقول عنها: إنها ذاتية، أساس العلم يجب أن يكون مثله موضوعيا ثابتا. (ط)
فتجنشتين حاول هو الآخر تبرير الاستقراء تبريرا سيكولوجيا فقال: إن العملية على أية حال ليس لها أساس منطقي ولكن لها أساسا سيكولوجيا، فمن الواضح أننا لا نجد أساسا للاعتقاد بأن أبسط تسلسل للأحداث يصلح للاعتماد عليه،
102
لكننا مدفوعون سيكولوجيا إلى هذا، من الواضح أن فتجنشتين أكد خطورة المشكلة، كيف نسمح بإقحام دوافع سيكولوجية في منطق العلم. (ي)
النظرة الشاملة لكل هذه المواقف، تجعلنا نقول قول جيرولد كاتز من أن طرق الإحاطة بمشكلة الاستقراء ثلاثة:
محاولة وضع تبرير للاستقراء، ولكن هذا مستحيل.
محاولة توضيح أن الاستقراء غير ذي مشكلة حقيقية، وأن المشكلة تقوم على خلل في استعمال المفاهيم، فالخطأ هو محاولة البحث عن تبرير للاستقراء.
أن يوضح الباحث استحالة الانتهاء إلى أي تبرير للاستقراء، كما فعل كاتز الذي راح في فصل مسبب يوضح هذا، ويوضح أن أي تبرير كان لأي شيء كان لا بد وأن يقود إلى ارتداد لا نهاية له؛
103
لذلك فقد حل المشكلة عن طريق إثبات أن الحل الموجب لها مستحيل منطقيا، ويمكن الحل فقط بالأخذ بجوانب الاحتمال والبساطة وما إليها؛ لذلك كان حله - كما يقول هو - حلا سالبا لا بد وأن يلزم عنه المشكلة الملحة، وهي أن الاستقرار طالما بغير تبرير، سيبدو التميز والفصل بين الاستدلال السليم والاستدلال غير السليم
invalid ، أيضا غير ممكن.
104
لم يفعل كاتز في النهاية أكثر من تأكيد استحالة حل المشكلة. (ك)
وأخيرا فإن الموقف السليم هو - وهو فقط - موقف التجديديين الذين يرون أن الثقة قد سحبت من الاستقراء، فهو لا يصلح إطلاقا مبدأ للعلم، وألحوا على ضرورة البحث عن مبدأ جديد، وأقوى من تبني هذه الدعوى إيجابيا هو كارل بوبر، كما سيثبت في غضون هذا الباب. (6) لكن حتى الآن بدا الحل شبه مستحيل، وأصبحت القوانين العلمية تفتقر شديد الافتقار إلى الأسس العقلانية المطمئنة، فما لها من هذه الأسس شيء، لا في المنطق ولا في الخبرة، طالما أن أي قانون علمي - وهو عام عمومية غير مقيدة، يتجاوز كليهما،
105
وفي هذا الشأن قال وايتهد: إن الموضة المستحدثة في العلم منذ وقت هيوم قد أصبحت إنكار عقلانية العلم؛
106
لذلك فهو يسمي المشكلة يأس الفلسفة
Despair of Philasophy ، كما يسميها برود
C. D. Broad ، فضيحة الفلسفة
Scandal of Philasophy ،
107
فيا لها من مشكلة خطيرة أن يصبح العلم التجريبي بجلال قدره مزعزعا، وأن المشكلة أشمل من العلم التجريبي، فهي تصدع في بناء المعرفة بالعالم بأسرها، والمفروض أنها أوثق المعارف، مما يؤكد ذلك «أن كلمة الاستقراء التي يستخدمها بيكون ولوك، لم تظهر في نصوص هيوم إلا عن طريق التصادف، وبدلا من الاستقراء كان هيوم يستخدم اصطلاح استدلال
Inference
أو الحجج المحتلة
أو التعقل من الخبرة
Reason from Experience ، وقد ركز هذه المصطلحات في إصلاح الدليل البين
Demonstrative
أو الحجج الاستنباطية
Deduetio Arguments .»
108
والدلالة الفيلولوجية والفلسفية لكل؛ لذا هي شمولية المشكلة وخطورتها على معرفتنا بالعالم بأسرها، لقد أصبح على الجميع - سواء رضوا أو أبوا - أن يعترفوا بأن القوانين العلمية تفتقر إلى البرهان المثبت، مهما كان عدد الحالات التي تؤيدها، وهذا الانهيار المريع في بناء المعرفة حول الكثير من الفلاسفة التجريبيين إلى شكاك أو لاعقلانيين أو متصوفة، وقاد البعض إلى الدين،
109
فلا عجب إذن أن يدين رسل هيوم بأنه المسئول عن الشيزوفرينيا (انفصام الشخصية) التي أصابت التجريبيين والعلميين وعن اللاعقلانية التي أصابت الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر، وفي هذا كتب رسل يقول:
لقد أثبت هيوم أن التجريبية المحضة لا تشكل أساسا كافيا للعلم، لكن إذا سلمنا بهذه القاعدة الوحيدة - أي الاستقراء - فأي شيء بعد ذلك يتلاءم مع النظرية القائلة: إن كل معرفتنا قائمة على التجربة. ويجب التسليم بأن هذا افتراق خطير عن التجريبية المحضة، فقد يتساءل بعض التجريبيين: لماذا نسمح بالخروج عن نطاق التجربة في هذه النقطة بالذات ونمنع في غيرها، وهذه على أية حال تساؤلات لا تثيرها مناقشات هيوم بصورة مباشرة، ولكن ما تثبته هذه المناقشات - ولا أعتقد أن هذه الحجة يمكن معارضتها - هو أن الاستقراء كقاعدة منطقية مستقلة، لا يمكن أن نستدل عليها من التجربة ولا من قواعد منطقية أخرى، إنه بغير هذه القاعدة يصبح العلم مستحيلا.
110 (7) هذا هو الاستقراء، الذي سيطر على الأذهان كمعيار للعلم، وتلك هي مشكلته ومدى خطورتها على البنيان المعرفي، فماذا فعل كارل بوبر بإزاء كل هذا؟ (6) موقف بوبر «وكان المقصود بكتابة «منطق الكشف العلمي» أن يمدنا بنظرية المعرفة وفي نفس الوقت يبحث في المنهج؛ منهج العلم، وكان هذا الربط ممكنا لأني أنظر إلى المعرفة الإنسانية بوصفها مكونة من نظرياتنا وفروضنا، والمعرفة بهذا المعنى موضوعية، وهي فرضية أو افتراضية حدسية.
111
هذه الطريقة في النظر إلى المعرفة، مكنتني من إعادة صياغة مشكلة هيوم في الاستقراء.
بهذه الصورة الجديدة أصبحت المشكلة قابلة للحل، وهذا الحل أعطانا نظرية جديدة في منهج العلم.»
112 (1) الفلسفة هي البحث في الأسس النظرية العميقة التي تكمن خلف موضوع البحث، فتكون فلسفة العلم هي البحث في الأسس المنطقية للعلم كما هو معروف، ولما كان العلم هو أنساق من النظريات كانت فلسفته التي هي منطقه؛ نظرية في هذه النظريات، والمشكلة المطروحة هنا هي: نظرية تميزها عن غيرها من الأنساق قد تختلط بها.
ولكن هل تكون المعرفة العلمية متبوئة عرش السيادة، وجديرة بالعناية الدقيقة بتميزها، بعد أن رأينا هيوم يصفها باللاعقلانية، واهتراء الأساس والافتقار إلى المبررات المنطقية وما إليه، بحيث إن من يعتبر عقله يرفض التسليم بها بوصفها معرفة على الإطلاق، فضلا عن أن تكون في طليعة المسيرة المعرفية. (2) إن بوبر فيلسوف العلم الأول، وأحد العوامل التي خولت له هذه الأولوية هي حله لمشكلة الاستقراء وإخراجه منطقا عقلانيا راسخا للعلم، فيكون محقا في اعتباره المعرفة العلمية أرفع ضروب المعرفة وأكثرها تقدما ونجاحا، وأقدرها على حل المشاكل، وبالتالي من الضروري تمييزها عن غيرها من المعارف؛ إذ إنها جميعا موضوعية.
والأهم أن هذا الحل يمثل الوجهة المنطقية لضرورة حذف الخرافة الاستقرائية، فنرى أمامنا المنهج الحقيقي للعلم، وهذا من شأنه أن يعود بنا إلى لب المشكلة المطروحة في هذا الباب، الفصل في الزعم الشائع من أن الاستقراء هو المعيار الذي يميز العلم. (3) لكن كيف نعرض كل هذه الأفكار المتداخلة المتشابكة عرضا منهجيا منسقا؟ الواقع أن الفقرات المقتبسة المستهل بها، توفر الكثير من عناء المحاولة لاستيضاح الطريق.
فإننا إذ نعرض لنظرية بوبر في موضوعية المعرفة التي تحررها من أي بعد ذاتي، وتجعلها نسقا من العبارات المحكومة بالعلاقات المنطقية، الخاضعة للمناقشة النقدية، سنجدها تقودنا إلى إعادة صياغة مشكلة هيوم، صياغة تجعلها موضوعية، فلا تعود مشكلة لمعتقداتنا أو لعقلانية معتقداتنا، بل مشكلة العبارات الكلية أو النظريات، وكيف يمكن قبولها أو رفضها على أسس منطقية عقلانية، وعن طريق هذه الصياغة، تمكن بوبر من حل المشكلة، وحينما حلت وجدنا أمامنا منهجا جديدا سليما للعلم لا أثر لاستقراء فيه البتة، أي سار بوبر على النهج التالي: نظرية في موضوعية المعرفة
إعادة صياغة مشكلة الاستقراء وحلها
علم بلا استقراء البتة
منهج جديد للعلم. (4) على هذا نخصص الفصل الثاني من هذا الباب؛ لعرض نظرية بوبر في أن «المعرفة موضوعية»، وفي الفصل الثالث تستغل هذه النظرية في «حل مشكلة الاستقراء»، وحينما تحل لن نجد مناصا من اعتبار «الاستقراء خرافة»، ولكننا رأيناه في الفصل الأول وثنا أعظم، تفانى في عبادته العلماء وفلاسفة العلم، على هذا نخصص الفصل الرابع لتأكيد أن الاستقراء محض خرافة، ولكن ما هو المنهج العلمي إذن؟ موضوع الفصل الخامس هو: «منهج العلم»، وفي نهاية هذا الباب فصل سادس لتقييم كل هذا تقييما نقديا، نناقش بوبر لنرى ما له وما عليه وإلى أي حد يؤدي كل ما سلف إلى حل المشكلة المطروحة للبحث: كيف يمكن تمييز المعرفة العلمية؟
الفصل الثاني
المعرفة موضوعية
مقدمة (1) لا يجوز لرسالة في الفلسفة أن تمر دون التعرض لنظرية المعرفة، فهي أخص خصائص البحث الفلسفي عامة، فما بالنا بفلسفة العلم خاصة، أي فلسفة المعرفة في أرفع صورها وأكثرها تقدما ونجاحا، وبوبر بالذات فيلسوف معرفي قبل كل شيء، همه الأول: تقدم المعرفة ونموها؛ المعرفة الموضوعية. (2) وحين تكتمل الصورة لفلسفة بوبر العلمية، من خلال البحث في تمييزه للمعرفة العلمية، سيتضح كيف أن سائر فلسفته تترتب على نظريته في موضوعية المعرفة، فما يدخل تحت نطاق هذه النظرية عناصر شتى تشكل الأطر العامة لفلسفته؛ لأنها ترسي الأسس الإبستمولوجية لفلسفة في العلم، فضلا عن أن حل مشكلة الاستقراء يأتي كنتيجة مباشرة لها.
لهذا يبدو من الملائم تماما استهلال الحديث عن فلسفة بوبر بعرض نظريته أو نظرياته في موضوعية المعرفة، التي بلغ اعتزازه بها أن يجعلها عنوانا لأحد كتبه. (1) الموضوعية البوبرية مقابل الذاتية التقليدية (1) يميز بوبر بين مغزيين لمعنى كلمة «معرفة»:
المعرفة بالمغزى الذاتي:
الذي يتكون من حالة العقل أو الشعور أو النزوع إلى تصرف أو ممارسة رد فعل، المعرفة هنا هي اعتقادات الذات، ما تراه وتقره أو تنكره، ولكن حينما أقول: أنا أعرف، فهذا يعني أنني أعتقد، بهذا المعنى يستحيل أن أكون مخطئا، طالما أنني فعلا أعتقد، ولكن لا معرفة بغير احتمال دائم للخطأ.
إذن بهذا المغزى الذاتي لا يمكن أن نعرف، ولا يسمى محتوى البحث هنا معرفة بالمفهوم الإبستمولوجي. إنها تتكون من اعتقادات في أشياء معينة، فتجعل معرفتي متكونة من نزوعاتي ومعرفتك من نزوعاتك ... وهكذا،
1
وبوبر يرى أن المعرفة بهذا المغزى من اختصاص علم النفس.
المعرفة بالمغزى الموضوعي:
التي تتكون من الأفكار العلمية والفلسفية ومخزونات الكتب والعقول الإلكترونية، أي كل النظريات المصاغة لغويا، وبوبر يراها موضوعية لدرجة الاستقلال التام عن أي شخص يعرف أو يعتقد، فهي معرفة بغير ذات عارفة،
2
وهذه هي البحوث الملائمة للإبستمولوجيا، فتدرس محتواها المعرفي وعلاقاتها المنطقية، أي المشاكل ومواقف المشاكل ولا تدرس البتة اعتقادات، فالعالم لا يدعي أن افتراضه صادق أو أنه يعتقد فيه أو يعرفه، كل ما يفعله هو أن يطرحه في العالم الموضوعي، فتدرسه الإبستمولوجيا، وتقنن مدى قدرته على إعطاء قوة شارحة وعلى حل المشكلة المطروحة، وتقارن بينه وبين الفروض الأخرى ... إلخ.
باختصار، مجال الإبستمولوجيا يقتصر على الموضوع القابل للنقد، ويقطع كل صلة بينه وبين الذوات. (2) والفارق بين مغزيي المعرفة كبير، رغم أنه قصير المدى، فنظرية نيوتن كما هي مطروحة في العلم من أوضح الأمثلة على المعرفة الموضوعية، أما نزوع نيوتن نحو كتابة نظريته أو مناقشاتها فهو مثال للمعرفة الذاتية، اللحظة التي كتب فيها نيوتن نظريته، لحظة الصياغة اللغوية هي حد الفصل الذي نقلها من بحوث علم النفس إلى بحوث الإبستمولوجيا الموضوعية والمنطق.
أما الذي جعل بوبر يخول كل هذا العبء على الصياغة اللغوية للنظرية؛ فذلك لأنها تجعلها قابلة للنقاش والتداول بين الذوات، فتكون قابلة للنقد، قبل ذلك كانت جزءا من حياة نيوتن النفسية، فلا يمكن أن ننقدها كما ننقد نظرية مطروحة في تقرير مكتوب، إذن القابلية للنقد هي التي تميز المعرفة الموضوعية عن المعرفة الذاتية.
النقد دائما حجر الزاوية من كل فكرة بوبرية. (3) غير أن ثمة ملاحظة يبديها بوبر بأسف، وهي أنه طوال الإبستمولوجيا التقليدية منذ أرسطو حتى ديكارت، مرورا بهوبز ولوك ثم باركلي وهيوم
3
حتى كانط، وصولا إلى رسل وفريجه، والإبستمولوجيا تتردى في خطأ عظيم؛ إذ اعتبرت بحوثا في المعرفة التي تؤول على أنها علاقة تربط عقولنا الذاتية بموضوعات المعرفة أسماها رسل الاعتقاد
Belief
أو الحكم
Judgement ،
4
والعلم مجرد نوعية خاصة آمنة للمعتقدات، أي دارت في متاهات ذاتية حول اعتقادات الذوات وأسسها وأصولها، في بحوث أنسب لعلم النفس منها للمنطق. (4) ويرجع بوبر هذا الخطأ إلى الحس المشترك، فرغم أن بوبر على إعجاب به لأنه يمارس النقد الذاتي ولأنه واقعي، ويعتبره نقطة البدء في المعرفة، شريطة تعريضه للمناقشة النقدية، إلا أنه يرى في نظريته المعرفية - وهي حسية محضة
5 ⋆ - غلطة ذاتية
Subjective Blunder
جعلت الإبستمولوجيا تنحرف عن جادة الطريق الموضوعي. (5) لذلك يكثف بوبر جهوده ليستأصل هذا الخطأ، ويؤكد أن الإبستمولوجيا بهذه الصورة غير ملائمة
irrelevant ، فالمباحث التي تدور حول اعتقادات الذوات لا تساوي مثقال ذرة في عالم المعرفة العلمية؛ لأن المعرفة بكل ضروبها طالما صيغت في لغة فهي موضوعية وهذه الموضوعية تنسحب على العلم، فسواء اعتبرناه إبستمولوجيا متقدمة، أو ظاهرة اجتماعية أو بيولوجية، أو مجرد أداة معرفية، أو حتى وسيلة من وسائل الإنتاج الصناعي،
6
فهو بناء موضوعي مجرد عن معرفة الذوات، على هذا يقول بوبر إنه ينتهك هذا التقليد الذي يمكن تتبعه إلى أرسطو، ويحاول أن يضع مكانه نظرية ملائمة في المعرفة تجعلها موضوعية، وبوبر يدرك أن هذه دعوى جريئة ولكنه لا يعتذر عنها.
7 (6) غير أن هذه الذاتية واسعة الاستشراء، إذ وصلت حتى المنطق فيما يعرف بالمنطق المعرفي الحديث
Modern Epistemic Logic
وحساب الاحتمال، بل ونظريات العلوم الفيزيائية. (أ) فالمنطق المعرفي الحديث يتعامل مع صياغات مثل ««أ» يعرف «ب»» أو ««أ» يعتقد أن «ب»» أي مع حالات معرفية أو اعتقادية، أي حالات ذاتية لا علاقة لها بالمعرفة العلمية فالعالم لا يعرف ولا هو يعتقد في بحثه العلمي.
ويرمز بوبر للعالم بالرمز «ل»، ويعطينا قائمة بما يفعله: «ل» يحاول أن يفهم «ب». «ل» يحاول أن يفكر في بديل ل «ب». «ل» يحاول أن يفكر في نقد ل «ب». «ل» يحاول إجراء اختبار تجريبي ل «ب». «ل» يحاول وضع نسق بديهيات ل «ب». «ل» يحاول أن يشتق النتائج من «ب». «ل» يحاول أن يثبت أن «ب» غير قابلة للاشتقاق من «ك». «ل» يقترح أن المشكلة الجديدة «س» تنشأ من «ب». «ل» يقترح حلا جديدا للمشكلة «س» التي تنشأ عن «ب». «ل» ينتقد حله الأخير للمشكلة «س».
8
يمكن أن تطول القائمة، لكنها لا يمكن أن تحوي عبارات مثل ««ل» يعرف «ب»» أو ««ل» يعتقد في «ب»» أو حتى ««ل» يعتقد في خطأ «ب»» أو ««ل» يشك في «ب»»، فنحن، ذوي المطلب الموضوعي، لا نعنى بالشك أو الاعتقاد في الخطأ؛ لذلك لا بد من رفض هذا والأخذ بمنطق موضوعي يقتصر على المحتوى المعرفي. (ب) في حساب الاحتمال حصن النزعة الذاتية، فمن أسسه التفرقة بين الاحتمال الموضوعي والاحتمال الذاتي الذي يؤول درجة الاحتمالية كدرجة لعقلانية المعتقد،
9
أو كحساب للجهل وعدم تأكد الذات من المعرفة، ويمكن توضيح الفرق بين الاحتمالين على هذا النحو: في حالة رمي قطعة النقود رمية واحدة فإن احتمال ظهور أحد الوجهين 1 / 2 أي 50٪، على افتراض أن قطعة النقود كاملة التوازن وأن الرامي غير متحيز، وبالمثل احتمال ظهور رقم 6 في حالة رمي الزهر:
لكن الغريب أن الكثيرين يعولون الأهمية على الحساب الذاتي للاحتمال ، حينما لا يكون في الاستطاعة تعيينه كما في المثال السابق، مثلا: حين يريد مدير مؤسسة اختيار مشروع فسيأخذ في اعتباره الحالة الاقتصادية للبلد في الخمس سنوات المقبلة، لكن تحديدها مستحيل، فقط يعتمد على التقدير والخبرة الشخصية؛ لذلك يعتمد الاحتمال هنا على رأي متخذ القرار، وليس من السهل أن تجمع عليه الآراء كما تجمع على أن احتمال ظهور أحد الوجهين 1 / 2،
10
الاحتمال الذاتي يكون حينا لا تتيسر العوامل الموضوعية التي تعين الاحتمال، فيصبح للذات المحتملة دور كبير.
وقد حاربه بوبر لأنه ينشأ من الإبستمولوجيا الذاتية التي تعزو إلى العبارة: «أنا أعرف أن الثلج أبيض.» مكانة أعظم من مكانة العبارة «إن الثلج أبيض.» أي التي تنسب إلى ما تعرفه الذات مكانة إبستمولوجية أعظم من التقرير الموضوعي.
أما بوبر فينسب المكانة الإبستمولوجية الأعظم للعبارة «على ضوء جميع الأدلة المتاحة لي فأنا أعتقد أن الثلج أبيض.»
11
أي حتى الاعتقاد الذاتي نعامله على أساس أدلته الموضوعية، والمثل نفعله مع الاحتمال: حينما يتعذر تحديده، نعامله على أساس الأدلة الموضوعية التي تأدت بالذات إلى وضع هذا الاحتمال. (ج) وقد عرفت النزعة الذاتية طريقها إلى الفيزياء منذ عام 1926م، وكان أول اقتحام لها في مجال ميكانيكا الكوانتم، وكان موقفها قويا ثم أدخلها ليو سيزيلارد
Leo Szilard
إلى الميكانيكا الإحصائية،
12
حيث نجد نظرية واسعة القبول مؤداها أن إنتروبي
Entropy
النسق يتزايد بنقص معلوماتنا عنه، والعكس صحيح، فهو ينقص بتزايدها، والإنتروبي هو كمية تقدم - في المقام الأول - لتسهيل الحساب ولتعطي تعبيرا واضحا لنتائج الديناميكا الحرارية، أما إنتروبي النسق فهو قياس درجة اضطرابه
disorder ، والإنتروبي الكلي لأي نسق منفصل لا ينقص أبدا في أي تغيير، فهو إما يتزايد بعملية غير قابلة للاسترجاع
irreversible process
أو يظل ثابتا بعملية قابلة للاسترجاع؛ لذلك يتزايد الإنتروبي الكلي للكون متجها نحو حد أقصى يناظر اضطرابا تاما للجزئيات فيه،
13
وتبعا لنظرية سزيلارد الذاتية نجد تناسبا عكسيا بين الإنتروبي وبين معلوماتنا؛ لهذا فأي كسب للمعرفة يجب تأويله على أنه نقص في الإنتروبي.
وكان لهذه النظرية ثقل كبير، لا سيما على ذوي النزعة الذاتية في الاحتمال؛ إذ يمكنهم جعل درجة احتمالية النسق مسايرة للإنتروبي فيه، وبناء على هذا:
المعلومة = عدم الإنتروبي:
negentropy =
information .
الإنتروبي = نقص في المعلومات = عدم العلم.
14 ⋆
هذه المعادلات تؤخذ على حذر، فكل ما توضحه هو إمكانية قياس الإنتروبي ونقص المعلومات بواسطة الاحتمالية، أو تأويلها كاحتماليات، فالمعادلات لم توضح أن الإنتروبي هو ذاته نفس الاحتمالية التي نعزوها للنسق.
وقد أخرج بوبر بحوثا في الفيزياء البحتة - على مدى عشرين عاما - لدحض هذه النظرية الذاتية، وتناول نظرية سزيلارد في نقد يوضح مدى قصورها، فالإنتروبي نعامله فقط على أساس العوامل الموضوعية المختصة بالنسق ومواضع جزئياته، ولا نأخذ في الاعتبار عنصرا ذاتيا مثل كمية معلومات العالم عنه.
15 (7) وليس يصعب تبيان أن تلك التفسيرات الذاتية في الاحتمال والفيزياء إنما تتسق مع العلم في مرحلته النيوتونية السابقة، وأن رؤية بوبر هي المتسقة مع العلم الذري المعاصر، على
16 ⋆
أية حال كان هذا ليوضح أن دعوى بوبر بموضوعية المعرفة، دفعته إلى حرب على مدى جبهات عريضة، وليوضح أيضا أنها نظرية شاملة متماسكة. (2) نظرية الصدق (1) وفي إطار موضوعية المعرفة تبرز مشكلة الصدق
Truth ، فالصدق له دور أساسي؛ لأن بوبر يرى للنظرية العلمية دلالة إخبارية، فلا بد من الحكم عليها تبعا لصدق هذا الخبر أو كذبه، وهو يقول: إن «وظيفة العلم هي البحث الدءوب عن الصدق والحقيقة طالما أن هدفه إعطاء شرح مرض لهذا العالم»
17
لذلك يجعل من الكذب - اللاصدق - العمود الفقري لمنطق العلم.
على وجه الدقة، يلعب الصدق دور المبدأ التنظيمي
Regulative Principle
الذي يحكم شتى الجهود المعرفية بوصفه الغاية المرومة بعيدة التحقيق.
وأفضل مثال يوضح دوره هو تشبيهه بقمة جبل عادة ما تكون مغلفة بالحسب، ومن يحاول تسلق هذا الجبل ستواجهه صعوبات جمة، ليس فحسب في الوصول إلى القمة، بل لأنه قد لا يعرف حين يصل إليها أنه وصل إليها فعلا؛ فقد يعجز عن التمييز وسط أطياف السحب بين ذروة الجبال الحقيقية وبين القمم الثانوية، غير أن هذا لا يؤثر على الوجود الموضوعي لذروة الجبل الحقيقية، وإذا قال المتسلق: «أنا أشك فيما إذا كنت قد وصلت إلى الذروة الحقيقية.» فإنه يتعرف ضمنا على الوجود الموضوعي للذروة؛
18
لذلك فإن استحالة اعتبار النظرية العلمية مطلقة، تمثل اعترافا ضمنيا بالوجود الواقعي للصدق الموضوعي، والذي نفشل في الوصول إليه، رغم أن العلم يتقدم دوما نحوه، فكما يوضح المثال، إثبات اليقين مستحيل. (2) وإذا كان الصدق يلعب هذا الدور، فما هو معياره؟ في هذا يتخذ بوبر الموقف الشائع، أي نظرية التناظر
Corresponding
في الصدق، لكنه يركز على الفضل الكبير للمنطقي البولندي ألفرد تارسكي
Alfred Tarski ، فيعترف أنه ظل أمدا طويلا يتجنب قدر الإمكان استعمال مفهوم الصدق حتى تسلح بإخراج تارسكي الأمثل لنظرية التناظر والتي كانت محل ارتياب.
19
وقد عاب آير على بوبر هذا واعتبره ثغرة في الأمانة العلمية تشين أبحاث بوبر المبكرة، فكيف يعمل بغير مفهوم الصدق فقط؛ لأنه يخشى منه وليس لأنه في غير حاجة إليه.
20
على العموم بوبر يعفي نفسه من حل مشكلة الصدق، ويكتفي بالتسليم بنظرية تارسكي، فما هي هذه النظرية؟
أفضل شرح لها يتم بواسطة هاتين الصياغتين:
العبارة أو التقرير: «الثلج الأبيض» تناظر الواقع إذا - وفقط إذا - ما كان الثلج فعلا أبيض.
العبارة أو التقرير: «النجيل أحمر» تناظر الواقع إذا - وفقط إذا - ما كان النجيل فعلا أحمر، هاتان الصياغتان معروفتان، وكشف تارسكي يكمن في توضيحه أنهما تنتميان للغة البعدية أو الشارحة
Metalanguage ، فاللغة الشيئية أو الموضوعية تتعلق بالوقائع فتتناول مباشرة موضوعات البحث وأشياءه، وهي لغة العلم، أما اللغة البعدية فلا علاقة لها بالوقائع والأشياء، إنما تأتي بعد اللغة الشيئية لتشرح هذه اللغة وتبحث فيها، إنها أحاديث فلسفة العلم.
وكان توضيح تارسكي أن العبارات التي تشرح نظرية التناظر نفسها من اللغة البعدية، مما يجعلها من مستوى منطقي مخالف لمستوى القضايا ذاتها التي نحاول أن نعرف ما إذا كانت متناظرة؛ أي صادقة، أم لا، والتي هي من اللغة الشيئية، وهذا التوضيح أعظم إنجاز منطقي يظفر به مفهوم الصدق؛ لأنه بدونه سيقع أي حكم بالصدق في تناقضات ودورانات، تماما مثل قول إبمنديز الأقريطي: «كل الأقريطيين كذابون.» وطالما هو أقريطي كان هو الآخر كاذبا، ويصبح القول : «كل الأقريطيين كذابون.» كاذبا، أي إنهم صادقون ولما كان إبمنديز أقريطيا كان صادقا، وكان قوله: «كل الأقريطيين كذابون.» صادقا؛ وبالتالي يكون هو الآخر كاذبا ... وهكذا، وكانت هذه إحدى المشاكل المستعصية، والتي حلها رسل بنظريته في الأنماط المنطقية
Logical Types ، ومفادها أن أقوال الأقريطيين من مستوى أقل عمومية من قول إبمنديز ؛ لذلك فكل منهما له نمط منطقي خاص به، وما يصح على هذا لا يصح على ذاك، وعلى ذلك، لا يمكننا أن ننسب خاصية للقضايا بوجه عام بل فقط لقضايا من مستوى معين،
21
ومن هنا تنحل المفارقة؛ لنحكم بأن إبمنديز صادق وأن كل الأقريطيين كذابون، ولهذه النظرية نتائج جمة في فلسفة الرياضة البحتة.
وقد فعل تارسكي بشأن نظرية التناظر مثل هذا، فكيف نجعل العبارة: «العبارة «س هي ص» عبارة صادقة» محكا للعبارة «س هي ص» وكلتاهما عبارة، هذا شبيه بدوران إبمنديز، لكن بفصل تارسكي بين اللغتين، أصبح لكل لغة مقاييسها الخاصة مما يخلصنا من هذا الدوران فلا تعود نظرية التناظر خالية من المعنى ولا هي عقيم كما رأى فرانك رامزي، أو من نافلة القول التي يمكن أن نسير بدونها.
22 (3) وما فتئ بوبر يرفع آيات العرفان لتارسكي؛ لأنه مكنه من الأخذ بالتناظر الذي يحافظ على موضوعية المعرفة واستقلالها عن الذوات؛ إذ يمكن أن تكون صادقة حتى ولو لم يوجد أي شخص يعتقد فيها، وقد تكون كاذبة حتى ولو كان لدى الذات العارفة أسباب وجيهة كي تتقبلها.
فالتناظر على طرف النقيض من النظريات الذاتية في الصدق، التي ترجعه إلى تاريخ أو علاقة المعتقد بالمعتقدات الأخرى كنظرية الترابط
Coherence ، فيكون الصدق هو ما نستطيع تبرير الاعتقاد فيه أو قبوله.
23 (3) نظرية العوالم الثلاثة (1) ويضفي بوبر منتهى الموضوعية على المعرفة، حين يصر على أن مكانها ليس في الأذهان، بل إن مكانها العملي هو العالم الفيزيقي، ومكانها النظري هو الكتب، أو بالأدق هو العالم 3 مراعاة للمصطلحات البوبرية،
24 ⋆
فما هو هذا العالم 3؟ (2) لبوبر نظرية ميتافيزيقية مؤداها أن هناك ثلاثة عوالم، هي:
العالم 1:
العالم الفيزيقي المادي، عالم الحالات الفيزيقية والأشياء المادية.
العالم 2:
العالم الذاتي، عالم الوعي والشعور والحالات العقلية والميول السيكولوجية، المعتقدات والإدراكات.
العالم 3:
عالم المحتوى الموضوعي للفكر، كالعلم والفلسفة والأعمال الأدبية والفنية، فيه المشاكل ومحاولات حلولها، الفروض ومناقشاتها النقدية، والنظم السياسية والتقاليد والقيم ... محتوى هذا العالم هو محتوى الكتب والصحف والمعارض والمتاحف، والموضوع السليم للإبستمولوجيا يقطن فيه لا في العالم 2.
25 (3) والعلاقة بين العوالم الثلاثة متداخلة؛ فالعالم 1 مستقل عن العالم 3، لكن العقل؛ العالم 2، هو الوسيط الذي يربط بينهما بواسطة علاقاته بكليهما؛ إذ له وثيق الصلة بالعالم 3، فهو الذي يخلقه ثم يظل يدرسه ويضيف إليه ويحذف منه، وهو يدرك أيضا مكونات العالم 1 بالمعنى الحرفي لمفهوم الإدراك الحسي، وأيضا العالم 2 له أثر كبير على العالم 1، لكن القوى التكنولوجية تكمن في النظرية وهي في العالم 3، والذات أي العالم 2، هي التي تستخرج القوة التكنولوجية من النظرية وتقوم بتطبيقها، فتغير بها العالم 1.
خلاصة القول في العلاقة بينهما، أن العالم 2 يربط بين العالمين: 1، 3، وأن هناك عملية تغذية استرجاعية
Feed-Back Process
للعالم 3 من العالم 2 بل وحتى من العالم 1.
26 (4) هذه النظرية ابتكار مثير، غير أنها - كما يقول بوبر - ليست إلا موقفا تعدديا جديدا، أي رافضا للواحدية وللثنائية، فقد حلت مشكلة العقل والمادة بأن أتت بطرف ثالث يربط بينهما؛ لذلك يرجع بوبر أصولها إلى كافة المذاهب التعددية كالأفلاطونية والواحد الأفلوطيني والهيجلية ومونادات ليبنتز الروحية ... كلها نظريات تقول بوجود عالم غير عالمي العقل والمادة مثل العالم 3: (أ)
يخبرنا بوبر أن نظريته تتلافى أخطاء المثل الأفلاطونية، فالعالم 3 ليس سرمديا ولا مطلق الثبات، مثلها مثل الواحد الأفلوطيني، بل هو من صنع الإنسان وهو دائم التغير والتقدم والنمو، وهذه المرونة تجعله ملائما للمعرفة العلمية بالمفهوم الحديث، كما أن عالم المثل يعطينا الحقيقة اليقينية المطلقة؛ لذا فمكوناته مفاهيم مفرطة التجريد نتأمل فيها كما لو كانت نجوما في السماء، أما مكونات العالم 3 فواقعية، هي المشاكل وحلولها، فهو لا يحمل أية صفة للإطلاق، بل يحوي الخطأ بجانب الصواب، خطؤه هو المرجح دائما، لكن أكبر قصور في المثل هو القصور عن تصوير العلاقات، فالمثل تصور الحقائق، أي المفاهيم، «كل مفهوم = مثال مستقل» لكنها لم تصور المفاهيم وهي تدخل في علاقات،
27
فمثلا تصور الحقائق 5 - 25 - الضرب - التساوي، لكن لا تصور العلاقة «5 × 5 = 25»، والقصور عن تصوير العلاقات يشوب الفلسفة القديمة بأسرها، فهي فلسفة واحدية تعاملت مع كون افترضت أنه ساكن وكل حركة فيه تغير؛ لذلك فمنطق العلاقات أهم إنجازات الفلسفة المعاصرة، والعالم 3 يساير هذا فهو يحوي كل معلومة يتوصل إليها البشر وبالتالي كل علاقة، وفي سياق المقارنة مع أفلاطون ينبغي التنويه إلى أن العالم 3 لا مكان فيه للكليات؛ فبوبر يأخذ بالمذهب الأسمى ويعادي الواقعية الأفلاطونية، كل ما في الأمر أن كليهما أتى بطرف ثالث غير الثنائي الديكارتي، ولنلاحظ أن بوبر يعتبر أفلاطون تعدديا وليس ثنائيا كما جرى العرف. (ب)
أما عن الروح المطلق الهيجلي، فإن العالم 3 لا يعرف الصدق المطلق، كما أن بوبر - المعادي للجدل - لا يعترف بالتناقض بل يراه خطأ يجب إبعاده، وأكبر اختلاف هو أن هيجل لا يجعل للفرد دورا خلاقا، وحتى عظيم العصر مجرد وسيلة تكشف روح العصر عن نفسها فيه،
28
أما في العالم 3 فالدور الأعظم للإنسان الفرد وللنقد «نفس رأي رسل في التأكيد على أهمية الفرد؛ البطل العظيم.» (ج)
وقد ميز برنارد بولزانو
B. Belzano (1781-1848م) بين الحقائق أو العبارات في ذاتها، وبين عمليات الفكر الذاتية، العبارات في ذاتها يمكنها الدخول في علاقات منطقية مع بعضها فتكون متوافقة أو غير متوافقة، ويمكن اشتقاق عبارة من أخرى، أما عمليات التفكير فتدخل فقط في علاقات سيكولوجية أي تزعج أو تسلي أو تهدئ أو تلهم بتوقعات أو تحجم عن أعمال انتويت، لكن لا يمكن أن تناقض عمليات تفكير إنسان آخر ولا حتى عمليات الإنسان نفسه في وقت آخر؛ لأن التناقض علاقة سيكولوجية، فالفكر بمعنى العمليات والفكر بمعنى العبارات في ذاتها ينتميان لعالمين مختلفين، فإذا كان العالم الفيزيقي هو العالم 1، والخبرات الشعورية هي العالم 2، كانت العبارات في ذاتها هي العالم 3، وكانت نظرية بولزانو مناظرة لنظرية بوبر. (د)
وقد فرق فريجه بين العمليات الذاتية للفكر وبين مضمونها الموضوعي، غير أنه الأب الروحي للمنطق المعرفي؛ لذلك فهو لم يفكر في الإبستمولوجيا كنظرية في المعرفة الموضوعية.
هذه صورة عامة لموقع نظرية العالم 3 من السياق التاريخي.
29 ⋆ (5) والعالم 3 يجسد موضوعية المعرفة بفضل استقلاله، فهو منتج مباشر لنشاطات الإنسان المختلفة، وسائر مكوناته من صنع الإنسان، لكنها تستقل عنه بعد أن يخلقها، فالكتاب كتاب حتى وإن لم يقرأه أحد، بل ويمكن أن يكون حتى بغير أن تؤلفه ذات، مثلا يمكن إنتاجه وطبعه بواسطة الكمبيوتر،
30
وحتى لا يتحول الكتاب إلى مجموعة من الورق والنقاط السوداء، يكفيه إمكانية القراءة وفهم المحتوى؛ لذلك يضع بوبر تصورا لفناء الجنس البشري، لكن مكونات العالم 3 باقية، فأي خلفاء عاقلين من الأرض أو من الفضاء يمكنهم مواصلة الحضارة طالما استطاعوا فك رموز الكتب، أي إن العالم 3 يستطيع الاستمرار بغير أي إنسان، أي ذات.
بل وإنه يستقل في خلق مشاكله التي قد يعجز الإنسان عن حلها، وفي خلق خصائصه التي قد تظل في حدود المجهول وقد يعرفها الإنسان وقد لا يعرفها، مثلا كثير من مشاكل الأعداد الأولية والصماء واللامتناهية ما زالت مثارة في علوم الرياضة، رغم أن الواقع لا يوجد فيه اثنان وثلاثة، يوجد فيه فقط مثان ومثالث، والإنسان هو الذي خلق سلسلة الأعداد لكنه لم يخلق مشاكلها ولا خصائصها كالتمييز بين الأعداد الزوجية والفردية، مثل هذا نتيجة لخلقنا؛ غير مقصودة ولا يمكن تجنبها.
على هذا يفرق بوبر - في مكونات العالم 3 - بين المنتجات الثانوية وبين المنتجات المقصودة التي اجتمع أشخاص معينون في فترات معينة، وبذلوا جهدا بهدف خلقها مثل الأديان والمؤسسات والأعمال الفنية والعلمية والدستور ...
أما المنتجات الثانوية
by-Products ، فهي التي لم نخلقها بقصد أو نية، بل انبثقت بمحض ذاتها، والغريب أن هذه المنتجات قد يكون لها قيمة أكثر أهمية من المنتجات المقصودة، مثلا اللغة منتج ثانوي؛ إذ ليس هناك جماعة اجتمعت لتخطط اللغة، كيف إذن تنشأ مثل هذه المخلوقات الهامة؟ «إنها تنشأ على نفس النحو الذي ينشأ به طريق الحيوان في الغابة، فحيوان ما يحاول أن يشق طريقه وسط الأحراش والأشجار المتكاثفة ليصل إلى مكان الشرب، ثم تأتي حيوانات أخرى تجد أن الأسهل لها هو استعمال نفس الطريق، فيتسع ويتحسن بواسطة الاستعمال، إنه غير مخطط نتيجة غير مقصودة للحاجة إلى حركة أسهل وأيسر.»
31
على هذا النحو تنشأ جميع المنتجات الثانوية، كاللغة والعرف والتقاليد والتنظيمات الاجتماعية.
إنها تبدأ من نشاط توجهه الحاجة، ثم يتسع ويتحسن تدريجيا بغير خطة سابقة «إنها أشياء صنعها الناس بغير أن يصنعها واحد منهم.»
32 ⋆ ،
33
ويرجع الفضل في وجودها إلى فائدتها
Usefulness
التي ربما لم تكن موجودة قبل أن تنشأ، لكن تحققت بعد وجودها، فأدى هذا إلى أن تتحسن وتتطور.
بخلاف المنشآت التي تنشأ بغير نية، يدخل أيضا تحت نطاق المنتجات الثانوية تلك المنتجات التي تنشأ كنتيجة غير مقصودة، لمنتج أصلي مقصود، كالمشاكل التي تنشأ عن صعوبات أو قصور أو تعقيد لنتائجه.
المنتجات الثانوية تجسد استقلال العالم 3، وبالتالي موضوعية مكوناته، غير أن هذا الاستقلال يمتد إلى حدود، فالمشاكل الجديدة التي تخلق تواجه بمحاولات حلها، وهذه المحاولات تؤدي إلى خلق جديد ثمة دائما استمرار للعلاقة الدينامية، علاقة التغذية الاسترجاعية التي تربط الإنسان بالعالم 3. (6) العالم 3 هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، وأهم مكوناته، وصاحبا أكبر الفضل في خلقه هما: اللغة ثم النقد. (7) نظرية العالم 3 تثبت العبارة التي وردت في بدايات الفصل: «إن المعرفة موضوعية لدرجة أنها بغير ذات عارفة.» فقد وضح مدى استقلال مكوناته والمعرفة إحداها، بل وحتى عملية الفهم
Understanding
نقطن فيه
34 ⋆
لأنها تنصب على محتوياته.
على هذا أصبح منطقيا: إصرار بوبر على موضوعية المعرفة، ومدى الخطأ الكبير حين ندرس المعرفة بوصفها اعتقادات، أي حين تتورط الفلسفة في العالم 2. (4) نظرية المحاولة والخطأ (1) كيف تبدو المعرفة خلال هذا المنظور الموضوعي؟
ينظر بوبر إلى المعرفة والعلم نظرة واحدة، فالعلم ليس إلا مرحلة متقدمة من المعرفة، بل وأكثر من ذلك، فلو كشفنا القصة كلها مرة واحدة منذ الأميبا حتى آينشتين؛ لوجدنا أنها تعرض لنفس النمط وعلى طول المدى،
35
فالمسار الذي تسلكه الأميبا لحل مشكلة حصولها على الغذاء، هو نفس المسار الذي سلكه آينشتين لحل مشكلة النسبية.
فأنماط السلوك أيا كانت، أي سلوك يسلكه أي كائن حي ؛ العالم في معمله أو الإنسان العادي أو الطفل أو الحيوان أو حتى الحشرة ... أي سلوك كان ليس إلا محاولة لحل مشكلة معينة؛ لذلك لا بد وأن تكون المعرفة بدورها ليست إلا نشاطا لحل مشاكل.
ولا بد وأن يبدأ أي موقف بمشكلة محددة «لتكن م1»، تأتي بعد ذلك محاولة حل اختباري لهذه المشكلة «ح ح»، يتخذ الآن النقد دورا أساسيا في مناقشة هذا الحل المقترح، فيستبعد الخطأ منه «استبعاد الخطأ: 11»، بعد حذف الخطأ يبرز موقف جديد، وأي موقف لا بد وأن يحتوي على مشاكل، إذن الموقف ينتهي بمشكلة جديدة «م2»، فيتخذ الصورة:
إنها الصورة المنهجية لأية محاولة تجري على وجه الأرض؛ لذلك لو طلبنا من بوبر وصفا للإبستمولوجيا من وجهة النظر الموضوعية، وصفا لمسارها وكيفية نموها المطرد لما قال سوى: «م1
ح ح
أ أ
م2» فعلى هذا النحو تسير المعرفة في حلقات متتالية تبدأ بمشكلة وتنتهي بمشكلة، لكنها ليست دائرية
Cycle ؛ فهي لا تنتهي من حيث بدأت، بل تنتهي بموقف جديد ومشاكل جديدة، هذه الجدة هي التي تكفل التقدم المستمر. (2) وهذه الصياغة فيها عنصر مفقود فقد تقترح كثرة من الحلول، علينا أن نختبرها جميعا حتى نصل إلى أفضل «م2» ممكنة، ويمكن أن تطور الصياغة حتى تتخذ هذه الصورة:
36
ويمكن أن نطورها أكثر كي تعبر عن الموقف، حين يصعب حسم القول في أفضل الحلول المتنافسة، فتتفرع المشكلة الواحدة إلى عدة طرق، كل منها ينتهي إلى مشاكله الخاصة به، ويمكن التعبير عن هذا بتطوير الصياغة على النحو التالي:
37
هذه الصورة واضحة جدا في المسائل الأيديولوجية كتعدد الاتجاهات السياسية مثلا. (3) وبوبر يؤكد أن كل مكونات العالم 3 تسير في هذا المسار، بل وأيضا مكونات العالم 2 مثل العواطف والاعتقادات، ويؤكد بريان ماجي أن كل عمليات التطور العضوي جوهرية كانت أم شكلية، وكل عمليات التعلم يمكن النظر إليها من هذا المنظور. (4) وهذه الصياغة أخصب أفكار بوبر، «وضع عليها سرجا جيدا، وامتطى صهوتها خلال الكثير المتباين من حقول التساؤل الإنساني، وحتى تلك التي لم يطرقها هو، كان هناك في الأغلب أحد أتباعه ليطرقها.»
38
فمثلا ظل بوبر لفترة طويلة يعتقد أنها بمعزل تام عن التحليل الصوري، أي عن المنطق والرياضة، حتى أقنعه إمر لاكاتوس
Immre Lakatos
أنها كذلك، فإن ما يفعله الرياضي لا يخرج إطلاقا عن محاولة حل مشكلة رياضية، ثم إصلاح أخطاء المحاولة، فيخرج بموقف جديد، حاملا مشاكل جديدة، وحتى في الفنون الجميلة، فإن تاريخ الفنون التشكيلية، قد فسر في كتاب إرنست جومبريش «الفن الوهم» بمصطلحات بوبرية؛ فالفنان واقع تحت ضغط متطلبات الفكرة الفنية، يقوم بعمليات تعديل لانهائية وتدريجية للأنساق الهيكلية التقليدية لتكوين الصورة،
39
هناك دائما محاولة لاستبعاد الخطأ، المنهج إذن هو نفس الصياغة، المحاولة والخطأ ... (5) ولكن كيف تنطبق أيضا على جميع أنشطة الحيوان ابتداء من الأميبا؟ بوبر يجيب على هذا بأن الصياغة مثلما تصور نمو المعرفة ونمو مكونات العالم 3 بل والعالم 2، فإنها تصور أساسا التطور البيولوجي؛ فالحيوانات - بل والنباتات - أيضا تحل المشاكل عن طريق ردود الأفعال الجديدة والتوقعات الجديدة والأنماط الجديدة من السلوك، أي يحل الحيوان بيولوجيا المشاكل عن طريق الحلول الاختبارية المتنافسة واستبعاد الخطأ؛ أي منهج المحاولة والخطأ.
الحلول الاختبارية
Tentative Solutions
التي يحتويها تشريح الحيوان والنبات أو التي يحتويها سلوكها، هي المثيل البيولوجي للنظريات، والعكس صحيح، فالنظريات تناظر الأعضاء الداخلية للأجسام وأداءها لوظائفها وحلها للمشاكل، وبخلاف الأعضاء الداخلية وتطورها، نجد أيضا الإفرازات الخارجية كأقراص العسل وخيوط العنكبوت هي الأخرى تماثل الأدوات التي يصنعها الإنسان لتكيفه مع البيئة ولحل المشاكل.
40
الخلاصة: النظريات والأدوات = الأعضاء المتطورة للحيوان ووظائفها والأنماط الجديدة من سلوك الكائنات الحية = محاولات حل المشاكل والتكيف مع العالم والعمل على تغييره =
م1
ح ح
أ أ
م2 (6) إذن هذه النظرية المعرفية تناظر الداروينية البيولوجية، فحل المشاكل نشاط أولي، مشكلته الأولى هي البقاء
Survival ، كل الكائنات تنشغل ليلا ونهارا في حل المشاكل، وكل النتائج التطورية التي طرأت على الحياة إنما تشير إلى تلك التعويذة التي بدأت مع أول أشكال الحياة، هذه الأشكال التي تعتبر الكائنات الحية الآن آخر أعضائها،
41
هذه التعويذة؛ أي الصياغة السالفة، لا تصور إلا ما تصور نظرية دارون من أسلوب التطورات التي تطرأ على أعضاء الكائن الحي، إنها الداروينية
42 ⋆
لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار صورتها:
لا لقيناها تصلح تماما للتعبير عن الداروينية، مع اعتبار م1 أول خلية حية انبثقت عنها كافة أشكال الحياة.
وبوبر يؤكد على التماثل الشديد، بل التطابق، بين النمو البيولوجي ونمو المعرفة،
43
وإن أحد أهداف صياغته هذه توضيح نظرية دارون. (7) وجميع الكائنات الحية تسير في كل تطوراتها - سواء البيولوجية أو العقلية - بمقتضى تلك الصياغة؛ فالأميبا تحل مشاكلها بمقتضاها وأيضا آينشتين، والنقد هو الفارق الوحيد، به يستطيع الإنسان اكتشاف الخطأ وحذفه فيقترب أكثر من الصدق، أما الحيوانات والإنسان في الحضارات البدائية، فلا يستطيعون النقد والاستبعاد، إنهم يهلكون «بهلاك» نظرياتهم - أي محاولاتهم - الخاطئة؛
44
لذلك جعل بوبر النقد أهم مكونات العالم 3 دائما حيث أية فكرة بوبرية، حيث النقد. (8) ورغم أن هذه الصياغة الداروينية، زمانيا من أفكار بوبر اللاحقة، فإن سائر خطوط فلسفته يمكن اشتقاقها منها، ونتائجها تفوق الحصر، لكن لا بأس من إجمال أهمها، ولن نجد أية نظرية لبوبر، ولا تلزم بصورة أو بأخرى عن إحداها: (أ)
الخطأ داخل في صميم كل محاولة، يستحيل أن نتجنبه، يمكن فقط أن نتعلم من أخطائنا فنسير إلى الأفضل،
45
بل وإنها سبيلنا الوحيد للتعلم؛ لذلك كانت نظرية بوبر في أسلوب التعلم هي المحاولة والخطأ
Trial and Error
فهي بالطبع أساس نظريته المنهجية، لكنه يجعلها منهج شتى الأنشطة.
منهج المحاولة والخطأ ليس نتيجة، بل هو الصياغة ذاتها، النتيجة هي وحدة المناهج ليست هناك خطوات محددة يقتفيها العالم، وأخرى يقتفيها الفيلسوف، والأسلوب في جوهره واحد لجميع الباحثين والمفكرين؛ المنهج النقدي الذي يمكنهم من استبعاد الخطأ من محاولاتهم.
هذه النظرية في وحدة المناهج تحل مشاكل كثيرة، أو بالأصح تفض نزاعات جمة: التجريبية أم العقلانية، الحسية أم المثالية. (ب)
هذه الصياغة تجعل المعرفة تسير في حلقات متتالية، كل حلقة تبدأ من سابقتها وتؤدي إلى لاحقتها، طالما تبدأ بمشكلة وتنتهي بمشكلة؛ لهذا فهي تؤسس دعوى بوبر في خلق أواصر القربى بين شتى الجهود المعرفية، وهو لهذا يعطي الفضل الكبير للنظريات الفلسفية - بل وللأساطير الدينية والخرافات - في التقدم العلمي الحديث؛ لأنها مثلت إحدى حلقات التطور العلمي الراهن.
وهذا من ناحية يؤسس رفضه لرأي الوضعية المنطقية في أن كل ما عدا العلم لغو، ومن ناحية أخرى يؤسس رأيه في ربط حصيلة الجيل ومنجزاته بأجيال لا تحصى من البشر سبقته وأعدت له، وأن الفضل الأعظم في كل إنجاز يعود إلى الحصيلة المعرفية والبناء الحضاري الذي تسلمناه.
وهذا بدوره يؤسس نظرته إلى تاريخ العلم والفلسفة والفن ... إلخ على أنه نقاش جار، سلسلة من المشكلات المترابطة وحلولها الاختبارية، وبينما قل اهتمام الفلاسفة الوضعيين واللغويين بتاريخ مادتهم فإن التناول البوبري يقود إلى معنى المشاركة الشخصية في تاريخ الأفكار؛ ومن ثم فإن بوبر نفسه - فيلسوف العلم الذي يألف الفيزياء الحديثة - هو أيضا دارس عاطفي.
46 (ج)
اعتبار كل حلقة معرفية، مهما كانت متقدمة، لا بد وأن تنتهي هي الأخرى إلى مشكلة، تدخل في حلقة أخرى، يعني أن الجهود المعرفية لا بد وأن تكون دوما في حاجة إلى استئناف المسير، مما يعني إمكانية التقدم المستمرة، وهذا يؤسس فكرة بوبر - المواتية لروح العصر - في اعتبار اليقين من مخلفات عصور الجهالة. (د)
هذه الصياغة تصف شتى المحاولات وتمثل المنهج الواحد، مما يعني محو الفوارق بين التخصصات الدقيقة، وإهمال الفروق التقليدية بين المواد، كل ما يهم أن يكون لدى المرء مشكلة شيقة يحاول حلها بصدق وأصالة، وهذا يؤدي إلى أن يلتزم وجوديا بالعمل، ومن أجل العمل نفسه، حتى يكون له ما يسميه الوجوديون بالأصالة
Authenticity .
47
وهذا يؤسس دعوى بوبر في محاربة التخصص الدقيق
48
التي تجافي روح العصر، لكنه يؤكد أنه هو نفسه هاو للعلم والفلسفة، وليس محترفا لأي شيء، كثير من الباحثين تسعدهم هذه الدعوى
49 ⋆
في محاولة لعلاج مرض شاع في هذا العصر، مرض العالم الذي يقضي ثلاثة أرباع عمره في معمله ولا يدري شيئا عن الحروب الطاحنة والمقولات الدينية والأعمال الفنية، فيصاب بالتفاهة وقصر أبعاد الشخصية وضحالة خبرتها بالحياة الرفيعة، محققا المعادلة الصعبة؛ العالم الجاهل. (ه)
الطابع المرحلي لكل بناء معقد ، طالما أن أية محاولة، وأي جهد يسير في حلقات متتالية كل حلقة تحاول حل مشكلة معينة واحدة، في هذا ما يؤسس عداء بوبر العنيف للنزعات الكلية التي تحاول تحقيق كافة ما ترومه بضربة واحدة كالماركسية على الخصوص، والنزعات اليوتوبية على العموم.
وهذا بدوره يؤسس دعوى بوبر إلى الهندسة الاجتماعية الجزئية
Social Piecemeal Engeneering
التي تعني الإصلاح الاجتماعي خطوة خطوة، مشكلة مشكلة.
هذا أيضا أسلوبه السليم في النقد؛ خطوة خطوة، جزء جزء، وليس أبدا استبعاد كائن مهيب بجرة قلم واحدة كما فعلت الوضعية بخصوص الميتافيزيقا، أو الماركسية بخصوص البناء الاجتماعي البرجوازي. (و)
هذه الصياغة التي تصف شتى ضروب الأنشطة إنما تبدأ بمشكلة، هذا يؤسس دعوى بوبر بأن أي نشاط مبذول هو محاولة لحل مشكلة، وأن هذا ما يجعل النشاط موجها بغير أن نقع في أسر البراجماتية.
وهذا يؤسس دعوى بوبر بأن نمركز الاهتمام حول المشاكل المهمة، لا نبدأ بمحاولة حل المشكلة الحل هو العامل الثاني في الصياغة لا الأول، إننا نبدأ بالمشكلة نفسها وبالأسباب التي جعلتها مشكلة - بموقف المشكلة، فيتعلم الباحث أن يهتم بصياغة المشكلة وفهمها قبل أن يحاول حلها ومدى فهمه للمشكلة ولموقفها، يحدد درجة نجاحه في التوصل إلى حل.
هذا - من ناحية أخرى - يؤسس دعوى بوبر من ضرورة الاهتمام بموقف المشكلة.
كما يؤسس دعواه في فلسفة السياسة والاجتماع، من الانتقال من مشكلة إلى حلها، دون الوقوع في براثن العبودية المذهبية. (ز)
النقد يدخل في صميم عملية المعرفة، بل وفي صميم جميع الأنشطة الحيوية بطريقة أساسية تمكننا من القول بأنه هو نفسه مسار التطور وجوهر التقدم، وهذه النتيجة - أي أهمية النقد - هي ببساطة فلسفة بوبر برمتها. (ح)
إقرار صريح وواقعي، بضرورة التعثر في الخطأ؛ مما يجنبنا مهاوي النزوع إلى الكمال، الخطأ هو القدر الذي لا مفر منه إذن، وهذا يؤسس دعوى بوبر في استحالة أن تتمتع المعرفة بأية أسس أو مصادر غير قابلة للخطأ، لا في العقل ولا في الحس، وهذا أساس دعواه السالفة باستحالة اليقين، ودعواه الآتية إلى العقلانية النقدية. (5) العقلانية النقدية (1) إذا أردنا أن نراعي تقاليد البحث الإبستمولوجي العريقة، ونضع لبوبر تصنيفا تقليديا، لكان هو العقلانية، ولكنها العقلانية النقدية
Critical Rationalism
المختلفة أيما اختلاف عن العقلانية الكلاسيكية
Classical Rationalism . (2) والعقلانية هي اصطلاح يوضع للاتجاه الفلسفي الرافض للمذاهب التسلطي
Authoritarianism ، الذي يضع سلطة معينة بوصفها مصدرا للمعرفة بل والمصدر الوحيد وللمعرفة اليقينية.
إنها - أي العقلانية - المذهب التنويري المستنير، الذي جاء ثائرا على خضوع العصور الوسطى الطويل للسلطة الدينية وأرسطو؛ فهي تقوم على أساس أن الحقيقة بينة
Truth is Manifest ، قد تكون محجبة، لكن يمكن أن تكشف عن نفسها، وإذا لم تكشف عن نفسها، فمن الممكن أن نكشفها نحن، وكشف الحجاب قد لا يكون يسيرا، لكن متى وقفت الحقيقة أمامنا مكشوفة فإن لدينا المقدرة على أن نراها، وأن نميزها عن الباطل، وأن نعرف أنها هي الحقيقة،
50
نحن إذن نملك الوسائل التي تمكننا من التوصل إلى الحقيقة واكتساب المعرفة، ولسنا في حاجة إلى سلطة تفرض علينا كي تدلنا عليها؛ لذلك يطلق بوبر على هذا الاتجاه - العقلانية الكلاسيكية - اسم «الإبستمولوجيا المتفائلة»؛ فهي تثق في الحقيقة وفي الإنسان مقابل «الإبستمولوجيا المتشائمة» التسلطية التي تسحب الثقة من الإنسان وقدراته المعرفية.
والعقلانية شائعة في الفلسفة منذ سقراط وأرسطو، ثم غفت في سبات عميق طوال العصور الوسطى، غير أنها عادت لتكون الموقف المعتمد في الفلسفة الحديثة،
51
وأصبحت موقفا رسميا ذا بطاقة محددة حيث تصف عادة اتجاهين مختلفين:
العقلانية التجريبية
Emprical Rationalism : والتي تقتاد ببيكون وأشياعه، وهم القائلون: إن الوسيلة التي تمكننا من قراءة الحقيقة هي التجريب، إنها تثق في الحس وفي الطبيعة، فليعتمد الإنسان فقط على نفسه، على حواسه، ويرفض أية سلطة معرفية عليه.
العقلانية العقلية
Intellectual Rationalism : اتجاه الذين يقتادون برينيه ديكارت (1596-1650م) وهم القائلون: إن الوسيلة التي تمكننا من قراءة الطبيعة هي العقل
Intellect ، إنها تثق في العقل وفي الله، فكما هو معروف في فلسفة ديكارت: الله لا يخدع أبدا؛ لذلك فهو يضمن ثبات الحقائق؛ لذلك يرفضون التسلط المعرفي، ويتركون الإنسان يتوصل إلى الحقيقة، بنفسه، بعقله. (3) ويرى بوبر أن لهاتين النظريتين - أي للاتجاه العقلاني - الآثار الرائعة التي تمثلت في الحضارة الغربية الحديثة.
فلقد كانت العقلانية - وبغير نظير ينافسها عبر التاريخ - الملهم الأعظم للثورات الاجتماعية والأخلاقية، هي التي علمت الإنسان الثورة على دوجماطيقية الدين، وعلمته أن يحاول إصلاح الحياة الدينية، وهي التي حفزته على السعي وراء التحرر العقائدي والاجتماعي والسياسي، لقد شجعت الإنسان على أن يفكر من أجل نفسه المستقلة، وأعطته الأمل في المعرفة فبواسطتها يستطيع أن يحرر نفسه ويحرر الآخرين من العبودية والبؤس.
وهي التي مكنت للعلم الحديث، وكانت أساس الحرب ضد رقابة واكبت الفكر الحر، كما أصبحت أساس النزعة التي تؤكد فردية الإنسان واستقلاليته، وأعطته الحق في أن ينشق عن الجماعة، ويخالف المعتقد العام، فهو مستقل بنفسه، يستطيع أن يعرف الحقيقة، بغير توجيه أو إرشاد، أوليس لديه العقل والحواس، فلقد كانت العقلانية أساس المعنى الحديث لكرامة الإنسان، والمطالبة بالتربية والتعليم والتثقيف الكلي الشامل، وقد جعلت الإنسان يستشعر المسئولية نحو نفسه ونحو الآخرين ويطمح في تحسين أوضاعه، بل وأوضاع الآخرين.
52
كل ذلك لأنها وجهت الإنسان نحو نفسه، فقوت وعيه بذاته، وجعلته يبحث عن الحقيقة البينة بنفسه بواسطة حواسه أو عقله، لا يعتمد على سلطة خارجية عنه منفصلة عن عالمه، يخشى منها ولا يعلم حدودها ومداها. (4) وعلى هذا يرى بوبر في العقلانية الكلاسيكية أنموذجا للفكرة الخاطئة السيئة، التي تلم بأفكار رائعة!
53
فقد تردت في خطأ كبير هو الاعتقاد بأن الحقيقة بينة، وأن المعرفة اليقينية سهلة المنال، وراحوا يتساءلون: ما هو مصدر هذا اليقين؟ ما هو المصدر النهائي للمعرفة النهائية القاطعة؟ أهو الحس أم العقل، وأولا اليقين مستحيل، والحقيقة ليست بينة.
وثانيا: السؤال الذي قامت أصلا للإجابة عليه خاطئ؛ إذ لا يهمنا مصدر المعرفة أهو العقل أم الحس، المهم هو المعرفة نفسها، محتواها ومدى صدقها، إنهم بالسؤال عن المصدر يكررون الخطيئة الأرستقراطية التي تهتم بالحسب والنسب، وتصرف النظر عن تقييم الشخص ذاته.
54
على هذا فالعقلانية اتجاه خاطئ، ولا بد وأن يكون لها آثار خطيرة تتلخص فيما يلي: (أ)
طالما أن الحقيقة بينة لكل من يريد أن يراها، فلقد أصبحت العقلانية أساس التطرف والتعصب
Fanaticism ؛ ذلك لأن الخبثاء المثبطين للهمم هم - وهم فقط - الذين يرفضون رؤية الحقيقة البينة، وأولئك الذين يخشون منها، هم فقط الذين سيدبرون المكائد كي يخفوها.
55 (ب)
وليس التعصب فحسب، بل إنها تقود بطريق غير مباشر إلى المذهب التسلطي ذاته، الذي قامت أصلا لتحاربه، فطالما أن الحقيقة بينة وواضحة، فلا بد ألا يختلف عليها اثنان، لكن هذا غير واقع ؛ مما يجعل البحوث الإبستمولوجية ليست في حاجة فقط إلى التأويل والتأكيد، بل وأيضا إعادة التأويل وإعادة التأكيد، فتكون المعرفة في حاجة إلى سلطة دائمة تحكم - ربما من يوم لآخر - بما هي تلك الحقيقة البينة، وقد نتعلم أن نفعل ذلك بطريقة تعسفية بل وساخرة؛ لذلك نجد كثيرا من الإبستمولوجيين الذين يصابون بخيبة الأمل سوف يتحولون عن هذه الإبستمولوجية المتفائلة، ويحاولون إقامة مذهب تسلطي متألق على أسس إبستمولوجية متشائمة،
56
ويرى بوبر في أفلاطون أنموذجا لهذا التحول المأساوي من إبستمولوجيا عقلانية متفائلة، إلى إبستمولوجيا تسلطية تفرض ما اقتنعت يوما أنه الحقيقة البينة، وما يتسق معها.
ومن هذا - من أن العقلانية تتحول إلى التسلطية التي قامت أصلا لتحاربها - ينتهي بوبر إلى أن العقلانية الكلاسيكية اتجاه فاشل، فهو يعتقد أنه يحرر العقل البشري من دوجماطيقية الخضوع لسلطة معينة، هي السلطة الدينية والأرسطية، وقد كانت الحرب على هذه السلطة هي موضة زمانها، زمان بيكون وديكارت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر،
57
لكنهما لا ينجحان في محاولة التحرير هذه، وكل ما حدث إبدال سلطة بأخرى ولا جديد البتة.
فالعقلانية التجريبية، تبدل سلطة الكنيسة والإنجيل وأرسطو بسلطة الحواس، والعقلانية العقلية تبدلها بسلطة العقل أو الحدس العقلي وما يبدو له واضحا متميزا.
إنهما ما زالا يلجآن إلى ما يشبه سيطرة السلطة الدينية، فقط يغيران مصادر الحقيقة القصوى القاطعة اليقينية التي لا تناقش، فقد وضع بيكون الحس، ووضع ديكارت العقل بدلا من الله. (5) إن السؤال الذي يحدد البحوث الإبستمولوجية ليس عن المصدر، بل هو: كيف نكتشف أخطاءنا ونستبعدها؟ وقد أجاب بوبر على هذا: بالنقد.
لذلك فالنقد هو الذي يحدد الموقف الإبستمولوجي لبوبر مثلما يحدد كل موقف آخر له، الذي هو العقلانية النقدية.
أما لماذا هو عقلاني بعد كل هذه الثورة النقدية على العقلانية الكلاسيكية؟ فلأنه يشترك معها في المبرر الذي يجعلها عقلانية، أي في رفض أية سلطة معرفية على الإنسان في استقلاله بنفسه في البحث عن الحقيقة رغم أنها ليست بينة، وفي اكتساب المعرفة رغم أنها ليست يقينية.
ليس هناك أية سلطة على الحياة المعرفية، ليس هناك أي مصدر معين للحقيقة النهائية، فالمعرفة لا تتمتع بأية أسس أو مصادر غير قابلة للخطأ، لا في العقل ولا في الحواس،
58
كل اقتراح وكل مصدر للمعرفة على الرحب والسعة، فقط لأن كل اقتراح وكل مصدر للمعرفة يمكن تعريضه للنقد.
فحتى العقلانية الكلاسيكية ذاتها لا نرفضها، بل نوليها الاعتبار بتعريضها للنقد، كما فعلنا، فعرفنا مواطن الخطأ فاستبعدناها، ومواطن الصواب فأبقينا عليها.
خاتمة (1) لقد استفاض الحديث، ونحن نجوب خلال فلسفة بوبر الإبستمولوجيا الثرية.
والآن تصب كل الطرقات في هذا الملتقى لنخرج بأن المعرفة موضوعية من مكونات العالم 3، ولا علاقة لها بالاعتقاد، لكن مشكلة هيوم الاعتقادات التي ترسخ في الذهن بسبب أثر التكرار، وهذا ما لا يمكن قبوله الآن؛ لأن الاعتقاد من مكونات العالم 2، سيحاول بوبر إخراج المشكلة في صورة موضوعية تنتمي للعالم 3؛ أي يمارس حلقة معرفية جديدة، تبدأ ب «م1» هي مشكلة هيوم، ليستبعد الخطأ منها، مطبقا العقلانية النقدية؛ لنرى ما أثر كل هذا على منطق العلم وموضوعنا الأساسي؛ المعيار الذي يميزه.
الفصل الثالث
حل مشكلة الاستقراء
هذه الطريقة في النظر إلى المعرفة، مكنتني من إعادة صياغة مشكلة هيوم في الاستقراء، وبتلك الصياغة الجديدة الموضوعية لم تعد مشكلة الاستقراء مشكلة لمعتقداتنا أو لعقلانية معتقداتنا، بل أصبحت مشكلة العلاقة المنطقية بين العبارات المفردة والنظريات الكلية، وبهذه الصورة أصبحت المشكلة قابلة للحل.
1
مقدمة (1) تماما كما فعل آينشتين بشأن المشاكل المتعلقة بطبيعة الأثير، وهو وسط لانهائي المرونة كثافته أقل من الهواء ويشغل الفضاء، وكان مفترضا بوصفه الوسط الذي تحدث فيه ذبذبات الموجات، تبعا لنظرية هويجنز الموجية في تفسير طبيعة الضوء ، المقابلة لنظرية نيوتن الجسيمة وقد حل آينشتين المشاكل المستعصية المتعلقة بطبيعة الأثير بأن دحض افتراض الأثير نفسه، وبالتالي دحض النظرية الموجية في الضوء؛ فتخلص من الأثير ومن مشاكله.
2
المثل تماما فعله بوبر بشأن فرض الاستقراء؛ فقد حل مشكلته بأن عرضها عرضا منطقيا، يخرج منه بأسس لمنطق العلم لا أثر لاستقراء فيها البتة لكي يحكم حياتنا العلمية أو حتى العملية ، وبالتالي يتخلص من الاستقراء ومشاكله، ويسجل نصرا فلسفيا مؤداه حل مشكلة الاستقراء. (2) ولكي يثبت بوبر هذا، يبدأ تناوله للمشكلة بأن يبسطها على صورتها التقليدية، مبينا عيوب هذه الصورة وجذورها، وكيف ظلت آمادا طويلة مسلما بها، وحتى جاء هيوم، وإذا وصل بوبر إلى هيوم، يطرح مشكلته طرحا مميزا بين عنصريها المنطقي والسيكولوجي، مبينا أخطاءها وأخطاء هيوم الكبيرة، ثم يعيد بوبر صياغة مشكلة الاستقراء، صياغة ترضى عنها نظريته السابق عرضها في موضوعية المعرفة، وتستبعد أخطاء المحاولة الهيومية السابقة، وتحل المشكلة تماما حلا ذا نتائج جمة.
لم يعالج بوبر الموضوع بهذا الترتيب، بل عالج نقطة هنا وأخرى هناك، غير أن أفضل عرض نسقي لأفكاره، إنما هو كالآتي؛ أي كما سنعرضه بهذا التنسيق. (1) نقد المشكلة في صورتها التقليدية (1) أولا وقبل كل شيء، المشكلة في صورتها التقليدية التي عرضها الفصل الأول، قسم (5)، خاطئة، فإذا كانت صياغتها تتمثل في: ما هو تبرير الاعتقاد الواسع بأن الماضي سوف يشابه المستقبل؟ أو: ما هو تبرير الاستدلالات الاستقرائية؟
فإن بوبر يرى كلتا الصياغتين قائمة على أساس خاطئ؛ لأن الصياغة الأولى تفترض الاعتقاد بأن المستقبل سوف يشابه الماضي، ومثل هذا الافتراض خاطئ من أصله، ليس هناك اعتقاد بمشابهة الماضي للمستقبل ما لم نأخذ مفهوم المشابهة بمعنى مرن، يجعله خاويا من المعنى غير ضار. أما الصياغة الثانية فهي تفترض أن هناك شيئا اسمه الاستدلالات الاستقرائية، ثم تبحث عن تبرير لها، مثل هذا الافتراض، حتى وإن كان شائعا الشيوع الذي لمسناه في الفصل الأول، محض وهم، وإنا إذ نعرضه للنقد نلقاه خرافة، ليس هناك شيء - كما سيتضح - اسمه الاستدلال الاستقرائي حتى نقيم حول تبريره المشاكل.
3 (2) والذي جعل له هذه القامة الفائقة، وشيد له تلك الصروح الفلسفية الهائلة؛ فهو أساسها الذي يعود إلى الحس المشترك ذي الشعبية الفائقة، فللحس المشترك
Commonsense
نظرية في المعرفة - فيما يصورها بوبر - تشبه العقل بالدلو أو السلة، تقوم الحواس - لا سيما البصر - بجمع المعلومات وتعبئتها في هذا الدلو، إذا أردنا اكتساب معرفة بأي شيء، فما علينا إلا أن نفتح عيوننا وحواسنا
4
فنعرفه تماما، هكذا ببساطة وبإهدار سائر القوى الخلاقة للذهن؛ لذلك يسميها بوبر نظرية التعبئة المعرفية
Bucket Theory of Mind
ويرسم لها تصويرا غاية في الطرافة على هذا النحو:
وهي النظرية التي عبر عنها جون لوك قائلا: ليس في العقل شيء إلا ودخله عن طريق الحواس، وإن كان بوبر قد كشف عن أن بارميندس أول من صاغها، وإن كان على نحو تهكمي ساخر يهجوها؛ إذ قال: «معظم البشر الفانين، لا يوجد في عقولهم الضالة خطأ إلا ودخلها عن طريق حواسهم الضالة.»
5
بصفة عامة نظرية الحس المشترك في المعرفة قريبة جدا من نظريات التجريبية الإنجليزية التقليدية؛ أي من باركلي ولوك وهيوم، وعلى أية حال، فنحن نجد الفكرة الشائعة هي أن عقولنا فعلا فيها توقعات، نحن نعتقد بعمق في اطرادات معنية، أي قوانين للطبيعة، وهذا يقودنا إلى مشكلة الحس المشترك في الاستقراء: كيف نشأت هذه التوقعات والاعتقادات؟
ببساطة يجيب الحس المشترك على هذا، بسبب الملاحظات المتكررة التي حدثت في الماضي، نحن نعتقد أن الشمس سوف تشرق غدا؛ لأنها في الماضي أشرقت كل يوم،
6
لدينا ملاحظات متكررة، وهي كفيلة بتفسير نشأة الاعتقاد وتبريره.
ببساطة يسلم الحس المشترك بكل هذا، ولا يفكر في إثارة أية مشاكل، وكان هذا هو الموقف الذي تشبث به الفلاسفة الاستقرائيون منذ أرسطو وشيشرون، كما أوضح الفصل الأول، لم يفكر أحد في مناقشتها مناقشة جدية حتى جاء هيوم. (3) يرى بوبر أن هيوم قد أثار بشأن الاستقراء مشكلتين، وليس مشكلة واحدة كما هو شائع؛ إذ يفصل بوبر في المشكلة بين شقيها المنطقي والسيكولوجي على هذا النحو:
المشكلة المنطقية: المتعلقة بتبرير صحة الاستقراء: هل لدينا التبرير الكافي للانتقال من الحالات المتكررة التي وقعت في خبرتنا إلى الحكم على (الاستنتاجات) الحالات التي لم تقع في خبرتنا؟
وقد أجاب هيوم على هذا بالنفي مكونا مشكلة الاستقراء المنطقية.
المشكلة السيكولوجية: المتعلقة بالتكرار وأثره السيكولوجي: لماذا نتوقع جميعا - وبمثل هذه الثقة العظيمة - أن الحالات التي لم تقع في خبرتنا سوف تطابق تلك التي وقعت، ونعتقد في ذلك؟
وقد أجاب هيوم على هذا بسبب العادة
habit
أو التعود
custum
اللذين ينشآن عن التكرار، فنحن مزودون بميكانيزم
Mechanism (أسلوب عمل) سيكولوجي، هو ميكانيزم ربط الأفكار عن طريق التكرار، فالنتيجة إذن هي أن التكرار هو الحجة التي تحكم حياتنا المعرفية، لكنه في واقع الأمر ليس بحجة على الإطلاق، أي إن المعرفة العلمية ليست قائمة على حجة، أي لاعقلانية إذن إما نتخلى عن العلم، وإما عن مطلب العقلانية.
7
موقف محرج حقا أدى إلى هذه المشكلة المتفاقمة؛ مشكلة الاستقراء.
لكن رغم هذا الانفجار المدوي الذي فجره هيوم في بهو الفلسفة، فإن فلسفته هو الاستقرائية ذاتية مهلهلة، غاية في الاهتراء، ولا ينبغي أن نترك هذا الجانب من فلسفة هيوم، بغير أن نعرضه لمنظار النقد، فبوبر فيلسوف النقد. (4) نقد هيوم
هذه المجهودات الهيومية، والتي صاغها ببساطة في اللغة العادية وتبعا للمفاهيم العادية لألفاظها، لا يمكن في واقع الأمر أن تكون في حد ذاتها ثورية كما أراد لها هيوم، بل إنها لا ترقى أصلا إلى أن تكون فلسفية؛ فشروحه للاستقراء في مصطلحات كالعادة والتعود، هي شروح - أو نظرية سيكولوجية - بدائية؛ ذلك لأنها تحاول أن تعطي شرحة لواقعة سيكولوجية، هي واقعة اعتقادنا في اطراد الطبيعة، فنرجعها إلى العادة التي تنشأ عن التكرار، ولكن هذه الواقعة هي نفسها يمكن أن توصف بأنها عادة الاعتقاد في الاطراد، وليس غريبا أن نقول إن عادة الاعتقاد في الاطراد يمكن أن تفسر على أنها عادة من نوع آخر،
8
وهكذا في دوران لا ينتهي في متاهات سيكولوجية، ونلاحظ أنه في فلسفة بوبر ليس ثمة فارق بين العادة والاعتقاد؛ لأن كليهما لا موضوعي ومن مكونات العالم 2 وغير ذي قيمة بالنسبة لمنطق العلم، وإذا لاحظنا أن هيوم يستعمل اصطلاح العادة نفس استعماله في اللغة العادية، أي في وصف سلوك وفي نفس الوقت في وضع نظرية في أصل هذا السلوك بأن يعزوه إلى التكرار؛ أدركنا أن جهود هيوم حتى بوصفها سيكولوجية غير ذات قيمة؛ فهي نظرية سيكولوجية شعبية إلى حد كبير، تكاد تكون جزءا من الحس المشترك، تفتقر إلى الدقة العلمية فضلا عن الصرامة الفلسفية المنطقية، فهي على هذا قابلة للتفنيد البات؛ أولا على أسس تجريبية علمية، وثانيا على أسس منطقية بحتة، وثالثا بوصفها نظرية سيكولوجية.
أولا: النقد العلمي التجريبي
وهو يدور حول نقاط ثلاث: (أ)
نفس النتيجة بالضبط
Typical Result
للتكرار:
لقد انتهى هيوم إلى أن التكرار قد خلق فينا عادة الاعتقاد في قانون، غير أن هذا خطأ والعكس تماما هو الصحيح؛ فالتكرار يحطم الوعي بالقانون ولا يخلق اعتقادا فيه، فمثلا في حالة عزف قطعة موسيقية صعبة على البيانو، يبدأ العازف مركزا وعيه وشعوره، وبعد قدر كاف من التكرار يتم العزف بلا انتباه لقانون، وحين البدء في قيادة الدراجة نتعلم أن ندير الدفة في الاتجاه الذي نخشى السقوط فيه، وتبدأ المحاولات الأولى للركوب وأذهاننا مركزة تماما على هذا القانون، ولكن بعد قدر كاف من التكرار ننسى تماما هذا القانون وتصبح عملية القيادة بغير تركيز، هكذا يتضح أن التكرار يحطم الوعي بالقانون، فنحن لا نشعر بدقات الساعة المنزلية، ولكن نشعر أن الساعة قد توقفت.
9
وقصارى ما يمكن قوله هو أن التكرار يخلق عادة متعلقة فقط بأسلوب أداء العمل أداء آليا أكثر سهولة ومرونة، ولكنه - كما رأينا - لا يحمل أي بعد لخلق قانون، بل يحطم مثل هذا البعد. (ب)
نشأة العادة
Genesis of habit :
ممارسة السلوك قد يسمى عادة فقط بعد التكرار، لكن ليس بسببه، فهو ينشأ أولا ثم يتكرر ثانيا، إذن لا يمكن أن نعزو نشأة العادة إلى التكرار كما فعل هيوم. (ج)
خاصية الاعتقاد في قانون:
وهو شيء، والسلوك الذي ينم عن توقع لما يشبه القانون في تسلسل الأحداث شيء آخر، قد يكونان وثيقي العلاقة بدرجة تكفي لكي نعاملها معاملة واحدة،
10
ولنرضي هيوم أكثر فلنقر أنهما قد يحدثان - في بعض الأحيان - كنتيجة للتكرار.
لكننا في معظم الأحيان نجد أمامنا واقعة غير مرغوب فيها بالنسبة لهيوم؛ وهي: أن الاعتقاد في قانون أو التوقع له قد يكون نتيجة لملاحظة واحدة ملفتة للنظر (ملاحظة واحدة تعني عكس التكرار)، وهذه واقعة حاول هيوم أن يستبعدها؛ لأنها بالطبع مهددة لنظريته بأن أرجعها إلى العادة الاستقرائية، التي تكونت كنتيجة لعدد كبير جدا من سلسلة تكرارات طويلة، والتي وقعت في فترة مبكرة من الحياة.
إلا أن هذه المحاولة الهيومية فاشلة، يؤكد فشلها تجارب عالم النفس بيجيه
Bage
فهو قد أمسك بسيجارة مشتعلة قريبا من أنوف جراء صغيرة، وفي الحال استنشقتها ثم أدارت ذيولها، ولا شيء بعد ذلك جعلها تعود إلى مصدر الرائحة أو تستنشقها مرة ثانية، وبعد أيام قليلة كان لها نفس رد الفعل لمجرد منظر السيجارة، أو حتى قطعة ورق بيضاء مبرومة عن طريق القفز بعيدا أو العطس، وبالطبع فإن عادة هيوم الاستقرائية، والتي تكونت في فترة مبكرة من الحياة، تعتبر هنا محض هراء؛ وذلك لأن الحياة القصيرة للجرو لا يمكن أن يتوفر فيها مجال للتكرار، فضلا عن التعامل الواسع مع الجدة
Novelty ؛
11
وبالتالي للاتكرار.
على ذلك تبقى الواقعة بأن ملاحظة واحدة كفيلة بخلق خاصية الاعتقاد في قانون أو التوقع له في السلوك قائمة حتى في أصغر المواليد والحيوانات، لتحكم على نظرية هيوم بالفشل ومجانبة الصواب، بوبر فعلا محق، لو أخذنا مثال رسل السابق
12 ⋆
من أن التكرار يخلق في الدجاجة عادة استقرائية تجعلها تتوقع الطعام ممن أطعمها كل يوم، نجد أن الأمر لا يستدعي تكرارا استقرائيا، الدجاجة سوف تتوقع الطعام بمجرد أن ترى شخصا يحمله حتى لو كانت تراه لأول مرة، التكرار لا ينشئ الاعتقاد، ولا هو يقويه، فلو كانت قوة الاعتقاد نتيجة للتكرار؛ لكان بينهما تناسب طردي بحيث تزيد قوة الاعتقاد مع تزايد الخبرة، فيكون أقوى في الأشخاص المتمدينين؛ نظرا لزيادة خبرتهم عن البدائيين، غير أن العكس هو الصحيح، فقوة الاعتقاد تكون دائما حيث الخبرة الضحلة، وتبلغ ذروتها في الدوجماطيقية مع المرحلة البدائية للحضارة.
13
وبعد يمكن أن نضيف إلى نقد بوبر هذا، نقد وايتهد الوجيه من أن لفظي التكرار والعادة يجعلان هيوم تجريبيا مزيفا؛ لأنه لو دقق فيهما لوجدهما بغير تعريف تجريبي سليم، فكيف يتخذهما أساسا لفلسفة تجريبية.
14
كل هذا - متضمنا لأدلة تجريبية - تبطل دعاوى هيوم التجريبية، وفي تحليله للمعرفة التي ادعى أنها استقرائية ليس فحسب، لدى بوبر أيضا حجج منطقية، تبطل هي الأخرى دعاويه، كل ذلك لأن المعرفة ليست استقرائية.
ثانيا: النقد المنطقي لهيوم
قامت نظرية هيوم على التكرار القائم على التماثل
Similarity
أو التشابه
resemblance
لكنه استعمل هاتين الفكرتين بطريقة لا نقدية، فلم يفطن إلى أن هناك تكرارات في تسلسل الأحداث غير قابلة للبحث، وتفرض نفسها علينا وعلى واقعنا، مثل نقطة الماء التي تجوف الصخر بكثرة تكرارها، أو دقات الساعة المنزلية مثلا، لكن في نظرية هيوم فإن فقط ما نسمح بأن يكون له تأثير علينا، هو فقط التكرار بالنسبة لنا
Repitition for-us
القائم على التماثل، بالنسبة لنا
Similarity-for-us ، فيجب علينا أن نتجاوب مع المواقف كما لو كانت متكافئة؛ نأخذها على أنها متماثلة ونفسرها كتكرارات، فيجب أن نفترض أن الجراء الماهرة ترينا بتجاوباتها - أي بطريقتها في الفعل ورد الفعل - أنها تتعرف على، أو تفسر الموقف الثاني بأنه تكرار للأول، فهي تتوقع عنصره الأساسي؛ أي الرائحة المرفوضة،
15
بعبارة أخرى توضح هذا، نقول: إن التجربة قد أثبتت أن الجراء هي التي تفترض التكرار، وليس التكرار هو الذي يخلق فيها افتراضات لقوانين، إن عقولنا واستعداداتنا النفسية هي التي تصنع التكرار، مثلما تصنع معظم المفاهيم المنطقية، وليس التكرار هو الذي يصنعها.
خلاصة هذا ببساطة، هو أن بوبر يشرح المفهوم السيكولوجي العلمي الأصيل للتكرار، ليثبت أنه شيء مخالف تماما لذلك الذي أراده هيوم له ومنه، وأنه لا يمكن - في واقع الأمر - أن يقوم بالدور الذي خوله هيوم له؛ لأننا نحن الذين نحكم على الأحداث بأنها تكرار، وليست هي التي تحكمنا بما يبدو من تكرار لها فتجعلنا نستنتج قانونا؛ ومن ثم فليس التكرار علة لما تصوره هيوم معلولا له - أي العادة - وقد أعطانا دليلا سيكولوجيا تجريبيا على هذا.
وهذا النقد قد يبدو سيكولوجيا، لكنه في واقع الأمر يقوم على أسس منطقية بحتة، وهي أن نوع التكرار الذي تصوره هيوم، لا يمكن أن يكون كاملا؛ فالحالات التي وضعها في ذهنه، لا يمكن أن تكون حالات من ذات الهوية
بل يمكن فقط أن تكون حالات تماثل
Similarity ؛ لذلك تكون تكرارات؛ فقط من وجهة نظر معينة، وهذه الوجهة سابقة على إدراك التكرار،
16
ثم تحكم بعد ذلك العملية المنطقية لإدراك التكرار، أو لإدراك تجعله تكرارا، فكيف يدعي هيوم إذن أن التكرار يخلق وجهات للنظر، ويخلق اعتقادات.
إن محاولاتنا بأن نفرض تفسيراتنا على العالم «= وضع القوانين العلمية» أولية منطقيا على إدراك المتماثلات، أي على إدراك ما نحكم عليه بأنه تكرارات، إذن من الناحية المنطقية، هناك سبق منطقي للفروض والتوقعات من النظريات و«الافتراضات الحدسية»
Conjectures
تكون قبل أن تكون التكرارات، أو بالأحرى إدراك التكرارات؛ لذلك يكون الفرض العلمي سابقا منطقيا وزمانيا على إدراك الملاحظات المتكررة، وليس نتيجة استقرائية لها، «هذه الأسبقية هي حجر الزاوية والعمود الفقري من فلسفة بوبر المنهجية، والتي تجعلها رافضة للاستقراء.»
لكل ذلك يرى بوبر أن هيوم لم يستطع أن يحلل المعرفة تحليلا صحيحا، ولم يدرك الترتيب المنطقي السليم لعناصرها؛ لذلك لم يستوعب القوى الكاملة لتحليلاته المنطقية؛ إذ إنه حين فند الاستقراء، واجهته المشكلة الآتية: كيف نكتسب بالفعل معرفتنا - كمسألة واقعة - بعد أن اكتشفنا أن الاستقراء لا يصلح، وكان أمامه إجابتان محتملتان: (أ)
نحن نكتسب المعرفة بإجراء لا استقرائي، علينا إذن أن نترك الاستقراء، ونبحث عن مثل هذا الإجراء، هذه الإجابة خليقة بأن تستبقي هيوم عقلانيا، بل وتتوجه في عالم منطق العلم، لكنه للأسف لم يقو على الأخذ بها، ربما - فيما يرى بوبر - لأن الأصالة المنطقية تنقصه، وربما - فيما يبدو لي - لأن الاستقراء كان مسيطرا سيطرة يصعب على فيلسوف مثل هيوم، وجاء في زمن كزمن هيوم، أن يتخلص من أسرها. (ب)
أما الإجابة الثانية فهي: نحن نكتسب معرفتنا بالتكرار الاستقرائي، رغم أن الاستقراء باطل منطقيا، وقد رأينا هذا يعني أن جماع معرفتنا العلمية لا عقلانية.
وهناك نقطة جديرة حقا بالذكر هي: أننا لا يمكن بالطبع أن نقول: إن الاستقراء عقلاني تبعا لمقاييس المنطق الاستقرائي، فهذا دوران منطقي وموقف لا نقدي (تعبير لا نقدي
un-critical
عند بوبر يعني جماع الخطايا الفلسفية، وخلاصة لكافة ما يمكن توجيهه من اتهامات منطقية) لأنه يعني إدخال السؤال عن الواقعة
fact ، واقعة وجود الاستقراء كمنهج للعلم - والسؤال عن التبرير أو الصحة - في ذات الهوية
Justification or validity ، وقد كان إنجاز هيوم العظيم هو تحطيمه لهذا الموقف اللانقدي، وهذا الدوران والفصل بينهما، غير أنه رفض الثانية: • أنكر التبرير والصحة ولكن لم يستطع رفض الأولى، الاستقراء أمر واقع؛ لذلك بقي متشبثا بالإجابة الثانية «نحن نكتسب المعرفة بالاستقراء.» متفقا مع الحس المشترك في أنهما بمنتهى الضعف يسمحان للاستقراء بأن يعاود الدخول عن طريق التكرار في شكل نظرية سيكولوجية،
17
بعد أن رفضه المنطق، أي خرج الاستقراء من الباب، لكنه عاد ودخل من الشباك فما الداعي لكل هذه الجعجعة؟
كل هذا يعني أن نظرية هيوم - رغم آثارها العميقة - من الناحية المنطقية مهترئة، وقد سبقت الإشارة إلى أنها في حقيقة أمرها نظرية سيكولوجية في الاعتقاد والعادة، فهل يمكن أن يرفضها المنطق، لكن نقبلها في عالم علم النفس، الإجابة: كلا، بناء على الآتي:
ثالثا: النقد السيكولوجي لنظرية هيوم
إذا أردنا أن نضع نظرية سيكولوجية عن أصل الاعتقاد، فينبغي أن نحذف الفكرة البدائية «الأحداث المتماثلة»، ونضع بدلا منها «الأفعال التي تكون ردود أفعالنا عليها هو تفسيرها بأنها متماثلة» ذلك هو التعبير العلمي السليم.
فالتماثل بالنسبة لنا هو نتاج تجارب تتضمن تفسيرا (قد يكون غير متوافق) أو انتظارات أو توقعات (قد لا تتحقق أبدا)؛ لهذا يكون في حكم المستحيل أن نشرح هذه التفسيرات أو التوقعات كنتاج لتكرارات عدة كما اقترح هيوم، فحتى التكرار - بالنسبة لنا - يجب وأن يكون مؤسسا على التماثل - بالنسبة لنا - ولهذا على توقعات - هي على وجه الدقة - نفس ما ابتغى هيوم شرحه، بعبارة أخرى: التوقعات التي يمارسها الذهن، هي الأساس الذي يقوم عليه مفهوم التكرار، وليست هي التي تجيء كنتيجة للتكرار،
18
وفي تجربة بيجيه
F. Bage
ما يؤكد ذلك.
الواقع أن بوبر يدور مدارا واحدا، محوره أن الاعتقاد يسبق مفهوم التكرار، وليس العكس كما أراد هيوم، ويأخذ بوبر في تكييف هذه الفكرة، وإما تكييفا علميا تجريبيا وإما منطقيا، وإما سيكولوجيا، حسب وجهة النقد الذي يريد أن يوجهه إلى هيوم، لينتهي في النهاية إلى أن نظرية هيوم، سواء بوصفها فلسفية أو منطقية أو حتى سيكولوجية لا تساوي شيئا.
ولما كانت أساسا سيكولوجيا كانت ذاتية ليست موضوعية، ويا لها من جريمة في عرف بوبر، الفلسفة مثل العلم هي كائنات موضوعية تقطن في العالم 3، وفلسفة هيوم لا تساوي مثقال ذرة بالنسبة لهذا العالم ولا بالنسبة لأي عالم؛ نظرا لما تجوس فيه من غياهب الذاتية لكن في خضم هذه الغياهب الذاتية، يعثر بوبر على جوهرة ثمينة تظفر بها المعرفة الموضوعية وهي ببساطة التفنيد المنطقي لأي ادعاء بأن الاستقراء يمكن أن يكون ذا صحة منطقية
19
لإقامة المعرفة أو تبريرها؛ أي مشكلة الاستقراء، تشبث بوبر بهذه الجوهرة، وحاول أن يجلو عنها الشوائب الذاتية، أن يصيغها صياغة موضوعية، لنرى ماذا عسى أن ينجم عن هذه الصياغة. (2) حل المشاكل الاستقرائية (1) لقد اتضح أن بوبر لا يرضى عن مفهوم المنطق في ذهن هيوم، بعبارة أخرى: هيوم لا يدرك تماما ما هو المنطق ولا كيف تكون المشاكل المنطقية، الآن سيصب بوبر مشكلته - التي أخرجها هو في مصطلحات ذاتية سيكولوجية - في قالب المنطق الموضوعي؛ بحيث لا تكون مشكلة الاستقراء هي مشكلة لمعتقداتنا أو لعقلانية معتقداتنا، بل هي مشكلة العلاقة المنطقية البحتة بين العبارات المفردة، أي أوصاف للوقائع المفردة القابلة للملاحظة
Descriptions of observable Singular facts
وبين النظريات الكلية؛ لذلك لا بد وأن يستبدل مصطلحات هيوم الذاتية بمصطلحات موضوعية على هذا النحو:
مصطلحات هيوم الذاتية
مصطلحات بوبر الموضوعية
الحالات التي مرت بخبرتنا
عبارات الاختبار
test statements
أي العبارات المفردة التي تصف أحداثا ملاحظة، وهي عبارات
observable Statement
أو العبارات الأساسية
basic Statement . *
الحالات التي لم تمر بخبرتنا
النظرية الكلية الشارحة
Universal Explanatory Theory . *
انظر تفصيل الحديث عن «العبارات الأساسية» الفصل الثاني من الباب الثالث.
وبوبر يبرر إجراء هذا التعديل بمبررات ثلاثة: (أ)
من الناحية المنطقية، فإن الحالات تؤخذ بالنسبة لقانون عام، أو على الأقل بالنسبة لدالة عبارة
Statement Function ، يمكن أن تعمم؛ إذ نأخذ هذه الحالات بوصفها أمثلة دالة على قانون عام. (ب)
الانتقال من الحالات الماضية إلى استدلال يتعلق بالحالات المستقبلة ، يتم بمساعدة نظريات كلية. (ج)
بوبر - مثل رسل - يرغب أن يصل مشكلة الاستقراء بالقوانين الكلية ونظريات العلم، وليس بالحالات المستقبلة.
20 (2) من هذا المنطق تخرج المشكلة على هذا النحو:
أولا:
هل يمكن أن تبرر الأسباب التجريبية، الدعوى بصدق النظرية الكلية الشارحة؟ أي عن طريق افتراض صدق عبارات اختبار معينة - أو عبارات ملاحظة - هل يمكن أن نبرر النظرية؟
21
إجابة بوبر نفس إجابة هيوم؛ أي بالنفي مهما كان عدد الحالات كبيرا.
وهناك مشكلة منطقية أخرى، وهي لا تعدو أن تكون تعميما للسابقة؛ فهي تتأتى لنا بمجرد أن نحل «صدق أو كذب» محل صدق وهي:
ثانيا:
هل يمكن للأسباب التجريبية أن تبرر الدعوى بصدق أو كذب النظرية الكلية الشارحة؟ أي هل يمكن لافتراض صدق عبارات اختبار معينة، أن تبرر إما الدعوى بأن النظرية الكلية صادقة، وإما الدعوى بأنها كاذبة؟
بوبر يجيب على هذا بالإيجاب، فإذا كان صدق عبارات الاختبار لا يتمكن من تبرير الدعوى بصدق النظرية الكلية الشارحة، فإنه يتمكن أحيانا من تبرير كذبها.
22
وترتكز هذه الإجابة من بوبر - والحق فلسفته المنطقية بأسرها - على قاعدة منطقية صارمة، هي قاعدة اللاتماثل المنطقي
logical Asymmetry
بين التحقيق - أي إثبات الصدق - وبين التكذيب عن طريق الخبرة؛ فالمنطق يقضي باختلاف المنزلة المنطقية بين التحقيق والتكذيب؛ لأن ألف حالة لا تثبت القضية منطقيا؛ لذا برزت مشكلة الاستقراء، ولكن حالة رفض واحدة تحسم القول في كذب القضية، فيكون رفض الإثبات وقبول النفي أصوب الصواب - الصواب المنطقي الذي نقيم عليه العلم.
تبعا لمشكلة الاستقراء، يستحيل علينا التمييز - كما أشار رسل - بين فرض علمي وبين اعتقاد مجنون بأن بيضة مسلوقة: الاثنان قائمان على أسس لامنطقية لاعقلانية؛ لذلك كان الاستقراء عاجزا منطقيا عن الاختيار بين الفروض المتنافسة، وتفضيل الفرض الأكثر صدقا، ولكن بهذا التناول البوبري نستطيع التوصل إلى تفنيد بعض من الفروض المتنافسة، فتكون فرصة التفضيل متاحة أكثر؛ لأنها تنحصر بين الفروض التي لم يتم تفنيدها بعد، وهذه يقود إلى صياغة ثالثة لمشكلة الاستقراء لا تعدو أن تكون مجرد بديل للمشكلة الثانية، والمشكلتان الثانية والثالثة مجرد تعميم للأولى، «وفي هذا إيماءة واضحة إلى أننا نتحرك فقط - ها هنا - في مجال المنطق» وهذه الصياغة الثالثة هي:
ثالثا:
هل يمكن للأسباب التجريبية أن تبرر تفضيل
بعض من النظريات الكلية المتنافسة على الأخرى؟
23
بوبر يجيب على هذا بالإيجاب تبعا لإجابته بالإيجاب على المشكلة الثانية، فإذا توصلنا إلى تفنيد بعض من الفروض المتنافسة، أصبح من الواضح تفضيل الفروض التي لم يتم تفنيدها بعد، وهذه نتمسك بها مؤقتا بوصفها حد التقدم العلمي حتى هذه اللحظة، ثم تستأنف الجهود العلمية التالية المسير منها بأن تحاول تفنيدها هي الأخرى، وتحاول أن تضع بدلا منها فروضا أكثر اقترابا من الصدق، نأخذ بأفضلها نسبيا، ونتمسك بها مؤقتا، فقط لأنها أفضل ما لدينا حتى الآن، إلى أن يتم تفنيدها هي الأخرى، وهذا التفنيد سيتم - لا محالة - يوما ما حين نتوصل إلى فروض أفضل نسلم بها بصفة مؤقتة ... وهلم جرا؛ إذ لا يتوقف العلم أبدا، بل يسير سيرا متصلا، هو في جوهره نفس مسار المعرفة بجملتها - والتي هي موضوعية - بل ومسار سائر الأنشطة الحيوية، والذي رأيناه يتلخص في المعادلة «م1
ح ح
أ أ
م2»، على هذا المنوال يسير العلم في حلقات متصلة، كل منها أكثر تقدما من سابقتها، مهما بلغت من تقدمها وقوتها يستحيل أن تعتبر يقينية، ولا حتى صادقة، فقط أكثر اقترابا من الصدق.
هكذا نجد العلم مطرد التقدم، لا يمكن أن نسمه بالسمة اللاعقلانية، فأين اللاعقلانية في معرفة تسير بمنهج نقدي، يبحث عن الخطأ في النظريات المتنافسة، إنه منهج التفضيل العقلاني، الذي يتحول إلى لاعقلاني، فقط حين يبحث عن اليقين، عن النظرية الصادقة أبدا لكن التخلي عن مطلب اليقين أو الصدق، لا يعني إطلاقا التخلي عن البحث عن الصدق؛ فالبحث العلمي محكوم أولا وقبل كل شيء بفكرة الصدق، فكرة الكشف عن نظرية أكثر اقترابا من الصدق، فالصدق الغاية المرومة، والهدف النهائي بعيد التحقيق، فهو - كما عرفنا في الفصل السابق - يلعب دور الفكرة التنظيمية. (3) المشكلة السيكولوجية: إعادة الصياغة والحل: تناول بوبر للجانب السيكولوجي من مشكلة هيوم محكوم بمبدأ أسماه مبدأ الطرح
، خلاصته أن ما يصدق في المنطق، يصدق أيضا في علم النفس «كأن نقول: إن ما يصدق في منهج العلم، يصدق أيضا في تاريخ العلم.»
24
والآن قد انتهينا في حل المشكلة المنطقية الثالثة، إلى منهج تفضيل منطقي، بطرحه على الجانب السيكولوجي نصل مباشرة إلى منهج المحاولة والخطأ الذي رأيناه في الفصل السابق بحكم سائر الأنشطة الحيوية؛ حيث إن:
محاولات الحل المختلفة تناظر تكوين النظريات المتنافسة.
بينما: استعاد الخطأ يناظر تفنيد النظريات عن طريق الاختبارات التجريبية.
لذلك يقترح علينا مبدأ الطرح المشاكل الآتية، وحلولها على النحو التالي:
أولا: إذا أخذنا النظرية مأخذا نقديا، أي من وجهة نظر الأدلة الكافية، بدلا من أية وجهة للنظر براجماتية، فهل سنشعر على الدوام بالتأكد التام، أي باليقين من صدقها؟ حتى لو أخذنا في الاعتبار النظريات المختبرة جيدا مثل نظرية شروق الشمس كل يوم؟
25
بوبر يجيب على هذا بالنفي، إننا لا نشعر باليقين أبدا مهما نظرنا إلى الأدلة الكافية، إن اليقين هو المستحيل، فالشمس قد لا تشرق غدا؛ فقد تنفجر مثلا بعد نصف ساعة، ولكن لا ينبغي أن نأخذ هذا الاحتمال مأخذ الجد؛ لأننا لا نستطيع أن نفعل بإزائه شيئا، إذن لا بد وأن نأخذ في الاعتبار السلوك العملي «البراجماتي» الذي يأتي نتيجة للاعتقاد، فإذا كان المبرر العقلاني للشعور السيكولوجي باليقين مستحيلا، فإن هناك فعلا شعورا قويا، أو اعتقادات، وهذه المعتقدات سواء كانت عقلانية أو غير عقلانية، يقينية أو غير يقينية، تحكم حياتنا العملية؛ لذلك لا بد وأن نأخذ في الاعتبار المعتقدات البراجماتية، أي التي تحكم حياتنا العملية، والتي قد تكون على جانب عظيم من القوة، هل هي حقا كما ادعى هيوم نتيجة للعادة الاستقرائية؛ أي للتكرار، إن ذلك يقود إلى طرح المشكلة الآتية: • هل تلك الاعتقادات البراجماتية القوية التي نتمسك بها جميعا، مثل الاعتقاد بأنه سوف يكون هناك غد، هي نتائج لا عقلانية للتكرار؟
26
بوبر يجيب بالنفي بناء على الفكرة التي عرضها بوضوح في نقده لهيوم، وهي أن التكرار لا يخلق عادة ولا اعتقادا، وأن عقل الإنسان أو استعداداته الفطرية هي التي تخلق مفهوم التكرار نفسه؛ لذلك فالاعتقادات البراجماتية هي نتيجة لنزوعات فطرية، ثم تعديلاتها كنتيجة لمنهج المحاولة والخطأ، المناظر لمنهج تفضيل النظريات العلمية، ولما كنا قد انتهينا إلى أن منهج التفضيل عقلاني تماما، ولا يخل بأية قوانين منطقية، فإن هذه السمة العقلانية تطرح على الجانب السيكولوجي. (4) المشكلة البراجماتية وحلها: بدا من التساؤل الأخير، كيف أن الناحية السيكولوجية وثيقة الاتصال بالتصرفات العملية أي بالناحية البراجماتية، فهما وجهان لعملة واحدة؛ فالاعتقاد البراجماتيكي، هو طبعا شيء وثيق الصلة بالفعل
Action ، وبالاختيار بين البدائل، أي بتصرفاتنا في الحياة العملية؛ لذلك يعالج بوبر مشكلة للاستقراء براجماتيكية، مثلما عالج مشكلته السيكولوجية.
بوبر يطرح المشكلة البراجماتيكية وحلها على هذا النحو:
أولا:
من وجهة النظر العقلانية، على أي نظرية يجب أن نعتمد بالنسبة لأفعالنا العملية؟
27
رد بوبر:
من وجهة النظر العقلانية، لا يجب أن نعتمد
Rely - بمعنى الوثوق الكامل - على أية نظرية، مهما اعتقدنا أن صدقها قد ثبت، فالصدق لا يمكن أن يثبت.
ثانيا:
من وجهة النظر العقلانية، أي نظرية يجب أن نفضلها بالنسبة لأفعالنا العملية؟
رد بوبر:
أفضل النظريات المختبرة
best-tested
أكثر النظريات صمودا أمام اختبارات النقد ومحاولات التفنيد هي التي يجب أن نفضلها بالنسبة لأفعالنا العملية،
28
فتتصرف على أساسها.
إننا نختار؛ لأن الحياة اليومية لن تسير، وهي لا بد أن تسير بغير أن يتم هذا الاختيار، وإذ يتم على هذا النحو، فإن بوبر لا يرى شيئا أكثر عقلانية منه.
وأكثر من هذا فحتى الاعتقاد البراجماتي في نتائج العلم، فقد أصبح الآن عقلانيا على الأصالة، طالما حلت مشكلة الاستقراء ، قد أصبح قائما على المناقشة النقدية التي هي منهج العلم الآن، والذي يبدو لاعقلانيا فقط إذا أخذناه على سبيل اليقين، أما إذا أخذناه كأساس للسلوك العملي في الحياة اليومية، فهو الأساس الأمثل، أساس عقلاني بلا مشاكل؛ لأنه يعني أننا قد اخترنا النظرية، وجعلناها كمعتقد نؤسس عليه تصرفاتنا العملية؛ فقط لأنها الأفضل، وتصرفاتنا على أساسها ستكون أنجح مما لو اخترنا فرضا آخر من الفروض المتاحة لنا في هذا الآن، لكن هذا الاختيار لا يعني أننا نأخذها كحقيقة موثوق بها نعتمد عليها تماما، بل يعني فقط أننا فضلناها على منافساتها لا أكثر ولا أقل.
وإجابة بوبر السلبية الاحتمالية الشكية على مشكلة الاستقراء البراجماتية، لا يمكن أن تعاب؛ لأنها تعد من قبيل الاحتياط والحذر الواجب بعدما أدركه العلم من تقدم، فالعلم يضع نظريات عديدة، تحمل احتمالات متناقضة، كلها قائمة، منها احتمال دمار هذا العالم كليا أو جزئيا، وانفجار الشمس وفناء الجنس البشري، فإذا كانت نظريات العلم صادقة، وتؤخذ مأخذ اليقين، فإن هذا العالم الذي نعرفه بكل اطراداته وانتظاماته الملائمة لنا براجماتيكيا، قد يتحطم في أية لحظة، قد تكون اللحظة التالية
29
مباشرة، وطبيعي فإننا من الوجهة البراجماتية لا نتخذ هذه النظرية رغم أنها نظرية علمية، وقد تكون اعتقادا سيكولوجيا أساسا للتصرف؛ لأن التصرف على أساسها لن يكون هو الأنجح بل الأفشل، ولكن طالما أنه احتمال، فمن الضرورة المنطقية أن نأخذ نقيضه - الذي فضلناه - فقط مأخذ الاحتمال.
على هذا النحو، حل بوبر مشكلة الاستقراء من كافة جوانبها المنطقية والسيكولوجية البراجماتية. (3) نتائج هذا الحل (1) وقبل أن نتحدث عن نتائج هذا الحل لا بد أن ندرأ أولا نقد هيلاري باتنام
Hilary Putnam
المجانب للصواب، فهو يبدأ حديثه بأن بوبر يشير بمفهوم الاستقراء إلى أي منهج يحاول تحقيق أو تبيان صدق أو حتى حساب احتمالية القوانين العامة على أساس الوقائع الملاحظة ومعطيات التجريب.
30
غير أن بوبر لم يشر إلى هذا، بل يقصد بالاستقراء المقصد السليم له، أي إن الوقائع هي أصل النظرية، هي تعميم لها، أو فرض مشتق منها ومن تكراراتها.
ثم ذهب باتنام إلى أن هذه النظرة من بوبر، التي تعني أن النظرية فقط صمدت أمام الاختبار تجعل العلم بأسره نشاطا لا حاجة له؛ لأن العالم لن يخبرنا إطلاقا أن النظرية تصلح جيدا للاعتماد عليها عمليا، وهو أيضا لا حاجة له لأغراض الفهم العقلي؛ لأن العالم لن يقول: إن النظرية صادقة أو حتى محتملة.
31
أبسط رد على بتنام هو حل بوبر للمشكلة البراجماتية، أو إثباته الصلاحية التامة للاعتماد على النظرية، أما نظرته هذه لأغراض الفهم العقلي، فليس لها إلا مبعث واحد وهو أنه لم يستطع التحرر من الرغبة الدفينة في اليقين، التي يفسرها رايشنباخ في «نشأة الفلسفة العلمية» بالرغبة في العود في عهود الطفولة، التي لا يعكر صفوها أدنى شك بفضل الثقة في حكمة الوالدين، ثم تقويها التربية الدينية؛ إذ تعتبر الشك خطيئة،
32
فمنطق بوبر يعني أن النظرية التي توقفنا عندها هي أكثر النظريات اقترابا من الصدق.
ثم إننا لم نستطع التسليم بالنظرية احتماليا على أساس منطق الاستقراء، بينما نستطيع هذا على أساس نظرية بوبر في منطق العلم، هذه إحدى النتائج الهامة للحل. (2) إذ سيكون تسليما عقلانيا تماما، وعقلانية تطرح على الجانب السيكولوجي، فتقينا من الشيزوفرينيا التي عرضنا لها هيوم، أو بالأصح الاستقراء، خلاصة القول في نتائج هذا الحل أننا الآن بمأمن من كافة الآثار الخطيرة للاستقراء ومشكلته. (3) في سياق الحديث عن نتائج الحل، لا بد من إلقاء الضوء على زاوية هامة جدا في فلسفة بوبر، شاعت في ثنايا هذا الفصل، وستشيع في سائر ثنايا فلسفة بوبر المنهجية، وهي فكرة التوقعات الفطرية، أو الاستعدادات السيكولوجية «منها الاستعداد لخلق مفهوم التكرار وعلى أساسه كان نقد هيوم، وحل المشكلة السيكولوجية.»
ذلك أن الفيلسوف التجريبي بوبر لا يرى أن الذهن يولد صفحة بيضاء تخطها التجربة كما يدعي التجريبيون المتطرفون، على رأسهم جون لوك، ولا هو يرى أن الذهن يولد بأفكار فطرية كما يدعي المثاليون المتطرفون، كلا، الأفكار الفطرية خلف محال
absurd ، فقط يولد الذهن مزودا بمجموعة من النزوعات والتوقعات الفطرية، التي قد تتغير وتتعدل مع تطور الكائن الحي،
33
والتي قد تكون على درجة كبيرة من الاختلاف والتعقيد، وهي تتحد فيما بينها لخلق ملكات الإنسان؛ النزوع إلى الحب، إلى العطف، إلى مناظرة الحركات إلى أن نتحكم في هذه الحركات المناظرة ونصححها، وأن نستعملها ونتواصل بواسطتها والاحتياج إلى لغة نتسلم بواسطتها الأوامر والطلبات والتحذيرات والإنذارات ... والنزوع إلى تأويل العبارات الوصفية، وإلى استعمالها وإلى وضعها،
34
وهذه التوقعات سابقة منطقيا وزمانيا؛ لأنها سابقة وراثيا، على أي تعرف على البيئة، على تلقي أية خبرة حسية، وبالطبع على أي تجريب.
أهم هذه النزوعات هو توقيع الاطراد؛ فالاطراد ليس نتيجة خرجنا بها من ملاحظة الطبيعة، ولا هو عادة ذهنية اكتسبناها من أثر التكرار؛ فقد ثبت بطلان كل هذا، بل هو في حقيقته مجرد نزوع فطري في الإنسان والحيوان، يولد كل كائن حي مزودا بافتراض الاطراد في الطبيعة، فيحاول فرضه عليها؛ فقد لوحظ في الحيوانات والأطفال، ثم في البالغين من بعد؛ لوحظت الحاجة القوية الملحة إلى الاطراد، هذه الحاجة تجعلهم يبحثون عنه فيقفزون بلا مبرر إلى إشباع هذا التوقع، مما يشعرهم في بعض الأحيان أنهم مروا بخبرة الاطراد حيث لا يوجد بالفعل هذا الاطراد، وقوة هذا التوقع تجعلهم يتشبثون به بطريقة دوجماطيقية، فإذا تحطمت بعض الاطرادات المفترضة، فإن هذا يقودهم إلى الشقاء والقنوط واليأس، بل وإلى حافة الجنون،
35
ويؤكد قوة هذا التوقع ما نلاحظه من شعور الطفل بالسعادة حينما تشبع لديه هذه الحاجة إلى افتراض الاطراد في البيئة أو الطبيعة.
36
هكذا نجد افتراض الاطراد في الطبيعة، ومحاولة فرضه عليها هي مسألة سيكولوجية مؤسسة على الدوافع الفطرية، مثل الدافع أو الحاجة إلى عالم يتفق مع توقعاتنا، تماما كالاحتياج إلى استجابات اجتماعية مطردة، أو إلى تعلم لغة ذات قواعد مطردة، مسألة سيكولوجية كيف نتخذها أساسا عميقا نقيم عليه منطق العلم الاستقرائي، الاطراد ليس قانونا نبرر به منهج العلم، وعلى هذا يمكن ببساطة دحض افتراض السببية، طالما أنه وضع أصلا لتفسير الاطراد في الطبيعة؛ لماذا يطرد اتباع «ب» ل «أ»؛ لأن «أ» علة «ب »، لكن لا اطراد في الطبيعة كي نبحث عن مبدأ أو قانون يفسره، إذن لا سببية، بمنتهى البساطة استطاع بوبر حل المشكلة الفلسفية العميقة، مشكلة السببية، بعض النقاد يرفضون هذا الحل فقط لأنه بسيط غير معقد، على العموم نحن الآن بصدد نتيجة منهجية هامة؛ هي انهيار الاطراد والسببية، أي انهيار أساس الاستقراء.
ونظرية الاستعدادات الفطرية هذه لها أبعاد كثيرة، أكثر من انهيار أساس الاستقراء فكل كائن حي له نزوعات فطرية، له ردود أفعال واستجابات فطرية، بعض هذه الاستجابات قد تكون متكيفة مع أحداث وشيكة الوقوع، هذه الاستجابات هي ما يسميها بوبر بالتوقعات، بغير أن يتضمن هذا أنها شعورية، بهذا المغزى يقول: إن الطفل حديث الولادة يتوقع أن يجد من يطعمه، بل أكثر من هذا يتوقع أن يجد من يحبه ويحميه، طالما أن هناك علاقة وثيقة بين المعرفة والتوقع، فيمكن أن نتحدث عن هذه المعرفة الفطرية حديثا معقولا تماما، ولكن هذه المعرفة الأولية، ليست ذات صحة أولية، مثلها مثل أية معرفة قد تصدق وقد تخيب، فالتوقع الفطري يمكن أن يكون خطأ، بصرف النظر عن مدى قوته، فالطفل حديث الولادة يمكن أن يهجر وأن يموت جوعا،
37
والآن لو تذكرنا أن المعرفة تسير في حلقات «م1
ح ح
أ أ
م» وارتددنا إلى الوراء، إلى أولى هذه الحلقات في العصور الحجرية؛ لوجدناها بدأت بأول م1 في التاريخ بتوقع فطري سابق على أية ملاحظة، أخطأ ووقع في مشاكل، فحاول الإنسان البدائي أن يعدله، فدخل في هذه العملية وانتهى إلى م2، جعلها م1 ... وهكذا.
إذن المعرفة في كافة مراحلها بدأت بفرض سابق على التجريب، ولا مكان على وجه الإطلاق لأدنى شائبة استقرائية في البنيان المعرفي.
ويتخذ بوبر عضدا لهذه النظرية الهامة، من أبحاث عالم النفس العظيم كونراد لورنتس
Konrad Lorentz
الذي يتبوأ مكانة عالية على عالم علم النفس الحيواني، ويتمتع بشعبية فائقة في وطنه النمسا؛ لما اشتهر به من تجارب بارعة، أثبت بها نتائج أكثر من رائعة من عالم جد غريب، عالم البط والأوز.
وعلى الرغم من أن الصبي كارل بوبر كان على معرفة بمواطنه الصبي كونراد لورنتس، إلا أن بوبر قد توصل إلى نظريته هذه قبل أن يسمع عن أبحاث لورنتس، ولما عرفها وجد فيها خير معين على دعاويه، والذي يهمنا من أبحاث لورنتس نظرية يصفها بوبر بأنها معجزة، وهي نظرية في علم النفس الحيواني يطلق عليها لورنتس اسم
Emprinting Theory
مؤدى هذه النظرية أن الحيوانات الصغيرة لها أسلوب عمل فطري
inborn mechanism
للقفز إلى نتائج وطيدة غير قابلة للزعزعة، فمثلا فرخ الأوز حديث الخروج من البيضة، يتخذ أول شيء متحرك تقع عليه عيناه على أنه أمه، وهذا الأسلوب في العمل ملائم في الظروف العادية، لكن قد يكون خطيرا في بعض الظروف،
38
حينما يكون هذا الشيء ثعلبا مثلا.
فرخ الأوز يخرج إلى الحياة متوقعا أن يجد له أما، متوقعا أن حجمها أكبر نسبيا من حجمه، أفلا يولد الإنسان - وهو تاج الخليقة - بأمثال هذه التوقعات لتكون نقطة البدء في محاولاته المعرفية، ولا تكون هذه النقطة استقراء وقائع الحس من الطبيعة، فيخرج أول إنسان في التاريخ بنتيجة استقرائية مصابة بآفة الاستقراء، جاعلة التصدع المنطقي لبنيان المعرفة متغلغلا حتى آخر الأعماق، كلا بالطبع.
غير أن لي ملاحظة هامة: نظرية التوقعات الفطرية الخطيرة هذه، التي كفلت تأمين العلم من أية شائبة استقرائية، حتى أولى بداياته، لها عضد هام هو عالم النفس العظيم كارل يونج
Carl Jung ، الذي أكد على الأصول العنصرية في التكوين السيكولوجي حتى إنه يعتبر شخصية الفرد نتاجا ووعاء يحتوي على تاريخ أسلافه،
39
وقد أدى هذا إلى اتهام يونج بأنه نصير النازية.
لكن الذي يهمنا الآن هو تأكيد يونج بأن الإنسان يولد مزودا بكثير من الاستعدادات التي يتركها له أسلافه، وهذه الاستعدادات توجه سلوكه، وتحدد جزئيا ما سيصبح شعوريا لديه وما سيستجيب له في عالم خبراته الخاصة، بعبارة أخرى هناك شخصية تتكون ابتداء ذات طابع عنصري وجماعي تتجه نحو عالم الخبرات بصورة اختيارية، كما أنها تتعدل وتتطور بفضل ما تتلقاه من خبرات.
وقد أطلق يونج على هذه الاستعدادات اسم الأنماط
Types
واعتبرها أحد العوامل الرئيسية في تكوين الشخصية.
إذن أكد يونج على استعدادات فطرية يولد الإنسان مزودا بها، تؤثر على تلقيه الخبرات من البيئة، بل وتتطور بتطور الكائن الحي، وهذا تأييد آخر لنظرية بوبر المنهجية، وتعميق سيكولوجي لها، الفارق الوحيد هو تأكيد يونج على أن هذه الأنماط أو الاستعدادات تتأثر بالعنصر الجنسي البشري؛ أنماط السامي غير أنماط الآري ...
هذا لا يعني نظرية بوبر، لكن أيضا لا يضيرها، ولقد عكف يونج على دراسة علم الأساطير والدين والرموز القديمة، والطقوس وعادات الشعوب البدائية؛ مما جعله - بغير جدال - أعظم علماء النفس ثقافة وأعمقهم معرفة، وأشملهم فكرا.
40
لعل السبب الوحيد الذي جعل بوبر لا يلتفت إلى هذا التأييد السيكولوجي لنظريته هو أنه ببساطة يعتقد أن نظرية يونج لا علمية؛ لأنها من تيار التحليل النفسي، والتحليل النفسي ليس علما، كما سيثبت الفصل الرابع من الباب الثالث من هذا البحث. (4) المهم الآن أن هذه التوقعات، أو الاستعدادات، هي أساس حل المشكلة السيكولوجية؛ لأنها تجعل التكرار والتماثل مفروضين على الطبيعة، وليس بسبب أثر العادات الاستقرائية، ولو تعمقنا قليلا لوجدناها أساس حل المشاكل المنطقية أيضا، حيث لم نجد أي انتقال من وقائع مستقرأة إلى فروض؛ لأن فلسفة بوبر المنهجية قائمة على حجر زاوية راسخ، هو أن الفرض سابق على إدراك الوقائع وعلى التجريب، وكانت الاستعدادات الفطرية تأييدا علميا يعمق هذه النظرية اللااستقرائية حتى أبعد الأصول؛ لذلك يقول بوبر: إن حله للمشكلة السيكولوجية أهم وأسبق زمانيا من حله لبقية المشاكل الاستقرائية؛
41
المنطقية والبراجماتية. (5) لم يعد أمامنا الآن، أن استقراء من أي نوع كان، ولا في أية مرحلة من مراحل المعرفة، ولا في أي مجال من مجالات الحياة، وفي سياق الحديث السالف عن منطق العلم، لم يرد أي انتقال من وقائع إلى فرض جديد، لقد تخلص بوبر نهائيا من المعضلة التي أعجزت الفلاسفة منذ هيوم حتى رسل، أثبت هيوم أن الاستقراء لا يصلح أساسا منطقيا للعلم لكن لم يستطع التخلص منه بسبب ما ادعاه من إثبات سيكولوجي له، فظل الاستقراء جاثما على الصدور حاكما على حياتنا المعرفية والعلمية باللاعقلانية، أما بوبر فقد استأصله من أعمق أعماق جذوره، إن كان له جذور أصلا.
ولكن أولم نر الاستقراء صرحا أعظم يتفانى في الإخلاص له العلماء وفلاسفة العلم؟ هل يمكن أن نقول ببساطة: ليس هناك استقراء؟ الواقع أن بوبر فعلا قال هذا، لكن لم يقله ببساطة، بل تحدث حديثا طويلا مدعما بالأدلة العلمية التجريبية والنظريات السيكولوجية والبراهين المنطقية؛ ليثبت أن الاستقراء خرافة، فماذا قال بوبر في هذا الحديث؟
الفصل الرابع
الاستقراء خرافة
بريان ماجي :
إنك - أي بوبر - تنادي بمبدأ مخيف، إذ تقول: ليس هناك شيء اسمه الاستقراء، وإنك لتصور أن الاستقراء لا يصف ما يفعله العلماء في الواقع ولا هو يصف ما يجب أن يفعلوه.
كارل بوبر :
نعم ... وجهة نظري كانت ولا تزال مختلفة.
1
مقدمة (1) عرض الفصل السابق حل بوبر لمشكلة الاستقراء، وما أعقب هذا الحل من إخراج منطق العلم ثابتا بلا مشاكل بعد طول اتهام باللاعقلانية؛ ذلك لأن بوبر دحض افتراض الاستقراء.
فلو أردنا وصف فلسفة بوبر التجريبية بكلمة واحدة، لكانت «فلسفة ضد الاستقراء» أو اللااستقراء، فما من مقالة يكتبها أو محاضرة يلقيها، أيا كانت مناسبتها، وأيا كان موضوعها، إلا ويهاجم فيها الاستقراء، إما من قريب وإما من بعيد، بوبر يصر على هذا الهجوم إصرارا يكاد يصيب المتتبع لكتاباته بالملل، ويشعره أن الأمل العزيز الذي تهفو إليه نفس بوبر هو أن يرى عالما لا يعرف شيئا اسمه الاستقراء. (2) ولما كان الفصل الأول قد أوضح مكانة الاستقراء الشاهقة، استطعنا أن نعذر بوبر على هذا الإصرار والتأكيد، وفعلا إن إنكار بوبر له في أول الأمر، كان غالبا ما يقابل باستحالة التصديق، وهو نفسه قد تشكك كثيرا في أول الأمر في أن يكون «مخلصا وصادقا في إنكار ما لا يستطيع أحد البتة أن يشعر بأدنى شك فيه، ما يؤخذ بمثل هذا الانتشار الواسع واليقين الثابت.»
2
ومهما يكن الأمر فإننا لا نملك إلا الاعتراف بأن بوبر يملك فعلا مبررات هذا الإصرار، ويملك حيثيات الحكم على الاستقراء بجلال شأنه وعظيم سلطانه، بأنه محض خرافة لم نجن منها إلا الخسران المبين ... فما هي هذه الحيثيات؟ (3) بدأت أولاها في الفصل السابق، بتقويض أساس الاستقراء من اطراد وسببية، لكن هذا ليس جديدا تماما؛ فالاستقرائيون يسلمون بهما ليبررا الاستقراء، وهم عارفون أنهما ليس لهما ما يبررهما، أي عارفون أن الاستقراء بغير أساس، فجاء بوبر ليؤكد لهم أنه يقيم على شفا جرف هاو، وليس هذا بالشيء الكثير.
إنما حيثيات حكم بوبر القاطعة، تتبدى في صلب الاستقراء ذاته، أي في أن القانون العلمي تعميم لمجموعة من الملاحظات التجريبية، بوبر في هذا الفصل سيتكفل بدحض هذا الزعم فلسفيا وسيكولوجيا ومنطقيا وتاريخيا ... أي من كل الوجوه، فنتأكد أن الاستقراء محض خرافة. (1) البدء بالملاحظة لا يفضي إلى شيء (1) أولا وقبل كل شيء لا شك إطلاقا في أهمية الملاحظة التجريبية للبحث العلمي، هذا أمر لا يحتمل نقاشا ولا جدلا، وبوبر أول من يؤكد هذا، ولكن الخلاف العميق والعنيف الناشب أظفاره بين بوبر والاستقرائيين هو واحد ووحيد، يتلخص في دور الملاحظة. الاستقراء يقول: إن الملاحظة الحسية هي نقطة البدء التي توصلنا إلى الفرض. أما بوبر فيقول: كلا الفرض قبل الملاحظة وهو الذي يدفع إليها، فلا بد وأن يكون قد نبت في ذهن العالم قبلا فيدفعه إلى عملية الملاحظة التي قد تؤيد الفرض وقد تفنده. الآن سيثبت بوبر استحالة هذا الدور الاستقرائي للملاحظة في التوصيل إلى الفرض، مع ملاحظة أن هذا الدور هو لب الاستقراء وخلاصته وماهيته. (2) فكرة أننا نستطيع البدء بالملاحظة الخالصة فقط، ونعمم نتائجها فنصل إلى النظرية العلمية بغير أن يكون في الذهن أي شيء من صميم طبيعة النظرية؛ هي فكرة مستحيلة، خلف محال، ويمكن توضيح هذا بأقصوصة عن رجل كرس حياته للعلم الطبيعي، فأخذ يسجل كل ما استطاع أن يلاحظه، ثم أوصى بأن تورث هذه المجموعة من الملاحظات التي لا تساوي شيئا إلى الجمعية الملكية للعلوم بإنجلترا، كيما تستعمل كدليل استقرائي،
3
من الواضح أن هذه المجموعة من الملاحظات لا يمكن أن تبرهن على أي شيء أو تفضي إلى أي شيء.
وقد حاول بوبر أن يؤكد هذا أكثر، بأن بدأ إحدى محاضراته في فيينا بأن قال لطلاب الفيزياء: «أمسك بالقلم والورقة، لاحظ بعناية ودقة، سجل ما تلاحظه!» بالطبع تساءل الطلاب عما يريدهم بوبر أن يلاحظوه، فعبارة «لاحظ» فحسب لا تعني شيئا وهي خلف محال.
4
العالم لا يلاحظ فحسب، الملاحظة دائما منتقاة، توجهها مشكلة مختارة من موضوع ما، ومهمة محددة، واهتمام معين، ووجهة من النظر، نريد من الملاحظة أن تختبرها، المشكلة هي ما يبدأ به العالم، وليس الملاحظة الخالصة كما يدعي الاستقرائيون، فماذا عساه أن يلاحظ ويسجل؟ بائع جرائد ينادي وآخر يصيح، وناقوس يدق، أم يلاحظ أن كل هذا يعرقل بحثه، حتى إن لاحظ بدقة ملاحظة علمية فحسب، فمهما كانت مجموعة الوقائع التي سيخرج بها كبيرة، فيستحيل أن تضيف للعلم؛ فالعالم يحتاج مسبقا لنظرية يلاحظ على أساسها.
5
إن العالم يبدأ بالحصيلة المعرفية السابقة التي يجدها في العالم 3، هي التي تحدد له موقف المشكلة وتعينه على فهمها، فيقدح عبقريته العلمية ليتوصل إلى الفرض العلمي الذي يستطيع حلها، وها هنا فقط يلجأ إلى الملاحظة ليختبر فرضه، إننا في حاجة إلى الفرض قبلا لنلاحظ على أساسه، لنفسر في ضوئه الملاحظات ونؤولها، ولنسألها بعد ذلك نعم أم لا، هل نجح الفرض أم لم ينجح؟
6
أما الافتراض الاستقرائي بأن الملاحظة هي الكنز الذي يستخرج منه العالم الدرر الثمينة، فلا معنى له. (3) لكن الاستقراء هو منهج تعميم التكرارات الملاحظة، هنا نقطة ذات أهمية قصوى هي التكرار، ما قاله بوبر الآن ينقصه تقدير دورها العظيم.
الواقع أن كل ما قاله بوبر في الفصل السابق في نقد هيوم هو رد حاسم على هذه النقطة، فقد رأينا بوبر ينفي أي أثر سيكولوجي للتكرار، أثبت استحالة أن يخلق اعتقادا سيكولوجيا في قانون، أو عادة عقلية سيكولوجية؛ أثبت هذا سيكولوجيا، أما بالنسبة لمنطق العلم - أي منهج البحث - فمن النقد المنطقي لهيوم نخرج بأن مفهوم التكرار يفترض مسبقا مفهوم التماثل، حتى نحكم على المتماثلات بأنها تكرارات، ومفهوم التماثل يفترض مسبقا نظرية أو توقعا،
7
يجعلنا نبحث عن متماثلات معينة؛ أي إن النظرية سابقة منطقيا على ملاحظة التكرار، وهي التي تجعله تكرارا، وليست هي التي تكون نتيجة أو تعميما له.
تماما كما فند بوبر الاطراد في الطبيعة، فقال: إن توقعاتنا الفطرية هي التي تبحث عنه فيها، يفند دور ملاحظة التكرارات في الاستقراء، فيقول: إن النظرية هي التي تبحث عنه لا تنبثق منه.
فالحالة الداخلية للكائن الحي هي التي تحدد ردود أفعاله بإزاء البيئة الخارجية، وهذا هو السبب في أننا نجد ردود أفعال مختلفة لنفس المثيرات، أو قد نجد ردود أفعال متماثلة لمثيرات مختلفة،
8
الحالة الداخلية للكائن الحي عليها معول كبير، فقد كتب عالم النفس كاتس
Katz
يقول: «يقسم الحيوان الجائع البيئة إلى أشياء قابلة للأكل، وأشياء غير قابلة للأكل، وحينما يشعر بالخطر لا يرى أمامه إلا أماكن الاختفاء وطرق الهروب.»
9
وبوبر يتخذ من هذا تأييدا له فهو برهان على أن الحاجة، أو النزوع النفسي شيء ما داخل النفس أو العقل يحكم الرؤية إلى الأشياء، فالأشياء تصنف وتصبح متماثلة أو غير متماثلة فقط عن طريق ارتباطها بالحاجات والاهتمامات، هذه القاعدة التي خرج بها كاتس من دراسة الحيوان، يطبقها بوبر على العلماء أيضا. بالنسبة للحيوان فإن وجهة نظره التي تحكم رؤياه مستمدة من حاجته في نفس اللحظة بالنسبة للعالم، فإن وجهة نظره مستمدة من المشكلة المعينة المطروحة للبحث، والنظريات التي يقبلها كخلفية علمية، والافتراض الذي يضعه لحل المشكلة،
10
كل هذا سابق منطقيا وزمانيا على الملاحظة التجريبية، وعلى إدراك المتشابهات والحكم عليها بأنها تكرارات.
بعبارة أخرى، أية ملاحظة يمارسها العالم لا بد وأن تكون ملقحة قبلا بنظرية معينة، بافتراض معين، نبت في ذهنه فألجأه إلى ملاحظات معينة، بل وأية ملاحظة يمارسها أي كائن حي لا بد وأن تكون ملقحة قبلا بتوقع سابق.
ولتوضيح ذلك نفترض معا أننا نستطيع - ونحن بلا شك نستطيع - بناء آلة استقرائية، ونضعها في عالم مبسط، هذه الآلة تتعلم أن تصوغ قوانين التعاقب المعمول بها في عالمها من خلال التكرارات، يبدو الآن أن افتراض الاستقراء سليم، فإذا كانت الآلة قادرة على ممارسة الاستقراء على أساس التكرار، فليس هناك أسباب منطقية تمنعنا من أن نفعل المثل.
كلا، هذا خطأ، الأمر ليس كذلك، فبناة هذه الآلة الاستقرائية لا بد وأن يكونوا قد قرروا مسبقا ما هي مكونات عالمها وما الذي يؤخذ كمتماثلات، وما الذي يعتبر تكرارات، وأي نوع من القوانين يراد من الآلة أن تكتشفها في عالمها، بعبارة أخرى لا بد أن نبني داخل الآلة إطارا للعمل يحدد الملائم والمهم في عالمها؛ أي إن صناع الآلة قد حلوا مشكلة المتماثلات بالنسبة لها، فأصبح لها مبادئ انتقاء أولية مكنتها من ممارسة عملها واكتشاف القوانين.
11
وهذه المبادئ هي التوقعات الفطرية في سلوك الحياة اليومية، وهي الافتراضات الحدسية في ذهن العالم، والتي لا مناص من اعتبارها سابقة على أية ملاحظة، فيصبح لا مناص من إسقاط المنهج الاستقرائي كافتراض خاطئ. (4) إن النزاع الحاد بين بوبر والاستقرائيين يدور حول من الذي أتى أولا: الفرض أم الملاحظة؟ بوبر يقول الفرض، والاستقرائيون يقولون الملاحظة، وبوبر يضع تشبيها طريفا لهذا النزاع بالمشكلة التقليدية: من الذي أتى أولا الدجاجة أم البيضة؟
من الذي أتى أولا: الدجاجة «ج» أو البيضة «ض»؟
من الذي أتى أولا: الملاحظة «ج» أم الفرض «ض»؟
بوبر يجيب على كلا السؤالين ب «ض» بالنسبة للسؤال الأول فإن الإجابة عليه هي: نوع أولي بدائي من البيض «ض»، أما للسؤال الثاني فهي أيضا نوع أولي بدائي من الفرض «ض»، هي التوقعات الفطرية.
أي إن إنكار دور الملاحظة في التوصل إلى الفرض العلمي، لا يقصره بوبر على مراحل العلم البحت المتقدمة فحسب، بل ويسحب بوبر هذا الإنكار على البحث المعرفي في سائر مراحله حتى أشدها بدائية، فضلا عن مراحل العلم الوصفي.
ويخرج بوبر من هذا إلى استئناف هذا الإنكار بعيدا عن نطاق العلم في الحياة اليومية، وفي تعرف الكائن الحي على بيئته، وعلى البيئة الطبيعية من حوله، فليس عن طريق الملاحظة الحسية الخالصة، بل عن طريق المحاولة والخطأ.
ويجمل بنا أن نشير مرة أخرى إلى نقد هيوم المطروح في الفصل السابق، سنجد فيه تفنيدا لأي ادعاء بأن ملاحظة التكرارات لها أي أثر على الحياة السيكولوجية، ونشير إلى حله لمشكلتي الاستقراء السيكولوجية والبراجماتية، فقد انطوى حلهما على استبعاد أي دور للملاحظة الاستقرائية في الحياة السيكولوجية وفي التصرفات العملية، وهذا يعني إثبات ما نعنيه في هذه الفقرة؛ دور الملاحظة الاستقرائي لا وجود له في الحياة اليومية أيضا، وليس في العلم فحسب، هكذا أفكار بوبر دائما متشابكة ومترابطة ، الفصل التصنيفي بينها لا بد وأن يكون تعسفيا.
إن بوبر يتمادى في إنكار دور الملاحظة بالمفهوم الاستقرائي، أي بوصفها أولى الخطوات التي نبدأ بها من لا شيء، لا في العلم، ولا حتى في الحياة اليومية، ولا في سلوك الحيوان، فسلوك أي كائن حي لا يعدو أن يكون محاولة حل مشكلة للتكيف مع البيئة هي «م1
ح ح
أ أ
م2»، تبدأ بمشكلة وبافتراض لحلها ثم نخرج إلى التجريب لبحث هذا الحل، بهذا لا يكذب افتراض الملاحظة الاستقرائية كمقدمة للعمل في البحث العلمي فقط، بل وفي الحياة على كوكب الأرض بأسرها. (2) البرهان المنطقي (1) غير أن هذا الجدل الفلسفي قد لا ينتهي أبدا، فلنحسم الأمر بإثبات منطقي، إثبات استحالة أن تكون النظرية العلمية مشتقة من مجموعة من الملاحظات الحسية، وقد وضع بوبر هذا البرهان المنطقي وهو بصدد إثبات استحالة أن تكون نظرية نيوتن بالذات استقرائية، لكن بالطبع يمكن أن يعمم هذا الدليل على أية نظرية تدعي أنها استقرائية، لا سيما وأن نظرية نيوتن هي قمة العلم الاستقرائي كما يزعم الاستقرائيون. (2) هاك الدليل المنطقي: «ك»: فئة تتكون من أي عدد من عبارات الملاحظة الصادقة، فأية عبارة من الفئة «ك» تصف ملاحظة فعلية، أي حدثت في الماضي، وطالما أن كل العبارات «صادقة»، فهي متسقة
Consistent ، ومتفقة مع بعضها
Compatible . «ب» عبارة ملاحظة، تصف ملاحظة مستقبلة ممكنة منطقيا، مثلا: «سوف يحدد كسوف الشمس غدا.» وطالما أننا قد لاحظنا بالفعل كسوف الشمس، فيمكن أن نجزم على أسس منطقية خالصة بأن هذه العبارة ممكنة، أي متسقة ذاتيا، متسقة مع نفسها طالما أنها ليست مستحيلة منطقيا.
وقد أوضح هيوم أن «ب» يمكن دائما أن ترتبط مع «ك»، بلا أدنى تناقض منطقي، طالما أن «ب» عبارة ممكنة تجريبيا ومتسقة ذاتيا، و«ك» فئة من العبارات الصادقة، ويمكن أن نصوغ هذا الكشف الهيومي على النحو التالي: «ليست هناك عبارة ملاحظة ممكنة منطقيا يمكن أن تتناقض مع فئة من عبارات الملاحظة الماضية.»
12
وبوبر سوف يضيف إلى هذه القاعدة الهيومية نظرية من المنطق البحت: حيثما أمكن للعبارة «ب» أن ترتبط بلا أي تناقض مع فئة العبارات «ك»، فحينئذ يمكن لها أن ترتبط بلا تناقض مع أية فئة من العبارات تتسق وفئة العبارات «ك»، ومع أية عبارة يمكن أن نشتقها من «ك»،
13
أي من الممكن: «ب + أي فئة متسقة مع الفئة «ك» + أي عبارة مشتقة من «ك».»
هذه الصياغة ممكنة منطقيا، تبعا لقواعد المنطق البحت.
والآن إذا كانت نظرية نيوتن - مثلا - يمكن اشتقاقها من «ك»، فلا يمكن أن تتناقض معها أي «ب»، هذا هو حكم المنطق، ولكن في الأمر الواقع نجد أننا قد نشتق منطقيا من النظرية العلمية ومن الملاحظات السابقة التي أسستها عبارة تخبرنا ما إذا كان الغد سيحدث فيه كسوف شمس أم لا، فإذا أخبرتنا هذه العبارة أن الغد لن يحدث فيه كسوف شمس، أي كانت «لا - ب» فقد أصبحت غير متفقة مع النظرية العلمية ومع «ك»؛ لأن «ب» اتفقت معهما، ومنطقيا يستحيل أن تتسق العبارة ونقيضها مع ذات الفئة المنطقية.
إذن يستحيل منطقيا اشتقاق النظرية العلمية من فئة الملاحظات «ك» ...
فأمامنا الآن أشياء ثلاثة: «ب» و«لا - ب».
النظرية العلمية.
فئة الملاحظات «ك».
وربطهما معا استحال منطقيا، وبديهي لا يمكن حذف النظرية العلمية، ولا «ب، ولا ب» لأنهما التنبؤ، أي الهدف الذي نرومه من النظرية، إذن لا يبقى أمامنا إلا حذف «ك»، وهو الحذف ضروري لتجنب اللااتساق، أي نحذف فئة الملاحظات التي ندعي أن النظرية مشتقة منها، أي نحذف افتراض الاستقراء ودور الملاحظة فيه، ونبدأ - كما يرى بوبر - بالفرض. (3) وقد يكون تعبير «خرافة» ليس منطقيا، التعبير المنطقي السليم هو أن الاستقراء مبدأ زائد
Superfluous
غير ضروري ينبغي حذفه؛ لأنه يفضي إلى عدم الاتساق المنطقي، وكما ثبت في الفصل الأول، لو حاولنا إقامته بادعاء أننا نشتقه من الخبرة، لكن ذلك يعني أننا توصلنا إلى «الاستقراء» استقرائيا، ولا بد من اللجوء إلى استدلالات استقرائية نبرر بها هذا الاستدلال الأخير، ولكي نبرر هذا الاستدلال الأخير، يجب افتراض مبدأ استقرائي أعلى في درجة نظامه،
14
وهكذا يسير الاستقراء في دوران منطقي، يجعله منغلقا على نفسه أو يدور حولها بغير نهاية، فالبحث عن مبدأ للاستقراء إما أن يقود إلى هذا الارتداد الذي لا نهاية له وإما يقود إلى الأولية كما أوضحنا. (4) وفي نطاق البرهان المنطقي على استحالة الاستقراء، نورد ببساطة: قابلية العلم - ولا جدال - للخطأ، فالمنهج الاستقرائي معيار يميز المعرفة العلمية؛ لأنه يجعلها معرفة آمنة، وهي يقينية لأنها نتيجة للملاحظة والتكرار، اللذين يقودان إلى صياغة الفروض، التي تصبح - حينما تختبر جيدا - نظرية علمية مبرهنة أو مؤسسة؛
15
لذلك فالخطأ وهو أكبر دليل على استحالة الاستقراء،
16
فإذا كانت المعرفة مجرد تعميمات لوقائع مستقرأة، فمن أين يأتي الخطأ؟ وبالطبع كما وضح آنفا الاحتمالية لن تنقذ الاستقراء.
17 ⋆ (5) إن الاستحالة المنطقية تحيط بالاستقراء من كل صوب وحدب، فكيف بالله نجعله أساسا لأعظم أنماط المعرفة؟ (3) أدلة شواهد (1) لقد انتهينا الآن من التفنيد النظري للادعاء بأن الاستقراء - أي الملاحظة الخالصة - طريق النظرية العلمية، تعالوا بنا الآن ننزل إلى الوقع التاريخي نستشهده على هذا الزعم فنمر مع بوبر مرورا عابرا سريعا على بعض من أهم المعالم البارزة في تاريخ العلم، هل هي حقا نتائج الاستقراء. (2) لنبدأ بمثال منذ فجر المعرفة، هذا الفجر - في عرف بوبر - يعني العلم الإغريقي، بوبر شديد الافتتان بالحضارة الغربية، يراها نقطة البدء ونقطة الانتهاء، وكأن الكرة الأرضية ليس فيها غير العالم الغربي.
المهم أن الإغريق كانوا معجزة جاءت على غير مثال، والعامل الذي فجر ازدهار الحضارة اليونانية هو اكتشافهم للتعويذة السحرية لتقدم المعرفة أو للتقدم بصفة عامة، إنها: النقد وتقبله.
لقد أفضت بحوثهم في الطبيعة إلى نتائج أكثر من رائعة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار ظروفهم المعرفية العسيرة، وكانت كثير من نظرياتهم ملهمة لنظريات العلم الحديث، وبعض من هذه النظريات اكتشفنا اليوم أنها صائبة، غير أن أفضل هذه النظريات وأصوبها لم يكن له علاقة بأسس الملاحظة.
فلقد ذهب طاليس
Thalés (625-545ق.م) إلى أن الأرض معلقة على الماء كالسفينة، على هذا تكون اهتزازات الماء هي سبب الحركات الأرضية، وكان افتراضه الحدسي الكبير بأن الأرض تطفو قريبا من الصواب، وهو الملهم للنظرية العلمية الحديثة نظرية الجرف القاري
18
ولم يكن هذا مؤسسا على الملاحظة.
وإذا استمر الادعاء بأن طاليس لاحظ المياه وحركة السفينة عليها، والاهتزاز قبل أن يضع نظريته، فماذا يمكننا أن نقول بشأن تلميذه الأعظم أنكسمندر
Anixmander (611-546ق.م) الذي قال: إن الأرض ليست مقامة على الماء ولا على أي شيء، وإن ثباتها يعود إلى بعدها المتساوي عن جميع الأشياء الأخرى،
19
وبالقطع لم يصل أنكسمندر إلى نظريته الرائعة عن طريق الملاحظة، بل عن طريق نقد نظرية طاليس أستاذه، وقد أخرج بوبر من نظرية أنكسمندر النقد الآتي لأستاذه طاليس:
افتراض الطفو فوق الماء كسبب لثبات الأرض يقود إلى ارتداد لا نهاية له؛ لأننا يجب أن نضع افتراضا مماثلا يشرح سبب ثبات المحيط المائي؛ أي البحث عن دعامة للمحيط، ودعامة للدعامة وهكذا ... لذلك محاولة طاليس غير مقنعة؛ لأنها تحل المشكلة بخلق مشكلة مماثلة، وثانيا لأنه لو فشلت أية دعامة من هذه الدعامات المتتالية، فسوف ينهار الصرح بأكمله.
أي إن نسقا من الدعامات لن يفسر ثبات الأرض؛ لذلك التجأ أنكسمندر إلى تماثل داخلي بنائي للعالم، حيث لا نجد اتجاها معينا لحدوث الانهيار، فهو يطبق المبدأ الآتي؛ حيث لا يوجد اختلاف لا يوجد تغير، وطالما أن أبعاد الأرض متساوية فلن يحدث تغير في وضعها والنتيجة الثبات، لم تكن نظرية أنكسمندر متعارضة مع الملاحظة فحسب، بل وإنها يصعب تصورها، وأنكسمندر نفسه لم يتصورها بصورة كاملة، فنظريته في تساوي الأبعاد كان من شأنها أن تقوده إلى أن الأرض لها شكل الكرة، لكنه اعتقد أن لها شكل البرميل ذي المسطحين الأعلى والأسفل المستويين، وإننا نعيش على أحد هذين السطحين.
والسؤال الآن: ما الذي منع أنكسمندر من الوصول إلى كروية الأرض، بدلا من شكل البرميل؟ يعتقد بوبر أن السبب هو الملاحظة الحسية الاستقرائية؛ فهي علمته أن سطح الأرض مستو، وهذا يؤكد صميم دعوى بوبر: الحجج النقدية والمناقشة العقلانية الاختبارية لنظرية طاليس هي التي كانت على وشك أن تقوده إلى الافتراض الحدسي السليم عن شكل الأرض، لولا أن الملاحظة الحسية قد عاقته،
20
بوصفها نقطة بدء لا بد أن تكون.
وقد يبرز اعتراض بأن هذا المثال ليس حجة ضد الاستقراء، ولكنه خروج عن الموضوع، «فنظريات المدرسة الأيونية تأملية وليست استقرائية؛ ولذلك نسميها فلسفة يونانية قديمة وليس علما يونانيا قديما.»
كلا، هذا خطأ ودوران منطقي ورجوع إلى الاستقراء، فليس أصل النظرية استقراء كان أم استنباطا هو الذي يعني، الذي يعني هو النظرية ذاتها وقيمتها العلمية، مدى اقترابها من الصدق وقوتها الشارحة، قدرتها على حل مشاكل وإثارة مشاكل أكثر ... هذه النظرية مثل كثير من نظريات الفلسفة اليونانية القبل سقراطية، بها من الخير الشيء الكثير، فقد فندت - أي نظرية أنكسمندر - فكرة الاتجاهات المطلقة إلى الأمام وإلى الخلف ليست تعبيرات عامة بل نسبية، لم تدرك قيمة هذا الكشف العظيم إلا مع آينشتين، وقد أوضحت الطريق أمام نظريات أرسطارخوس وكوبرنيقوس وكبلر وجاليلية، وفكرته في أن الأرض تقف حرة في الفضاء، وثباتها يرجع إلى تساوي أبعادها، كانت عاملا ألهم نيوتن بنظرية قوى الجاذبية غير المرئية، حقا أن نظرية أنكسمندر خاطئة، لكنها مثلها مثل عديد من النظريات ظنت أنها مؤسسة على عدد لا يحصى من الملاحظات الاستقرائية، ثم إن بوبر يعارض باتجاه بعض مؤرخي العلم الذي يحكمون على كل نظرية ثبت خطؤها بأنها أصبحت لا علمية،
21
بوبر يقول: كلا يجب أن نحفظ لكل نظرية بمكانها من التاريخ، تاريخ العلم، فطالما أنها ساعدت يوما على التقدم فلها فضل على علمنا اليوم وبعض النظريات الخاطئة، بما أثارته من مشاكل، دفعت إلى التقدم أكثر مما دفعت إليه نظريات أخرى أقرب منها إلى الصدق، كل هذا بالإضافة إلى أن أية نظرية مهما كانت، مصيرها المحتوم هو التكذيب يوما ما.
يمكننا أن نجد أدلة كثيرة من هذه الفلسفة الخصيبة، كنظرية التغير التي فتحتها المدرسة الأيونية بأنكسمندر طبعا، وبلغت ذروتها في معالجة هيراقليطس لها، وكنظرية ديمقريطس في الذرة ... ولكن حسبنا هذا المثال الناصع من الفكر القديم، الذي أوضح أن التفكير النقدي هو سر تقدم النظريات، وأن الملاحظة الاستقرائية، وإن كانت تفضي إلى شيء فهو العرقلة والتشويش والإرباك، وليس النظرية العلمية، لننتقل إلى مثال آخر من الفكر الأكثر تقدما، والذي قد يرضي الجميع على أن الحديث عنه منتم للعلم. (3) مثال آخر: توصل كوبرنيقوس
Copernicus (1473-1543م) إلى فرضه بمركزية الشمس، لم يكن نتيجة لملاحظات استقرائية جديدة قام بها.
فقد ولد كوبرنيقوس في ثورن ببروسيا، وتلقى دروسه على يد معلم أفلاطوني يشك في الفلك القديم،
22
وفرضه الهليوسنتري كان تأويلا جديدا لحقائق قديمة معروفة جيدا على ضوء الأفكار الأفلاطونية - المحدثة، الشبه - دينية، ويمكننا تتبع فكرة كوبرنيقوس هذه إلى الكتاب السادس في جمهورية أفلاطون، حيث نجد أن الشمس تلعب في مجال رؤية الأشياء نفس الدور الذي تلعبه فكرة الخير في مجال الأفكار، وفكرة الحق في أعلى الترتيب الهيرارشي للأشياء المرئية.
23
وكان لهذه الفكرة أهمية بارزة من ضمن أفكار كثيرة أقيمت عليها الأفلاطونية المحدثة، ولا سيما الأفلاطونية المحدثة المسيحية.
فإذا كان للشمس فخر المكان، وكانت مميزة بمنزلها القدسية في هيرارشية الأشياء المرئية فحينئذ يصعب اعتبارها تدور حول الأرض، والمكان الوحيد الملائم لهذا النجم العظيم، هو مركز الكون، وعلى هذا تصبح الأرض قريبة من الدوران حول الشمس.
24
هكذا أخذ كوبرنيقوس فرضه من الخلفية العلمية السابقة عليه، من الأفكار الميثولوجية، ولما كان هو عالما أصيلا، فقد عمل بجد ومثابرة على اختبار فرضه في ضوء الملاحظات، لكن الفرض العلمي أتى أولا كما هو ثابت من سيرته، وليس بعد الملاحظة الاستقرائية. (4) أما يوهان كبلر
Kepler (1571-1630م)، فهو كوبرنيقي وكان - كأفلاطون - متأثرا بعمق بفكرة الأعداد المقدسة الفيثاغورية، وقد كرس حياته لاكتشاف معين كان يأمل فيه، هو اكتشاف القوانين الرياضية، التي تحكم النظام الفلكي، ومدارات النظام الشمسي الكوبرنيقوسي لا سيما القوانين التي تحكم الأبعاد النسبية عن الشمس، رائع هو اقتناعه بأن الفلك محكوم بقوانين يمكن التعبير عنها رياضيا، إن كان لم يتوصل أبدا إلى كشفه المأمول هذا.
كان كبلر تلميذ العالم العظيم تيكو براهة (+1601) ومساعدا له، وقد ترك تيكو لتلميذه مجموعة من الملاحظات الاستقرائية لم يكن قد نشرها، إلا أن كبلر لم يجد فيها تعضيدا لاعتقاده في الكشف المأمول، بل العكس وجد في هذه الملاحظات تفنيدا لافتراضه الدائري، فتركه وحاول - بلا جدوى - الحصول على حلول أخرى مختلفة، وفجأة توصل إلى أعظم كشوفه، وهي الفرض الإهليجي أو البيضاوي، ثم وجد أن ملاحظات تيكو براهة يمكن أن تتفق مع هذا الفرض الجديد فقط مع الافتراض المسبق - غير المرحب به - بأن سرعة المريخ في الدوران ليست واحدة.
إذن الملاحظات في حد ذاتها لا تفضي إلى شيء، فلدى كبلر مجموعة ملاحظات تركها له أستاذه، ولكن لديه ذهن العالم، يضع الفروض، على ضوء هذه الفروض يحاول تفسير الملاحظات فأخفق في محاولة ونجح في أخرى، بل وإن عدم دقة هذه الملاحظات كانت عاملا في عرقلة فكرة عظيمة اعتقد فيها.
25
غير أن كبلر كان لا يزال متعلقا بالتنجيم - رغم أنه يتمتع بذهن نقدي - وهذا ما جعل جاليليو لا ينظر إلى أبحاثه بعين الاعتبار، وقد ألهمه التنجيم باعتقاد قوي في علة أو قوة تنبثق كأشعة الضوء عن الشمس، فتسبب حركة الكواكب بما فيها الأرض، وتفسر مد البحار كنتيجة لتأثير القمر، ولكن كان هناك خط فاصل بين التنجيم والفلك، وكانت فروض كبلر الرائعة هذه مشتقة من - أو تمثل فكرة أساسية في التنجيم - معارضة لعقلانية أرسطو، فرفضها الفريق الفلكي العقلاني كجاليليو وديكارت وبويل، وتقبلوا تفسير جاليليو للمد على أنه نتيجة لحركة الأرض نفسها وهذا الفصل بين الفلك والتنجيم هو الذي جعل نيوتن يرفض فكرته هو نفسه في الجذب
Attraction
وإن كانت أصلا نظرية روبرت هوك، وهذا أيضا هو السبب في أن الديكارتيين الفرنسيين قد ظلوا أمدا طويلا غير متقبلين لنظرية نيوتن في الجاذبية
Gravity .
26
لكن أولم يثبت الآن أن الأفكار التي ألهمها التنجيم لكبلر بجاذبية الشمس وتأثير القمر هي الأصوب وهي التي استطاعت أن تصبح عقلانية تماما، وإن تناسينا أصلها الأسطوري، وفي هذا درس عميق لمن يرفض رأي بوبر في أننا لا يجب أن نبالي، إن قليلا وإن كثيرا، بأصل النظرية ومن أين أتت، فضلا عن أن نصر على أن أصلها هو الاستقراء.
وقد كانت هذه النظريات بعضا من المقدمات التي أفضت إلى نظرية نيوتن. (5) أما إذا وصلنا إلى نيوتن، فقد وصلنا إلى واحد من أعظم إنجازات العقل البشري على وجه الإطلاق، وإلى ما يؤخذ على أنه قمة العلم الاستقرائي، فهي نظرية ما إن قبلت حتى وجدنا كل شيء في العالم الملحوظ يتفق معها، وقد توثقت قوانينها على مدى قرنين من الزمان، ليس فقط بالملاحظة، ولكن بالتطبيق الخلاق، وأصبحت أساس العلم والتكنولوجيا الغربية، وأخرجت تنبؤات معجزة الدقة، وإذا كان لأي شيء أن يكون معرفة؛ لكان هذا الشيء هو نظرية نيوتن، بل هي أثبت وأسلم معرفة حصل عليها الإنسان عن بيئته الطبيعية،
27
لقد جعلتنا نظرية نيوتن بإزاء نسق كلي صحيح حول العالم، يصف قوانين الحركة الكونية بأبسط وأوضح طريقة ممكنة وبدقة متناهية،
28
مبادئها بسيطة ودقيقة كالهندسة نفسها؛ لذلك كانت كإنجاز إقليدس العظيم أنموذجا لكل العلوم، أنموذجا لا يفوقه فائق،
29
لقد قدم نيوتن نوعا من الهندسة الكوزمولوجية تتكون من نظرية إقليدس مزودة بنظرية عن حركة نقاط الكتلة
mass-point ، تحت تأثير القوى، وهي نظرية يمكن التعبير عنها هندسيا، وقد أضافت إلى هندسة إقليدس مفهومين أساسيين جديدين بخلاف مفهوم الزمان، هما مفهوم الكتلة المادية ومفهوم القوى المباشرة، إنها علم أصيل عن الطبيعة جعلنا ولأول مرة نعلم أشياء حول الكون الذي نحيا فيه، ومكنتنا من أن نضع أكثر التنبؤات تفصيلا ولأنواع جديدة من المؤثرات كالانحرافات عن قوانين كبلر، وكانت هذه التنبؤات تقف في وجه أقسى الاختبارات، ثم كان أعظم نجاح للنظرية هو اكتشاف كوكب نبتون بالملاحظة، بعد أن تنبأت به النظرية،
30
لقد أصبح لدينا مبررات معقولة للقطع بأننا اكتسبنا نظرية صادقة.
وبصرف النظر عن العلو الشاهق للنظرية، فإن النقطة الحاسمة بالنسبة لنا الآن هي أن نيوتن نفسه أقر أنه اشتق نظريته العظيمة من الخبرة وبواسطة الاستقراء؛
31 ⋆
لذلك كانت من أعظم الشواهد التي أقامت الاستقراء، لكن بوبر سيوضح هنا أن الاستقراء لم يكن هو الذي أقامها:
ففضلا عن أننا أوضحنا بالأساليب المنطقية البحتة أن مثل هذه النظرية لا تقبل الاشتقاق من عبارات الملاحظة (وقد أفردنا لهذا الجزء 3)، وأيضا فضلا عن الفقرتين السالفتين 3، 4 واللتين أوضحتا أن المقدمات التاريخية للنظرية لم تكن استقرائية، فضلا عن هذا وذاك، سيثبت بوبر الآن إثباتا فلسفيا أن النظرية ليست مشتقة من الملاحظة.
خصائص نظرية نيوتن مختلفة كلية عن خصائص عبارات الملاحظة كالآتي:
عبارات الملاحظة
نظرية نيوتن • لا يمكن أن تكون دقيقة، هي
Inexact . • في منتهى الدقة، كيف تشتق الدقة المتناهية مما هو أقل دقة. • تكون تحت ظروف معينة، وأي موقف ملاحظ لا بد بداهة أن يكون محددا جدا. • المفروض أنها عامة، وتطبق في كل الظروف الممكنة مثلا قانون الجاذبية، ليست فقط على الأرض، بل وفي المريخ وفي كل كواكب المجموعة الشمسية، بل وفي الأماكن التي لم تلاحظ حتى اليوم. • الملاحظة عينية وخاصة. • النظرية مجردة وكلية.
إننا لم نلحظ أبدا الكتلة، وإنما نرى الكواكب أجساما ممتدة، ولا يمكن إطلاقا أن نلاحظ القوى النيوتونية كقوى الجاذبية التي نعرفها جيدا، ونتمكن من قياسها بواسطة عجلات السرعة، وقد نتمكن من قياسها يوما بواسطة الميزان ذي الزنبرك ... إلا أننا دائما - وفي جميع المقاييس بلا استثناء - نفترض مسبقا صدق قوانين الحركة النيوتونية،
32 ⋆
وبدون هذا الافتراض الديناميكي المسبق، فإنه ببساطة يستحيل قياس القوى، غير أن القوى ومتغيراتها من أهم ما تعالجه النظرية، على هذا ينبغي أن نعترف على الأقل بأن بعضا من الأشياء التي تعالجها النظرية، هي موضوعات مجردة وغير قابلة للملاحظة، فكيف إذن ندعي أنها مشتقة أصلا من الملاحظة.
وهذه النتيجة لا يمكن تجنبها بأية حال، حتى إذا تمكنا من إعادة صياغة النظرية، صياغة تتجنب تماما أية إشارة إلى القوى، وحتى إذا استبعدناها كمجرد أوهام، أو محض بناءات منطقية نظرية بحتة، تخدمنا فقط كأدوات، لماذا؟ لأن مثل هذه المجالات ستجعل النظرية أشد تجريدا وأكثر بعدا عن الأسس التجريبية الملاحظة استقرائيا، طالما أننا لا نستطيع أن نلاحظ إلا أشياء عينية، نظرية نيوتن في القوى بأية صورة مجردة وعامة.
33
بعد هذا هل يمكن أن نعتبر نظرية نيوتن مشتقة من عدة ملاحظات؟ (6) حتى إذا وصلنا إلى قمة العلم في يومنا هذا، أي الفيزياء البحتة، ألفينا القطيعة تكاد تكون نهائية بينها وبين المقدمات الملاحظة استقرائيا، بل وإنها قد تجافي الملاحظة، فنظريتا الكم والنسبية هما الأساس الفكري لها،
34
أما عن نظرية الكم أو ميكانيكا الكوانتم، فإنها تتعامل مع كائنات غير قابلة للملاحظة الحسية أصلا، جسيمات الذرة لا تلمس ولا ترى ولا تسمع على وجه الإطلاق، فأصبح علمها استنباطيا إلى حد كبير.
أما نظرية النسبية
35
فهي مفرطة التجريد، وهي تأملية إلى حد بعيد، شديدة البعد عما يمكن أن نسميه بالأسس الملاحظة، كل المحاولات التي بذلت لإثبات أن لها أسسا مباشرة في الملاحظة إلى حد كبير أو حد قليل لم تكن مقنعة،
36
والفضل العظيم للنسبية هي أنها حررتنا من اعتقاد دوجماطيقي سيطر على العقول هو أن نظرية نيوتن مطلقة الصدق لا يتطرق إليها شك أو نقد، وقد استمر هذا الاعتقاد قرنين من الزمان، حتى إن هنري بوانكاريه مثلا، وهو أعظم رياضي فيزيائي وأعظم فيلسوف في جيله، وقد توفي قبل الحرب العالمية الأولى بقليل، اعتقد أن نظرية نيوتن صادقة وغير قابلة للتفنيد، وتقريبا كان هذا اعتقاد جميع من لم يشهدوا النسبية، وقد جر هذا الاعتقاد الدوجماطيقي بنظرية نيوتن اعتقادا دوجماطيقيا آخر في الاستقراء على أنه منهج العلم إلى أن جاء آينشتين ونسبيته، حتى أولئك الذين رفضوا نظريته في الجاذبية يجب عليهم الاعتراف بأنها حدث ذو مغزى عظيم، بدأ عصر جديد لا مناص فيه من الاعتراف بأن الاستقراء ليس هو منهج العلم؛ فقد أقامت نظرية آينشتين دعوى تقول: إن نظرية نيوتن بصرف النظر عن كونها خطأ أم صوابا هي بالقطع ليست النسق الوحيد الممكن للميكانيكا، الذي يستطيع شرح الظواهر بطريقة مبسطة ومقنعة.
37
إن نظريتي نيوتن وآينشتين مختلفتان، تسير كل منهما في طريق مغاير، وبأسس منطقية متناقضة، «نظرية آينشتين للجاذبية تختلف عن قانون الجذب العام لنيوتن، فبديهي أن أحد هذين القانونين غير صحيح مهما كان الخطأ طفيفا.»
38
ولكن براهين الملاحظة التي تدعي أنها تؤيد نظرية نيوتن، يمكن أيضا أن نستخدمها في تأييد نظرية آينشتين، وهذا بالطبع يحسم القول في أننا ببساطة نخطئ حين نظن أن نظرية نيوتن مؤسسة على براهين الملاحظة، فأين هو البرهان الاستقرائي، هل نأخذ بنظرية نيوتن أم بنظرية آينشتين، وليست هناك أية نظرية علمية على وجه الإطلاق، يمكن أن تدعي أنها مبرهنة استقرائيا، ويوجد اتفاق بينهما وبين أدلتها الاستقرائية الملاحظة أكثر من نظرية نيوتن، فإن كان الاستقراء لا يمكنه أن يؤسسها في مواجهة مغايرتها ومنافستها النسبية، فلن يمكنه هذا لأية نظرية أخرى على وجه الإطلاق.
39
الفضل العظيم لآينشتين علينا - كباحثين في فلسفة العلم وليس في العلم - هو أنه حررنا من الاعتقاد الدوجماطيقي بنظرية نيوتن، فوضعنا بذلك آخر مسمار في نعش الاستقراء. (7) وبعد كل هذا، فلنترك الشواهد التاريخية التي تتفاوت نصيبا من الصدق والكذب، تقدما أو تخلفا، ولنأت إلى أدلة شواهد ذات عمومية وموضوعية، وهي نماذج لأكثر القوانين العلمية ثبوتا ويقينا، وما اكتسبت هذا الثبوت وهذا اليقين، إلا من تواتر الأدلة الاستقرائية بعدد لا يحصى من بلايين الحالات، هذه النماذج هي: (أ)
الشمس تشرق مرة كل 24 ساعة. (ب)
كل الناس فانون. (ج)
الخبز يطعمنا.
40
هذه النماذج هي الأسلحة التي شهرها الاستقرائيون في وجه بوبر، كأمثلة لتأكيدات قاطعة يستطيع أن يأتينا بها الاستقراء، هي هي حقا هكذا كما ادعى ستراوسون مثلا. (أ)
القانون الأول تم تفنيده، بعد أن اكتشف بايثيز أوف مرسيليا
البحر المتجمد والشمس التي تشرق في منتصف الليل،
41
وكان رسوخ هذا الاعتقاد استقرائيا هو السبب في أن الناس ظلوا قرونا عديدة يعتقدون أن بايثيز يكذب.
42 (ب)
أما القانون الثاني، فهو مثال الإغريق الدارج للقوانين الكلية اليقينية ، لكن بوبر يرى أن الترجمة سيئة؛ لأن اللفظة اليونانية (ثنيتوس
thnetos ) لا تكون ترجمتها «فان»
mortal
بل ترجمتها الدقيقة هي «صائر إلى الموت
bound to die ، أو قابل أن يموت.»
وهذا المثال مأخوذ أصلا من رأي أرسطو أن كل الكائنات الحية صائرة إلى الفناء
bound to decay
لا بد وأن تموت بعد فترة معينة،
43
ثم جاءت أعداد لا تحصى من مليارات الأمثلة الاستقرائية التي تؤكد هذه النظرية، فأصبحت في منزلة علمية لا تضاهى.
ولكن يمكن تفنيدها باكتشاف حديث هو أن البكتريا لا تموت طالما أن التكاثر
multiplication
بواسطة الانقسام الذاتي ليس موتا، وتأكد هذا التفنيد أكثر بأن المادة الحية بصفة عامة ليست صائرة إلى الفناء، على الرغم من أن جميع أشكال الحياة يمكن أن تقتل بوسيلة فعالة فعالية كافية.
44
ويمكن أن نضع تفنيدا ثالثا لهذا المثال بتجربة أجراها علماء بيولوجيون تمكنوا فيها من الاحتفاظ بقلب دجاجة يخفق لأكثر من خمسين عاما بصورة متواصلة،
45
ومعروف جيدا أن عمر الدجاجة في حدود عامين، ولا يزيد عن أربعة عشر عاما. (ج)
أما القانون الثالث «الخبز يطعم» فهو المثال المفضل والشائع في كتابات هيوم! ولكن فنده أو على الأقل أخرجه عن يقينه القاطع، الخبز الذي أصيب وهو في الحقل بالمرض النباتي
Ergotism ، وأحدث كارثة بإحدى قرى فرنسا في عهد قريب، وبالطبع فإن هذا يعني أن القانون القائل: إن الخبز المصنوع من قمح بذر في الحقل، ثم حصد تبعا لأساليب الزراعة المعروفة والمسلم بها، يطعم الناس ولا يسممهم، لكن أحيانا يسممهم.
46 (8) بوبر يسحب البساط من تحت الاستقرائيين، فيثبت أن أمثلتهم بعدما تمتعت به من رسوخ استقرائي لم تعد الآن يقينية مطلقة الصدق.
إذن الاستقراء لا يؤكد النظرية، وهو - كما سلف - لا يفضي إليها، بعد كل هذا يصبح مضيعة للوقت أن يجادل بوبر الاستقرائيين أكثر من هذا. (4) بيكون لم يأت بجديد (1) بل وإن إثبات بوبر لخرافية الاستقراء، يمتد إلى أبعد من المنهج ذاته واسمه المنطقية ليصل إلى ما يسلم به الاستقرائيون، ويسلم به بوبر نفسه، على أنه الأصول التاريخية للاستقراء، فيثبت أنها لا هي أصول ولا هي استقراء.
فالمعتمد في تاريخ مناهج البحث، أن الفضل المباشر في قيام الاستقراء يعود إلى بيكون، الذي يتبوأ مكانة عظمى في عالم الفكر العلمي والتجريبي، رغم تهافت فلسفته وتهلهل علمه؛ لأنه أخرج المارد الاستقرائي من قمقمه، هذا يكاد يكون مسلما به وبوبر نفسه يحلو له أن يطلق على الاستقراء اسم «خرافة بيكون».
لكن لأن الاستقراء خرافة، سيثبت بوبر الآن أن بيكون لم يأت بجديد، وأن كل ما قاله ليس إلا تكرارا لما قاله أستاذنا العظيم سقراط منذ فجر التفلسف، بعبارة أخرى: الفكرة المطروحة في هذا الجزء من الفصل، هي أن الاستقراء البيكوني مجرد صورة أخرى من صور التوليد السقراطي فلكلا المنهجين نفس الهدف ونفس مسار الإجراءات.
ولا غرو فتأريخ الفلسفة - نقيضا لأي تأريخ آخر - هو علم ذو حيوية لا تضاهى في كل محاولة لتأريخ نظرية فلسفية، حتى وإن كانت المحاولة رقم ألف، ما زالت هناك الإمكانية لبعث حياة جديدة وتفجير طاقات وإمكانيات ما كانت لتخطر على بال، وما يصدق هذا مثلما يصدق على بوبر وقدرته على تأريخ النظريات، لا سيما تلك التي مل التاريخ من كثرة تأريخها، كالمثل الأفلاطونية والروح الهيجلية فيخرجها في ثوب جديد، فتبدو وكأننا نتعرف عليها لأول مرة. (2) وبادئ ذي بدء، لا بد أن نضع في الاعتبار أن المفهوم القديم للاستقراء الذي نتحرك في نطاقه في هذا الجزء هو: المنهج الذي يرشدنا إلى النقطة التي نستطيع أن ندرك أو نحدس عندها ماهية الشيء وطبيعته الحقيقية،
47
أي يختلف كثيرا عن المفهوم الحديث الذي يعني الاستدلال على القوانين الكلية من ملاحظة الحالات الجزئية.
كان هذا المفهوم القديم هو الذي في ذهن بيكون وأيضا في ذهن أرسطو، حين ذكر في كتابه الميتافيزيقا أن سقراط مخترع الاستقراء، منوها بذلك إلى منهجه في التوليد،
48
هذا هو الإقرار الصريح لدعوى بوبر. (3) وهي واضحة، فمن تعريف مفهوم الاستقراء، نجد هدف بيكون منه هو الإدراك الحدسي لماهيات الأشياء، وهذا عينه هدف سقراط من منهج التوليد
maieutic
كما قال في محاورة ثياتيتوس، إن هدف منهجه هو أن يساعدنا على - أو يقودنا إلى - التذكر
an amnesis
وهو قوة رؤية الشيء أو طبيعته الحقيقية، أي إن الهدف هو أيضا الإدراك الحدسي لماهيات الأشياء،
49
إذن هدف بيكون ينأى بمنهجه بعيدا بعيدا عن هدف المنهج العلمي الحديث، بل وحتى هدف المنهج الاستقرائي، ويلقى به في قلب الرحاب السقراطية.
وإن التماثل بين المنهجين أكثر من الهدف، فهو أيضا في مسار الإجراءات؛ ففن التوليد السقراطي يتكون أساسا من مرحلتين؛ مرحلة التهكم ومرحلة التوليد، مرحلة التهكم هي مرحلة طرح الأسئلة التي وضعت كي تحطم الانحيازات والاعتقادات الخاطئة، التي غالبا ما تكون إما تقاليد عتيقة، وإما «موضة» مستحدثة شائعة، سقراط لم يكن يدعي أنه يعرف، فقط كان يثير الأسئلة، ولكن لم يكن يجيب عنها - كما هو معروف - إنه يطهر الروح من اعتقاداتها الخاطئة التي تبدو وكأنها معرفة، وكان يحقق هذا بأن يعلمنا كيف نشك في الأفكار التي نقتنع بها.
50
وقد كان نفس هذا الإجراء جزءا أساسيا من منهج بيكون
51 ⋆
هو الجانب السلبي، متمثلا في توضيح بيكون للأوهام الأربعة، وكيف نتخلص منها، كي تكون قراءتنا للطبيعة - أي الجانب الإيجابي - خالصة، مطبقين بهذا ما أسماه بيكون بالمنهج الصادق، والذي ميزه عن المنهج الكاذب.
أراد بيكون بالمنهج الصادق: أن نقرأ الطبيعة كما هي أمامنا، وإن كان قد استعمل اللفظ اللاتيني
interpretati
الذي يقابل لفظ
interpret
الإنجليزي، والذي يعني يؤول ويفسر، فهو إذن يضفي نكهة ذاتية ووجهة النظر الشخصية على الموضوع، غير أن بوبر في شروح مسهبة يوضح كيف تغير معنى هذه الكلمة على مر العصور، أيام بيكون كانت مختلفة، فإن استعملت هذه اللفظة الآن في وصف عمل القاضي مثلا؛ لكان معناها أن عليه تأويل القانون وتفسيره، وتكييفه مع القضية، أما أيام بيكون فكان معناها أن القاضي عليه أن يقرأ القانون كما هو، وأن يشرحه ويطبقه بالطريقة الواحدة التي هي طريقته الصحيحة،
52
أي إن بيكون أرادنا أن نقرأ الطبيعة كما هي بلا أدنى إضافة، والخطأ الكبير إذا تصورنا في منهجه أي مكان للفرض فقد حذر من الفروض، وكان يسميها استباق الطبيعة
anticipation of Nature .
على ضوء كل هذا يتضح رأي بوبر: الاستقراء البيكوني هو نفسه التوليد السقراطي، فكلاهما يعني إعداد العقل عن طريق تطهيره من الانحيازات؛ ليتمكن من التعرف على الحقيقة البينة ومن قراءة كتابة الطبيعة،
53
لقد اتحد المنهجان في مسار الإجراءات وفي الهدف، وماذا عسى أن يكون المنهج سوى مسار وهدف. (4) بل إن بوبر يتمادى في هدم المعبد فوق رأس بيكون أكثر من ذلك؛ فلقد درجنا في تأريخ الفلسفة على وضع منهج بيكون التجريبي الاستقرائي، كمقابل تماما لمنهج ديكارت؛ المثالي العقلاني، أما بوبر فيرى أن الشك الديكارتي هو في جوهره صورة أخرى من منهج بيكون.
54
ويمكن وضع التماثل بين المناهج الثلاثة الساعية إلى اليقين، في إيجاز كالآتي:
منهج سقراط = منهج بيكون = منهج ديكارت.
مرحلة التهكم = الجانب السلبي = البدء بالشك.
مرحلة التوليد = الجانب الإيجابي = الوصول إلى اليقين.
فأين هو الكشف الخطير لبيكون، والذي أقام له العلماء فلاسفة العلم هذا المحراب الجليل، لم يتجاوز بيكون قيد أنملة الخطأ الكبير؛ مطلب اليقين على اعتبار أن الحقيقة بينة،
55 ⋆
ولم يفعل أكثر من ضرورة البدء بالملاحظة كي نصل إلى ماهيات الحقائق الثابتة، غير أننا قد أثبتنا أن البدء بالملاحظة لا يفضي إلى شيء، ثم إن الملاحظة لن تكون أبدا ضمان الصدق، أو ضمان الوصول إلى الحقائق الثابتة؛ فالعلم لا يصل إلى حقائق أبدا، بل هو دوما افتراضات حدسية، ينقلب معظمها - كما انقلب افتراض بيكون نفسه - إلى محاولات خاطئة توصلنا إلى ما هو أفضل منها. (5) هكذا لم يقنع بوبر بتقويض الاستقراء، بل تعقب فلوله إلى الأصول التاريخية، ولم يسلم أبوه الشرعي من بطش بوبر، فبرأه مما يدعيه من نسب، حتى تبدى الاستقراء محض فقاعة في الهواء.
لكن هل يمكن حقا التسليم مع بوبر بهذا التقييم لبيكون، أعتقد أن هذا عسير، فقد أعطانا بوبر نظرية مستحدثة في تفسير منهج بيكون، لها قيمتها في تبيان أن البحث الفلسفي سلسلة متصلة بأواصر القربى، مما يؤكد صياغته «م أ
ح ح
أ أ
م2» ويؤكد أيضا نظريته في وحدة المناهج، كل هذا رائع، لكن من الصعب أن نسحب مع بوبر أي فضل لبيكون حتى وإن كان هدف الصورة عنده مماثلا لهدف الماهية عند سقراط، فإن سقراط لم يدلنا على أن التجريب هو السبيل الأمثل لمعرفة هذا الهدف أيا كان، كلا ولا دلنا سقراط على أنماط هذه التجارب وكيفية تسجيل نتائجها في حين «أن بيكون قد وصف في يوتوبياه ما أسماه بيت سليمان، يعتبره مؤرخو العلم قدوة لمعامل العصر الحديث المعنية بالتحليل والتطبيق ومثالا للمجامع والأكاديميات.»
56
رسالة بيكون عظيمة؛ لأنها تلخصت في غرضين هما: تحويل العلم إلى منفعة الناس، وإقامته على أساس الاستقراء، بعد قيامه زمنا طويلا على أساس التقدير والقياس.
57
بالنسبة للغرض الأول، حقا كان قد بدأ قبل بيكون بعهد طويل، فقد فصل أرسطو مثلا بين العلوم النظرية والعلوم العملية، وسطعت الفائدة العملية للعلم مع بدايات العصر الحديث، لكن بيكون هو الذي أكد عليها، وقد كان الناس يحتقرون الانتفاع بالعلم لاعتقادهم أن الآخرة هي محور كل علم، وأن الزهد في الدنيا هو صبغة العلماء،
58
كما أكد فيثاغورث مثلا الداعي إلى السعادة القصوى القائمة على التأمل الصرف.
وإذا كان بيكون لا يزال واقعا تحت شوائب ميتافيزيقية، بحكم المرحلة الزمانية التي جاء فيها والتي تقع على أعتاب العصور الوسطى، فرسل يقول: إن الفيلسوف صنيعة عصره، وقد أثبت هذا في مجلده الضخم «تاريخ الفلسفة الغربية»؛ لذا فليس من العدل أن نطالب بيكون بالتخلص من أدنى شوائب العصور الميتافيزيقية السابقة عليه، لقد شهدت العصور الوسطى انصرافا بعيدا عن التجريب، حكم على العلم الطبيعي أن يظل في مكانه لا يتقدم ولا يتأخر، بل حتى لا يلتفت يمينا ولا يسارا، ولم يوقظ العلم الطبيعي من سباته العميق إلا الالتفات إلى أهمية التجريب، وهذا ما لا يمكن أن يجادل فيه أحد وبالذات بوبر، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يسحب فضل بيكون العظيم في التنويه إلى أهمية التجريب، حتى وإن كان فضلا مشوبا بالكثير الجم من الأخطاء الميتافيزيقية والاستقرائية التي أوضحناها في الفصل الأول.
خاتمة (1) الملاحظة الهامة التي نبديها في الخاتمة، هي أن بوبر التجريبي بإنكاره للدور الاستقرائي للملاحظة يحفظ كيان العقل والقوى الخلاقة، ويرفض أن يحيل الإنسان إلى آلة صماء، تقصر عملها على تسجيل انطباعات التجريب، وتعمم نتائجها لتصل إلى القانون، وكأن الإنسان حس فحسب وليس حسا وعقلا وقدرات على الابتكار العلمي والخلق الفني ... وسائر مكونات العالم 3، هذا درس عميق للتجريبيين، وقد نصت كتابات بوبر على أنه يناصبهم العداء، أولئك الذين ينصحون بالاحتفاظ بالمدركات الحسية خالصة صافية بقدر الإمكان، بلا إضافة أو نقصان، فتكون بهذا المعرفة اليقينية، حتى جاء كانط ليقول لهم: المعطيات الحسية لا تشكل إلا المادة الخام.
59 (2) على هذا فبوبر بإنكاره للدور الاستقرائي للملاحظة لم يأت بجديد تماما، فقد سبقه إلى هذا كثيرون، وهو يواصل مسار فكرة فلسفية أخذوا بها، مثل أكد ويويل في كتابه «فلسفة العلوم الاستقرائية» أن العلم لا يمكن أن يكون بهذه الصورة، بل لا بد من اختراع النظرية اختراعا، أي لا بد من عنصر الخلق،
60
ودارون الذي قال: من الغريب حقا أن أحدا لم ير أن أية ملاحظة يجب أن تكون من أجل أو ضد وجهة نظر معينة،
61
وآينشتين الذي أرسل إلى بوبر خطابا يؤكد فيه استحالة صياغة نظرية ما من الملاحظات، النظرية يمكن فقط أن تخترع،
62
ورفض لايبج
Leibig
الاستقراء صراحة في كتابه «الاستقراء والاستنباط» من قبل عام 1848م.
63
لكن على رأس هؤلاء كانط الذي أدرك بوضوح استحالة أن تكون النظرية العلمية نتيجة استقرائية، بل واعتبر هذا خلفا محالا وتناقضا في القول، وقال: إننا نحن أنفسنا نكيف الطبيعة مع متطلباتنا ونطلب منها الإجابة على أسئلتنا، وبدا أمامه أن العلم قد فند - ربما بفضل من هيوم - الخرافة البيكونية التي لم تحدث إطلاقا في تاريخ العلم، من هنا وضع نظرية في المعرفة ترجعها إلى عاملين: الذهن
understanding
من ناحية، والمعطيات الحسية من ناحية أخرى، وهما شرطان منفصلان ومتمايزان لكل معرفة، وكلاهما ضروريان، وقد عبر عن هذا بمقولته الشهيرة المفاهيم بدون حدوس حسية جوفاء، كما أن الحدوس الحسية بدون مفاهيم عمياء؛ لذلك أوضح لبوبر الطريق حينما قال: إن العالم كما نعرفه هو تفسيرنا للوقائع الملاحظة على ضوء النظريات التي اخترعناها نحن أنفسنا،
64
لقد رأى كانط في النظرية العلمية شيئا أعظم بكثير من مجرد نتيجة لتراكم الملاحظة، إنها نتيجة لأسلوبنا نحن في التفكير ولمحاولتنا لتنظيم المعطيات الحسية، وفهمها على ضوء المقولات المفطورة في طبيعة العقل، وقد عبر كانط عن هذا بقوله الثوري: «عقولنا لا تأخذ القوانين من الطبيعة، ولكن تفرضها على الطبيعة.»
65
فأحدث ثورته الكوبرنيقوسية، حينما قلب مركز المعرفة وجعله في عقل الإنسان، بدلا من أن يكون مفارقا في عالم المثل أو في الجوهر إن كانت المعرفة مثالية، أو في الطبيعة، إن كانت المعرفة تجريبية، ثم علمنا الاستقراء كيف نستجدي الطبيعة لتكشف لنا عنها، حتى قلب كانط مركز المعرفة، وجعله العقل الذي يتوصل إلى القوانين بواسطة مقولاته الخاصة المجبولة في طبيعته.
66 ⋆
بوبر إذن لم يأت ببدعة، والتوقعات الفطرية ثم الفروض العلمية، تلعب في فلسفته دورا شبيها بدور المقولات في فلسفة كانط؛ مما حدا بالمؤرخين إلى الحكم بأن بوبر متأثر بكانط، وهذا ما يؤكده بوبر نفسه في كل مناسبة، لكن مقولات كانط فكرة مثالية ميتافيزيقية، بينما توقعات بوبر فكرة علمية سيكولوجية، خول لها دورا منطقيا ميثودولوجيا، ويظل على تمام الحفاظ على بعده عن أية نزعة سيكولوجية، حينما يوضح أن التعامل معها بعد ذلك منطقي صرف، وهو الذي يميزها، وأن أصل النظرية لا صلة له البتة بمنزلتها العلمية.
ثم إن كانط كان واثقا في المعرفة الإنسانية أكثر مما ينبغي، كان يتفلسف واضعا نصب عينيه نظرية نيوتن بوصفها أنموذجا للعلم، وكان كسائر معاصريه يعتبرها مطلقة الصدق، واعتبر قوانينها - أي قوانين العلم - بعدية تركيبية، ولكنها في الآن نفسه ضرورية الصدق، فالعقل يحاول أن يفرض القوانين التي يخترعها على الطبيعة، وهو لا بد حتما أن ينجح في هذه المحاولة.
على هذا تبدو محاولة بوبر صورة متطورة متواضعة من محاولة كانط المغرورة، ولا غرو فالتواضع المعرفي إحدى دعاوى بوبر الهامة، فلا ندعي اليقين أبدا، ولا نترفع على أي نمط معرفي.
محاولة كانط - بلا شك - رؤية عميقة ورصينة ، من فيلسوف عميق ورصين، أوشكت أن تروح في طي النسيان بسبب خطأ كانط الكبير في اعتبار نظرية نيوتن مطلقة الصدق، لكن - كما وضح آنفا - لم يكن أمام كانط العظيم الذي عاش في مجد نظرية نيوتن، أي مناص من الوقوع في هذا الخطأ. (3) وبعد كل هذا يستحيل الآن أن نأخذ في الاعتبار شيئا اسمه الاستقراء، إنه خرافة فكيف له أن يميز العلم، لكن العلم بدا الآن غريبا عن الدار، فما كنا نظنه، بل ونسلم بأنه منهج العلم في الفصل الأول اتضح كخرافة جوفاء حين انتهينا من الفصل الرابع، فلا بد وأن نسأل بوبر، وما هو المنهج العلمي إذن؟
الفصل الخامس
منهج العلم
منهج العلم هو المنهج النقدي، منهج المحاولة والخطأ، منهج اقتراح الفروض الجريئة، وتعريضها لأعنف نقد ممكن كيما نتبين مواطن الخطأ فيها.
1
مقدمة (1) إذا كان الاستقراء - وهو وثن الميثودولوجيين الذي شاع له التقديس قرونا - محض خرافة، فما هو المنهج العلمي إذن؟ ما هي قواعده؟ ولماذا نحتاج إليها؟ هل يمكن وضع نظرية في مثل هذه القواعد؟ أي علم لمناهج البحث؟
لما كانت قواعد المنهج مسألة اصطلحنا عليها لتحكم مباراة العلوم الطبيعية، كقواعد لعبة الشطرنج مثلا، وتختلف عن قواعد منطق البحث، التي لا بد وأن نتفق عليها بغير أن ننتظر اصطلاحا أو اتفاقا؛
2
لأنها قواعد تحليلية محض تحصيلات حاصل، وكانت الإجابة على هذه الأسئلة تعتمد إلى حد كبير على الموقف المتخذ من العلم ذاته، والموقف الذي يتخذه بوبر من العلم واضح، وهو أن الخاصة المميزة للعلم التجريبي هي إمكانية تكذيب عباراته، أي ستكون نظرية بوبر المنهجية قائمة على معيار التكذيب، بل هي قائمة أصلا بهدف إثبات إمكانية تطبيق هذا المعيار بل وضرورة تطبيقه، فعرض هذه النظرية - كما سنرى - ما هو إلا عرض لقابلية العلم المستمرة للتكذيب؛ أي للنقد ولاكتشاف الأخطاء، وبالتالي لقابلية العلم المستمرة للتقدم بحيث تكون قواعده قواعد مباراة هي من حيث المبدأ بلا نهاية، أما العالم الذي يقرر يوما أن العبارات العلمية أصبحت لا تستدعي أية اختبارات أخرى، ويمكن أن نعتبرها متحققة بصورة نهائية، فإنه ينسحب من المباراة، إننا في حاجة دوما إلى الانتخاب الطبيعي بين الفروض، أي حذف الأضعف منها عن طريق النقد، والأسلوب الفني المختص بنقد العلم الطبيعي هو التكذيب، بهذا الوجه الفني المنطقي الدقيق يكون التكذيب هو منهج العلم، ولكن منهج العلم في صورته العامة ومساره العام هو مسار أية محاولة عقلانية، فلا يخص العلم ولا يميزه. (2) من هنا كانت نظرية بوبر المنهجية وثيقة الاتصال بنظريته في المعرفة؛ لأنه ينظر إلى المعرفة الإنسانية على أنها مكونة من الفروض والنظريات والافتراضات الحدسية، على أنها نتاج الأنشطة العقلية،
3
سائر الفلاسفة منذ هيوم مرورا بمل حتى ماخ، ينظرون إليها بوصفها حقائق ثابتة مؤسسة، بوبر على عكسهم، لا يعنى بتبرير المعرفة أو بصدقها أو بصحتها، أو بأمثال هذه المشاكل الإبستمولوجية، إنه يعنى فقط بمشكلة نمو المعرفة وكيفية تقدمها،
4
وهذه النظرية من بوبر تجعل المعرفة العلمية قابلة للاختبار البين-ذاتي أي الموضوعي للنقد والتكذيب، ديناميكية متحركة لا ثبات فيها؛ ومن ثم قابلة للتقدم المستمر إن جاز التعبير، المعرفة بناء صميم طبيعته الصيرورة، ومن هنا لا تكون نظرية المعرفة نظرية في مكوناتها، بل نظرية في أسلوب هذه الصيرورة، أي في كيفية التقدم المعرفي، أي في منهج العلم؛ على هذا كانت نظرية بوبر المعرفية وثيقة الاتصال - أو هي الوجه الآخر - لنظريته المنهجية، فجاء عرضهما معا في سياق واحد، في باب واحد.
إن نظرية المنهج العلمي هي ذاتها منطق الكشف العلمي، هي ذاتها النظرة الإبستمولوجية، إنها اختيار المنهج ووضع القرار الحاسم في الأسلوب الذي تتعامل به مع العبارات العلمية.
5 (3) وقبل الحديث عن هذه النظرية المنهجية، تثار مشكلة ما إذا كان هذا الحديث جائزا أصلا أم لا، إنها مشكلة كثيرين - على رأسهم الوضعيون المناطقة - لا يرون في علم مناهج البحث فرعا من فروع الفلسفة، بل فرعا من العلوم الطبيعية، إنها النظرة التطبيعية له
naturalistic ، أي جعله علم الدراسة التجريبية لسلوك العلماء في ممارسة عملهم، أو للإجراءات الفعلية للعلم، بوبر لا ينكر قيمة هذه الدراسة لعلم النفس مثلا ، لكن علم مناهج البحث في رأيه شيء مختلف تماما، فهو أولا ليس فرعا من الفلسفة فحسب، بل هو حصنها الحصين، هو وليس الميتافيزيقا؛ لأن الميتافيزيقا يمكن أن نؤول مشاكلها بحيث تصبح قواعد ميثودولوجية؛ مثلا، مشكلة السببية - وهي واحدة من أعمق المشاكل الميتافيزيقية - حلت ببساطة في سياق معالجة مشكلة منهجية بحتة؛ هي مشكلة الاستقراء. مثال آخر: مشكلة الكليات، هي مشكلة قاعدة منهجية بخصوص طبيعة القانون العلمي؛ أو مثلا مشكلة الموضوعية، يمكن أن تؤول هي الأخرى إلى قاعدة منهجية؛ هي القاعدة الآتية: العبارات التي تطرح في العلم هي - فقط ولا غير - العبارات القابلة للاختبار بين الذوات،
6
بالمثل يمكن تأويل معظم المشاكل الفلسفية لتصبح ميثودولوجية، علم مناهج البحث هو أخص خصائص الفلسفة.
وأكثر من هذا، فبعض الذين يريدون جعله علما طبيعيا، لا يرومون هذا من أجل تقدم العلوم السلوكية فحسب، بل ولأنهم متأثرون بنظرتهم الاستقرائية التي سيطرت عليهم، حتى يريدون من علم مناهج البحث؛ العلم الذي يستقرئ سلوك العلماء، هم مخطئون، الحاجة ملحة للدراسة الفلسفية المنهجية، لنعرف ما هو الأسلوب الذي يسير به البحث العلمي. (1) مسار البحث العلمي (1) عرض المنهج لن يكلفنا الآن كبير عناء، فطالما أن النظرية المنهجية مناظرة للمعرفية، فإن صياغة المعرفة الموضوعية «م أ - ح ح - أ أ - م2» التي تصف شتى ضروب الأنشطة العقلية والحيوية، تصف العلم أيضا، بوصفه إحدى هاتيك الضروب،
7
عرض منهج العلم لن يعدو أن يكون تطبيقا لها. «م1»:
يبدأ العالم بحوثه من مشكلة، إما مشكلة عملية واقعية، وإما مشكلة نظرية، أي فرض وقع في صعوبات، العالم يجد في العلم دائما مواقف معينة لمشاكل، فيختار منها المشكلة التي يأمل في استطاعة حلها، البدء إذن ليس بالملاحظة بل بالمشكلة، وهذه المشكلة بدورها ليست نتيجة للملاحظة أو حتى التجريب، بل هي من البناء المعرفي السابق. «ح ح»:
الفكرة عن مشكلة لا بد وأن تكون غامضة، التعرف الكامل عليها لن يكون إلا بطرح حل ونقده، فهم المشكلة يكون بفهم صعوباتها، بأن يعرف العالم لماذا لا يسهل حلها، لماذا لا تصلح الحلول الواضحة، بهذا يفهم المشكلة جيدا، يعرف تفرعاتها ومشاكلها الجانبية وعلاقاتها بالمشاكل الأخرى، إنه يحيط بموقف المشكلة فيتمكن من طرح الحل الملائم، الحل دائما اختباري، وهو فرضي، محاولة الحل قد تفضي إلى طرح عدة حلول، عدة نظريات تتنافس لحل نفس المشكلة، أو تتنافس بأن تمنح حلولا لبعض المشاكل المشتركة، على الرغم من أن كلا منها قد تمنح بالإضافة إلى هذا حلولا لمشاكل لا تشترك فيها مع النظريات الأخريات، كيف يمكن الاستقرار في هذه الخطوة على «ح ح» محددة، أي كيف يمكن الاختيار بين مجموعة النظريات المتنافسات؟ أولا: على الباحث استبعاد ما يمكن تفنيده، أي اكتشاف الاختبار الفاصل، التجارب الحاسمة التي تستطيع تفنيد واستبعاد بعض منها، ثم يختار الباحث النظرية الأفضل من بين المجموعة المتبقية، والنظرية الأفضل هي الأكثر قابلية للتكذيب،
8 ⋆
وهي الأكثر نزاهة، أي لا تكون عينية
ad hoe ، فهي وضعت فقط لحل المشكلة وليس لتلافي نقد معين أو مواجهة اختيار معين، إذن المنهج النقدي يمكن اعتباره منهجا داخل المنهج؛ لأنه يعين على تقرير النظرية الأفضل من بين نظريات متنافسات، لتنتهي بتعيين «ح ح» أي محاولة حل. «أ أ»:
ثم يحاول العالم نقد «ح ح» أي فرضه الجديد، لا بد من إيجاد الخطأ في الحل المقترح، بل ومحاولة تفنيده، قد يصمد الفرض أمام اختبارات النقد، وقد ينهار سريعا إذا كان ضعيفا، لكن القاعدة أن العالم سيجد افتراضه الحدسي قابلا للتكذيب، وإلا لما كان علميا، وقد يجد أنه لا يحل المشكلة، بل يحل جزءا منها فقط، وسيجد حتى أفضل الحلول، أي التي تقاوم أعنف نقد لألمع العقول، من شأنها أن تثير صعوبات جديدة، فهو نظرية لم تفند حتى الآن، ولما كانت لا بد أن تفند يوما ما، فعلى الباحث محاولة هذا دائما، فيحاول إقامة مواقف اختبارية قاسية؛ لذلك فإن هذه الخطوة «أ أ»، قد تفضي إلى بناء قانون مفند، قانون قد تكون درجة عموميته منخفضة، فقد لا يستطيع شرح مواطن نجاح النظرية، لكن يستطيع الأهم: اقتراح اختبار حاسم وتجربة تفند النظرية، وتبعا لنتيجتها إما يأخذ العالم بهذا القانون المفند، وإما بالنظرية موضع الاختبار.
9
ولإحكام منهجية هذه الخطوة، يمكن حصر أساليب إجرائها، أي أساليب اختبار النظرية واستبعاد الخطأ في أربع طرق: (أ)
مقارنة النتائج الاستنباطية بعضها ببعض، مخافة أن تحوي شيئا من التناقض، لا بد من التثبت من اتساقها مع بعضها، أي اتساق النظرية مع نفسها. (ب)
فحص النظرية نفسها فحصا منطقيا، لنرى هل هي من نطاق العلم التجريبي، وهل هي إخبارية فقد تكون تحصيل حاصل، «تطبيق معيار التكذيب.» (ج)
مقارنة النظرية بالنظريات الأخرى في البناء المعرفي؛ لنرى هل تتسق معها، وهل تمثل تقدما علميا عليها. (د)
اختبار النظرية تجريبيا، أي عن طريق التطبيقات التجريبية للنتائج المستنبطة منها.
10
بالنظر إلى هذه الأساليب، نجد المنهج المتبع أساسا هو الاختبارات الاستنباطية، وليس البتة أدلة استقرائية، رغم أن الأهمية القصوى للملاحظة والتجريب تبرز في هذه الخطوة، فهي التي تفصل القول أولا وأخيرا في قبول أو رفض النظرية المتسقة منطقيا، إن اتفقت الملاحظات مع النتائج المستنبطة من النظرية؛ سلمنا بها مؤقتا، إن تناقضت استبعدناها، ولا أثر إطلاقا لأي استقراء من أي نوع كان لا سيكولوجيا ولا منطقيا، فليس هناك أي انتقال من الوقائع إلى النظريات ما لم يكن انتقالا تكذيبيا حقا، إن الاستدلال هنا من أدلة تجريبية، ولكنه استدلال استنباطي صرف.
11
وكلما كانت النتائج المستنبطة أبعد، كلما كانت أهم، ليس هناك عالم يبلغ من السذاجة حدا بحيث يضع نظرية يمكن اكتشاف الخطأ فيها هي ذاتها، في صميم منطوقها، أو في نتائجها القريبة.
ومهما كانت نتيجة الاختبار، فلا بد وأن العالم قد تعلم منها شيئا، فإذا فشل الاختبار واجتازته المحاولة، فقد عرف الباحث الكثير، عرف أن حله هو الأكثر ملاءمة، وهو أفضل ما لدينا حتى الآن،
12
وأنه هو الذي ينبغي الأخذ به، أما إذا نجح النقد وفند النظرية، فقد عرف الباحث الكثير أيضا، عرف لماذا أخطأ، فيلم بالمشكلة أكثر، وربما فشلت النظرية في حل المشكلة المطروحة للبحث، ولكنها قد تنجح في حل مشكلة بديلة، والتي قد تعطي شحنة تقدمية أكثر مما لو كانت المشكلة الأصلية قد حلت وحتى إن لم تحل، لا المشكلة الأصلية ولا أية مشكلة بديلة، فإن العالم يجب أن يهتم أيضا بالتكذيب في حد ذاته؛ لأن اكتشاف كذب نظرية يعني اكتشاف صدق نقيضها، وإن كان نفي النظرية الشارحة ليس بدوره نظرية شارحة.
في هذه الخطوة «أ أ» يتركز دور معيار التكذيب ومنطقه. «م2»:
وعلى أية حال، لا بد وأن ينتهي العالم إلى موقف جديد، يحمل بين طياته مشاكل جديدة ليأخذ العالم منها م2 ... يبدأ بها الحلقة الجديدة. (2) بالطبع ليس من اليسير إدخال فكرة المحاولة والخطأ البسيطة في ذات الهوية مع المنهج التجريبي المعقد، إنما هي الأصل والأساس الذي تفرعت شتى التعقيدات داخل خطواته «ح ح، أ أ» إن منهج المحاولة والخطأ هو أسلوب التعلم، أسلوب تعرف الكائن الحي على بيئته، وقد تطور قليلا حتى بدأ في اتخاذ اسمه المنهج العلمي التجريبي الحديث،
13
الذي هو على وجه الدقة: منهج الحدوس الافتراضية الجريئة (المحاولة) والاختبارات العملية الحاذقة البارعة لتكذيبها، إنه الصورة المعاصرة لأسلوب التعلم الداخل في صميم الحياة على كوكب الأرض، أسلوب المحاولة والخطأ.
خلاصة المنهج هي أن يتعلم الباحث أن يفهم المشكلة، فيحاول حلها، ويفشل في هذا الحل فيردفه بحل آخر أقوى يفشل فيه هو الآخر،
14
العالم يسير من حلول سيئة إلى حلول أفضل، عارفا في كل حال أن لديه القدرة على طرح تخمينات جديدة، فطريق التقدم العلمي الوحيد هو طرح فروض أفضل. (3) هذه النظرية المنهجية بالطبع، تحدد منطق العلم وطبيعته الحدسية اللااستقرائية؛ من حيث إنه يظل على الدوام تقريرا غير يقيني مؤقتا، نسلم به الآن لأنه الأفضل في وقت لاحق، لا بد حتما من التوصل إلى ما هو أفضل منه، المسألة نسبية وهي متغيرة، حتى يمكن القول إنها مسألة رأي وليست حقيقة واقعة قاطعة مطلقة.
15
إن الصياغة «م1
ح ح
أ أ
م2» تجعل نمو المعرفة العلمية يسير من المشاكل القديمة إلى المشاكل الجديدة، بواسطة الافتراضات الحدسية وتكذيباتها، بواسطة التعديلات والتكييفات المستمرة للموقف الراهن، والحلول المطروحة لمشاكله، مما يجعل تطور العلم زجزاجيا متعرجا وليس خطا مستقيما،
16
إنه منهج التصحيح الذاتي، أي الذي يجعل العلم يصحح نفسه بنفسه تصحيحا مستمرا استمرارية البحث العلمي، طالما أن النظريات كلها مجرد حدوس افتراضية، تتفاوت في درجة اقترابها من الصدق، وأن العالم حتى لو توصل جدلا إلى نظرية صادقة، فلا هذا المنهج ولا أي منهج آخر يتمكن من إقامة صدق النظرية العلمية، وكيف نبحث عن إقامة الصدق ونحن عالمون أن النظرية قد تجتاز كافة اختبارات النقد والتكذيب، فقط لأن العلم لم يتوصل بعد إلى الاختبار الحاسم لها، أي القانون المفند، وأن الباحث لا يفضل النظرية فقط؛ لأنها الأقرب إلى الصدق، ولكن أيضا لأنها محتملة الكذب، إنها موضوع شيق لاختبارات أكثر، أي محاولات تكذيب، وتكذيب أي نظرية علمية يشكل مشكلة لكل نظرية جديدة؛ إذ إن عليها أن تنجح فيما نجحت فيه سابقتها، وفيما فشلت فيه أيضا، فهذا المنهج يعني الترابط المتسلسل بين النظريات، بحيث تكون كل نظرية أقرب إلى الصدق من سابقتها. (4) على ضوء ما سبق، يمكن أن تراعى التقاليد الميثودولوجية، فنستخلص من نظرية بوبر المنهجية الخطوات الآتية للمنهج العلمي على الترتيب الآتي: (1)
المشكلة (وهي عادة تفنيد لنظرية موجودة). (2)
الحل المقترح (أي نظرية جديدة). (3)
استنباط القضايا القابلية للاختبار من النظرية الجديدة. (4)
الاختبار؛ أي محاولة التفنيد بواسطة الملاحظة والتجريب، من ضمن وسائط أخرى. (5)
الأخذ بأفضل الحلول، أي النظرية الأفضل من بين مجموعة النظريات المقترحة المتنافسة.
17
والصورة التامة لهذا تكملها فكرة التوقعات الفطرية، التي يولد بها الكائن الحي، هذه التوقعات من شأنها - إذا ما أحبطت - أن تخلق مشاكل؛ فليكن أولى مشاكل البحث العلمي على الإطلاق - أي أول «م1» في بناء المعرفة - هي إحباط لتوقع فطري ولد به إنسان بدائي،
18
وكانت محاولة تعديل هذا التوقع هي أول نظرية في تاريخ العلم، وكانت محاولة انتهت ب «م2»، دخلت بدورها في حلقة جديدة ... وهكذا.
وبالطبع فإن ذهن العالم اليوم، ليس مقصورا على النزوعات والتوقعات الفطرية، علمه الذي جعله عالما - أي الحصيلة المعرفية - يولد في ذهنه نزوعات وتوقعات علمية، أي فروض حدسية هي نظريات جريئة.
ولكن العالم حينما يأتي الآن ليدرس موقف مشكلة، فهو بهذا يحاول مواصلة مسار طويل يستند على كل حصيلة البشر، البدء من الصفر استحالة، وإن أمكنت فإن حياة العالم لن تسفر عن تقدم أكثر مما أحرزه آدم، أو بعبارة علمية: «أكثر مما أحرزه إنسان نياندرثال.» وهذه واقعة يرفض كثيرون من ذوي المنعطفات الجذرية والمستقلة في حياتهم أن يقبلوها،
19
في العلم يجب أن نحرز تقدما، وهذا يعني أننا نقف على أكتاف الأجيال السابقة، العالم معقد لدرجة كبيرة، ونحن لا نعرف من أين ولا كيف نبدأ تحليله، إننا نعرف فقط من أين وكيف بدأت المحاولات السابقة، وإنها محاولات إقامة بناء العالم خلال إطار معين، وهي أطر لم تكن محكمة كثيرا، نحن نحاول أن نجعلها أكثر إحكاما بأن نطورها، فنستبدلها بمحاولات أقرب إلى الصدق،
20
والمحاولات مستمرة على صورة تلك الصياغة. (5) المعرفة في هذا المسار الطويل والبادي منذ إنسان نياندرثال حتى اليوم، تمر بمرحلتين: (أ)
مرحلة التفكير الدوجماطيقي (القبل-علمي). (ب)
مرحلة التفكير النقدي (العلمي).
مرحلة التفكير الدوجماطيقي:
هي المرحلة البدائية، بتحديد بوبر، المرحلة السابقة على حضارة الإغريق، ولما كانت محاولات المعرفة بدأت مع أول إنسان في التاريخ فإن المجتمعات البدائية لها موقف معرفي لها محاولات لتفسير العالم بالأساطير والديانات البدائية بالخرافات والخزعبلات، وكان التمسك بها قطعيا وصارما، وكانوا يعتبرون الشك فيها أو حتى محاولات التفكير فيها لتقييمها أو نقدها جريمة ما بعدها جريمة، التساؤل عن مدى صدقها كان محرما ينتهي بالموت، أو على الأقل بنفي المتسائل، إنها مرحلة لا تسمح بالخطأ، ولا بأي إمكان أو احتمال له، وكانت الفكرة الخاطئة - أي الحل الخاطئ للمشكلة - لا بد لها من الهلاك، كان أميز ما يميز مرحلة التفكير الدوجماطيقي، أن المخطئ فيها يموت أو يهلك بهلاك عقيدته الخاطئة، كان التقدم فيها مأساويا خطيرا إن أمكن أصلا.
21 ⋆
مرحلة التفكير النقدي:
بدأت حينما عرف الإنسان سر التقدم، النقد ثم تقبله؛ لذلك كانت المدرسة الأيونية أعظم مدرسة في التاريخ؛ لأنها علمت الإنسان أعظم درس والأهم على وجه الإطلاق؛ ألا هو النقد وتقبله، لأول مرة في التاريخ لم يتحرج أنكسمندر من نقد أستاذه طاليس وتبيان أخطائه، بل والإتيان بنظرية أفضل من نظريته، والأدهى: على مرأى ومسمع من أستاذه، بل وبترحيب وتشجيع منه، في هذه المرحلة حينما تكون المحاولة - أي الفكرة - خاطئة، فإن الهلاك لها وحدها، معتنقوها لا يهلكون معها بل هم الذين يهلكونها ليحاولوا المحاولات الأفضل، وليضعوا نظريات أقرب إلى الصدق.
ولما كان بوبر يرى أن القوانين العلمية ليست مستقرأة من الواقع، بل مفروضة عليه، فهو يقول: إن العلم التجريبي النقدي يصنع أساطير، تماما كالتي يصنعها الدين الدوجماطيقي، لكن الاختلاف بين أساطيرهما كالاختلاف بين الدوجماطيقية والنقدي، فالاتجاه النقدي للعلم من شأنه أن يغير الأساطير ويطورها فلا تبقى على حال واحد أبدا، إنها في تغير مستمر، والتغير في اتجاه وضع الشرح الأفضل، والاقتراب من الصدق أكثر وأكثر؛ لأن النقد يحذف الخطأ، ويقلل دوما من نطاقه.
22
غير أن هذه النظرية ليست ذات أدنى تناظر مع نظرية كونت في المراحل الثلاثة المتعاقبة لتاريخ الفكر؛ ذلك لأن التفكير الدوجماطيقي والتفكير النقدي، ليسا مرحلتين متعاقبتين زمانيا فحسب، بل منطقيا أيضا، بل، وكعادة بوبر في التعميم الشديد لأفكاره، عمم هذا التقسيم، حتى أدخلهما في صميم كل محاولة على وجه الأرض، وفي صميم الحياة بصفة عامة، فإذا كانت الأميبا وسائر الحيوانات الدنيا تعيش إلى الأبد في أسر المرحلة الدوجماطيقية، فإن الإنسان المعاصر - وكل إنسان - في نزوعه للبحث عما يريده وفرض القوانين على الطبيعة، في فرض نزوعاته وتوقعاته - خصوصا توقع الاطراد - هو أسير الاتجاه الدوجماطيقي، لا يخرج منه إلا حينما يحاول النقد واستبعاد الخطأ.
كما أن الاتجاهين ليسا متعارضين، والعلاقة بينهما ليست تناقضا، هما متعاقبان زمانيا وموضوعيا، لكل منهما سمات وخصائص قد تختلف وقد تتفق مع سمات الأخرى الواحدة منهما لا تسير بغير الأخرى، لكن يكون للتفكير العلمي مسار، المرحلة النقدية ضرورية للدوجماطيقية؛ كي تقي شر هلاك محتوم، والدوجماطيقية ضرورية للنقدية؛ كي تمثل لها المادة الخام، وأكثر من هذا فإن الدوجماطيقية ليست شرا محضا، بل لا بد من قدر منها حتى في البحث العلمي، فالعالم أثناء اختبار نظريته لا بد وأن يتمسك بها تمسكا دوجماطيقيا نوعا ما، فلا يتخلى عنها بسهولة، ثم إن الدفاع عنها في مواجهة النقد من شأنه أن يطورها ويحسنها، إن بوبر لم يعن بهذا التقسيم أكثر من الإشارة إلى الاعتقاد القوي، الذي يثبتنا عن انطباعاتنا الأولى، وهو الاتجاه الدوجماطيقي، بينما الاتجاه النقدي يشير إلى الاستعداد لتعديل الأفكار وتصحيحها، إلى السماح بالشك والاختبار، إلى تقبل النقد وإقرار الخطأ، ببساطة إلى الاعتقاد الضعيف، بمعنى الاعتقاد المتبصر غير المتزمت.
خلاصة القول: التفكير الإنساني بصفة عامة، إنما يسير عبر هاتين المرحلتين، ويبلغ السمة العلمية مع سيادة المرحلة النقدية، وهذه النظرية - نظرية المرحلتين الدوجماطيقية والنقدية - هي بحق من أجمل مواطن إبداع بوبر فهي نظرية منطقية إبستمولوجية ميثودولوجية سيكولوجية أنثربولوجية. (6) تلك هي الأفكار - من طيات فلسفة بوبر - في سياق الإجابة على السؤال التقليدي: ما هو منهج العلم؟ ولكنها لم تكن إجابة تقليدية، وأكثر من هذا، لم تكن القواعد التي ترسيها قواعد مختصة بالعلم فحسب، بغض النظر عن التفصيلات الفنية التكذيبية للخطوة «أ أ»، بل هي قواعد للنقاش العقلاني بصفة عامة؛ لأنها أساسا قواعد منهج المحاولة والخطأ الذي يحكم شتى المحاولات على وجه الأرض. (2) الداروينية المنهجية (1) في فصل «المعرفة موضوعية» بدا أن الصياغة «م1
ح ح
أ أ
م2» أي نظرية المحاولة والخطأ تجعل نظرية بوبر في المعرفة داروينية، ولما كان هناك تناظر بين نظرية بوبر المعرفية وبين نظريته المنهجية، كانت المنهجية هي الأخرى داروينية، بل الواقع أنها تجسيد صارخ للداروينية.
منهج تطور العلم يماثل إلى حد كبير ما أسماه دارون بالانتخاب الطبيعي، إنه الانتخاب الطبيعي بين الفروض، العلم يتكون دائما من تلك الفروض التي أوضحت ملاءمتها في حل المشاكل وصمودها أمام النقد، إنها الفروض التي ناضلت للبقاء حتى الوقت الراهن، كما أنها استبعدت تلك الفروض التي لم تلائم، أو التي حاول واضعوها أن يعدلوها ويكيفوها، فلم يكن تكييفا مطابقا للمطلوب.
وعلى العكس من ذلك نظريات المنهج الاستقرائية، التي تؤكد على التحقيق بدلا من التكذيب هي بالضبط اللاماركية، إنهم يقررون البناء بواسطة البيئة، بدلا من الانتخاب
23
الطبيعي للفروض والبقاء للأصلح منها.
إن منهجية بوبر داروينية، في مقابل الاستقرائية اللاماركية. (2) فمن المعروف أن هناك اتجاهين أساسيين في نظرية التطور:
الاتجاه الأول، الأسبق زمانيا والأقل منزلة علمية، ينتسب للعالم الفرنسي الكبير جان لامارك
Jean Lamarck (1744-1829م) الذي يذهب إلى أن التغير الذي يحدث ببطء في نوع ما من الكائنات الحية، إنما مرده إلى الظروف البيئية قد يتبعه تغير في سلوك هذا الكائن ، وأن كثيرا من الكائنات والحيوانات لم تستطع الملاءمة فماتت؛ لأن ظروفا بيئية تغيرت فلم تستطع التكيف معها،
24
معنى ذلك أن نظرية لامارك تعول في حدوث التغيرات العضوية على المؤثرات البيئية وتجعل دور الكائن الحي سلبيا فقط يتلقى هذه المؤثرات، وإن لم يتلقاها حكمت عليه البيئة بالفناء والهلاك.
أما الاتجاه الآخر الداروني، فهو يذهب إلى أن أنواع الكائنات الحية جميعا، إنما تنتهي إلى أصل واحد هو أولى الكائنات الحية البدائية، وأن كل كائن حي إنما هو حلقة تطورية، في سلسلة متصلة تنتهي بالإنسان، ولكن عبر السلسلة البيولوجية الطويلة، تبقى بعض الأنواع وتتطور أخرى وتنقرض أخرى.
فكيف تبقى بعض الأنواع؟ وكيف يتطور أو ينقرض البعض الآخر؟
في الإجابة على هذا ذهبت نظرية دارون إلى أن دنيا الطبيعة فيها سلسلة لا تنتهي من الكفاح من أجل الحياة؛ إذ ينقض الحيوان الوحشي على غيره فيهلكه، وكذلك تتنافس جميع الكائنات الحية في الحصول على الغذاء والماء والمأوى، فما كان فيها منها الأقوى والأسرع والأصلب، فهو الذي يبقى، أما الضعيف فيهلك، الأنواع القوية القادرة على الفتك بمنافسيها، القادرة على التكيف مع البيئة تبقى وتحكم بالفناء على الأنواع الضعيفة الأقل تكيفا مع البيئة،
25
على هذا النحو يتم الانتخاب الطبيعي، أي تجعل نظرية دارون المعول الأكبر على الكائن الحي، له ولإمكانياته، الدور الأعظم في سلسلة التطور.
من هنا كان الاستقرائيون لاماركيين، بمعنى أنهم يجعلون للعالم دورا سلبيا، فقط يتلقى نتائج التجريب التي تمليها الطبيعة ، فيعممها في فرض علمي، أما بوبر فلا يرضى بهذا الدور السلبي الاستقرائي للعالم، أو بهذا الدور السلبي اللاماركي للكائن الحي، في الخطوة «ح ح»، كان العالم هو الذي يضع الفرض من عنده، هو الذي يخلق النظرية، إن العالم في نظرية بوبر المنهجية له دور إيجابي في خلق قصة العلم، كما جعل دارون للكائن الحي دورا إيجابيا في خلق قصة الحياة، إننا لا نعرف من خلال التعاليم التي تلقيها البيئة علينا كما يدعي الاستقراء، بل نعرف من خلال تحديها وفرض تصوراتنا عليها؛ لذلك يفسر بوبر التقدم العلمي بالنقد، فهو الذي يبرز ثورية هذا التقدم، فهو يحطم ويغير ويبدل مجسدا إيجابية العالم الداروينية، أما اللاماركية الاستقرائية، فتفسر التقدم العلمي بتراكم المعلومات كمكتبة نامية باستمرار، مسألة آلية. (2) إن بوبر يعظم من نجاح نظرية دارون؛ فلا يقصر تطبيقها على البيولوجي، بل ويسحبه إلى الإبستمولوجي والميثودولوجي، بل وإلى سائر التطورات، طالما أن الصياغة «م1
ح ح
أ أ
م2» تحكم شتى الأنشطة على كوكب الأرض.
لكن رغم هذا لا يعتبرها نظرية علمية بالمعنى القابل للتكذيب، أي بالمعنى ذي المحتوى المعرفي الإخباري؛ إذ يعتقد البعض أن نظرية دارون في علم الحياة هي المثيل لنظرية نيوتن في علم الطبيعة وهذا خطأ، حقا أثرها ثوري، لكن ليس في عمق أثر نيوتن؛ لأن نظرية نيوتن تعطي وصفا تفصيليا لكثير من القوانين التي تحكم الطبيعة، بينما لا تشتمل نظرية دارون على أي قوانين، وحينما حاول هربرت سبنسر أن يضع قوانين تحكم التطور فإن دارون لم يعر هذا أي اهتمام،
26
إن نظرية دارون بغير محتوى معرفي أو تجريبي؛ فمحتواها تحصيل حاصل؛ لأنها تنتهي في النهاية إلى أن هؤلاء الذين يبقون هم الأصلح للبقاء، فقط لأن هؤلاء الذين يبقون هم هؤلاء الذين يبقون،
27
ويبين الانتخاب الطبيعي أنه من حيث المبدأ يمكن رد الغائية إلى العلية في حدود فيزيائية بحتة، ويبين دارون أن أسلوب عمل الانتخاب الطبيعي يمكن من حيث المبدأ أن يظهر بمظهر أفعال الخالق وأغراضه، ويمكن أيضا من حيث المبدأ أن يظهر بمظهر الأفعال الإنسانية العاقلة الموجهة نحو غرض أو هدف،
28
وإذا صح هذا فسيصبح لعلماء الحياة تمام الحرية في استعمال الشروح الغائية في علم الحياة، حتى الذين يعتقدون أن جميع الشروح يجب أن تكون علية؛ لأن ما بينه دارون على وجه الدقة؛ من حيث المبدأ، أي شرح غائي معين يمكن يوما ما أن يرد إلى، أو يشرح أكثر بواسطة شرح، على الرغم من أن هذا إنجاز عظيم، فإن تعبير من حيث المبدأ «هو تقييد ذو خطورة»؛ فلا دارون ولا أي داروني، أعطى شرحا عليا للتطور التكيفي
adaptive Evolution ، وكل ما نظفر به أن مثل تلك الشروح قد توجد، أي ليست مستحيلة منطقيا، وهذا شيء كثير لكن ليس بنظرية تجريبية إخبارية أي ليس علما بالمفهوم الدقيق الذي نرومه في هذا البحث.
من هنا كان إيمان بوبر الشديد بنظرية دارون والذي يشيع في ثنايا فلسفته بأسرها، شيوع تلك الصياغة، لكن ليس بوصفها نظرية علمية، إنما بوصفها برنامج بحث ميتافيزيقي
Metaphysical Research Porgramme ،
29
فلما كانت نظرية دارون فكرة عظيمة، لكنها ميتافيزيقية مبهمة، ينقصها الشيء الكثير، كانت تلك الصياغة «م1
ح ح
أ أ
م2» التي تصف أسلوب المحاولة والخطأ، أسلوب النزاع من أجل البقاء والانتخاب الطبيعي الذي يستبعد الأقل تكيفا، هي محاولة من بوبر لإعادة صياغة هذه النظرية، بوصفها برنامج بحث صياغة تخلصها مما بها من غموض وإبهام،
30
وتحددها طالما أنها تعطي وصفا داخليا محكما لعمليات الانتخاب الطبيعي. (3) وفي سياق هذه المماثلة بين تطور المعرفة وتطور الكائنات الحية، يضع بوبر تماثلا بين شجرة التطور البيولوجي وشجرة التطور المعرفي،
31
وإن كان تماثلا عكسيا، فالشجرة التطورية البيولوجية انبثقت عن أصل واحد ظل يتفرع إلى فروع أكثر وأكثر، إنها تشبه العائلة، والأصل المشترك هو أسلافنا أحادي الخلايا، أسلاف جميع الكائنات الحية، والفروع هي التطورات التي انبثقت عن هذا الأصل الحي، الكثير منها اتخذ أشكالا خاصة إلى حد بعيد، اختلفت أو «تفاضلت
differiantated » كل شكل منها، فتكامل بالدرجة التي تمكنه من حل صعوباته الخاصة، أي مشاكله من أجل البقاء (تفاضلت وتكاملت مصطلحات سبنسر في محاولته لأن يحكم النظرية الداروينية بقوانين).
والشجرة التطورية لأدواتنا تماثلها جدا، فقد بدأت بأصل واحد، قطعة صخر وعصا، وتحت تأثير مشاكل مختلفة تطورت وتفرعت إلى أعداد كبيرة من الأشكال المختلفة جدا، بنفس الأسلوب التفاضلي.
أما نمو المعرفة البحتة، فهو بأسلوب عكس تماما، تتجه كما لاحظ سبنسر نحو تكامل متزايد، تكامل بعضها والبعض الآخر، بدلا من أن يتفاضل كل فرع عن الآخرين أو يكامل نفسه بنفسه، كما في حالة الأدوات والحيوان.
لو أمكن التصور، فإن نمو المعرفة، هو على صورة هذه الشجرة لكن مقلوبة، أصلها أو جذورها هو الفروع المنتشرة في الهواء، تتجمع رويدا رويدا، حتى تنتهي إلى أصل واحد، جذع واحد يؤدي بها إلى نهاية واحدة ثابتة في الأرض، هذا الجذع يضمها نحو التكامل المتزايد، نحو نظريات تتوحد أكثر، بلغت أوجها في النظريات الفيزيائية البحتة الحديثة، على رأسها النسبية، التي تحاول ضم أكبر نطاق ممكن من المعارف العلمية، إن المعرفة البحتة لم تبدأ بأصل واحد، بل بعدد كبير من الأصول (توقعات فطرية - نزوعات - خرافات - أساطير - نظريات ميتافيزيقية ... إلخ) كانت تهيم في الهواء وأخذت تقترب تتجمع وتسير إلى جذع واحد رسخ في الأرض، بدأت أوضح الأمثلة في نيوتن حينما حاول ربط ميكانيكا جاليليو الأرضية، بنظرية كبلر في الحركات السماوية.
32 (4) من الناحية المعرفية المنهجية، بوبر داروني حتى النخاع؛ لذلك أضاف لعنوان كتابه «المعرفة الموضوعية» تذييلا هو: تناول تطوري
Evolutionary Approach . (3) العبقرية الخلاقة (1) لكن لنلاحظ أن بوبر لم يوضح حتى الآن، ما هو طريق الوصول إلى النظرية الجديدة، كما أوضح الاستقراء، في خطواته المفضية منطقيا إلى خطوة الفرض ثم المعرفة،
33 ⋆
بينما لم يفض بنا منهج بوبر إلى ذات اللحظة التي تخلق فيها النظرية خلقا، فحتى «أ أ» تعني طرح فرض جديد، نظرية جديدة، لكن لم توضح إطلاقا من أين ولا كيف نأتي به.
الواقع أن مثل هذا التوضيح مستحيل، فمنذ البداية وبوبر يستعمل كثيرا ودائما اصطلاح: افتراض حدسي
Conjecture
افتراض لأنه حتما يقيني ومؤقت، أما عن كونه حدسيا فهو حقا ليس في طبيعة الحدسي البديهي
Intuition
عند ديكارت مثلا، فالحدس البديهي بسيط، يبدو جليا للعقل، الذي هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، بينما الحدس الافتراضي العلمي معقد، وقد لا يسهل فهمه إلا للعقول العلمية الجبارة، ولكن كليهما حدس من حيث أصله، وطريقة الوصول إليه، الفرض العلمي يلمع في الذهن بغتة كلمعة الحدس، على هذا يستحيل رسم طريق محدد، منهج معين الخطا للوصول إليه، لنأخذ مثالا: نظام مندليف الدوري للعناصر الكيميائية، القائم على المستوى الذري لبناء المادة، والذي يعتبر أعظم إنجاز للعلم المتجه إلى معرفة كيفية نشوء العالم، «لقد أنشأه مندليف مستندا فقط إلى قيمة الأوزان الذرية للعناصر المعروفة في ذلك الزمان وعلى حدسه الرائع، كما قال نيلس بور.»
34
هذه شهادة من عالم لعالم، تؤكد نظرية بوبر المنهجية التي ترى أن الوصول إلى الفرض يكون عن طريق الإلمام بالحصيلة المعرفية السابقة (في المثال: قيمة الأوزان الذرية المعروفة) ثم قدح الذهن ليتوصل إلى حل للمشكلة المطروحة للبحث، هذا الحل حدسي، لا تنتبه إلا الموهبة العبقرية العلمية الخلاقة، كعبقرية مندليف وأمثاله، على هذا لا يمكن أن ننظر إلى المنهج العلمي، كطريق يفضي حتما إلى فرض، فضلا عن إضافة للمعرفة (كما انتهت آخر خطوات الاستقراء).
بالنظر إلى المنهج العلمي من هذه الزاوية، نكون في عرف بوبر، نتحدث هراء يخلو من المعنى، هذه النظرة إلى المنهج، هي التي حدت به إلى أن يقول لطلاب فيزياء في بداية سلسلة لمحاضراته عن المنهج العلمي: إن مادة هذا المقرر ليس لها وجود،
35
إنه يكره كلمة منهج بما تتضمنه من تقرير أبله، من رسم طريق محدد، أن يلتزم به العالم التزاما لا بد حتما أن يفضي إلى نظرية،
36
وربما كان بوبر يرفض تحديد مثل هذا المنهج، من نفس المنطق الذي يرفض منه تعيين مصدر معين للمعرفة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار، الربط الوثيق بين نظرية بوبر المنهجية وبين نظريته المعرفية. «إذا حاول أحد أن يفكر في منهج علمي يقوده إلى النجاح فلا بد أن يصاب بخيبة أمل، ليس هناك طريق ملكي للنجاح، وأيضا إذا حاول أحد أن يفكر في منهج علمي كطريق لتبرير النظريات العلمية فسيصاب أيضا بخيبة أمل، النظريات العلمية لا يمكن أن تبرر، إنها فقط تنقد وتختبر.»
37
ليس هناك منهج منطقي للوصول إلى الأفكار الجديدة، لا استقراء الوقائع ولا غيره، المنهج العلمي ليس طريق الكشف، بل هو منطق العلم، وليس رسم طريق الوصول إلى النظرية، كما رسمته خطوات الاستقراء، بل هو رسم أسلوب التعامل مع النظرية كما سيرسمه باب التكذيب، لقد ميز بوبر بحسم بين عملية تلقي المعلومة الجديدة، عملية التوصل إلى - أو اختراع - فرض جديد، وبين منهج اختبارها منطقيا ، والتحكم في نتائج هذا الاختبار، فذلك هو موضوع المنهج العلمي ومجاله، أما العملية الأولى، فإنها لا تستدعي التحليل المنطقي ولا هي تقبله، في هذا قال العالم ماكس بلانك: «إن كل فرضية تظهر في عالم العلم تعرض نوعا معينا من الانفجار المفاجئ، وقفزة في الظلام لا يمكن تفسيرها منطقيا، ثم تدق ساعة ميلاد نظرية جديدة، وبعد أن ترى نور العالم تسعى جاهدة إلى النمو والتقدم باستمرار ويتوقف مصيرها أخيرا على المقاييس.»
38
بناء على كل هذا نجد أن التساؤل حول كيفية توصل شخص معين إلى فكرة جديدة؛ لحن موسيقي، أو بناء درامي، أو فرض علمي؛ هو من عمل علم النفس التجريبي، حينما يريد أن يفهم الظاهرة السيكولوجية الهامة؛ ظاهرة الإبداع،
39
لكن يستحيل دراستها في منهج العلم، أو منطقه؛ لأن كل اكتشاف علمي «يحوي عنصرا لا عقلانيا أو حدسا خلاقا.»
Creative Intuition ، بتعبير بيرجسون، حدسا مؤسسا على الحب العقلاني لموضوع البحث.
40
لقد استشهد بوبر بهنري بيرجسون
H. Bergson (1859-1941م) لأنه يفسر عملية الإبداع من خلال الحدس، الذي يحتل مكانا بارزا في فلسفته؛ إذ يرى بيرجسون نوعا من الوحدة الروحية تضم الوجود بكل ما فيه ومن فيه، ونحن لا نمارس الشعور بالوحدة أو الاتحاد مع العالم إلا في ظروف معينة، كما أننا نتفاوت في المقدرة على هذا الاتحاد، والعباقرة المبدعون هم ذوو المقدرة العظمى عليه، ولا فضل لهم في هذا؛ لأنها قدرة تقوم على أساس فطري يتمثل في درجة السهولة التي تصل بها الغريزة إلى مستوى الشعور؛ فالغريزة هي الجانب الذي نشارك به في وحدة الوجود، والاتصال بينها وبين مستوى الشعور أو الوعي يتيح لصاحبه أن يرى مشهدا عاما للوجود بعلاقاته الباطنية العميقة، وهذا المشهد العظيم هو الحدس، الذي يتميز به كل العباقرة والمبدعين من علماء وفنانين،
41
والحدس هو الذي يزيل الحواجز الزمانية المكانية بين المبدع والموضوع، ويجعله ينفذ إليه بنوع من التعاطف
Sympathy ، ويعرف بيرجسون هذا الحدس الخلاق بأنه الغريزة، وقد صارت غير مبالية أو مكترثة، بل شاعرة بنفسها فقط وقادرة على تأمل موضوعها، وقد ركز بيرجسون في كتاباته الأخيرة على الجهد العقلي المبذول في عملية الإبداع، ولكن هذا لا ينفي الدور الأساسي للعنصر اللاعقلاني في عملية الإبداع. (2) لم يوافق بعض الباحثين على هذا العنصر اللاعقلاني، فقد أبدى بول بيرنايز
دهشته، فكيف يرفض بوبر رسم خطوات منهجية منطقية تؤدي إلى الفرض،
42
وقد يرى البعض أنها تتناقض مع عنوان المؤلف المذكور فيه «منطق الكشف العلمي»، ويعتبرها محاولة من بوبر لتفادي تدخل العناصر السيكولوجية في البحث، وإننا إذا ما أخذنا بوجهة نظر بوبر فإننا بالضرورة ينبغي وأن نستأصل مبحث الفرض من مجال البحث في دائرة المنطق.
43
والحق أن هذه النظرة من بوبر هي الأسلوب السليم في النظر إلى مصدر الفرض، وليست محاولة لتفادي العناصر السيكولوجية، فلو حذفنا هذا العنصر اللاعقلاني، وحصرنا الموضوع في قواعد منطقية صارمة - كقواعد القياس مثلا - للوصول إلى الفرض، لاستطاع كل عالم أوتي عقلا أن يتبع هذه القواعد، ويصل إلى فرض علمي يحل المشكلة، كما يستطيع كل منطقي أوتي عقلا أن يتوصل إلى النتائج التي تلزم عن مقدمات القياس، غير أن الأمر الواقع ليس هكذا، قد يقضي عالم عمره في حل مشكلة ولا يستطيع، بينما يستطيع عالم آخر أكثر عبقرية أن يحلها فورا؛ لأن الكشف العلمي ليس عملية آلية، بل عملية خلق وتعديل ثوري، فهناك عنصر العبقرية وهو الأساس وعليه التعويل، ولن يجدي كل منطق الدنيا إذا لم يتوافر هذا العنصر اللامنطقي اللاعقلاني، ثم إنه لا يتناقض بأية حال مع عنوان «منطق الكشف العلمي»؛ لأن الكشف ليس هو الفرض الذي نبدأ منه، بل نتيجة اختبار هذا الفرض، والكتاب بأسره لا يعالج إلا أساليب هذا الاختبار نتائجه، فهل لو وضع العالم فرضا، ثم أثبت الاختبار خطأه كان كشفا؟ كلا بالطبع.
وأخيرا فإن موقف بوبر لا يجعلنا نستأصل مبحث الفرض من المنطق، بل فقط نجعله نقطة البداية التي لا بداية قبلها، أو بالأصح ما قبلها من اختصاص علم النفس، وليس منطق العلم، هذا مقابل الاستقراء الذي يجعل نقطة البداية هي الوقائع الملاحظة.
ويمكن أن نستأنف مناقشة هذا النقد أكثر، فنقول : إنه فور انتهائه نلقى تأكيدا للطبيعة الحدسية للكشف العلمي، وكيف أضفى عليه بوانكاريه طابع التركيز والمفاجأة واليقين الفوري، وأن الأفكار عادة ما ترد للعالم في ومضة
In flash ، كما وصف ولاس ند دارون: «وفجأة ومض في ذهني خاطر كالبرق، وهو أن هذه العملية التلقائية، قد ترقى بالجنس ... إذ ينزع الأصلح إلى البقاء.» وإسهاب في توضيح رأي جون ديوي في أن الومضة هنا تأتي في سرعة البرق الخاطف، وأنها تنطوي على عنصر المفاجأة والإثارة، فهي حدس شبهه كلود برنار بأنه شعاع من نور يهبط فجأة فيضيء السبيل، الأكثر أنه ثمة عروج على علم النفس لإعطاء صورة عامة لموقفه من الإبداع.
44
كل هذا سليم تماما، غير أننا نتساءل: أين الاعتراض إذن على بوبر؟ واضح أن هذه المناقشة النقدية لبوبر ليست أكثر من تأكيد نظرية بوبر وتعميقها بصورة أشمل كثيرا كثيرا مما فعل بوبر نفسه!
ولعل سبب هذا الالتباس، هو الالتباس الشائع في النظر إلى المنهج من أنه منهج التوصل إلى الفرض، وليس فقط منهج التعامل معه، لعل بوبر أول - أو أحد القلائل - الذين عنوا بتوضيح هذا اللبس، وأكد بحسم قاطع ووضوح ناصع أن العلماء لا يتوصلون إلى الفرض عن طريق منهج. (3) وليس هذا رأيا لبوبر أو غيره، بل يكاد يكون تقريرا للأمر الواقع؛ إذ «لدينا شروح من العلماء أنفسهم توضح كيف توصلوا إلى النظريات العلمية بالعديد من الطرق المختلفة، في حالات حلم أو ما يشبه الحلم، في ومضات من الإلهام حتى نتيجة لسوء فهم أو خطأ، دراسة تاريخ العلم تؤكد أن العلماء لم يتوصلوا إلى النظريات بأي منهج محدد.»
45
من هنا كان لبوبر نظرية تماثل روح العلم تماما بروح الفن، حقا أن الخلق العلمي ليس حرا بنفس مفهوم الخلق الفني؛ لأن العلم عليه الصمود أمام اختبارات التكذيب، ومطابقة نتائجه الاستنباطية للوقائع الملاحظة، ولكن محاولة فهم العالم مهمة مفتوحة أمام عالم يتمتع بمواهب خلاقة،
46
فيكون خلقه العلمي إلهاما خطر برأسه، كما أن الخلق الفني وحي وإلهام خطر برأس الفنان الموهوب. «إن الخلق العلمي يماثل تماما الخلق الفني.»
وإن عالم الفن من خلق الإنسان، جميع الأعمال الفنية مخلوقات من خلق الإنسان الفنان، كذلك تماما عالم العلم، كل النظريات العلمية مخلوقات من خلق الإنسان العالم يخلقها، ثم يحاول فرضها على الواقع لتشرحه وتفسره، فهي شباك يحاول بها اصطياد الواقع التجريبي، والجهود مستمرة دائما لجعل ثقوبها أضيق وأضيق.
47
سقوط اليقين أسقط النظر إلى نظريات العلم كحقائق نكتشفها في الواقع، وجاء منهج بوبر ليؤكد هذا، فهو يرفض أن يستجدي العالم الطبيعة بواسطة الاستقراء؛ كي تكشف له عن أسرارها، بل يؤكد أن العالم يخلق النظريات خلقا، تماما كما يخلق الفنان العمل الفني، وكما يخلق الإنسان سائر مكونات العالم (3). - إن النظريات العلمية، تماثل تماما الأعمال الفنية.
وعلى هذا لم يعد ممكنا وجود منطق لعملية الخلق في العلوم، أكثر من إمكانية وجوده في الفنون وكعبقرية خلاقة يقف جاليليو ونيوتن وآينشتين على قدم المساواة مع مايكل أنجلو وشكسبير وبيتهوفن.
48 (4) وهذا الموقف السلبي المحتم على الميثودولوجي بإزاء التوصل إلى النظرية، يعقبه بوبر بمنحى إيجابي، هو نصائح ذهبية للعالم الشاب: (أ)
أولا لا بد أن يكون العالم قد عرف الآن أن نجاح العلم لا يعتمد على قواعد الاستقراء، بل على العبقرية والحظ، والقواعد الاستنباطية البحتة للحجج النقدية،
49
وأن النظرية العلمية يستحيل أن تبرهن فقط يمكن أن تختبر وتكذب، ولا يمكن أن يقال أي شيء من أجلها أكثر من أنها بعد النقد هي الأفضل الأهم الأقوى التي تعد بالمزيد، والأكثر اقترابا للصدق من منافساتها.
50 (ب)
حذار من ضلال الاستقرائيين، انزع تماما فكرة البدء من الملاحظة، طريق العلم المثمر يبدأ من معرفة النقاش الدائر هذه الأيام في العلم، فحاول أن تكتشف أين تقع الصعوبات واهتم أكثر بأوجه الاختلاف
51
وأسبابها، وحاول أن تعرف أهم المشاكل، وعلاقتها ببقية المشاكل الأخرى، وبالبناء المعرفي الذي يمثل «علمنا اليوم».
ملخص هذا: البدء بموقف المشكلة. (ج)
في أية مرحلة من مراحل البحث، حاول أن تكون المشكلة واضحة بقدر الإمكان، وراقب أسلوب تغيرها، واجعلها أكثر تحديدا، ولتكن النظريات المختلفة التي تأخذ بها، واضحة بقدر الإمكان.
يمكن تلخيص هذا: وضوح موقف المشكلة. (د)
ولتكن حذرا من أننا جميعا نأخذ بنظريات دون وعي، نسلم بها على الرغم من أن معظمها قد يكون خاطئا، فحاول مرة ومرة أن تعيد صياغة النظرية التي تتمسك بها وأن تنقدها، بل وحاول أن تبني نظريات بديلة، وحتى تلك النظريات التي تبدو أمامك وكأنها الاحتمال الوحيد، اعتبرها علامة على أنك لم تفهم لا النظرية ولا المشكلة التي تعنى هذه النظرية بحلها.
يمكن تلخيص هذا: الفهم التام للبناء المعرفي فهما نقديا. (ه)
بقي عليك أن تنظر إلى التجارب دائما على أنها اختبارات لنظريتك، ومحاولات لاكتشاف خطئها أي لتنفيذها، وإذا أيدت النتائج والملاحظات نظريتك، فلتتذكر أن هذا ليس تأييدا بقدر ما هو إضعاف لبديلها المناقض، ولعله بديل لم تفكر فيه أبدا.
52
يمكن تلخيص هذا: التأكيد على أهمية التكذيب والنقد، ولكن دعوة بوبر للعالم الشاب هنا إلى نقد نظريته، والمحاولة المستمرة للبحث عن مواطن خطئها كي يتوصل إلى النظرية الأفضل، تبدو وكأنها قد استحالت إلى دعوة العالم إلى أن يشن الحرب على النظرية، ولا يرحمها أبدا، وإذا أخطأتها الضربة، فليجعلها تصيب نظرية أخرى تقف معها في نفس موقف المشكلة!
كل ذلك من أجل دعوة بوبر الحارة لأن يكون طموح العالم دائما هو أن يفند نظريته ويضع الأفضل؛ لأن هذا أفضل من أن يدافع عنها، بينما التفنيد أمر واقع لا محالة، والواقع أن هذه دفعة قوية للعالم الشاب، كي ينجز أكثر وأسرع، ولا يستكين إلى نظرية اعتقد أنها ناجحة، وشبيه بنصيحة بوبر هذه، نصيحة جورج ديهاميل إلى الأديب الشاب، في كتابه «دفاع عن الأدب» الذي ترجمه إلى العربية محمد مندور؛ حيث يقول ديهاميل: «سأفكر أيضا - عندما أهمس بنصيحتي - في النجاح الملتوي المخاتل، ذلك الذي يثني يوما بعد يوم عن مدى أهداف، ويقلم من أظافره وأجنحته، حتى يزج بقدميه في رفق إلى مباذل المجد، سأفكر في هذا النجاح الذي ينال من الشجاعة الحقيقية برضاب قبلاته السامة، كما يجف دماء الحياة، احذر النجاح، كل نجاح باب يغلق، كل نجاح أمل يكبل، كل نجاح مستقبل يقبر، كل نجاح عدو لي.
نعم، احذر النجاح ... احذر هجماته واحذر مكايده، احتقر النجاح، ولكن كيف تحتقره إذا لم تكن قد سيطرت عليه.»
53
وهذا الاقتباس من فقرة تحت عنوان «نقيض النجاح»، يقول ديهاميل في آخرها: «هيا افتح يديك، ضع الكرة البيضاء في يدك اليمنى، والكرة السوداء في يدك اليسرى، النجاح في جهة وعدم النجاح في الجهة الأخرى ... وحاول أن تسير قدما معتدل القامة، محافظا على اتزانك، ولا تذكر غير كلمة واحدة، احذر النجاح، أما الباقي فلم أقله، لقد اكتفيت بأن فكرت فيه فقط.»
54
ولكن رغم كل هذا، لا بد أن يتمسك العالم دائما بقدر من الدوجماطيقية؛ لأنها تمكنه من الاحتفاظ بنظريته إذا كانت تستحق الاحتفاظ، ومن تطويرها كي تواجه النقد، فتصبح في صورة أفضل، ومن ناحية أخرى فإنها مدعاة لأن يكون النقد بدوره قويا حاسما؛ كي يواجه الدوجماطيقية، ولا يمكن الكشف عن مواطن قوة النظرية، ومواطن قوة النقد الموجه إليها بغير هذا الدفاع المشوب بشيء من الدوجماطيقية، وليس هناك أية نقطة في مناقشة النظرية أو نقدها بغير فائدة، كل هذا كي يحاول العالم دائما وضعها في أقوى صورة ممكنة.
55
وأخيرا في نطاق نصح العالم الشاب، ينبغي تنبيهه إلى الداروينية المنهجية؛ إذ ستجعله يضع أمام النظرية اختبارات دقيقة صعبة، كي يجعل صمودها عسيرا، فلا يكون البقاء إلا للأصلح بحق.
هذا هو أقصى ما يمكن أن يقوله بوبر للعالم الشاب، راجيا من هذا أن يفيده أو يدفعه إلى تحقيق أفضل نتائج ممكنة، وهذا قصارى ما يستطيعه علم مناهج البحث بوصفه الضيق السخيف كعلم معياري، أما الطريق إلى خلق النظرية فهو استحالة على أي علم معياري أو لامعياري، بغير توافر عنصر العبقرية الخلاقة. (5) وفي ختام الحديث عن عنصر العبقرية الخلاقة، نقول: إنها، بوصفها مناط الإبداع في العلم، قد ساعدت في تأمين منهج بوبر تماما تماما من أية مشاكل استقرائية؛ لأن مشكلة الاستقراء كانت تبرير القفز من الحالات المحدودة إلى النظرية الكلية، بوبر حذف الاستقراء، ووضع بدلا منه منهج التصحيح الذاتي، ولكن عين المشكلة ما زالت قائمة: فما هو تبرير القفز من موقف المشكلة إلى حلها؛ أي إلى النظرية العلمية؟ العبقرية العلمية هي التي تبرر هذا القفز.
56
وتأكيد أهمية هذا العنصر من أهم النقط التي تسجل لبوبر في مواجهة الاستقرائيين، فأهم عيوب الاستقراء أنه يضفي على البحث آلية ورتابة يستحيل قبولها، وببساطة، كما قال همبل: «لو كان ثمة مثل هذا الإجراء الاستقرائي الميكانيكي العام الذي يكون في متناول أيدينا، لما ظلت على سبيل المثال المشكلة الخاصة بتعليل السرطان دون ما حل حتى اليوم بالرغم من دراستها كثيرا.»
57
خاتمة (1) ربما كان اجتياز العلم في اختباره لوقائع التجريب، هو الذي جعل بعض الميثودولوجيين ينخدعون بأن نظرة بوبر المنهجية فيها استقراء، غير أنها ليست كذلك البتة، والأهم أنها لا تثير على وجه الإطلاق أيا من المشاكل الاستقرائية؛ ذلك لأن عدد الحالات المؤكدة لا يعني لا في قليل ولا في كثير، وحالة نفي واحدة أهم من مليون حالة تأكيد،
58
كل ذلك لأن الفرض العلمي الجديد يوضح طريق الملاحظات الجديدة، أما الملاحظات الجديدة فلا توضح أي طريق لأي فرض علمي جديد؛ لذلك نجد أن هذه النظرية المنهجية البوبرية يلزم عنها الجدة الأصيلة
genuine Novelty
لأفكار العلم الجديدة، جدة تذهب بعيدا بعيدا عن مجرد إعادة تجميع عناصر موجودة بالفعل في صورة جديدة، تلك هي أقصى جدة يمكن أن تسمح بها التجريبية الكلاسيكية الاستقرائية.
59 (2) وفي هذا الصدد نقول : إن ج. س. كيرك
G. S. Kirk
توصل إلى نتيجة خاطئة هي: طالما أن بوبر قد فند الاستقراء، فلا بد أن تكون نظريته المنهجية هي الحدس البديهي
Intuition ، على هذا فهو يدافع عن الفلسفة التقليدية، ويناهض التجريبية الحديثة.
60
هذا التأويل لمنهجية بوبر بالقطع خاطئ؛ لأن الحدس البديهي ليس هو طبعا البديل الوحيد للاستقراء، ولأن فلسفة بوبر المنهجية ليست تقليدية، بل هي تجريبية نقدية، ويبدو لي أن خطأ كيرك نتيجة لخطأ فلسفي شائع، هو خطأ المطابقة بين التجريبية والاستقراء، فكل ما هو تجريبي لا بد أن يكون استقرائيا، وكل ما هو لا استقرائي، لا بد أن يكون لا تجريبيا، وكل هذا نتيجة للتشبث العميق بخرافة الاستقراء، فلسفة بوبر أوضح البراهين على بطلان هذا؛ فبوبر على تمام الاحتفاظ بمبدأ تجريبية المعرفة، طالما أن مصير النظرية - قبولها أو رفضها - تقرره الملاحظة التجريبية، بواسطة نتائج الاختبارات التجريبية، بوبر لا يحتفظ بمبدأ التجريبية فحسب، بل يرسخه ويثبت أقدامه بعد طول اهتزاز وقلقلة استقرائية. (3) والذي يهمنا الآن أن هذا الفصل قد عرض لأسلوب يدعي أنه يحكم نمو المعرفة، أو مباراة العلم الطبيعي، لكنه لا يدعي على وجه الإطلاق أدنى زعم بتمييزها، أسلوب مسار المعرفة ومسار أي نشاط عقلاني، وفي أكثر صيغه عمومية، هو نشاط أية محاولة على وجه الأرض، فلا بد أنه كان أسلوب مسار الميتافيزيقا، الأساطير، العلوم الزائفة، وكل ما نخشى اختلاطه بالعلم. (4) ومن الطريف حقا، إشارة بوبر - لا أدري بوعي أم بدون وعي - إلى أن هذا المنهج ينقلب على نفسه، ليحكم نمو المنهج ذاته، أو ليس بمنهج تصحيح ذاتي، وفي هذا كتب بوبر يقول: «المثمر من المناقشات المتصلة بالمنهج، هي دائما المناقشات التي أوحى بها ما يصادفه الباحث من مشكلات عملية، أما المناقشات المنهجية، التي لم تنشأ على هذا النحو، فيكاد يحيط بها جميعا جو من الغلو في التدقيق لا طائل من ورائه، وقد كان ذلك داعيا للباحث العلمي أن يبخس البحوث المنهجية حقها، واجبنا أن ندرك أن البحوث المنهجية العملية ليست نافعة فقط، بل إنها ضرورية كذلك ، نحن لا نزداد علما في أثناء تطور المنهج وإصلاحه، إلا عن طريق المحاولة والخطأ، كما هي الحال في العلم نفسه، ونحن في حاجة إلى نقد الآخرين، حتى تتكشف لنا أخطاؤنا، ولهذا النقد أهمية عظمى؛ لأن الأخذ بالجديد في المناهج ربما يؤدي إلى تغيير شامل وثوري، ومن الأمثلة على ذلك إدخال المناهج الرياضية في علم الاقتصاد، أو الأخذ بما يعرف بالمناهج الذاتية أو السيكولوجية في نظرية القيمة، ثم مثال أحدث عهدا وهو اقتران مناهج هذه النظرية الأخيرة بالمناهج الإحصائية فيما يعرف بتحليل الطلب، وقد جاءت هذه الثورة المنهجية الأخيرة إلى حد ما نتيجة للمناقشات الطويلة التي كان يغلب عليها الطابع النقدي، وفي هذا المثال ما يشجع الداعي لدراسة المناهج.»
61
الفصل السادس
تعقيب
(1) المنهج لا يميز العلم (1) بعد كل هذا، لم يعد أمامنا أي مجال كيما نناقش: هل المنهج الاستقرائي يصلح كمعيار لتمييز العلم أم لا؛ فليس هناك أصلا شيء اسمه الاستقراء ولا المنهج الاستقرائي، وإذا كانت الملاحظة لها فعلا دور في التوصل إلى نظريات العلم، فليس هذا الدور - على أحسن الفروض - إلا دور محرك الإلهام، والذي قد يقوم به صفاء ضوء القمر أو حلم نوم هادئ،
1 ⋆
أو هو - على أسوأ الفروض - دور العرقلة والإرباك والتقييد.
أولم نر الملاحظة تعرقل إنسكمندر، فتمنع نظريته من الوصول إلى موقف أقرب من الصدق كان يمكن أن تصل إليه، دور الملاحظة - والذي هو دور جوهري وأساسي وهام - يأتي بعد التوصل إلى النظرية، وليس كمقدمة إليها كما يدعي الاستقرائيون.
وطالما أن الاستقراء خرافة، فيستحيل إذن أن يميز المعرفة من أية زاوية، وإذا كان قد استمد سلطانه الزائف في تمييز المعرفة العلمية لأنه يؤصلها؛ أي يرجع أصولها إلى الملاحظة الحسية، فتكون بذلك مختلفة عن المعرفة الفلسفية التي ترجع أصولها إلى التأمل، أو أية معرفة أخرى لا استقرائية، فإن بوبر لا يدري لماذا نبحث عن أصل المعرفة، ولا فيما يعنينا هذا الأصل. في فصل المعرفة موضوعية، رفض بوبر تعيين أي مصدر محدد للمعرفة، ورحب بكل المصادر طالما نتائجها قابلة للنقد، أصل النظرية لا يهم، وإلا كنا نكرر الخطيئة الأرستقراطية، التي تبحث في الأصل والنسب وتغفل تقييم الشخص ذاته، المهم هو قوتها الشارحة وصمودها أمام اختبارات النقد ... أما أصلها، من أين أتت وكيف أتت؟ فهو «سؤال شخصي»
2
للعالم، لا يهم إلا مترجما يكتب السيرة الذاتية للرجل الذي توصل إلى النظرية،
3
أو عالما سيكولوجيا تجريبيا يدرس ظاهرة الإبداع العلمي.
وقد اختلف بعض الباحثين مع بوبر في هذا، مثلا ج. س. كيرك، يرفض موافقة بوبر أن أصل النظرية غير ذي أهمية، ويؤكد أن له دورا في تاريخ العلم وفي فلسفة العلم ؛ لأن سيرة حياة واضع النظرية، هي بوضوح متعلقة بالتطور التاريخي للنظرية، وفلسفة العلم تستخدم بالفعل أمثلة تاريخية،
4
لتوضح مثلا أن كل النظريات العلمية فروض مؤقتة، ولعل كيرك مصيب هنا؛ فقد اضطر بوبر نفسه، في فصل الاستقراء خرافة - مثلا - إلى الرجوع لأصل النظريات العلمية؛ ليثبت أنه ليس استقراء.
ولكن مهما كانت النظرة إلى أصل النظرية، فإنه على أية حال لا يميزها أبدا.
ثم إن آيات فشل الاستقراء - أو الأصل الاستقرائي بالذات - كمعيار للتمييز واضحة وضوح الشمس، ففضلا عن أنه أصاب النظرية العلمية ذاتها - التي يميزها - باللاعقلانية وسائر نتائج مشكلة الاستقراء، فإن أبسط ما لا ينبغي بداهة أن يختلط بالعلم التجريبي، كعلم التنجيم مثلا، يمكن تأصيل نظرياته استقرائيا؛ إذ يمكن الإتيان بكم هائل من الأدلة الاستقرائية القائمة على الملاحظة وخرائط البروج السماوية، والتراجم والسير الذاتية،
5
يمكن مثلا الإتيان بألف شخص ولدوا في سبتمبر، ويتميزون بالحساسية الفائقة، لنعمم ذلك استقرائيا في قانون تجريبي علمي أصيل: كل من ولد في سبتمبر، يتميز بالحساسية الفائقة، وبالمثل أيضا علم الفراسة
، يمكن الإتيان بألف شخص، يتميزون بالجبهة العريضة والذكاء الحاد ... ذلك لأنها علوم زائفة، تدعي أنها تتبع منهجا تجريبيا زائفا زيف الاستقراء.
النتيجة الحتمية الضرورية، لكل ما جاء في هذا الباب، هي استحالة أن يكون المنهج الاستقرائي معيارا لتمييز المعرفة العلمية. (2) والحق أن هذه النتيجة - رغم بداهتها - إنجاز ضخم وعظيم، تكمن عظمته في الشجاعة الأدبية والأصالة الفكرية اللتين انطوى عليهما، كيف يفكر بوبر أصلا في حسم القول في رفض فكرة شائعة شيوع الإيمان، «الاستقراء معيار العلم» تكاد تكون الفكرة الوحيدة في فلسفة العلم التي تدخل في معتقدات رجل الشارع، فهو يجزم بأن العلم التجريبي عظيم؛ فقط لأن العالم يقتصر على تسجيل ما تبوح به التجربة - استقرائيا - من أسرار الطبيعة.
بل وأكثر من هذا، فالإيمان بالاستقراء - كمعيار للعلم - قد تطاول إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ بحيث يمكن اعتبار الثانية نتيجة للأولى، وليس هذا تعبيرا مجازيا بل تقرير لواقعة، هي أن الإمام محمد باقر الصدر، وهو زعيم شيعي من علماء النجف الأشراف، يتمتع بمنزلة دينية وعلمية وقومية فائقة، وقد أخرج دراسة وافية شاملة محيطة بالاستقراء كمنهج للعلم الطبيعي، محددا أسسه المنطقية وجوانبه الميثودولوجية، كي يتبع هذه الأسس بدقة في استدلال استقرائي ينتهي إلى وجود الله،
6
وكأن الاستدلال الاستقرائي هو الاستدلال الذي ما بعده استدلال - تماما كما أن العلم الطبيعي هو العلم الذي ما بعده علم - فيوطد هذه النتيجة العظمى الجليلة، ترى ما موقف الإمام الصدر، لو أنه اطلع على أبحاث بوبر وتبين أن الاستقراء محض خرافة. (3) وأكثر من هذا، فقد حاول بوبر أن يوضح كيف يمارس العالم عمله، فوضع جدلا ما يمكن أن نسميه بالكاد منهجا للعلم: مشكلة، محاولة حلها، استبعاد الخطأ ...
لكن هذا المنهج لم يدع إطلاقا أية خاصة لتمييز العلم؛ فهو منهج البحث العلمي، بمعنى منهج محاولة حل المشاكل العلمية، لكنه لا يختلف في جوهره عن منهج أية محاولة أخرى لحل أية مشكلة أخرى، لقد كانت نظرية منهجية، أكدت رأيه في أن النظرية العلمية آتية تقريبا من نفس الطريق الذي أتت منه النظرية الميتافيزيقية، أو أية نظرية أخرى، من هذه الوجهة لا تمييز إذن، التميز والاختلاف فقط في الأساليب الفنية التي نتعامل بها مع النظرية العلمية على أساس الخصائص المنطقية لبنيتها.
لكن هل حقا المنهج بمعنى الإجراءات الفعلية والخطوات الواقعية التي يجري بها العلم أبحاثه، لا يمكنه أن يدمغ هذه الأبحاث بالسمة العلمية؟
في هذا يقول جان فوراستيه
Jean Fourastie : «إن للمنهج العلمي مدى يمتد من العالم إلى الإنسان المتوسط، ومن الميكانيكا الموجبة إلى الأحداث المبتذلة للحياة اليومية، فليس هناك مجالان منفصلان: مجال العلم ومجال الحياة، والنهج العلمي ليس تقنية خاصة بذوي الاختصاص كما يختص خبراء التأمين بنظام الاحتمالات، والقضاة بالقانون، وعلماء الآثار المصرية بالهيروغليف، بل هو أحد الوسائل المعطاة لكل إنسان، وأكثر هذه الوسائل سهولة وضمانا لمعرفة العالم الذي انتظم فيه الإنسان؛ الكون والأرض والنباتات والحيوان والأشخاص.
ودائرة العلم ليست مقتصرة على علم الفلك والكيمياء الذرية أو الفيزياء الكمية، إنما على أسرار المادة والكون وغوامض الحياة العميقة، بل يشمل كل الواقع الملموس، والمنهج التجريبي لا ينطبق إذن على وصف الكواكب والإلكترون أو سيانور البوتاسيوم وتفسيرها ومعرفتها فحسب، بل ينطبق كذلك على كل وقائع وأحداث الحياة اليومية لكل إنسان حي.»
7 ،
8 ⋆
واضح أن جان فوراستيه هنا، يعني نفس ما عناه بوبر حين قال: إن الصياغة «م1
ح ح
أ أ
م2» تصف النشاط العلمي كما تصف سائر الأنشطة ولا فارق البتة، وهذا هو الرأي السديد؛ لأن العلماء ليسوا فصيلة آتية من كوكب آخر، كما يراهم مثلا عالم الرياضة والتناسليات الإنجليزي كارل بيرسون
Karl Person (1857-1936م)؛ إذ يعطي كتابه قواعد العلم
The Grammar of Science
انطباعا بأن العلماء قوم غرباء، يمارسون نشاطا غريبا هو الاستقراء، المتلخص في جمع الحقائق وتبويبها بمنتهى الآلية، وهذا بالطبع خطأ، «العلماء مجموعة عادية من البشر، لهم طبائع عدة، بعضهم ذوو صنعة، وبعضهم موسيقيون أو شعراء أو متصوفة، بعضهم يستلقط الأخطاء، وبعضهم يكتشف الحقائق، وبعضهم يبني الأنساق، فليس هناك تكوين محدد اسمه العقلية العلمية، ولا شيء محدد اسمه المنهج العلمي.»
9
أما رأي كارل بيرسون السطحي الساذج، فقد أثار ثائرة العالم الأمريكي الكبير جيمس كونانت
James Conant (1893م-؟) الذي أكد ما أكده بوبر من أن منهج العلم لا هو الاستقراء، ولا هو خاص به كي يميزه، فيقول: «لا يوجد شيء واحد يشار إليه وحده فيقال: هذا هو المنهج العلمي ولا شيء سواه، إن العلوم الطبيعية المختلفة لا تكتشف عن طريقة يقال إنها واحدة وحيدة.»
10
وحينما يضطر كونانت جدلا لرسم صورة عامة لمنهج العلم - كما اضطر بوبر لرسمها جدلا - يطرحها في ست خطوات: (1)
يصادف الرجل مشكلة يتعرف بها، ويحدد أغراضه فيها. (2)
يجمع كل الحقائق المتصلة بموضوعها. (3)
صياغة فرض مؤقت تمهيدي يكون أساسا للعمل. (4)
يستخرج من هذا الفرض استنتاجات لو صحت لصح الفرض الذي خرجت منه. (5)
يكشف عن صحة هذه الاستنتاجات بالتجربة الفعلية. (6)
وبناء على ما تخرجه التجربة، يقبل الفرض أو يعدله أو يرفضه.
11
تماما طبقا لما قاله بوبر في خطوات المنهج، بل وقد عقب عليه تعقيبا بوبريا إذ قال كونانت: «وماذا في هذا المنهج من جديد، إنه منهجنا طوال الحياة، وإن كان هذا هو المنهج العلمي، فنحن إذن علماء طوال الحياة ونحن لا ندري كما قال أحد أشخاص رواية كوميدية لموليير، حين عرف ما النثر بعد جهل «إذن أنا كنت أقول النثر طوال حياتي ولا أدري».»
12
أجل، فقد أصاب كونانت، كما سبق أن أصاب بوبر من قبل، إن المنهج العلمي بمعنى مسار إجراءاته، وأسلوب العمل الفعلي فيه لا يميزه، بل يميز الإنسان العاقل في شتى مناشطه، بل ويميز الحياة على كوكب الأرض.
منهج العلم ليس خاصا به كي يميزه، إنه ليس معيارا للمعرفة العلمية. (4) غير أن موافقة بوبر على هذه الدعوى الكلية التي انتهى إليها الباب، لا تمنع من مناقشة فصوله في الكثير الجم من الأفكار التي أفضت إلى هذه النتيجة.
فلنناقش موضوعية المعرفة بشتى جوانبها، وننتقل إلى مناقشة موقف بوبر من الاستقراء لننتهي بتقييم نظريته في منهج العلم.
13 ⋆ (2) تعقيب على المعرفة الموضوعية (1) أول ما ينبغي أن يقال لبوبر حول موضوعية المعرفة هو أنه من التهور الفلسفي أن نطلق ببساطة على البحوث الإبستمولوجية - منذ أرسطو حتى رسل - الحكم بأنها غير ملائمة وليست في مكانها السديد فقط؛ لأنها تحسب حساب الاعتقاد، هذا حكم جزافي واسع وخطير، وليس من السهل تقبله، لا من بوبر ولا من أي فيلسوف آخر، بل وليس من السهل حتى أن ندعه يقوله.
فقبل كل شيء هل يمكن حقا أن تقطع المعرفة كل صلة بينها وبين الذوات قطعا باتا - كما يريد بوبر - كي تكون موضوعية، في حين أن المفهوم الحديث للموضوعية، والذي يستعمله بوبر نفسه، هو مفهوم أو مصطلح البين-ذاتية
inter-subjectivity .
ومن الناحية الأخرى، فليس الانشغال بالاعتقاد في المعرفة هو الإثم المعرفي البين؛ فالاعتقاد ليس مجرد عملية بيولوجية تدور داخل ذهن معين في العالم، ولا ينبغي أن نلتفت إليها في العالم الموضوعي العالم 3، كلا، في العالم 2، ولا ينبغي أن نلتفت إليها في العالم الموضوعي، ولأكثر من سبب يمكن على سبيل الاختصار حصرها بين سببين:
أولا:
النظرية قبل أن تخرج إلى العالم 3، لا بد أن تكون اعتقادا في ذهن العالم أو الفيلسوف أو المفكر الذي قال بها.
ثانيا:
أهم العوامل التي تجعل المثقف العادي يهتم بالعالم 3، هو أنه يعينه على تكوين اعتقاداته؛ فشخصية الإنسان هي مجموعة اعتقاداته، وهي الهدف النهائي للبحوث الفلسفية، فالفلسفة - فيما يراها بوبر نفسه - مجرد بحث نقدي في معتقدات الإنسان العادي.
14
الاعتقاد إذن هو نقطة البدء ونقطة النهاية للبحوث الفلسفية.
وفضلا عن هذا، نجد أن الفارق الذي أقامه بوبر فيصلا حاسما بين المعرفة الموضوعية وبين الاعتقادات الذاتية، لا يصلح في واقع الأمر لأن يفرق بينهما، فهذا الفارق هو القابلية للنقد، والمعرفة طالما صيغت في لغة، فقد خرجت عن حدود الذات وأصبحت موضوعية - أي أصبحت بين-ذاتية - ووجب أن تدق لها أجراس المنطق والفلسفة والعلم فقط لأنها أصبحت قابلة للنقد بين الذوات، أي بين الباحثين، لكن بوبر أتى في موضع آخر ليخبرنا بأن هذا النقد للمحاولات المعرفية من الأفضل أن يكون ذاتيا.
15
وأن نكتشف مواطن الخطأ في نظرياتنا خير من أن يكتشفها الآخرون؛ ومن ثم يمكن أن نقول لبوبر: إن المعرفة الذاتية؛ أي الاعتقادات، هي طبعا قابلة للنقد الذاتي الذي حبذه هو نفسه، فلا يصبح النقد، أو القابلية له، مبررا لكل هذه التفرقة الحاسمة.
ومما يؤكد هذا أكثر أن العالم النفساني أنطوني ستور
Anthony Storr
قد توصل - ودون أن يقرأ أعمال بوبر - إلى الاستنتاج التالي: «حينما نلج موقفا جديدا في الحياة، ويواجهنا شخص جديد، فإننا نصطحب معنا الانحيازات المكتسبة من الماضي، ومن خبراتنا السالفة مع الناس، ونسلط هذه الانحيازات على الشخص الجديد، والحق أن محاولة التعرف على شخص ما، هي إلى حد كبير سحب إسقاطات وطرد ستار دخان مما نتخيله، وإبدال ذلك بحقيقة حاله فعلا.»
16
أي إن التعرف على شخص جديد محاولة نستبعد منها الخطأ فنجد أمامنا موقفا جديدا بمشاكل جديدة، مما يعني انطباق الصياغة التي وضعها بوبر لوصف المعرفة الموضوعية: «م1
ح ح
أ أ
م2» على المواقف النفسية، وقد اتخذ بريان ماجي - أبرز شراح بوبر - من هذا معوانا لكي يؤكد على عمومية تلك الصياغة وانطباقها على كل عمليات التطور وعلى كل عمليات التعلم، حتى العملية النفسية التي يتعارف بها البشر فيما بينهم، أي إن بريان ماجي قد رأى في تلك النتيجة التي توصل إليها العالم النفساني أنطواني ستور كسبا لبوبر، يزيد من نطاق نظريته، لكنه هنا خسارة له؛ إذ يؤكد أن الفارق بين المعرفة الموضوعية وبين الاعتقادات السيكولوجية ليس بهذا الحسم القاطع.
ويمكن أن نجادل بوبر أكثر من ذلك، فنقول: إنه هو نفسه كثيرا ما يستعمل - وهو بصدد إثبات دعاوى موضوعية صرفة - اصطلاحات مثل: اعتقاد، أعتقد أن، ... فلماذا يدعو إلى الاستئصال التام لشأفة الاعتقاد وكأنه نبتة غريبة في حديقة التفلسف المعرفي.
دعوى بوبر إلى موضوعية المعرفة واستقلالها عن أي ذات أصوب، وتركيز الجهود على المحتوى الموضوعي يفيد هذا المحتوى أكثر، كل ذلك رائع، وقد سبق أن أكد وايتهد على ضرورة استبعاد الذات العارفة من الدخول كمتغير في معادلة الطبيعة وما بين الأشياء من علاقات
17
وموضوعية بوبر بلا شك أقوى وأشمل، وهي الجديرة بالأخذ دون سواها من النظريات المعرفية، لكن الذي لا يمكن الأخذ به أبدا هو الحكم على الفلسفة بعمرها الطويل وعمالقتها العظام، الذي نحني الهام إجلالا وتكرمة لهم، بأنها غير ملائمة، لا تعرف ما هو مبحثها، وينبغي أن نزيلها هكذا بجرة قلم، هذا أسلوب نقد كلي، رفض كيان مهيب ثري بمبدأ واحد، بوبر أول من يعيب هذا الأسلوب كما عابه على الوضعية في رفضها للميتافيزيقا بمبدأ واحد، كما عاب على الماركسية رفضها للوضع القائم بأسره مرة واحدة ... (2) أما عن نظرية الصدق التي يأخذ بها بوبر، أي التناظر، فهي الموقف الشائع شبه المعتمد، فهذه النظرية تبدو وكأنها النغمة المسيطرة على سيمفونية الفلسفة والاستثناءات البسيطة كنظرية الترابط أو الاتساق
Theory of Coherence
أو الالتجاء إلى التحقق الحسي بوصفه معيارا للحقيقة، أو النظرية البراجماتية التي ترى الصدق في المنفعة، أو الاتجاه الصوفي الحدسي أو الديني، أو ما عدا ذلك من معايير مثل السلطة
authority
أو معيار الاتفاق الاجتماعي، أو اليقين الباطن، أو حتى المعيار المركب الذي يرى أن الدليل الوحيد الكافي على الحقيقة، ينبغي أن يكون مركبا من كل هذه النظريات والمعايير المتعددة،
18
كل هذه النظريات بمثابة نغمات نشاذ، والسؤدد الأعظم إنما هو لنظرية التطابق، منذ أن قال بها أفلاطون في محاورة السفسطائي مرورا بالعصور الوسطى شرقا وغربا، فالحقيقة عند الإسلاميين هي تطابق «تناظر» ما في الأذهان مع ما في الأعيان، وهي كذلك عند اللاهوتيين في الغرب حتى قال بها رسل،
19
خصوصا في الفصل الثاني عشر من كتابه «مشكلات الفلسفة» فهذا الفصل يدور حول الصدق والكذب
Truth and Falsehood
يشرح رسل فيه أن الصدق هو تناظر الاعتقاد - الذي يغضب بوبر - أو الحكم مع الواقعة، هي إذن الموقف الشائع، وليكن ألفرد تارسكي - كما يرى بوبر - هو الذي أخرجها في أفضل صورة، وخلصها من الدوران المنطقي، فهي على أية حال نظرية منطقية، والمنطق بحكم الطبيعة الصارمة لا يحتمل الكثير من القيل والقال. (3) أما عن نظرية بوبر في العوالم الثلاثة، فهي من أمتع إبداعاته، حتى لقد أخرج عنها العالم البيولوجي سير جون إكسلس
John Eccles
كتابا قيما هو: «مواجهة الحقيقة، مغامرة فلسفية بذهن عالم» حيث بحثها بالتفصيل، وأثراها بتبيان العلاقة بينها وبين فسيولوجي الأعضاء، وبوبر لا يزال يخرج أعمالا عنها وعن تطبيقاتها في حل مشاكل فلسفية كثيرة، خصوصا العقل والمادة.
هذه النظرية خصبة للغاية، فهي تساعد على توضيح لماذا استعصى على الحل ذلك النزاع القديم حول ما إذا كانت الأخلاقيات والجماليات وسائر المقاييس المعيارية ذاتية أم هي موضوعية، حلت المشكلة ببساطة، وأصبحت هذه الأشياء من مكونات العالم 3، كما أنها تزودنا بتحليلات لمشكلة أهم، هي مشكلة التغير الاجتماعي؛ إذ سيصبح هذا التغير بسبب الخاصة الموضوعية لمخلوقات الإنسان في العالم 3، وللعلاقات التبادلية بينه وبينها، والتي تنمي تلك العلاقات، وتجعل له ولها تاريخا.
20
والأهم أن هذه النظرية - فوق كل هذا - خسارة مبينة للوضعيين والتجريبيين المتطرفين الذين يرون في المثل وسائر النظريات الميتافيزيقية تشبيهات مجازية وتحليقات خيالية تخلو من المعنى، ومحاولة من الفلاسفة لتغطية جهلهم وعجزهم عن تفسير الحقائق، بوبر يوفر أدنى عناء أو اختلاف في الرأي، حين يناظرها ويقارنها بالنظريات الميتافيزيقية العتيدة، كالمثل الأفلاطونية والروح الهيجلي، لقد درج الوضعيون على إدانة كل من ينشغل بالمباحث الميتافيزيقية بالجهل والرجعية والتأخر، فماذا عساهم أن يقولوا في بوبر - العالم وفيلسوف العلم: إنه شاهد من أهلهم. (4) أما عن الصياغة «م1
ح ح
أ أ
م2» فهي ذات قيمة كبيرة لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار النتائج الجمة التي ترتبت عليها، لكن يبدو أن بوبر قد قفز بها قفزا جزافيا، وأنه عمم إياها تعميمات شديدة تجافي الواقع، فهي محاولة لقولبة الأنشطة، كي ننظر إليها نظرة كلية عامة، أي نظرة فلسفية، ورغم أنها مبهمة، فمن الصعوبة بمكان الاقتناع بأن أسلوب الأميبا في الحصول على طعامها، هو نفس أسلوب وصول آينشتين إلى نظريته، لقد عاد بوبر ليقول: إن النقد وممارسة التصحيح الذاتي هو الذي يميز آينشتين عن الأميبا، التي لا تستطيعه فلا تستطيع حذف الخطأ، والخطأ يعني هلاك محاولتها وهلاكها، معنى ذلك أن نشاط الأميبا تختفي منه الخطوة «أ أ: استبعاد الخطأ» فلا بد أن يتبع ذلك منطقيا اختفاء الخطوة «م2»، وهذا فعلا ما يؤيده الواقع، فحياة الأميبا ليست فيها أية مشاكل جديدة أو مواقف جديدة، إنها تحيا الآن، تماما كما كانت تحيا منذ ملايين السنين، لكن باختفاء «أ أ» و«م2» ماذا بقي إذن من الصياغة؟ وبالتالي، كيف يمكن أن تسير حياة الأميبا في حلقات؟ على هذا ينتفي انطباق الصياغة على الأميبا وسائر الصور الدنيا من الحياة.
وقد يقال: إن هذه الصياغة تنظيم لنظرية داروين، وإن بوبر يقصد بها حلقات الحياة التي أفضت إلى الأميبا، من هذه الوجهة: لا اعتراض، الاعتراض على قوله المحدد من أن منهج الأميبا في حل مشاكل حياتها، هو عينه نفس منهج الوصول إلى النسبية، وعلى قول بوبر: «آينشتين قد يخطئ، تماما كما أن الأميبا قد تخطئ.»
21
لقد أخطأ بوبر وهو يضع آينشتين مع الأميبا في نفس الفئة، فئة ما صدقات نظريته، خطأ منطقيا وأدبيا. (5) أما بخصوص عقلانيته النقدية، فقد تجنى بوبر كثيرا على العقلانية الكلاسيكية، غير صحيح أنها فلسفة تسلطية، وكون ديكارت يجعل العقل ووضوحه وتميزه معيارا، كما يجعل التسلطيون الكتاب المقدس وفلسفة أرسطو معيارا، فهذا لا يعني تطابقا بينهما، السبب بسيط هو أن الكتاب المقدس - أو فلسفة أرسطو - محدود المعالم، بل محدود الصفحات والكلمات والعبارات والأفكار، يرسم أطرا راسخة لمحتوى الفكر، يلتزم بها المفكر التزاما، فيقصر جهوده على استنباط ما يلزم عنها وكشف العلاقات بينها، وما هكذا العقل ولا حتى الحس، فالمجال أمامه مفتوح وله حرية الحركة وحرية الخلق والإبداع، كل ما في الأمر أن العقل هو الفيصل، تماما كما أن النقد هو الفيصل في العقلانية البوبرية، فهل نجاري بوبر فنقول: إنه هو الآخر تسلطي وليس عقلانيا، وقد وضع سلطة النقد بدلا من سلطة الكتاب المقدس وأرسطو؟ إننا لا نقول هذا؛ أولا لأن النقد عملية دينامية متحركة متطورة، باكتشافها لمواطن الخطأ تدفع إلى الأمام في شكل الحلقات «م1
ح ح
أ أ
م2»، وثانيا - وهو الأهم: إننا لو فعلنا هذا لأصبحنا مكررين لنفس الخطأ الذي ارتكبه بوبر وننقده الآن.
زعم بوبر أن العقلانية تسلطية، يماثل الزعم بأن الوضعية المنطقية ما هي إلا مثالية ميتافيزيقية متطرفة، أمثال هذه الانتقادات الدائرية تضر الفلسفة أكثر مما تفيدها ألف مرة، فهي تجعلها كائنا رخوا أو عالما مفككا كل شيء فيه جائز.
الخطأ الحقيقي للعقلانية الكلاسيكية - بشقيها التجريبي والعقلي - هو اعتبارها الحقيقة بينة واليقين سهل المنال، ولكن حتى في هذا الخطأ لا نستطيع أن نلومها، لا بد أن نلتمس لهم العذر تقديرا للظروف المعرفية للعصر الذي نشأ فيه الاتجاه بشقيه؛ فقد كان عصرا يسلم بداهة بأن اليقين هو الهدف المنشود، وإلا فعما نبحث؟ عن الشك أم الجهل، لقد رأينا - إبان الحديث عن مشكلة الاستقراء - أن الحتمية ظلت من بديهيات العلم التجريبي، منذ عرف طريقه إلى النور مع عصر النهضة، وقد بلغ الإيمان بها ذروته في القرن الماضي، الذي ننفصل عنه ببضع عشرات من السنين فحسب، حيث كان المبدأ المسلم به، حيث لا حتمية لا علم، والحتمية واليقين صنوان،
22 ⋆
أما اعتبارهما من مخلفات عصور الجهالة، وأن حساب الاحتمال هو المنطق الملائم لطبيعة المعرفة العلمية، فإن هذا من أحدث ما توصل إليه العلم في قرننا العشرين، وهو من سمات الفلسفة المعرفية المعاصرة، فليس من العدل أن نحاسب مراحل فلسفية سابقة على هذا المطلب اليقيني.
إن العقلانية النقدية أصوب - بلا شك - من أية عقلانية، أو من أية نظرة إبستمولوجية أخرى؛ فأولا: ليس هناك نقد جامع شامل يفند كل محاولة للبحث عن اليقين القاطع يمكن أن نعثر عليه في كتابات أي فيلسوف من الفلاسفة المعاصرين،
23
أكثر من المذهب الذي يجعل البحث عن الخطأ والنقد لحمة سداها العقلانية، وثانيا هي عقلانية لا تحصر نفسها في حدود معطيات الحواس، ولا تطلق نفسها مع عنان العقل الخالص، ثم إن النقد يجمع خير ما في الطرفين، فضلا عما له من طاقة غير منكورة لحذف الخطأ، والاقتراب من الحقيقة، أي لدفع عجلة التقدم، لكن هذا لا يعني أن العقلانية الكلاسيكية - خصوصا عقلانية ديكارت - بكل هذا القبح الذي صوره بوبر.
ومن الملاحظ أننا عرضنا الآن ثلاثة أطوار للعقلانية:
العقلانية التجريبية «بيكون».
العقلانية العقلية «ديكارت».
العقلانية النقدية «بوبر».
أفلا يبدو للوهلة الأولى، أن هذا ليس إلا تطبيقا للروح الهيجلية في أطوارها الثلاثة، فقد بدأت بالعقلانية التجريبية، وهي أبسط الأنواع وأكثرها سطحية «الروح في ذاتها»، ومن المعروف أن البحث الفلسفي، قد درج على اعتبار الإبستمولوجية العقلية نقيض الإبستمولوجية التجريبية، فالعقلانية العقلية إذن هي الروح لذاتها أتت بعدهما العقلانية النقدية ، لتجمع خير ما فيهما وتتجاوزهما بما هو الأفضل، إنها إذن الروح المطلق تكشف عن نفسها في الحركة الجدلية.
24 ⋆ (3) تعقيب على موقف بوبر من الاستقراء (1) قبل أن نناقش موقف بوبر من الاستقراء، نناقش أولا نقده لهيوم، والفحوى الأساسي لهذا النقد، أي القالب الذي صبت فيه جزئياته، لا يخرج كثيرا عن تصنيف معروف لمنطق هيوم، هو إدراجه تحت النزعة النفسية، التي تنكر استقلال المنطق عن الحياة والنفس، وتحاول رد كل شيء وكل الحقائق وكل العلوم إلى الحياة النفسية ومكوناتها، وهذا اتجاه قديم يعود إلى بروتاجوراس حين قال: إن الإنسان مقياس الأشياء جميعا، وسار فيه ميشيل دي مونتني
M. DeMontaigne (1532-1592م)، داعية الشك المذهبي بغية توطيد الدين والعلم المنزل، ثم ديفيد هيوم، ولعله أشد أقطاب النزعة النفسية تطرفا؛ إذ أخرج عمله الأول باسم «رسالة في الطبيعة البشرية» رغم أنها في المنطق والمعرفة «وهي تسمية واضحة الدلالة على أن العقل البشري لا ينفصل في رأيه عن الطبيعة البشرية، بل إن العقل على نحو ما معبر عن الطبيعة وثمرة لها.»
25
إذن الحكم بأن هيوم ضائع جملة وتفصيلا في غمار هذه النزعة النفسية، ليس من كشف بوبر بل هو معروف منذ أكثر من مائتي عام، الجديد الذي أتى به بوبر هو الجزئيات التي أكد بها هذا الحكم، ثم الشواهد من العلم الحديث، التي تؤكد أن هيوم على خطأ، وأن أبحاثه غير ذات قيمة، حتى بالنسبة للنزعة النفسية. (2) أما عن حل بوبر للمشكلة، فهو اعتمد كثيرا على براعته المنطقية، فاستخدامها في صب المشكلة على صورة نخرج منها بمنطق للعلم لا أثر فيه لاستقراء البتة، وربما كانت هذه الفكرة في ذهن بوبر قبل أن يحاول حل المشكلة، إنها افتراضه الحدسي ونزوعه الفلسفي المسبق الذي كان في ذهنه ففسر على ضوئه الملاحظات الفلسفية، إن جاز لنا أن نستخدم مصطلحاته، لقد زعم بوبر أنه سيعيد صياغة النظرية كي تصبح موضوعية، غير أن «الموضوعية» لم تكن هدفه الحقيقي من إعادة الصياغة، بل كان هدفه هو أن يطرح التساؤل حول ما إذا كان هناك استقراء فعلا أم لا؛ وذلك كي يجيب بلا فيخلصنا من الاستقراء ومن مشكلته معا، إنه حل ينطبق عليه المثل الدارج «حل العقدة بالمنشار» أي تخلص منها نهائيا، «وبأسلوب لا يسمح لها بأن تقوم.»
26
لذلك لا جدوى من مناقشة الحل في حد ذاته، بل ينبغي أن نناقش الفكرة الأساسية والتي لا يعدو هذا الحل سوى أن يكون ظلا لها، بل وفلسفة بوبر المنهجية بأسرها ظلا لها، أي فكرة خرافية الاستقراء.
هل يمكن أن نوافق بوبر على أن الواقع لا يحوي شيئا اسمه الاستقراء البتة؟ (3) قامت الدنيا وقعدت بسبب هذه الدعوة من بوبر، خصوصا في الثلاثينيات والعشرينيات من هذا القرن، وأثارت ردود أفعال لا حصر لها، غالبيتها إما منبعثة من الإيمان الدوجماطيقي بالاستقراء الذي لا يطيق أدنى تشكيك فيه، مثل ردود استراوسون ورايشنباخ، وإما منبعثة من الثورة على شخص بوبر؛ لأنه أوتي من الجرأة حدا بحيث يشكك في فكرة بمثل هذا الرسوخ كردود جيوفري وأرنوك.
وأقيم المناقشات في هذا الصدد هي مناقشة ب. بيرنايز، التي تتلخص في أن دعوى بوبر صادقة في حدود العلم البحت فقط،
27 ⋆
إذ يجب التمييز بين فرعين: العلوم الوصفية والعلوم البحتة، العلوم الوصفية تسير بلا مشاكل، أي بغير التزام بتقديم عالم جديد من المفاهيم والمقولات، والعلوم التجريبية الوصفية تبدأ من الملاحظات، فهي جمع وترتيب للخبرات؛ ذلك لأننا نستطيع الإقرار بالوظيفة الإبستمولوجية الأساسية للمدركات في العلوم التجريبية الوصفية، بغير الوقوع في النزعة السيكولوجية
طالما لا نشير إلى الدركات بوصفها حقائق، بل نشير إلى استعمالاتها.
28
أي يرى بيرنايز أن الاستقراء بمعناه الحرفي، أي جمع الوقائع التجريبية وتعميمها، هو منهج العلوم الوصفية، دون العلوم البحتة، وأنه ليست هناك مشاكل منطقية مثل الوقوع في النزعة السيكولوجية، تجعل بوبر ينفي الاستقراء عن العلوم الوصفية تفاديا لها.
وشبيه بهذا نقد ح. س. كيرك، وخلاصته أن بوبر تجاهل المرحلة التمهيدية الأساسية من إجراء الملاحظات (يمكن القول: إن المرحلة التمهيدية تناظر العلوم الوصفية) وهي - في نظر كيرك - تشييد بناء معقد من الخبرات، تخرج منه الحدوس والنظريات الكلية بطريقة استقرائية إلى حد ما، تجاهلها بوبر وركز فقط على المرحلة الثانية، التي يخرج منها ذلك الحدس البديهي الذي قوض بوبر به الاستقراء، «ولكن تجاهله للمرحلة التمهيدية الاستقرائية، والتي هي حيوية للتنظير العلمي، تجعله لم يطوق بالفعل مشكلة الاستقراء كما تصور.»
29
لكن لا بيرنايز ولا كيرك أصابا، ذلك أن بوبر لم ينكر الدور الأساسي الاستقرائي للملاحظات تفاديا للنزعة السيكولوجية كما تصور بيرنانز، بل نكرها إقرارا لحقيقة الأمر التي أثبتتها البحوث السيكولوجية، من أسبقية التوقع على الملاحظة الحسية؛ لذلك فهو لم يتجاهلها ويقفز مباشرة إلى الفرض كما تصور كيرك، بل فقط سبق الفرض عليها، يستحيل أن يتجاهل بوبر دور الخبرة؛ لأنه فيلسوف العلم التجريبي، وهو يعلق عليها الاختبار الذي يحدد مصير النظرية، فقط لا يجعل لها الدور الاستقرائي، مرة أخرى وأخيرة نقول لبيرنايز وكيرك ورايشنباخ وأمثالهم: إن العلوم الوصفية لم تنبعث من محض ركام هائل من وقائع، بل انبعثت من نزوعات عقلية، من افتراضات مسبقة، خلقها العقل خلقا مثلا تشريح الحشرة، سبقه افتراض التماثل بين سائر أفراد جنسها، بحيث إن تشريح واحدة، يصلح نموذجا معبرا عن تشريح جنسها.
ومن أين أتينا بهذا الافتراض، من نزوع العقل الإنساني نحو افتراض التماثل، خرجنا به إلى عالم التشريح، وأوضحت نتائج اختباره أنه ملائم، وما به من أخطاء صححناها، والنتيجة أن لدينا الآن فكرة علمية عن تشريح هذه الحشرة، ونحن عالمون أن المستقبل يحمل تطويرا وتمكينا أكثر لأدوات التشريح، ونحن في انتظار هذا المستقبل لنحصل على صورة أدق لتشريح هذه الحشرة، أي صورة أقرب إلى الصدق.
الاستقراء خرافة في العلوم البحتة، وهو أيضا خرافة في العلوم الوصفية، وفي كل علم وكل مجال الفارق بينهما - الذي غاب عن بيرنايز وكيرك - هو أن العلوم الوصفية تلجأ إلى التجريب في النتائج المباشرة والسطحية للفروض العامة، أما في العلوم البحتة فنلجأ إلى التجريب في النتائج البعيدة المستنبطة استنباطا منطقيا ورياضيا من الفروض الصورية، وفي كلا العلمين التعديل في الوصول إلى الفروض - وكل علم محض فروض - على العقل الخلاق ، وتقوم التجارب بدور الاختبار، ولا وقائع مستقرأة البتة.
وليس من المجدي الاستمرار أكثر في مثل هذه المناقشات.
30
ومن يدرس أعمال بوبر بإتقان ونزاهة، لا بد حتما أن ينتهي في النهاية إلى التحرج من التفوه بلفظ الاستقراء، هل كانت البشرية في حاجة إلى انتظار بوبر كي تتيقن من خرافية الاستقراء؟ إن هذا لأمر غريب حقا، كيف قفز إلى الأذهان تصور كل هذه القوى الخلاقة لمحض وقائع الحس للحيوان حواس أقوى - أحيانا أكثر من مائة مرة - من حواس الإنسان، فلماذا لم يستقرئ الوقائع بدقة، ويبني علوما ولو حتى وصفية فقط؟ الجواب بديهي: لأنه يفتقر إلى العقل المبدع الخلاق الذي يطرح الفروض التي تمكنه من الدخول المنهجي المنظم لعالم الوقائع الحسية، دخولا يخرج منه بنتيجة قد تكون تصحيحا لافتراضه المسبق، وقد تكون الإبقاء المؤقت عليه، وينطلق من هذه النتيجة إلى جولة جديدة ...
للحيوان لغة تواصل: وبالقطع أقصى استخدام لها هو الإشارة إلى وقائع الاستقراء، فلماذا لم يخرج من هذه الوقائع بقانون علمي واحد، هذا بينما نجد نموذجا صارخا، هو العالم الطبيعي فرانسس هوبر
Francios Huber
31 ⋆
فقد ترك تجارب وأبحاث علمية جديرة بالإعجاب حقا، على الرغم من كفاف بصره؛ إذ كان يتصور هذه التجارب ثم يعهد بتنفيذها إلى خادمه، الذي كان خالي الذهن من أية فكرة علمية.
فكان هوبر إذن الذهن المدبر الذي ينشئ التجارب ويديرها، لكنه كان مضطرا لاستعارة حواس شخص غيره، وكان الخادم يقوم بعمل الحواس المنفعلة التي تطيع العقل لتحقيق التجربة المنشأة تبعا لفكرة سابقة،
32
أوليس في هذا الدليل الساطع على استحالة أن يكون استقراء وقائع الحس هو المنطلق الذي انبثق منه هذا البناء العلمي الشامخ.
كلا، ليس للاستقراء أي دور في حياة الإنسان؛ لأن الإنسان لم يكن أبدا في أي طور من أطواره - حتى أشدها بدائية - محض آلة تستقرئ وقائع الحس فتعممها. (4) يقول فرانك رامزي:
33 ⋆ «حقا أن أحدا إذا لم يكتسب العادة الاستقرائية، فلن نستطيع أن نثبت له أنه على خطأ، غير أننا لا نجد شيئا معينا في هذا؛ لأن أحدا إذا تشكك في ذاكرته أو في إدراكه الحسي، فإننا لا نستطيع أن نثبت له أنهما جديران بالتصديق، البحث عن إثبات شيء كهذا، هو الصراخ توسلا للقمر، والمثل تماما صحيح بالنسبة للاستقراء.»
34
لقد قال رامزي تماما عكس ما ينبغي أن يقال، وهو أن أحدا إذا اكتسب العادة الاستقرائية - جدلا - فإننا بالقطع مستطيعون أن نثبت له أنه على خطأ، وأن هذه العادة لا تعطيه أكثر من قصور أسس العلم العقلانية، وقد حصر رسل أوجه القصور هذه في ثلاثة عناصر رئيسية: (1)
الشك في صحة الاستقراء. (2)
صعوبة استنتاج ما لا يقع في تجربتنا، قياسا على ما قد وقع فيها «مشكلة الاستقراء». (3)
حتى بفرض إمكانية هذا الاستنتاج، فإنه بالضرورة ذو طابع مجرد، يعطي قدرا من المعلومات، أقل مما يبدو أنه معطيه لو استخدمت اللغة العادية.
35
وبمناقشة هذه العناصر انتهى رسل إلى أنها لم تحل، وغير قابلة للحل تقريبا، وقد سد رسل الطريق على أية محاولة للحل بأن قال: «لقد استشاط الفلاسفة غضبا، وابتكروا نقضا لآراء هيوم وقد قبل هذا النقد بسبب غموضه البالغ، والحق أن الفلاسفة قد حرصوا زمنا طويلا على أن يكونوا غير مفهومين، ولو لم يفعلوا لاستطاع كل امرئ أن يتبين خطأهم على الرد على هيوم، وأنه من السهل أن نبتكر ميتافيزيقا نخلص منها إلى سلامة الاستقراء، وقد فعل ذلك كثيرون لكنهم لم يقدموا أي مبرر للإيمان بميتافيزيقاهم إلا كونها ميتافيزيقا ممتعة.»
36
غير أن بوبر لم يبرر الموقف بميتافيزيقا ممتعة، كما فعل وايتهد مثلا، بل بحذف الوجهين الأول والثاني من أوجه قصور الأسس العقلانية للعلم، أما الوجه الثالث فسيعالجه باب التكذيب، وبعد كل هذا يصرون على مجادلة بوبر، والتشبث بخرافة الاستقراء. (5) والحق أن الاستقراء من أعجب الخرافات قاطبة التي هيمنت على عقول البشر، البشر وهي الأعجب لأنها حلت بأكثر الميادين عقلانية؛ فلسفة العلم! ولا بد أن نطرح التساؤل الآتي: كيف ولماذا هيمنت أتفه الخرافات؛ الاستقراء، على أعظم الميادين؛ فلسفة العلم؟
من أبرز الدراسات التي أجريت لتبرير الاستقراء؛ دراسة جول لاشيليه
37 ⋆ (1832-1918م) وهي رسالة للدكتوراه بعنوان «في أساس الاستقراء» سنة 1871م انتهى منها إلى أن إمكان الاستقراء يقوم على أساس مبدأ مزدوج، هو مبدأ العلل الفاعلة ومبدأ العلل الغائية، والأول يقول: إن الظواهر تكون سلاسل، فيها وجود السابق يعين وجود اللاحق، والثاني يقول: إن هذه السلاسل تكون بدورها نظما
Systems
فيها فكرة الكل تعين أو تحدد وجود الأجزاء، ومبدأ العلل الفاعلة متصل بالحتمية الفيزيقية، ومبدأ الغائية متصل بالفسيولوجيا،
38
ولكن لما كنا قد تيقنا - في العلم الحديث - من أن فكرة الغائية وفكرة الحتمية خرافتان، وجب أن نتيقن أكثر من أن الاستقراء خرافة.
ورغم أننا استخلصنا من رأي جول لاشيليه تعضيدا لبوبر، فإن هذا الرأي ليس سليما تماما؛ فالباحثون لم يتمسكوا بخرافة الاستقراء على أساس العلية والغائية، بل على أساس تاريخي محض، مؤاده أنهم أرادوا العزوف عن التجريد والتفكير النظري العقيم الذي ساد حتى القرن السادس عشر، وأرادوا الانقلاب على أسلوب التفكير الذي يبدأ من التسليم بمقدمة كلية، ثم استخدام العقل الخالص في الأقيسة الأرسطية التي تستنبط منها ما يلزم عنها، وكأن الوجود لا يحوي إلا محتويات الكتب والصحائف، وليس في طبيعة متأججة حية، وكيف يكون الانقلاب؟ يكون بالسير في الطريق العكسي تماما، حتى قيل: إن «البدء بالملاحظة كان الأساس العام للثورة على المنطق القديم.»
39
إنه رد الفعل المساوي في المقدار والمعاكس في الاتجاه، والذي جعل تطرف العصر الوسيط في المنهج العقلي الخالص - أي الاستنباط - يتمخض عنه تطرف العصر الحديث في المنهج التجريبي الخالص - أي الاستقراء - الملاحظة ثم التعميم، فأصبح استقراء وقائع التجريب هو نقطة البدء والطريق إلى كل كسب معرفي جديد.
40 ⋆
ولما كان التجريب هو سر تقدم العلم ولا جدال ... أعمت الرغبة في الثورة على منطق أرسطو بصيرة الباحثين، فراحوا يؤكدون أن الملاحظة هي نقطة البدء في البحث، وأساس مساره حتى نصل إلى نتيجة، غير مبالين بما أوضحه هيوم، وحينما نشأت فلسفة العلم الطبيعي تسلمت أسسها من تراث الفكر الإبستمولوجي التجريبي، ولما كان تراثا مثقلا بهذا، شاع فيها الخطأ الكبير، خطأ اعتبار الاستقراء مرادفا للمنهج التجريبي، ومقابلا تماما للاستنباط، منهج العلوم الصورية، حقا أن فلسفة العلم الطبيعي، بتطورها الحالي تسلم بأن الاستقراء ليس هو المنهج المتبع في العوم البحتة، وأن منهجها هو المنهج الفرضي الاستنباطي، غير أن هذه النظرة لم تصف بعد، وما زالت الأشباح الاستقرائية تحل بمنطقة أو بأخرى من فلسفة العلم مثل العلوم الوصفية أو التمهيدية أو المراحل التاريخية السابقة للعلوم البحتة، أو بخطوة أو بأخرى من خطوات المنهج الفرضي الاستنباطي.
ولكي نستأصل شأفة الاستقراء تماما، لا بد من الانتباه إلى أن ما نعنيه به هو: منهج البدء بالملاحظة، والمصطلح - شأن معظم المصطلحات الفلسفية - ليس قاطعا جامعا مانعا، بل وإن «البحث عن معنى لمصطلح «الاستقراء» كان ملهاة فلسفية لأكثر من مائة عام، وكان صمويل نايل
Sammuel Niel
يرى أن الاستقراء محصور في عملية اختبار الحدس الافتراضي العلمي المسبق، وهذا نفس ما عناه بيرس حين قال: إنه يسمي عملية اختبار الفروض بواسطة التجارب؛ بالاستقراء.»
41 ،
42 ⋆
وبالطبع فإن هذا هو نفس ما يعنيه بوبر تماما باللااستقراء، وبأن الاستقراء خرافة، إن ما يجب أن نرفضه الآن هو اعتبار قوانين العلم أو قوانين البناء المعرفي في أية مرحلة من مراحله، محض تعميمات للخبرة، وهذا الرفض أصبح الآن محصلة منطقية ضرورية، بناء على الآتي: (أ)
أثبت بوبر الاستحالة التامة للبدء بالملاحظة ثم تعميمها، بل أكد العكس تماما، أن الفرض سابق على الملاحظة التجريبية؛ ومن ثم ليس مستقرأ منها إطلاقا. (ب)
ثم أكد أن الباحث يبحث في الوقائع التجريبية عن النفي لا الإثبات؛ ونظرا للاتماثل المنطقي بين النفي والإثبات، نجد المنزلة المنطقية لهذا تناقض تماما المنزلة المنطقية للاستقراء. (6) تقريبا لا يوجد أحد من المفكرين النابهين، إلا وأحس بقصور خرافة الاستقراء، وقد أعطانا بوبر أمثلة كثيرة في نهاية فصل الاستقراء خرافة، ويمكن أن نطرح أمثلة أكثر، ويكفي أن العالم التجريبي الحاصل على جائزة نوبل؛ سير بيتر ميدوار، قد أكد أن «الاستقراء الذي انشغل به هيوم، لا بد أن يكون محض خرافة.»
43
ويؤكد الفنان الشاعر والعالم الرياضي والباحث الفلسفي النابه ج. برونوفسكي
J. Bronoviskt (1908م-؟) هذا؛ إذ يقول : «ما زال يسود نظرياتهم - أي نظريات فلاسفة العلم - الاعتقاد بأن العلم جمع تراكمي للوقائع، وأن التعميم ينمو بذاته من تكديس أمثلة منفردة في مجال واحد ضيق، وهم يظنون أن العالم يقتنع بأن الضوء يصل إلى العين في كميات متلاحقة؛ لأن هذا العالم يجري تجربة ويكررها لكي يتأكد، ولكن هذا للأسف الشديد ليس على الإطلاق ما يفعله العالم، إنه بالفعل قد يكرر التجربة مرتين أو ثلاثا، إذا كانت نتيجتها تصدمه بغرابته، ومخالفتها لما هو متوقع.»
44
أي هناك توقع سالف، ننتظر على أساسه نتيجة التجربة، ويؤكد برونوفسكي الموقف أكثر بأن ينفي عن التكرار أية شبهة استقرائية.
45 ⋆
ويؤكد د. عبد الرحمن بدوي في «مدخل جديد للفلسفة» أن عصب المنهج التجريبي هو الفكرة،
46
وأن الفكرة تكون بالنسبة للمجرب نوعا من الاستباق
Anticipation ، وأنه إذا ما نبتت الفكرة يمكن فقط أن نقرر كيف ينبغي إخضاعها لتعليمات محددة وقواعد منطقية دقيقة، ليس في وسع أي مجرب أن ينحرف عنها، لكن ظهورها كان تلقائيا تماما، وطبيعتها فردية
47
لا استقرائية، ثم عاد دكتور عبد الرحمن بدوي في «مناهج البحث العلمي» ليؤكد ذلك قائلا: «إن الباحث يجب أن يكون لديه فكرة سابقة يحاول بها أن يحدد المضمون الذي يستخلص من الوقائع المشاهدة، أما أن يكون خاليا من كل فكرة سابقة، فهذا ما لا يمكن أن يؤدي به إطلاقا إلى وضع أي فرض.»
48
ويقول ول ديورانت - ذو العقلية الموسوعية الجبارة: «هل طريقة بيكون الاستقرائية صحيحة؟ وهل هي أكثر الوسائل التي استخدمها العلم فائدة؟ والجواب: كلا، لم يستخدم العلم جميع المعلومات بطريقة بيكون المعقدة، ولكن العلم استخدم وحصل على أفضل النتائج من الطريقة الأسهل، وهي الافتراض والاستدلال والتجربة.»
49
ولنأخذ مثالا أشد سطوعا، واحدا من أئمة الدراسات المنهجية في العصر الذهبي للاستقراء، ألا وهو كلود برنار؛ فقد أكد أن الفكرة سابقة على إجراء التجارب، فهي تتولد من الحدس أو العاطفة أو العقل، ثم تأتي لتتقدم بالخطوة التجريبية الأولى؛ إذ نصمم التجربة على أساسها لنختبرها.
50
وأخيرا، فإن أقيم الدراسات العربية التي خرجت على أساس من إدراك قصور الاستقراء، واستحالة أن يكون منهجا للعلم، دراسة الدكتور ياسين خليل «منطق المعرفة العلمية» فقد رأى دكتور ياسين أن فكرة الاستقراء غير مرضية إطلاقا خصوصا بالنسبة للعلوم الدقيقة، وأن الشروط التي يجب توافرها في الفرضية الميثودولوجية المناسبة لا تتوافر في فكرة الاستقراء.
51
وهو يناقش أولا: ما المقصود بالاستقراء، أو بأن العبارة مشتقة من التجربة بواسطة الاستقراء؟ ويرى أنه لو كان المقصود هو أن الأفكار والمبادئ العلمية مجردات توصلنا إليها بالتجريد والتعميم، وأن الاستقراء طريقة نهتدي بها للوصول إلى الأفكار والمبادئ، فإن الدكتور ياسين يعترض على ذلك بأنه سيؤدي إلى الاعتقاد بوجود طريقة ثابتة تتألف من خطوات تبدأ بمشاهدة الوقائع لتصل بعد اجتياز مراحل معينة إلى الأفكار والمبادئ العامة كما أوضح الجزء الخاص بخطوات الاستقراء، وإذا عبرنا عن العملية بأجمعها بمنحنى بياني، فإن هذا المنحنى سيكون التعبير التام عن الفكرة، ولا يوجد أي منحنى آخر غيره، ولكننا في العلم قد نصل إلى أفكار مختلفة، على الرغم من صلتها جميعا بالواقع، وقد تختلف النظريات العلمية في الأفكار والمبادئ والفرضيات، ولكنها تتفق في النتائج، وفي تعليل الظواهر، وهذا يدل على قصور الاستقراء، ومن ناحية أخرى على إمكانية استحداث أفكار ومبادئ كثيرة دون الالتزام بمنهج واحد أو بمنحنى واحد،
52
هذا نفس ما يعنيه بوبر باستحالة تحديد خطوات صارمة لمنهج محدد.
وقد أوضح الدكتور ياسين خليل أن الاستقراء يرجع في أساسه إلى التجريبيين المتطرفين الذين بدءوا في الوقت الذي انتهى فيه العالم من صياغة نظريته، ليدعوا سلفا أن الطريقة التي اتبعها هي مبدأ ارتضوه مسبقا أي الاستقراء، في حين أن الأمر ليس كذلك.
ولإثبات أن الأمر ليس كذلك، أكد الدكتور ياسين أولا أن المفاهيم العلمية لا تتقيد في تشكيلها بالاستقراء، وأنها من خلق العقل، في سبيل فهم أوسع لوقائع العالم الخارجي، وأن المفاهيم والمبادئ العلمية ذات طبيعة استدلالية وليست استقرائية، وأكد ثانيا أن العالم قد يستند إلى عدد قليل جدا من المشاهدات أو تجربة واحدة، يكون بها عدد كبير من الأفكار والفرضيات التي قد تكون مختلفة، ولا يمكن تصور العالم وقد انهمك باستقراء الحالات الجزئية لينتقل بخطوات منطقية نحو بناء نظرية عامة؛ لأن هذا العمل لا يحقق غاية العلم مطلقا وهي الاقتصار على أقل عدد ممكن من المبادئ لتفسير العالم، ولكل هذا كان الاستقراء غير ممكن من الوجهتين العملية والمنطقية.
53
وبعد يؤكد د. ياسين على قوة الرياضة، وقدرة المناهج الاستنباطية على التعامل الأمثل مع النظرية العلمية - كما أكد بوبر على أن منهج العلم استنباطي - وأن تقدم العلوم إنما يعتمد على هذا، وليس على تجميع وقائع مستقرأة.
تكفي هذه الأمثلة، فلن ننتهي من عملية المسح التأريخي للمفكرين الذين أحسوا بخرافية الاستقراء، أو على الأقل قصوره، من الناحية الأخرى، نجد رأي بوبر ليس في حاجة إلى تعضيد، كل ما في الأمر أن بوبر ليس أول من نوه إلى خرافية الاستقراء، لكن هو أول من أيقنوا هذا، فخصصوا لإثباته مساحة كبيرة من أبحاثهم، هو أول من قاله بحسم قاطع ووضوح ناصع؛ لأنه أول من استطاع التحرر بالمعنى المطلق التام من هذا الوثن الكاذب، ونرجو أن يكون الأخير، كي يغلق تماما ملف خرافة الاستقراء كاسم وكمسمى. (4) تعقيب على نظرية بوبر المنهجية (1) رأينا ول ديورانت يرفض الاستقراء، ويقول بمنهج مشابه لمنهج بوبر، وقد أعطى مثالا مصداقا لما يقوله بوبر، وهو دارون؛ فقد استنبط من نظرية مالتوس عن السكان، تطبيقها على جميع الأجسام الحية، مما سيؤدي إلى صراع على وسائل الطعام والغذاء من أجل التعايش، يكون البقاء فيه للأصلح، وبعد ذلك اتجه إلى الطبيعة وأجرى بحوثه التي استمرت عشرين عاما، ويعطي ديورانت مثالا آخر: آينشتين، فقد أخذ عن نيوتن الافتراض بأن الضوء يسير في خطوط منحنية وليست مستقيمة، واستدل بذلك على النتيجة أن النجم الذي يبدو على أساس نظرية الخطوط المستقيمة بأنه في مكان بعيد في السماء، يكون في الحقيقة بعيدا قليلا إلى جانب ذلك المكان، ثم أجرى التجربة والملاحظة ليفحص النتيجة.
54
ثم يوضح ديورانت أن بيكون نفسه قد توقع الاستغناء عن طريقته، وأن مزاولة العلم بطريقة «علمية» ستؤدي إلى اكتشاف وسائل أفضل في البحث من طريقته التي توصل إليها خلال فترات راحته وابتعاده قليلا عن مشاغل السياسة.
55
ولنأخذ مثالا أوقع من ديورانت، مثالا من المعسكر المخالف تماما لبوبر، أي الوضعية المنطقية؛ فقد أكد الوضعي المنطقي كارل همبل أن الفرض يسبق الرجوع إلى الوقائع، وأن هناك إجابة تجريبية عن المشكلة يضمرها الباحث في صورة تخمين أو فرض، وهي التي تحدد أنواع المعطيات التجريبية التي ينبغي جمعها، وهذه المعطيات قد تؤيد الإجابة التمهيدية - أي الفرض - وقد تفنده،
56
بل وقد بلغت بوبرية همبل إلى أن انتهى قائلا: ليست هناك إذن قواعد استقرائية عامة يمكن تطبيقها، تلك القواعد التي يمكن بواسطتها أن نستنتج الفروض والنظريات من المعطيات التجريبية يحتاج الانتقال من المعطى إلى النظرية إلى خيال مبدع؛ فالفروض والنظريات العلمية لا تستنتج من المعطيات الملاحظة، ولكن تخترع الفروض لتفسيرها.
57
ليس هذا فحسب، بل وينصح همبل العالم الشاب بنفس ما نصحه به بوبر، أي بضرورة الإلمام بموقف المشكلة ومعرفة كل ما قيل، أو تصادم سبق؛ مخافة أن يضيع جهدا في نظرية وضعت من قبل، أو تصادم نظريات مأخوذا بها في الموقف العلمي، وبعد أن يعيب همبل ما في الاستقراء من آلية، لا يبدو معها أي مبرر لأن تبقى مشكلة علمية واحدة بغير حل، ما دام استقراء وقائعها ممكنا، ويؤكد على أهمية عنصر الخيال، يطرح احتمال أن يؤثر عنصر الخيال على موضوعية العلم، ويوضح أن الاختبار النقدي هو الذي يضمن الموضوعية،
58
فيذهب إلى نفس ما ذهب إليه بوبر من أن منهج العلم هو أسلوب الاختبار، أي هو المنهج الاستنباطي، والذي يزيده همبل هو توضيح أن هذه الصورة المنهجية إنما تسري أيضا على العلم الرياضي،
59
فهو أيضا تحتاج في حل مشاكله إلى خيال خلاق كي يطرح الفرض، ثم يختبره، وبعد، فقد أكد همبل صراحة على تأثره الشديد بنظرية بوبر المنهجية، وبكتابه «منطق الكشف العلمي». (2) ليس من الضروري أن نلجأ إلى النظريات المنهجية، التي تطابق نظرية بوبر كي تعضده؛ إذ إن المسلم به اليوم هو استحالة أن يكون الاستقراء هو المنهج للعلوم الطبيعية البحتة الآن، ومن المسلم به أيضا أن المنهج هو المنهج الفرضي الاستنباطي،
60
وهو منهج تماثل صورته العامة الصورة العامة لمنهج بوبر.
والمنهج الفرضي الاستنباطي
Hypothetico Deductive Method .
يبدأ بفرض صوري عام، يستحيل أن يشتق من الخبرة أو أن يخضع هو نفسه لتحقيق المباشر، فيلجأ الباحث إلى منهج الاستنباط، كي يستنبط منطقيا ورياضيا النتائج الجزئية التي تلزم عنه، وهنا يلجأ الباحث إلى التجريب، فيقابل بين هذه النتائج وبين وقائع التجريب، إن اتفقت معها ثم التسليم المؤقت بالفرض، وإن لم تتفق تم تعديله أو الاستغناء عنه والالتجاء إلى غيره، مع ملاحظة أن مصدر هذا الفرض الصوري لا يعنينا، قد يأتي به العالم من الحصيلة المعرفية أو من الوقائع التجريبية، أو من عبقريته الخلاقة التي هي أساسية بالنسبة لأي مصدر، تحديد المصدر المعين مستحيل.
والجدير بالذكر أن الباحثين يؤكدون أن هذا هو منهج العلوم البحتة في كل مراحلها، فيبذلون جهودا شبيهة بجهود بوبر ليثبتوا أن هذا هو المنهج الذي اتبعه نيوتن وليس الاستقراء كما تصور.
61
وأهم ما يميز هذا المنهج أن عموده الفقري هو استخدام اللغة الرياضية ومعادلاتها، بل وإن الاستدلال الرياضي أهم فيه من وقائع التجريب الملاحظة؛ إذ إن الفرض فيه لا يحكم وقائع، بل قوانين وعلاقاتها ببعضها.
ونظرا لأن النظرية المنهجية التقليدية، كانت تقوم على التقابل بين الاستقراء والاستنباط تقابل العلوم الطبيعية مع العلوم الصورية، كان علينا الآن أن نودع هذه النظرية التقليدية وإلى غير رجعة.
الباب الثاني
موقف بوبر من الوضعية المنطقية ومعاييرها لتمييز العلم
تمهيد
(1) انتهى الباب السابق من إسقاط المعيار الشائع لتمييز العلم؛ أي المنهج الاستقرائي، غير أن هذه النظرية العتيقة ليست هي المحاولة الوحيدة، فهناك محاولات أخرى أجل شأنا وأعظم خطرا، فلو كان هذا العصر قد لقب «بعصر التحليل» فإننا الآن بإزاء معايير مذهب من أخطر مذاهب هذه الفلسفة التحليلية من جهة، والفلسفة العلمية من الجهة الأخرى، أعني مذهب الوضعية المنطقية «الولد القلقال المقلاق المثير للمتاعب في الفلسفة المعاصرة.»
1 (2) والتعرض لهذا المذهب ذو أهمية قصوى لموضوعنا، فلو عدنا مثلا لسلسلة عبقريات العقاد - باستثناء عبقريتي النبيين محمد وعيسى - لوجدناها دائما تحوي فصلا يحرص عليه العقاد ويسميه: مفتاح الشخصية، يحاول فيه الاهتداء إلى مدخل إذا دخلنا منه تفتحت أمامنا مغاليق العبقرية «عمر: العدل، أبو بكر: الصدق، خالد: الجندية ... وهكذا» ويبدو هذا الفصل وكأنه الهدف المروم من الترجمة بأسرها.
والواقع أنه مناط الابتكار والإبداع في العبقريات - إن كان فيها إبداع - وبغيره ما كان للعقاد أن يقدم جديدا يعيننا على فهم الشخصية.
أما الآن فيمكن أن نقول ببساطة: إن مذهب الوضعية المنطقية هو مفتاح الشخصية الفلسفية لبوبر؛ فقد قال فيكتور كرافت - عضو الدائرة
2 ⋆
ومؤرخها: إن أعمال بوبر لا يمكن أن تفهم فهما تأصيليا
genetically
بغير الإشارة إلى دائرة فيينا التي هي ذات أهمية عظمى في تطوره الفلسفي،
3
وقد أوضح بوبر أن عمل كارناب «التركيب المنطقي للغة» قد شكل بداية ثورة في تفكيره الفلسفي،
4
وكان بوبر على علاقة شخصية بأعضاء الدائرة كارناب وفيجل وفيزمان ومنجر وجودل وفيكتور كرافت وإدجار تسيلزل.
والوضعية ليست المفتاح فحسب، فتوضيح المفكر في إطار عصره شيء ضروري، والوضعية المنطقية هي الإطار بالنسبة لبوبر، فازدهارها وسيطرتها على المناخ الفكري والفلسفي كان مواكبا زمانيا ومكانيا لنشأة بوبر الفلسفية في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، في جامعة فيينا، بل ولاحقته هذه السيطرة إلى إنجلترا حين هاجر إليها، وكان من جراء هذا أن المشاكل التي شغلت كليهما متشابهة إلى حد كبير؛ مشكلة معيار العلم ومنهجه، مشكلة أسس المعرفة التجريبية، والأهم أن كليهما فيلسوف علم وداعية فلسفة علمية، ينطلق من نفس المنطلق التجريبي، وإن كانت انطلاقاتهما التجريبية، وطرق إحاطتهما بالمشاكل مختلفة إلى حد كبير، وأيضا من نقاط الالتقاء القول بوحدة المنهج بين العلوم الطبيعية والإنسانية، لكن الوضعيين ينادون بالوحدة؛ لأن الاستقراء هو منهج العلم الواحد والوحيد، سواء طبيعي أو إنساني، أما بوبر فينادي بالوحدة على أساس «م1
أ أ
ح ح
م2» التي تعني وحدة البناء المعرفي وتماثل أسلوب حلقاته، وأن منهج العلم ليس خاصا به ... إلخ؛ أساسا الدعوتين بوحدة المنهج متناقضان.
على العموم، فإن تواكبهما الزماني والمكاني، وانشغالهما بمشاكل متشابهة، قد أدى إلى انتشار خطأ كبير هو أن «بوبر وضعي منطقي، أو على أحسن الفروض وضعي منشق يحل القابلية للتكذيب محل القابلية للتحقيق.»
5
إلا أن العكس تماما هو الصحيح، لم يكن بوبر أبدا وضعيا بأية صورة من الصور، لا منطقية ولا غير منطقية، بل وإن عضو الجماعة، العالم الاقتصادي الكبير أوتو نيوراث
Otto Neurath
يلقبه - على سبيل المزاح - ب «المعارض الرسمي».
6
ذلك لأن موقف بوبر من الجماعة هو الموقف النقدي، موقف الهجوم الرافض، ولم يفكر في تأليف الكتب وإخراج أول أعماله «منطق الكشف العلمي» إلا من أجل نقدهم وتبيان أخطائهم أولا وقبل كل شيء، وكان حضوره لبعض من الاجتماعات الفرعية للدائرة في منزل العضو إدجار تسيلزل، ليلقي عليهم محاضرة هي نقد لهم، وأكثر من ذلك فإن المؤرخ جون باسمور يطرح تساؤلا: من الذي قضى على الوضعية المنطقية؟ وبوبر يخشى أن يكون هو المسئول.
7 (3) إذن الموقف النقدي هو الأساس، بصفة أكثر شمولا يمكن أن نقول: إن فلسفة بوبر هي رد فعل للوضعية المنطقية، ولاكتساحها العاتي لبيئته الفلسفية، ولولا مذهب الوضعية المنطقية لما عرفنا اسم بوبر مقرونا بهذا اللقب الرائع الجميل «فيلسوف»، بل ولما عرفناه البتة ولظل مدرسا في المدارس الثانوية وفي الجامعات، كان بوبر قانعا بحياته كمدرس وسعيدا بها، يقرأ ويفكر ويدون ما وصل إليه من أفكار وانتقادات، ويواظب على متابعة الحركة الفلسفية والعلمية والفكرية؛ فقط لأنه مثل قلة وهبهم الله هذه الهبة الرائعة الجليلة؛ متعة تذوق الفكر والبحث العلمي، لكن الوضعية المنطقية هي علة كونه فيلسوفا محترفا، فقد ألح عليه طغيان المذهب طغيانا يأباه علميا وفلسفيا، وكان هذا الإباء هو الحافز المباشر والأول، وربما الأخير لإخراج «منطق الكشف العلمي» عام 1933م.
بل وأكثر من هذا، فإن الكتاب قد نشرته دائرة فيينا في سلسلة منشوراتها، ونظرا للعلاقة الشخصية بين بوبر والمذهب، فإن شليك وفرانك هما اللذان أعداه للنشر، ويقول بوبر: إنه لم يكن ينوي أبدا إصدار كتاب كامل؛ لأن إصدار الكتب مناقض لأسلوبه في الحياة، لولا أنه عرض بعضا من أفكاره على صديقه الوضعي هربرت فيجل، فأخبره بأنها ثورية وضرورية للنشر، ثم رحل فيجل إلى أمريكا وترك بوبر يفكر في إخراج كتاب، وكان صديقه هنري جومبريش يحذره من صعوبة هذا العمل، وأن نشر الأفكار الفلسفية، ومحاولة احتلال مكان بين الفلاسفة أمر في غاية الصعوبة، ووالده لا يريده أن يؤلف كتابا؛ مخافة أن ينتهي به المطاف إلى أن يصبح مجرد صحفي، أما زوجته فإنها تريده أن يقضي أوقات فراغه يمارس معها هوايتهما المفضلة؛ الانزلاق على الجليد وتسلق الجبال، لا في تأليف الكتاب،
8
لكن يبدو أن تأثير فيجل كان قويا فنشر بوبر الكتاب بمعاونة دائرة فيينا، فلاقى نجاحا كبيرا، فتح أمامه الطريق الفلسفي.
هكذا كانت الوضعية المنطقية هي الدافع شكلا وموضوعا، الذي دفع بوبر إلى التفلسف. (4) لكن موقف بوبر ليس سلبيا بحيث تحدد الوضعية إطار فكره، ثم يأتي هو يتلقى آراءها لينقدها، بل إن موقفه فعال لأقصى الدرجات، أولم نره يستشعر المسئولية إزاء انتهائها، فكتابه «منطق الكشف العلمي» المصبوب أساسا في صورة نقد للوضعية المنطقية، ناقشه بعض من أعضاء الدائرة قبل نشره،
9
ولم يملك الوضعي المنطقي كارل همبل إلا أن يقول عنه: «إنه عمل رائع ومثير، يتناول على وجه الخصوص البنية الاختبارية للنظريات العلمية بدرجة متقدمة إلى حد كبير.»
10
أثر بوبر كبير في نمو الدائرة وتطوراتها، خصوصا على كارناب - كما اعترف هو - في أكثر من موضع، وإذا كان المؤرخون يجمعون على أن فتجنشتين هو الأب الروحي للوضعية المنطقية التي تكاد تكون لازمة منطقية عن رسالته، فإن فيكتور كرافت يقول: «إن الوضعية تدين كثيرا لبوبر من أجل تطورات جوهرية طرأت على مبادئهم بسببه مما أكسبهم قوى من خارجهم بالإضافة إلى قواهم الخاصة، بحيث حل بوبر محل فتجنشتين في التأثير على الدائرة في إحدى مراحلها المتأخرة.»
11
أثر بوبر عليهم قويا حقا؛ فقد لاحظنا في نهاية الباب السابق تأثير نظريته المنهجية على كارل همبل مثلا، وسيبدو هذا الأثر أكثر حين عرض محاولات الوضعية لتمييز العلم، وهي المشكلة التي تشغل بوبر أساسا، إلا أن مضاهاة بوبر بفتجنشتين في التأثير عليهم مبالغة حقا، ولكنها رأي فيكتور على أية حال. (5) العلاقة بينهما تبادلية متشابكة معقدة، ولما كانت الدراسات المقارنة هي إحدى المناهج كان من الأجدى تطبيقها هنا بين بوبر والوضعية المنطقية.
12 ⋆
لذلك سنعرض فلسفة الوضعية المنطقية
13 ⋆
بصفة عامة، ثم نعرض معاييرها لتمييز العلم لنناقش رأي بوبر في هذا وذاك، ونعقب عليه بما نرى.
الفصل الأول
الوضعية المنطقية ومعاييرها لتمييز العلم
مقدمة
الفلسفة بالمعنى المحدد الذي نريده لها، لا تورط نفسها في مجالات العلوم الخاصة، ولا تخلق لنفسها مجالات غير مجالات العلوم، بل تجعل مهمتها تحليلا منطقيا للمدركات العلمية والقضايا العلمية، وبهذا تصبح الفلسفة فلسفة للعلم أو تحليلا له ، هدفها هو التوضيح لا الإضافة الجديدة، فليس هناك عالم إلا عالم الواقع، وليس لأحد أن يتحدث عنه حديثا موضوعيا إلا رجالات العلوم المختلفة، وللفلسفة أن تجيء بعد ذلك فتحلل وتوضح.
د. زكي نجيب محمود (1) الوضعية المنطقية
Logical Positivism ، مذهب على قدر عظيم من قوة الرأي وصلابة الحجة ووضوح الرؤية، دعامته الأولى وسنده الأعظم أقوى الدعامات وأعلاها شأوا ألا وهي العلم الحديث، أما دعامته الثانية فأجل خطورة، إنها المنطق الرياضي. (2) وأقطاب هذا المذهب ذوو ثقافة علمية عميقة وأصيلة، بل إن معظمهم علماء أصلا، فهذا مؤسس الجماعة موريتس شليك
Moritz Schlick (1882-1936م) حصل على درجة الدكتوراه برسالة موضوعها «انعكاس الضوء في وسط غير متجانس» وليس فحسب، بل وإنها تحت إشراف عالم الطبيعة العظيم ماكس بلانك
Max Planncke
صاحب الكشوف الفيزيائي الخطير في استحداث الكمات بوصفها وحدات أولية للطاقة (عام 1900م)؛ لذلك اصطنع شليك لنفسه لقب العالم الفيلسوف
Scientist-Philosopher ، ربما أسوة بآينشتين، فقد كان شليك شارحا كبيرا له.
ويرجع ذلك إلى عام 1895م، حين قررت فيه جامعة فيينا، اصطناع كرسي لفلسفة العلوم التجريبية منتظرين من هذا سبر مدى عمق الاتجاه التجريبي في الجامعة من ناحية، ومن ناحية أخرى آملين منه أن يؤدي إلى تقوية هذا الاتجاه وصقله،
1
على أن يتقلد هذه الأستاذية أحد علماء الطبيعة يكون ذا ميل للعلوم الفلسفية، وكان إرنست ماخ
Ernest Mach (1838-1916م) أول من تقلده إلى أن اعتلاه موريتس شليك.
وهذه الخلفية العلمية المتينة خلقت فيهم اتجاها أمتن نحو العلمية حتى أرادوا أن يكون العلم وتحليلاته المنطقية، هو فقط النشاط العقلي الوحيد، الذي لا نشاط سواه. (3) وعلى هذا فهم وضعيون؛ لأنهم يقصرون جهودهم على ما هو موضوع
في الواقع الحسي الخارجي، وهم مناطقة؛ لأنهم ينظرون إلى هذا الموضوع في الواقع الحسي من خلال منظور المنطق؛ إذ يصوبونه على العبارات التي يضعها العلماء في وصف هذا الواقع وشرحه، فيقومون بتحليلها تحليلا منطقيا، يجعلها أكثر دقة وأقل غموضا وأبعد عن الالتباس؛ هذا تبعا لأكثر الأسماء شيوعا، وأكثرها دلالة، والذي وضعه بلومبرج وفيجل عام 1931م، وإن كان قد أطلق عليها فيما بعد أسماء عدة مثل: «التجريبية المتسقة، والتجريبية المنطقية، والتجريبية العلمية، والوضعية المنطقية الحديثة»
2
وكلها - كما نرى - تدور في نفس المدار. (4) قد كانت فلسفة فتجنشتين، وبالتحديد الرسالة المنطقية الفلسفية، هي السبب المباشر في نشأة الدائرة، مضافا إليه المقدمات التاريخية،
3 ⋆
وتقدم العلوم الطبيعية من ناحية ثانية، وعنصر الإبداع والابتكار من ناحية ثالثة، كل هذه العوامل شكلت مجموعة الآراء التي نادت بها دائرة فيينا، والتي أصبحت تعرف فيما بعد باسم فلسفة الوضعية المنطقية، فما هي الخطوط العريضة لهذه الفلسفة؟ (1) فلسفة دائرة فيينا (1) على خلاف النهج المعهود في نشأة المذاهب الفلسفية، فإننا لا نجد أمامنا أستاذا نفذ ببصيرته وعبقريته الفردية إلى كنه الحقيقة، فاصطف من حوله التلاميذ ينصتون إليه في رهبة وخشوع بل هم جمع من الزملاء، معظمهم علماء طبيعة ورياضة، التفوا حول زميلهم موريتس شليك منذ عام 1922م، اختلفت آراؤهم، وتقاربت هاماتهم تقاربا شديدا، يتعاونون علميا لتحقيق غاية فلسفية واحدة، إذا طرح سؤال يتناولونه تناول الأنداد، بدلا من أن ينصتوا في رهبة لجواب أستاذهم، وقد تختلف الإجابات بل وتتناقض، ويحاول كل تنقيح إجابة زميله واكتشاف أخطائه، قد تختلف مشاربهم الفلسفية اختلافا شديدا يبلغ حد العداء الفلسفي لكنهم يتفقون على مبادئ أربعة هي الممثلة لدعائم مذهبهم الفلسفي، من اعتنقها كان وضعيا منطقيا، وإن اختلف معهم في أية مسألة أخرى أو حتى في كل المسائل الأخرى، أما من يرفض مبدأ واحدا منها لم يكن وضعيا منطقيا بحال.
أولا: الفلسفة تحليلية
4 ⋆
التيار التحليلي من أهم تيارات الفلسفة المعاصرة، وقد امتاز عن سواه بأنه ثورة فلسفية في المنهج (أسلوب البحث) وأكثر ثورية في المذهب (مضمون البحث)، وترجع فاتحته إلى مقال كتبه جورج مور عام 1903م يقول فيه إن مشكلات الفلسفة تعود إلى أننا لا نتبين حقيقة السؤال الذي نجيب عليه، ولو حاولنا اكتشاف المعنى الدقيق للأسئلة فستختفي معظم المشاكل الفلسفية الخادعة. ويتألف التحليل عنده من ترجمة العبارة إلى أخرى أوضح، ولم ينفرد مور بقيادة الحركة، بل شاركه برتراند رسل الذي رأى أن التحليل هو رد العبارة إلى صيغ منطقية؛ لأن اللغة مضللة، أما الرائد الثالث فهو فتجنشتين الذي وجه العناية إلى الدراسة المنطقية للغة.
وإذا كان التحليل معروفا منذ القدم في الفلسفة، فإن التحليل المعاصر شيء مختلف تماما، ويتميز بخصائص أربع؛ الأولى هي قصر الاهتمام على اللغة ورد الفلسفة كلها إلى الدراسات اللغوية، ليس البتة بمعنى النحو والصرف، ولكن بمعنى البحث الفلسفي في دلالات الألفاظ «السيمانطيقا» من ناحية، وقواعد التركيب والبناء اللغوي من الناحية الأخرى. والخاصة الثانية هي تفتيت المشكلات الفلسفية بغرض معالجتها جزءا جزءا اقتداء بالعلم، ومناهضة للاتجاه الشمولي الهادف إلى بناء الأنساق الميتافيزيقية. والخاصة الثالثة هي الاقتصار على البحوث المعرفية. أما الرابعة فهي المعالجة البين-ذاتية، أي استخدام نوع من التحليل له معناه المشترك بين الذوات بمعنى قريب من الموضوعية.
هذه هي أسس الوضعية المنطقية بوصفها فلسفة تحليلية، بل وتحليلية بموقف أكثر جذرية من أي مذهب تحليلي آخر، لكنها أسس تنطبق على الوضعية مثلما تنطبق على تيارات تحليلية قد تختلف معها؛ لذلك لا بد أن نوضح بقية الأسس التي تشكل الوضعية وتميزها عن سواها.
ثانيا: الفلسفة علمية (أ)
لقد اتفقنا على أن البحوث الفلسفية مقتصرة على التحليل، باق أن نتفق على قصر هذا التحليل على العبارات العلمية، شريطة أن يكون تحليلا منطقيا. (ب)
فالفلسفة - وهي مهمتها التحديد - لم تحدد لنفسها مجالاتها، فأخذت تصول وتجول حيث تشاء، حتى ضاق بها الجيران، وأخذوا يطردونها من أراضيهم واحدا بعد الآخر، بادئين بالطبيعة منتهين بالاجتماع والنفس، ولم يبق أمامها إلا العلوم المعيارية والميتافيزيقا والمنطق.
أما العلوم المعيارية (= الأخلاق والجمال)، فما هي إلا عبارات وجدانية انفعالية، لا تزيد عن ضحكة الضاحك أو صرخة المتألم، فلا ترقى بالطبع إلى أن تكون علوما، أما الميتافيزيقا فما هي إلا جلبة أصوات بغير معنى، إذن لم يبق للفلسفة ميدان جدير بحق البقاء إلا المنطق، فعليها أن تتمسك به وتجعله شغلها الشاغل، والعقل البشري لم يعد ينشغل إلا بالبحوث العلمية، فإذا أرادت الفلسفة لنفسها البقاء، فما أمامها إلا سبيل واحد هو تطبيق منطقها على العلم، أي تجعل نفسها منطقا للعلم، أو فلسفة له، وبهذا تصبح الفلسفة علمية.
ثالثا: القضية إما تحليلية أو تركيبية (أ)
لقد كانت العلوم الرياضية - بما تنطوي عليه من ضرورة الصدق المطلق - تمثل عقبة كئودا في وجه التجريبيين، فمبدأ التجريبية الأساسي هو أية قضية مفهومة، ولها محتوى معرفي لا بد أن تكون قائمة على أساس الخبرة، لكن من الواضح أن العقل في الرياضة يستقل بنفسه عن التجربة، فتكون النتيجة قضايا يقينية الصدق. فبأي عقل، وبأي منطق نفضل عن هذا المنهج المستقل عن التجربة - أي منهج الرياضة الذي تقتفي خطاه الميتافيزيقا - منهجا آخر يعتمد على التجربة، فتجيء نتائجه وهي العلوم الطبيعية، في قضايا احتمالية الصدق، والواقع أن التجريبيين لم يكونوا جميعا بجرأة مل وصلابته التجريبية، حتى يزعموا معه أن قضايا الرياضة ما هي إلا تعميمات تجريبية،
5
وربما كانت هذه العقبة هي التي منعت التجريبيين طوال خمسة وعشرين قرنا - هي عمر الفلسفة - من اتخاذ موقف شديد التطرف، كموقف دائرة فيينا. (ب)
وكتاب برنكبياما تيماتيكا هو الذي أتاح للدائرة هذا الموقف، حين تمكن من تبيان الخاصة التكرارية للقضايا الرياضية، وكيف أن شق القضية الأول يشير إلى عين ما يشير إليه شقها الثاني تبعا لما اصطلحنا عليه من دلالات الرموز، أنها تحصيل حاصل، فارغة من المحتوى المعرفي، لا تدعي أدنى إخبار عن الواقع، وكانت هذه النتيجة هي الأساس الذي انطلقت منه رسالة فتجنشتين مقررة أن الصورة المنطقية للقضية الرياضية: «أ» هي «أ»؛ أي لا تقول شيئا أكثر من إثبات ذات الهوية، عكس قضايا العلوم الطبيعية، فهي إخبارية وتتخذ الصورة المنطقية: «أ» هي «ب». (ج)
ومن هذا المنطلق كان تقسيم الوضعية المنطقية الشهير للعبارات أو الجمل أو سائر ما يتمثل في الصور النحوية إلى قسمين: (1)
العبارات ذات المعنى
Meaningful ، وهي إما العبارات التحليلية، أي قضايا العلوم الصورية (= المنطق والرياضة)، وإما القضايا التركيبية القائمة على الخبرة (= قضايا العلوم الطبيعية والتجريبية). (2)
العبارات الخلو من المعنى
Meaningless : وهي التي تخرج عن هذين النوعين، أي العبارات الميتافيزيقية؛ فالوضعيون يطابقون بين المعنى وبين العلم، وحيث لا علم لا معنى.
لذلك لا بد أن يقتصر الحديث على نوعين من القضايا لا ثالث لهما؛ هما نوعا العبارة العلمية: (1)
القضايا التحليلية
Analytic : قضايا العلوم الصورية، حيث تنحصر قيمة القضية داخل ذاتها فهي تحصيل حاصل
Tautology ، شقها الأول يعني عين ما يعنيه شقها الثاني؛ لذلك فهي تكرارية - تكرر في المحمول عين ما قالته في الموضوع - تبعا للمصطلحات الأرسطية، ليس لها أي محتوى معرفي أو قوة إخبارية، تصل إليها استنباطا، نعرف صدقها أو كذبها فقط بتحليلها تحليلا منطقيا لغويا، فإذا أوضح التحليل أن الشق الأول هو بعينه الشق الثاني مثل «للمربع أربعة أضلاع» كانت صادقة؛ لأن القضية التحليلية مجرد إثبات للهوية، إثبات لهوية المربع، أو ما اصطلحنا على تسميته مربعا؛ لذلك فهي يقينية، أي مطلقة الصدق؛ لأن صدقها يعتمد على الضرورة المنطقية، فلا مجال إطلاقا للخطأ، هنا وفي كل مكان في الدنيا وفي الآخرة، يستحيل القول بأن المربع ليس له أربعة أضلاع؛ لأنه يعني ببساطة أن المربع ليس مربعا، والضرورة المنطقية تستلزم استحالة النقيضين؛ لذلك فالقضية هنا إن كانت صادقة كانت ضرورية، وإن كانت كاذبة كانت متناقضة ذاتيا
Self Contradict .
ورغم كل ذلك فالمسألة اتفاقية بحتة؛ لأن اللغة اتفاقية بحتة، تتوقف على أسلافنا القدامى، فقد اتفقوا على الإشارة بلفظ «المربع» إلى شكل له أربعة أضلاع ، وكان يمكن أن يتفقوا على الإشارة إليه ب «س» أو «ع» أو أي رمز آخر، الضرورة في قوانين منطق اللغة والفكر وليس في الواقع؛ فالواقع لا ينطوي على أية ضرورة، لكن القضية التحليلية ليس لها أية علاقة بالواقع.
خلاصة القول: إن القضية التحليلية تكرارية، تحصيل حاصل، استنباطية عقلية يقينية ضرورية، محك الصدق فيها هو اللغة. (2)
القضايا التركيبية
Synthatic : وهي قضايا العلوم الطبيعية، التي تنقل خبرا عن العالم الواقع من حولنا، فهي إذن إخبارية ذات محتوى معرفي، نصل إليها استقراء
6 ⋆
لخبرة الحواس، والتحليل المنطقي لأمثال هذه القضايا يردها إلى سلسلة من القضايا الذرية، أي القضية التي تشير إلى واقعة معينة في نقطة معينة من نقاط المكان، ولحظة معينة من لحظات الزمان حتى ينتهي تحليل الوضعيين إلى سلسلة من المعطيات الحسية التي تبعث بها الواقعة؛ إذ المرجع هنا في قيمة الصدق (أي الصدق أو الكذب) هو خبرة الحواس، لكن ينبغي التحفظ؛ فالصدق أو الكذب هنا نسبي يستحيل إطلاقه، المعطيات الحسية تشير الآن إلى صدقها، لكن من يدري قد يتغير في الغد العالم الطبيعي، أو تتغير المعطيات الحسية، أو تتكامل بعد نقص، فتصبح القضية كاذبة، إنها لذلك عرضية احتمالية، يستحيل أن تكون ضرورية.
خلاصة القول: إن القضية التركيبية تجريبية استقرائية احتمالية عرضية، محك الصدق فيها هو خبرة الحواس.
هذان هما نوعا القضايا ذات المعنى، وهم يفضلون اصطلاح عبارة ذات معنى
Meaningful Statement ، عن اصطلاح لها معنى
has a meaning ؛ لأن الصيغة الأولى تظهر بمزيد من الوضوح أن المعنى صفة للعلاقات، وليس شيئا يضاف إليها،
7
أي شيء يتحد بنفس طبيعة الجملة.
رابعا: الميتافيزيقا لغو (أ)
أما الحديث عن الميتافيزيقا، فهو حديث ذو شجون، فأميز ما يميز الوضعيين أنهم قوم ضاقوا ذرعا بعقم المشاهد الميتافيزيقية، التي بقيت ثلاثة وعشرين قرنا حيث خلفها أرسطو، بينما تحقق المباحث التجريبية تقدما متصلا لا ينقطع أبدا، فمن ذا الذي يزعم أن ميتافيزيقا القرن العشرين أدنى إلى الصواب قيد أنملة من ميتافيزيقا أرسطو، فما هو هذا الصواب، وهل من خبرة عساها أن تخبرنا به؛ لذا كانت الوضعية على العموم، والمنطقية منها على أخص الخصوص هي فلسفة قامت لكي تقوض دعائم الميتافيزيقا، وتزيحها تماما من عالم ينبغي أن ينفرد به العلم وحده. (ب)
وقد تيسر لهم ذلك فيما اعتقدوا بناء على النقطة السابقة من تقسيم القضايا ذات المعنى أي العلمية إلى تحليلية وتركيبية، ولما كان مبدؤهم الأساسي هو أن أية قضية واضحة ومفهومة لا بد أن تقوم على أساس الخبرة، فقد انزاحت العقبة الرياضية حين اتضح أنها مجرد إثبات للهوية لا تخبر بشيء - كما أوضحنا آنفا - فبفضل جهود رسل وفتجنشتين أمكن للتجريبي - وهو هنا الوضعي المنطقي - أن يحتفظ تماما بمبدئه، وعليه فقط أن يضيف إليه: «ما لم تكن إثباتا للهوية.» فيصبح أية قضية واضحة ومفهومة لا بد أن تقوم على أساس الخبرة ، ما لم تكن ثباتا للهوية، وطالما أنه لا يوجد ميتافيزيقي واحد قد أعد نفسه ليعترف بأن قضاياه لا تخبر بشيء عن العالم «2» - أي ليست مجرد إثبات للهوية، وهي بالطبع ليست قائمة على أساس الخبرة الحسية - أمكنهم استئناف المسير إلى هدفهم المروم، فيدعون أن القضايا الميتافيزيقية غير واضحة ولا مفهومة؛ لأنها غير ذات معنى ولا حتى مغزى
nonsense
تفهمه منها، لكي نحكم عليها بالصدق أو بالكذب، إنها لا ترقى حتى إلى مرتبة الكذب؛ ذلك لأنها تدعي الإخبار عن العالم، أي تخبر عما لا يمكن الإخبار عنه، أي تدعي فعل ما لا يمكن أن يفعل، إنها إذن تناقض نفسها كما أوضح كانت، أوليس من الجائز أن نلقى في إحدى صفحات كتاب يؤرخ للميتافيزيقا قضية تزعم أن الحقيقة هي المطلق، وفي صفحة أخرى «الحقيقة ليست هي المطلق.» وكل من القضيتين مصحوبة بأدلة تبدو دامغة، ولما كان الفصل بينهما مستحيلا، أوجبت الأمانة العلمية على المؤرخ تقرير القضية ونقيضها، وما هكذا يكون تقرير الكلام ذي المعنى. (ج)
هذه هي الأفكار التي تحدد الهيكل العام لفلسفة الوضعيين المناطقة، والتي أخذت الدائرة تناقشها وتتداولها في اجتماعاتها المستمرة، حتى أصيبت باغتيال رائدها موريتس شليك عام 1936م على يد طالب مأفون من جامعة فيينا، فكان أن انحلت الدائرة، وأكد على هذا الانحلال الغزو النازي الذي أصاب النمسا في بوادر الحرب العالمية الثانية، ولنزعتهم العقلانية والعلمية أقيل كثيرون منهم من الجامعة وكان معظمهم - كبوبر - ينحدر من أصول سامية يهودية؛ مما أدى إلى تفرقهم في غرب أوربا وأمريكا، مخافة بطش هتلر باليهود.
لكن النظرة الثاقبة تبين أننا لا نجد أمامنا إلا مجموعة أفكار مستقلة تقريبا، والذي يمثل العمود الفقري الذي يقيمها ويقيم المذهب ويحقق هدفه الأساسي، إنما هو معيار التحقق وما تبع اهتراءه من معايير، إنه أهم أفكار المذهب وأشهرها، فضلا عن أنه موضوعنا الأساسي الذي جرنا إلى الحديث عن الوضعية. (2) المعايير الوضعية لتمييز العلم (1) لقد اتضح الآن مدى افتتان الوضعية بالعلم التجريبي الحديث، وفي الآن نفسه مدى غضبهم (المضري) الذي لا يبقي ولا يذر على شتى المباحث الميتافيزيقية، حتى نادوا بأن يصبح العلم ومنطقه هو فقط النشاط العقلي والذي لا نشاط سواه.
ولكن كيف ننقح ميادين النشاط العقلي حتى لا يصبح فيها إلا العلم؟ لا بد من معيار يمثل الفيصل الحاسم بينه وبين اللاعلم، عدنا إذن إلى المشكلة التي يعالجها هذا البحث مشكلة تمييز المعرفة العلمية. (2) ونحن الآن بإزاء محاولة الوضعية المتمثلة في معيار التحقق الذي اصطنعوه لهذا الغرض، وهذا المعيار هو الأساس الذي يقوم عليه المذهب، بل ويقوم من أجله، حتى إذا قيل في تعريف الوضعية: إنها المذهب الذي ينادي بمعيار التحقق لما جانب هذا الصواب إذ إن رسل مثلا الذي يتفق معهم في الكثير - أو بالأحرى يتفقون هم معه - فقد عرفناه أحد الرواد الذين مهدوا لهم الطريق، والذين تعاطفوا مع المذهب إلى حد كبير يعد في الآن نفسه واحدا من أقسى نقادهم، وهو ليس وضعيا بأية حال، والسبب واحد ووحيد، وهو أنه لا يوافقهم على معيار التحقق خصوصا، ومعاييرهم لتمييز العلم عموما، بصفة عامة كان هذا المعيار هو أساس معظم الخلافات التي اشتجرت بينهم وبين الفلاسفة والنقاد، ذلك ببساطة لأنه مربط الفرس في مذهبهم هذا، وقد أصبح سريعا هو الفكرة التي تقود وراءها المذهب بجملته،
8
بل وإن التاريخ اللاحق لحركة الوضعية، قد تحدد بمحاولاتهم لحل طائفة من المشاكل بدت أمامهم، وكانت إلى حد كبير بسبب تعويلهم على معيار التحقق.
9
وقد أدت محاولات الحلول هذه إلى طرح أفكار لحل نفس المشكلة - تمييز المعرفة العلمية - فلم يعد أمامنا معيار التحقق فحسب، بل ومعيار القابلية للاختبار والتأييد، ولغة العلم ومحاولة فتجنشتين المتأخرة، كلها تحاول تحقيق هدف التحقق متفادية أخطاءه. (3) من ناحية أخرى فقد سبقت هذه المعايير - خصوصا معيار التحقيق - معيار القابلية للتكذيب البوبري، فقد عرف طريقه إلى الأسماع والأبصار، وشغل الأوساط الفلسفية قبل أن تعرف هذه الأوساط بوبر أو معياره؛ لذلك كان عبثا كبيرا على بوبر أن يلقى مكانا لمعياره، لا سيما أن الوضعية كانت موضة شائعة في عصرها، ومن يخرج عليها - كبوبر - يعد رجعيا متخلفا.
بالإضافة إلى ما يبدو للوهلة الأولى من تشابه بين التحقيق والتكذيب، مما ساعد على شيوع الخطأ الكبير باعتبار بوبر وضعيا، واعتبار القابلية للتكذيب مجرد امتداد للقابلية للتحقيق أو تعديلا له.
ولقد ذاع هذا الخطأ، لدرجة أن دائرة المعارف الفلسفية - وهي المرجع العلمي الرفيع الذي لا يتطرق إليه شك أو نقد - تعتبر التكذيب مجرد امتداد للتحقق، فتتناوله تحت مادة مبدأ التحقق، وتعالجها في إطار واحد، ومن منظور واحد، والحقيقة الحقة أنهما جد مختلفان شكلا وموضوعا، وقد وجه بوبر نقده الحاسم لمعيار التحقق ولسائر معايير الوضعية جملة وتفصيلا، واختلفت محاولته لتمييز العلم اختلافا شكليا وموضوعيا وفلسفيا عن معيار التحقق وعن سائر معايير الوضعية.
لكن ما هو معيار التحقق هذا أولا؟ (4) معيار التحقق هو قاعدة تجسد مبادئهم السابقة، من أن كل حقيقة تركيبية تستمد من الملاحظة، وأن كل ما يسهم به العقل في المعرفة ذو طبيعة تحليلية، فكان مضمونه هو أن الجملة التي ليست بتحليلية لكي تكون ذات معنى، لا بد أن تعبر عن واقع حسي تجريبي، وأن الجملة التي لا يمكن تحديد صدقها من ملاحظات حسية ممكنة هي جملة لا معنى لها،
10
حيث إن المعنى هو العلم، واللاعلم هو اللامعنى، فكان أن صاغ ألفرد آير المعيار كالآتي: «يكون للجملة معنى حرفي فقط، إذا كانت تعبر عن قضية تحليلية أو قضية ممكنة التحقق تجريبيا.»
11
لقد استبعدوا القضايا التحليلية: الرياضة والمنطق، المعيار يطبق فقط على القضايا التركيبية، ليحدد منها العلم الطبيعي، ويستبعد الميتافيزيقا، ودع عنك الأوامر والنواهي وسائر التعبيرات الدالة على قيم معيارية من قبيل: «ما أجمل الزهور» «القتل جريمة بشعة» ومثال هذه التعبيرات في عرفهم محض إنشائية، ونظرا لأن فلسفة الوضعية ذات خاصة معرفية فهي لا تعنيهم البتة، بل تعني نقاد الفن والأدب، المهم ألا يزعم أصحابها أنهم يزيدوننا معرفة بالواقع.
ولما كان التحقق معيارا للمعنى فهو يشمل أيضا التحقق من المفاهيم والكلمات، وطبعا العبارة لن تقبل التحقق إلا إذا كانت كل المفاهيم الواردة فيها قابلة للتحقق.
غير أن المعيار أثار الكثير من النقاش، فهو ذاته لا قضية تحليلية ولا قضية تركيبية تقبل التحقق، فكان أن عرض الوضعيون قبوله على أساس براجماتي، ثم إن القضية قد لا تقبل التحقق لأسباب منطقية، أو لأسباب فنية قاصرة على الوقت الراهن، أو لأسباب فيزيائية ... إلخ، فأي من هذه الوجوه يحمل معه الخلو من المعنى، لحل هذا ميزوا بين التحقق المباشر للقضايا التي تدور حول المدركات الحالية، والتحقق غير المباشر لبقية القضايا ذات المعنى، وقريب من هذا ما فعله آير حين ميز بين: التحقق بالمعنى القوي، والتحقق بالمعنى الضعيف.
وهو يعبر عن الفرق بينهما بأن القضية يمكن التحقق منها بالمعنى القوي، إذا وفقط إذا ما كان ممكنا أن تؤسس بصفة حاسمة وقاطعة على الخبرة،
12
وهي قابلة للتحقق بالمعنى الضعيف إذا كان للخبرة أن تجعلها ممكنة، وواضح أن هذا الحل لا يعني أكثر من التمييز بين القابلية للتحقق كأمر واقع فعلا، وبينها كمجرد إمكانية وليست استحالة، ويوضح آير أن التحقق بالمعنى الضعيف هو فقط المطلوب.
غير أن هناك مشكلة معينة بدت على درجة قصوى من الخطورة، فلقد أحس الوضعيون أنفسهم أن معيار التحقق لن يحطم الميتافيزيقا فقط، بل وسوف يحطم العلم أيضا؛ ذلك أن قوانين العلم بطبيعة الحال ليست قابلة للتحقيق، إذ ليست هناك أية مجموعة من الخبرات يكون اكتسابها مكافئا لصدق قانون علمي.
وقد تنبه فتجنشتين إلى هذا مقدما في رسالته، فأكد - إبان بحثه للمنزلة المنطقية للقضايا العلمية - على أن كثيرا من العبارات العامة في العلم لا تحتاج إلى معاملتها على أنها دالات صدق للقضايا الأولية
Elementry Proposition ؛ لأنها ليست تجريبية؛ وبالتالي ليست قضايا بالمعنى الدقيق، هي بالأصح توصيات بمنهج لتمثيل فئة معينة من الظواهر
.
13
وكان حل شليك قريبا من حل صديقه وأستاذه فتجنشتين؛ فقد ادعى أن القوانين العلمية ليست عبارات، بل هي قواعد ورخص للاستدلال، غير أن كارناب ونيوراث اعترضا على هذا مستندين إلى أن القاعدة - طبعا - تستحيل محاولة تكذيبها، أما القوانين العلمية فإننا نحاول تكذيبها، فهي إذن عبارات إخبارية وليس مجرد قواعد، وواضح أن هذا مجرد استجابة من كارناب لتأثيرات بوبر، وأثر بوبر يمتد لدرجة أن الوضعيين أنفسهم اعترفوا بأنه حتى القضايا الجزئية والمفاهيم لا يمكن أن نتحقق منها تحققا كاملا.
لكن الخطورة الحاسمة كانت حقا على القوانين العلمية التي قام المعيار أصلا لتمييزها، وكان قبول البعض اعتبارها ليست بقضايا ورفض البعض الآخر، فيصلا حاسما في تاريخ الوضعية،
14
قسمها على ذاتها.
أما القصور لا نقاش فيه، فهو أن التحقق أو إمكانية التحقق - ولا فارق بينهما - تميز العلم، ولكن لا تستطيع إطلاقا التمييز بين العلم، فلا يمكن مثلا للعالم إبان بحثه اختيار فرض علمي بين مجموعة فروض متنافسة؛ لأنه أكثر أو أقل قابلية للتحقق، بعبارة أخرى: لم نسمع من الوضعيين أي شيء عن درجات القابلية للتحقق، فهو لا يجدي العالم في شيء، فكيف بالله يكون أساسا لفلسفة هي أولا وأخيرا علمية.
تلك بصفة عامة المشاكل التي تبدت في وجه معيار التحقق، مما جعله يتخذ تدريجيا صورا أخرى، باعتقاد أنها مستطيعة التغلب على هذه الصعوبات. (5) أولى هذه الصور: القابلية للتأييد
Confirmability
التي تعني أن القضية ذات معنى، فقط إذا أمكن تأييدها، أي اشتقاق قضايا صادقة منها.
وقد ارتبط معيار القابلية للتأييد بالقابلية للاختبار
Testability
وقد أوضح عضو الدائرة فيكتور كرافت أن نقد بوبر لمعيار التحقق أجبر الدائرة على تعديله والاتجاه به نحو القابلية للاختبار، والتي هي أحد أوجه معيار التكذيب،
15
وإن ظلت شخصية الوضعيين متميزة؛ إذ إن صورة المعيار لديهم هي: تكون الجملة قابلة للاختبار إذا كنا نعرف الإجراءات المعينة «مثلا تنفيذ تجارب معينة» التي من شأنها أن تؤيد الجملة، أو تؤيد نفيها لدرجة ما، بينما تكون الجملة قابلة للتأييد إذا أمكن منطقيا لأي نوع من الأدلة التجريبية أن يؤيدها، حتى ولو كنا لا نعلم المسار المعين لإجراءات الحصول على هذه الأدلة،
16
واضح أن القابلية للاختبار مجرد صورة قوية فعلية من قابلية التأييد المضعفة، والفارق بينهما يطابق الفارق بين التحقق بالمعنى القوي - أو المباشر - والتحقق بالمعنى الضعيف - أو غير المباشر - مما يعني أن القابلية للتأييد هي الأوسع في ما صدقاتها وفي الأصل، والقابلية للاختبار مجرد تابع لها، يحدد فئة معينة من ما صدقاتها، هي فئة القابلية للتأييد الفعلية، ورغم هذا فقد ميزت الوضعية في أحد أطوارها بين أربعة معايير: القابلية التامية للاختبار - درجة معينة من القابلية للاختبار - القابلية التامية للتأييد - درجة معينة من القابلية للتأييد، كلها تتعاون معا في تمييز قضايا العلم واستبعاد الميتافيزيقا.
وكان كارل همبل
Karl Hempel
أكثرهم استجابة لبوبر، حتى اقترب منه متخذا طريقا مخالفا للوضعيين؛ إذ أعلن رفضه للتحقق على أساس رفض الاستقراء، وأعلن أنه لا يمكن اعتبار النظرية علمية ما لم تكن قابلة للاختبار التجريبي والتأييد ببينات تجريبية، أي ما لم نتمكن من استخلاص قضايا لزومية اختبارية معينة منها، لها الصورة «إذا تحققت شروط الاختبار «ح» يحدث الناتج «ه».»
17
وتكفينا الإمكانية من حيث المبدأ، فهي غير قائمة في القضايا اللاعلمية اللاتجريبية.
وحينما تكون النظرية علمية، فلا يمكن بالطبع أن يفضي الاختبار إلى تأييد حاسم، بل فقط إلى بينة مؤيدة بدرجة أكبر أو أصغر، ومن هنا يمكن اعتبار معيار القابلية للتأييد والاختبار، هو أيضا للاختيار بين الفروض العلمية، فنختار الفرض الأكثر قابلية للتأييد على أساس المحكات الآتية: كمية ونوعية ودقة البيئة المؤيدة - التأييد بالقضايا اللزومية الاختبارية الجديدة - التأييد النظري.
وبالطبع يجب أن نأخذ في الاعتبار العوامل الأخرى، مثل درجة البساطة ودرجة الاحتمالية،
18
ويأتي كارناب خصوصا ليطابق بين التأييد والاحتمالية، أو درجة التأييد ودرجة الاحتمالية.
والآن فبصرف النظر عن أن معيار التكذيب يحل محل التأييد بصورة أكفأ كثيرا كثيرا، فإن أبسط ما تقوله لهمبل هو أن شذى الاستقراء ما زال يفوح طالما نبحث عن البينات المؤيدة إيجابا، وأن التأييد لا يعلو أن يكون صورة ضعيفة من التحقق.
لكن الذي يعلي من شأن نظرية همبل، هو أنه طرح خرافة المعنى جانبا؛ استجابة لدعوى بوبر، رغم أن فكرة المعنى من أسس الوضعية المميزة، وأوضح أن التأييد فقط لتمييز العلم والتعامل مع الفروض العلمية.
ليسوا جميعا بتبصر همبل، فقد تمسك آير مثلا بالتأييد كمعيار للمعنى، على أساس من مبدأ الوضعية في المطابقة بين العلم والمعنى واللاعلم واللامعنى، ومن هذا المنظور لكي تكون العبارة ذات معنى يجب أن تتصل بفئة من عبارات الملاحظة، تعطي فقط درجة من التأييد البرهاني للعبارة الأصلية، وليس تحقيقا قاطعا، فأية عبارة لها معنى معرفي، ولتكن العبارة «س»، يجب أن يكون لها فئة من عبارات الملاحظة الأساسية وهي «م1 م2
م ن»، فتكون «س» مؤدية إلى «م1 م2
م ن» وتكون «م1 م2
م ن» تؤيد أو تعطي درجة أكبر من الاحتمالية للعبارة «س».
إلا أن آير عاد ليقول: إن هذا المعيار لن يميز العلم؛ إذ إنه قد يسمح لأية عبارة خالية من المعنى أن تجتازه، فإذا كانت «ن» عبارة خالية من المعنى - أي لا علم - و«م» عبارة ملاحظة أساسية، فيمكن أن نستنبط «م» من العبارة «ن» مرتبطة مع «م» كمقدمة إضافية، على الصورة المنطقية «إذا ما كانت «ن» لكانت «م».» ومنها يمكن استنباط «م» من «ن»، رغم أننا لا نستطيع استنباط «م» من «ن» بمفردها،
19
فمثلا إذا كان لدينا العبارة الخالية من المعنى «المطلق لا نهائي» وعبارة الملاحظة الأساسية «الجو ممطر» يمكن أن نضعهما معا في الصورة المنطقية «إذا كان المطلق لا نهائي لكان الجو ممطرا، ولكن المطلق لا نهائي إذن الجو ممطر.» هكذا أفضت العبارة الخالية من المعنى إلى عبارة تجريبية، أي يمكن لقضايا الميتافيزيقا أن تجتاز المعيار! وعلى هذا النحو نلاحظ أن معيار التحقق بعد أن كان غاية في القوة والمضاء، قنع بأن يحل محله معيار التأييد الذي هو غاية في التواضع والضعف، ورغم هذا لم يستطع الصمود أو أن يؤدي المهمة بجدارة. (6) من هنا كانت محاولة أحد زعماء الدائرة البارزين رودولف كارناب لتمييز المعرفة العلمية، تطيح تماما بمعيار التحقق، وتضع بدلا منه محاولة جديدة للتمييز بين العلم واللاعلم، وهي المتمثلة فيما أسماه كارناب بلغة العلم
Language of Science ، وقد وضعها متأثرا بمناقشاته مع بوبر - إذ أكدت الصعوبات التي حاقت بمعيار التحقق - من ناحية وبعبقريته هو الرياضية من ناحية ثانية، وبنزعته اللغوية المنطقية المتطرفة جدا من ناحية ثالثة.
وفي محاولة بناء هذه اللغة، دعا كارناب في البداية للغة الفيزيائية أو اللغة المنتمية للفيزياء
والتي تقوم على ما يمكن أن نسميه بالأنا وحدية المنهجية
Methodological Solipsism ، وهي ذلك الاعتقاد القائل بأني أنا وحدي الموجود، والذي عبر عنه رسل قائلا: الأنا وحدية هي تلك النظرة القائلة بأنني لا أستطيع أن أعرف شيئا على أنه موجود، باستثناء ما يقع في خبرتي أنا.
20
وعلى أساس الأنا وحدية المنهجية، اتخذ كارناب خبرات الشخص الفردية أساسا تبنى عليه مفاهيم العلم، فحاول أن يبني العالم من أفكار أولية
، ترتبط ببعضها عن طريق علاقات أولية، فاقتطع قطاعا عرضيا من الخبرة، ليقدم لنا فيه أفكاره الأولية، وقد ابتدع كارناب عددا من الحيل الفنية الفذة ليحقق هذا الغرض، فهو يربط بين شظايا الخبرة على أساس تماثلها المسلم به، فيردها إلى فئات الكيف، والتي تنتهي بدورها إلى نفس فئة الحس
Sense Class
إذا ما ارتبطت بسلسلة من المتماثلات، فأي لونين مثلا يمكن أن يشتبكا معا بواسطة ألوان تتوسطهما، على حين أن لونا وصوتا وهما لا يرتبطان ينتميان إلى فئتين حسيتين مختلفتين، لكن فئات الحس تقع بدورها في مجال الحس، وهذا المجال قابل للتعرف في مصطلحات تشمل الأبعاد، فمجال الحس البصري هو الفئة الحسية ذات الخمسة أبعاد، ومجال الحس السمعي هو الفئة الحسية ذات البعدين، ويرى كارناب أن سائر الكيفيات يمكن أن تعرف بهذه الطريقة، بشكل صوري أو بنائي تماما: فمثلا اللون «أحمر» يمكن تعريفه بأنه فئة المتماثلات التي لها موضع معين في نسق خماسي الأبعاد، وهكذا يستأنف كارناب المسير إلى وضع رسم تخطيطي في مصطلحات عامة، للإجراءات التي يمكن بها بناء الأشياء بوصفها متميزة عن الكيفيات بناء صوريا. (صوري؛ لأن كل أحاديث كارناب هي - في رأيه - من النمط الصوري؛ لأنها منطق العلم الذي يتحدث عن العلم، أما العلم ذاته - والذي يتحدث عن الأشياء المادية - فهو من النمط المادي، إذن عند كارناب: اللغة الشيئية = النمط المادي، اللغة البعدية = النمط الصوري.)
إلا أن كارناب قد عدل عن هذا المشروع، فقد بدأ يعتقد أن عالم المعرفة العلمية العام لا يمكن أن يتكون من قطاع عرضي من الخبرات الخاصة الفردية، فتخلى عن هذه الدعوى تماما عام 1931م، تحت تأثير عضو الدائرة الكبير أوتو نيوراث
Otto Neurath (1882-1945م) الذي وجد كارناب معه هواه اللغوي، فكون معه حزبا منشقا داخل الدائرة أوشك أن يثير روح العداء فيها. (7) وقد اتخذ هذا الحزب المكون من نيوراث وكارناب الفيزيائي
، وهي تقوم على أن اللغة الفيزيائية هي لغة عمومية
universal
للعلم، وهذا يعني أن أية لغة لأي مجال فرعي في العلم يمكن أن تترجم - بصورة مكافئة تماما لصورتها الأصلية - إلى لغة العلم هذه، وبناء على هذا نستنتج أن العلم نسق واحدي تكاملي مركزي، حيث لا نجد داخله مجالات لمواضيع ذات تباين جوهري، وتبعا لهذا لا نجد هوة بين العلوم الطبيعية والعلوم السلوكية مثلا.
21
من هنا قامت الدعوى النيوراثية الكارنابية، على أن هناك لغة واحدة للعلم الموحد
unitied science ، فلقد تأثرا بالتقدم الرهيب لعلم الطبيعة، فأراده علم العلوم والعلم الواحد الذي لا علم سواه، وكل العلوم الأخرى مجرد أفرع للفيزياء وأجزاء فيها؛ ومن ثم تكون لغة الفيزياء هي اللغة العلمية الواحدة، وهذه اللغة الفيزيائية تتمتع بخاصية تجعلها كلية
Universal Language
يمكن أن يقال فيها كل شيء له معنى، وهي اللغة التي تتحدث عن الأشياء الفيزيائية وحركاتها في الزمان والمكان، وكل شيء يمكن التعبير عنه أو ترجمته في حدود هذه اللغة، خصوصا علم النفس على قدر ما هو علم أما مشكلة أسسه فهي:
هل يمكن رد مفاهيم علم النفس إلى مفاهيم الفيزياء بمعناها الضيق؟
هل يمكن رد قوانين علم النفس إلى قوانين الفيزياء بمعناها الضيق؟
وللرد بالإيجاب ليصبح علم النفس فقط علم السلوكيات، وتصبح كل عبارة ذات معنى سواء حول الحيوان أو الإنسان قابلة للترجمة إلى عبارة حول الحركات الزمانية المكانية للأجسام الفيزياء؛ أي للغة الفيزياء، أو لغة العلم الموحد.
تلك هي اللغة التي حاول كارناب أن يبني لها بناء نسقيا منطقيا، ويضع قواعد الصياغة فيها، وقواعد التحويل أو الاستنباط منها، وكتب يقول: «إذا كنا سنتخذ لغة الفيزياء كلغة للعلم؛ بسبب خاصيتها كلغة كلية، فإن جميع العلوم ستتحول إلى الفيزياء، وستستبعد الميتافيزيقا على أنها لغو، وتصبح العلوم المختلفة أجزاء من العلم الموحد.»
22
أما عن أصول هذه اللغة الصورية للعلم الواحد والتي لا ترتد إلى أصول لغوية بعدها، فقد اقتنع كارناب بدعوى نيوراث إلى أن الجمل تقارن فقط بالجمل وليس بالخبرة، وأيضا أننا نتحقق من جمل هذه اللغة - أي نختبرها - ليس بواسطة الخبرات الحسية، كما يدعي معيار التحقق أو معيار التأييد، وإنما بواسطة ما أسمياه جمل البروتوكول
والتي يعطي لها كارناب في كتابه «وحدة العلم» التعريف الآتي: جمل البروتوكول هي الجمل التي تشير إلى - أو تصف مباشرة - خبرات متاحة أو ظواهر، أو هي عبارات لا تحتاج إلى تبرير، وتخدمنا كأساس لبقية جمل العلم،
23
إنها المحك الذي نبدأ منه قياس أو اختبار بقية الجمل، بغير أن تكون هي نفسها بحاجة إلى قياس أو اختبار، وهي لهذا جمل أساسية غير قابلة للتعديل.
غير أن هذا أثار خلافا كبيرا بين كارناب ونيوراث - صاحب الفكرة - فنيوراث لا يقبل أي شيء غير قابل للتعديل، وكارناب بدعواه هذه يكون - من وجهة نظر نيوراث - داعيا لدعوة ميتافيزيقية، تبحث عن المطلق الثابت؛ مما أدى إلى تعاظم الخلاف أن كارناب يرى أن جمل البرتوكول لا تقع داخل حدود لغة العلم، على الرغم من أن هناك قواعد خاصة لترجمتها إلى لغة العلم، أما نيوراث فيصر على أنها تقع داخل لغة العلم وبصورة ثابتة؛ لذلك فإن مشكلة ترجمتها لا تثار بالمرة.
24
وأيا كانت أوجه الخلاف بين كارناب ونيوراث، فإن قضايا البرتوكول هي نفسها تثير مشكلة كبيرة حول ما إذا كانت قابلة لأن تصاغ أصلا في لغة الفيزياء، فهي تسجل خبرات خاصة، فكيف تكون أساسا لجمل العلوم، وهي عامة مشتركة بين الذوات، ولقد استلهم كارناب نزعته الفيزيائية التي أخذها عن نيوراث، كي يحل هذه المشكلة، فيقول: إن كل حالة من جمل البروتوكول يمكن أن تترجم إلى عبارة عن حالة لجسمي،
25
ومن هنا نجد بوبر - في نقده لكارناب - يضع التعريف التالي لجمل البروتوكول: هي تقريرات عن خبراتنا الخاصة الملاحظة على الرغم من أننا نعبر عنها في اللغة الفيزيائية، وهذا يعني أنها تقريرات حول أجسامنا،
26
فكارناب يدعي أننا نملك الوسائل لكي نقر ما إذا كان القول «الجسم «س» يرى الآن أحمر»، هو قول صادق أم لا، فمثلا نخبر «س» أن يضغط على الجرس، حينما يرى لونا أحمر، وأن هذا - كما يقول كارناب - مكافئ منطقي لعبارة البروتوكول «أحمر اللون» وكارناب يعتقد أن هذا التكافؤ يعطيه كل ما يريده،
27
فيتمسك بدعواه النيوراثية في أن اللغة الواحدة للعلم الموحد
28 ⋆
المؤسسة على جمل البروتوكول، تمكننا من تمييز المعرفة العلمية واستبعاد الميتافيزيقا. (8) إذن لقد تخلى كارناب عن معيار التحقيق، وراح يبحث عن البديل في لغة العلم، بل وإن هذا المعيار يسحب البساط من تحت فتجنشتين نفسه، الأب الروحي للوضعية، وواضع المعيار، وهذا حينما جاء فيما بعد ونادى في «بحوث فلسفية»
29
بأن التحليلات اللغوية مقطوعة الصلة بالخبرة الحسية، وتعول فقط على القواعد التي اصطلحنا عليها، وليس المقصود طبعا قواعد النحو والصرف، بل قواعد الإشارة السيمانطيقية للتركيب السينتاطيقي، أي قواعد للتحليل الفلسفي للغة، فليس هناك لغة خاصة تعبر عن خبرات خاصة، اللغة كالمباراة الرياضية ينبغي أن نتعلم قواعدها، فلها خصائص المباراة وهي: (1) الطابع التنافسي، (2) محكومة بقواعد ، (3) تتطلب مهارات تتفاوت، (4) ليس لها هدف نهائي، مجال الأهداف مفتوح، (5) يمكن اعتبارها مجموعة أنشطة مستقلة، كما أن المباريات هكذا، وبغير أن يعني هذا أن اللغة نشاط تافه أو مجرد تسلية، بل هي نشاط اجتماعي هام،
30
وإذا تساءلنا لماذا يهتم الفيلسوف بدراسة قواعد مباريات اللغة؟ لكان هذا فقط لكي يوضح المعنى، ويميز بين اللغو وبين الكلام ذي المغزى؛ أي العلم،
31
ويمكن الحكم على عملية العبارة تبعا لقواعد التعبير، ومن الناحية الأخرى: إذا أخذنا عبارة علمية أو منطقية كنموذج للوضوح أو كمورد نهائي للصدق الأصيل، فسنتمكن من تحديد القواعد اللغوية للتمييز، وسيتجه مفهومنا للوضوح تبعا لهذا نحو نوع من الصفاء الفطري الخالص،
32
وفتجنشتين دائما لا يضع نصب عينيه إلا هدفا واحدا؛ الوضوح والإيضاح، وإن كانت أعماله هو نموذجا طيبا للغموض والألغاز.
ويوضح بيتر مونز أن هذه المحاولة التي كان فتجنشتين يقصد بها بديلا لسائر محاولات الوضعية، ولمحاولته المبكرة في «الرسالة المنطقية الفلسفية»؛ لتمييز العلم متهافتة جدا وتفنيدها يسير؛ لأنها أولا خاطئة
False ، ثانيا من نوعية يستحيل إثبات أنها خاطئة، وثالثا فتجنشتين نفسه قد أدرك أو كان على وشك أن يدرك أنها خاطئة.
33 (3) خاتمة: عود إلى بوبر (1) لقد طرح بيتر مونز هذا في مقال له بكتاب «التناول النقدي للعلم والفلسفة» الصادر على شرف كارل بوبر بمناسبة عيد ميلاده الستين (مذكور في الهامش)، وكانت مقالة مونز توضح أن كلا من بوبر وفتجنشتين قد وضعا أدلة بديلة لتمييز العلم رفضا للتحقق، وبعد أن عرض مونز لمحاولة فتجنشتين وبين تهافتها، يعرض لمحاولة التكذيب البوبرية، معقبا عليها بالتقريظ العظيم، لقد تحامل مونز كثيرا على فتجنشتين، وربما إكراما لخاطر بوبر الذي يشعر بروح عدوانية تجاه فتجنشتين، كما تكشف كتاباته بوضوح، بل ومن أقصوصة يقصها هو علينا في سيرته الذاتية، وخلاصتها أنه تلقى عام (1946م) دعوى من سكرتير نادي العلوم الأخلاقية في كمبردج، كي يلقي محاضرة حول «الأحاجي الفلسفية»
.
وواضح أن العنوان من صياغة فتجنشتين، وكان ذلك سببا ليثير النفور في نفس بوبر حسب تعبيره؛ لذلك بدأ المحاضرة بالتعبير عن مفاجأته لتلقي الدعوة بهذه الصياغة، فهو - أي بوبر - يصر على أن المشاكل الفلسفية حقيقية، مهما كان رأي السكرتير الذي جعله يكتب الدعوة بهذه الصياغة، فهب فتجنشتين من قاعة المحاضرة واقفا وقال، بغضب وبصوت مرتفع: «لقد فعل السكرتير تماما ما أمليته عليه؛ فهو يتصرف تبعا لتعليماتي أنا.» ولم يعر بوبر ذلك أدنى التفات؛ مما أثار البلبلة والارتباك في القاعة فاضطر السكرتير إلى أن يقول معتذرا: «تلك هي صياغة دعاوى النادي.» واستأنف بوبر المحاضرة مصرا على أن المشاكل الفلسفية حقيقية ولو لم يكن هناك مشاكل فلسفية حقيقية لما كان هو فيلسوفا، فقفز فتجنشتين مقاطعا بوبر موضحا في حديث مسهب أنه لا يوجد شيء اسمه مشاكل فلسفية حقيقية، كلها أحاج ومشاكل زائفة، وفي اللحظة التي بدت لبوبر مناسبة، قاطع فتجنشتين موردا قائمة من المشاكل الفلسفية الحقيقية، كان قد أعدها مثل: هل نعرف الأشياء من خلال الحواس؟ هل نكتسب المعرفة عن طريق الاستقراء؟ فقال فتجنشتين: إن أمثال هذه المشاكل منطقية وليست فلسفية، فأشار بوبر إلى مشكلة ما إذا كانت المتناهيات احتمالية أم توجد بالفعل، فقال فتجنشتين: إنها رياضية وليست فلسفية، وهنا ذكر بوبر المشاكل الأخلاقية، وكان فتجنشتين جالسا قرب المدفأة، يمسك بيده البوكر (عصا من الحديد يستخدمها الأوروبيون في تحريك الفحم في المدفأة) يلوح بها أحيانا في أحاديثه، فهب واقفا متحديا بوبر قائلا: «أعطني مثالا لقاعدة أخلاقية.» قال بوبر: «لا تهدد المحاضرين الزائرين بالبوكر.» وحينئذ انفجر فتجنشتين غاضبا، وألقى البوكر من يده واندفع خارج القاعة، صافقا الباب من خلفه،
34
والحق أن بوبر تجاوز حدود اللياقة، وقد أحس فعلا أنه أخطأ، وأسف بصدق لأنه أغضب فتجنشتين وهو يقول: إنه كان ذاهبا لكمبردج فعلا ليتحدى فتجنشتين، ويثبت أن المشاكل الفلسفية حقيقة وأصيلة، ولكنه في هذه المقولة كان يقصد مزاحا أو دعابة، ولم يقصد إغضاب فتجنشتين لهذه الدرجة، وعلى أية حال استمر بوبر في محاضرته ومناقشتها، وكان رسل من أبرز المناقشين.
35
كانت هذه الأقصوصة، التي تناثرت من حولها الشائعات لدرجة أن رسالة من نيوزيلند وصلت بوبر، تسأله عما كان فعلا قد تشابك مع فتجنشتين بالأيدي والبوكر، لنوضح مدى نفور بوبر العنيف الذي وصل لحد الكراهية الشخصية من آراء فتجنشتين. (2) وإذا كان بوبر ناقما على فتجنشتين لأنه خطف منه الأضواء الفلسفية في النمسا، ثم في إنجلترا حين هاجر إليها، فبوبر في هذا معذور؛ إذ إن رسل - وهو أعظم فلاسفة القرن العشرين - قد أحس بهذا الشعور؛ إذ كتب في «تطوري الفلسفي» يقول: يعتقد كثير من الفلاسفة البريطانيين أن فتجنشتين قد غطى علي تماما، وهذا - بصفة عامة - ليس بالخبرة اللطيفة، أن يجد المرء نفسه وقد أصبح موضة قديمة، بعد أن كان لفترة طويلة هو موضة عصره، إنه لمن العسير أن أتقبل هذه الخبرة بلطف.
36
يقول رسل هذا على الرغم من أنه قد أخرج أعظم أعماله واكتسب الكثير من شهرته الفلسفية، قبل أن يعرف فتجنشتين، أما بوبر فلم تكن لديه فرصة أن يفعل ما فعل رسل، وكان سوء حظه خصوصا أن يحيا لب حياته المهنية في جو يسوده فتجنشتين سواء في النمسا، أو حتى في إنجلترا حين هاجر إليها، وكان هذا من أهم العوامل التي جعلت بوبر لا يلقى حقه من التقدير الفلسفي.
37
هذا احتمال يطرحه بريان ماجي، من أن يكون بوبر ناقما على فتجنشتين؛ لأنه خطف منه الأضواء الفلسفية، لكنني لا أعتقد في هذا، لا أعتقد أن أي فيلسوف يمكن أن يبلغ من التفاهة حدا بحيث إن الشهرة والأضواء والحقد على الظافرين بها، تجعله يحدد موقفه من المشاكل الفلسفية، فحتى رسل نفسه الذي استشهد به بريان ماجي، لا يفتأ في أكثر من مناسبة أن ينوه بالفضل العظيم لفتجنشتين - صديقه وتلميذه - في الوصول إلى المذهب الذي يحترفه أكاديميا؛ أي الذرية المنطقية،
38
وأعتقد أن بوبر ناقم على فتجنشتين أولا وأخيرا بسبب أفكاره الفلسفية، والنقد الموضوعي الخالص الذي سيوجهه بوبر في الفصلين الآتيين، يمثل السبب الحقيقي والوحيد لهذه النقمة والكراهية، ومن هذه الوجهة يكون لبوبر الحق كل الحق، أولا لأن فتجنشتين، وأتباعه الوضعيين، قد نادوا بأفكار كفيلة بإثارة كل من فكر يوما في احتراف الفلسفة أو حتى تذوقها، وتقدير دورها الفكري العظيم في بناء الحضارة الإنسانية، وثانيا لأن فلسفة بوبر متعارضة على خط مستقيم، مع فلسفة فتجنشتين وأتباعه الوضعيين. (3) كان هذا تمهيدا للنزال الفلسفي الحامي الوطيس، والذي سنرى بوبر يخوض غماره ضد فتجنشتين والوضعية عموما، وضد محاولاتهم للتمييز خصوصا، فتجنشتين ليس وضعيا منطقيا بأي معنى انتمائي، لا هو مؤسس الدائرة ولا هو عضو فيها، لكن الذي لا يختلف عليه اثنان، أن الوضعية المنطقية ليست إلا صورة متطورة متطرفة من فلسفته، لا سيما في مرحلتها الأولى، المعروضة في الرسالة المنطقية الفلسفية، وربما لو لم تكن هذه الرسالة لما كان هناك وضعية منطقية بالذات؛ لذلك جاز لنا أن نضع فتجنشتين مع الوضعية المنطقية ونضع معاييرهم لتمييز المعرفة العلمية معا في ناحية واحدة، ونضع بوبر في الناحية المقابلة لها، كي نعرف رأيه في هذه المعايير، أو بالأصح نعرف كيف حاول بوبر تبيان أخطاء هذه الفلسفة، تمهيدا لإسقاط معاييرها لتمييز العلم.
الفصل الثاني
نقد بوبر للوضعية المنطقية
محاربة الوضعية المنطقية كان - وبلا جدال - أحد اهتماماتي الأساسية.
1
مقدمة (1) نقد بوبر للوضعية المنطقية في هذا الفصل، يمكن أن نعده تقييما لاتجاه فلسفي موغل في القدم، بوبر نفسه يخبرنا بأن الوضعية لم تأت بجديد، كما ظنت وظنت معها التحليلية عموما، من أنهم أقاموا ثورة مدوية في عالم التفلسف قلبت الدنيا رأسا على عقب، أو بالأصح قلبتها فوق رأس الفلسفة، حين ادعوا أن المشاكل الفلسفية زائفة، وأن التحليل اللغوي المنطقي لعباراتها أفضى إلى أنها غير ذات معنى، بوبر لا يرى في هذا أية ثورة، ولا حتى جديدا في الأمر، فالمناقشات الحامية الوطيس، حول ما إذا كانت الفلسفة توجد أو لها الحق في أن توجد أم لا، قديمة قدم الفلسفة ذاتها. مرارا وتكرارا تقوم حركة فلسفية «جديدة تماما» تدعي أنها ستتمكن «أخيرا» من كشف النقاب عن المشاكل الفلسفية لتبدو على حقيقتها من أنها مشاكل زائفة، وأنها ستواجه اللغو الفلسفي الخبيث بأحاديث العلم التجريبي الوضعي، ذي المعنى الرفيع والمغزى الحميد.
2
ومرارا وتكرارا ينهض حماة الفلسفة التقليدية «المستخف بهم»، ليحاولوا أن يشرحوا لقادة هذا الهجوم الوضعي «الأخير» أن المشكلة الأساسية للفلسفة هي التحليل النقدي للالتجاء إلى سلطة الخبرة ذاتها،
3 ،
4 ⋆
لكن هذا النقد لن يعني شيئا للوضعي طالما أنه لا ينتمي للعلم التجريبي فيقابله بالاستخفاف، لا سيما وأن الخبرة الحسية بالنسبة للوضعي، ليست مشكلة في حاجة إلى دراسة نقدية بل هي برنامج بحث، ما لم يدرسها علم النفس التجريبي.
5
لكن بوبر يصر على أن الخبرة في حاجة إلى الدراسة النقدية، ليس هناك أي شيء على وجه الإطلاق يعز على النقد أو حتى يستغني عنه، ولما كان بوبر يرى أن الفلسفة هي الدراسة النقدية للخبرة وغيرها، بدا بوضوح لماذا يعادي تلك الاتجاهات التي تعادي وجود الفلسفة أصلا، النقد هو دائما حجر الزاوية من أفكار بوبر. (2) أي إن بوبر الآن هو هذا المدافع المستخف به، عن الفلسفة التقليدية الذي يصر على أن مشاكلها حقيقية، وقادة الحملة في عصرنا الراهن هم الوضعيون المناطقة.
بوبر الآن سيحاول تبيان أهمية الدراسة النقدية، حين يصوبها على مبادئهم وما ظنوه كشوفا خطيرة لهم، فيفضي هذا النقد إلى نتائج قطعا لا تريحهم. (1) نقده لمنحاهم اللغوي (1) فأما عن منحاهم اللغوي، فهو أيضا ليس بالجديد، فالاهتمام بالكلمات ومعانيها، هو واحد من أقدم المشاكل الفلسفية؛ إذ يقول بوبر إن أفلاطون ذكر مرارا أن السفسطائي بريديقوس كان مهتما بتمييز المعاني المختلفة للكلمات؛ لذا أطلق أفلاطون على هذا الاهتمام اسم «مبدأ بريديقوس»، وقد كان هذا المبدأ جديدا وهاما عام 420ق.م.
6
فهل نعتبره جديدا وهاما في القرن العشرين، فضلا عن أن يكون ثورة فلسفية؟
لا بد إذن من الوقوف وقفة خاصة، عند الاتجاه اللغوي للوضعية، فقد أوضح الفصل الأول أن الوضعية المنطقية هي أساسا فلسفة لغوية، وبدا من عرض محاولاتهم لتمييز العلم، مدى إغراقهم في التحليلات اللغوية، فما موقف بوبر من هذا المنحى اللغوي الذي شاع في فلسفة التحليل المعاصرة؟
7 ⋆ (2) موقفه محدد باتجاه بدا له الصواب منذ فجر شبابه، خلاصته أن الباحث ينبغي أن يمركز اهتمامه أولا وأخيرا على الواقع والوقائع، على الفروض والنظريات والمشاكل التي تحلها والمشاكل التي تثيرها، ولا ينبغي البتة أن نأخذ المشاكل المتعلقة بالكلمات ومعانيها مأخذ الجد.
8
بوبر يرفض ببساطة كافة الفلسفات اللغوية، ويقيمها بتعبير موجز يقول فيه: «ما زلت على اعتقادي بأن أقصر طريق إلى الخسران العقلي المبين هو هجران المشاكل الحقيقية من أجل المشاكل اللفظية.»
9 (3) وقد بدأ هذا الاتجاه منذ زمن بعيد، حينما كان صبيا في الخامسة عشرة من عمره نصحه والده أن يقرأ السيرة الذاتية لسترنيدبرج
Strindberg ، حيث قرأ فقرة معينة - لا يتذكرها - حفزت همته وهو يناقش والده على أن ينتقد بعنف اتجاها إظلاميا لستريندبرج هو: محاولته لأن يستخرج شيئا ما ذا أهمية من المعنى الحقيقي للكلمات.
10
لم يعتقد بوبر أبدا - حتى وهو صبي يافع - أن السبر في أعماق المعاني ذو أدنى أهمية، أو يمكن أن نخرج منه بأية نتيجة ذات قيمة، ولكن راعه أن والده يرى العكس، أي أهمية البحوث الفلسفية اللغوية، وراعه أكثر أن هذا الرأي لستريندبرج ووالده واسع الانتشار، ومأخوذ به على مدى كبير، سواء في تاريخ الفلسفية أو في الفلسفة المعاصرة، وبدا هذا أمام الصبي بوبر كمشكلة كبيرة، سببت له صعوبة فكرية، بل وكراهية للفلسفة ولكنها كانت أزمة انتهت بأن قطع بوبر على نفسه مبدأ هو: ألا يدخل في أي جدال حول الكلمات ومعانيها؛ لأن أمثال هذه المناقشات مموهة، أو غير ذات قيمة.
11
ثم حاول أن يدخل هذا عدم الاهتمام بمعاني الكلمات مع واحدة من المشكلات الفلسفية الكلاسيكية، فوجد أنها وثيقة الصلة بمشكلة الكليات رغم أنها ليست في ذات الهوية معها.
12 (4) لقد دخلنا الآن في مشكلة الكليات: وهي واحدة من أعرق المشكلات الفلسفية وأكثرها أهمية، وقد دارت حولها رحى معركة كبيرة في العصور الوسطى، غير أن أصولها إنما تعود إلى فلسفتي أفلاطون وأرسطو،
13
وهي تدور حول طبيعة الألفاظ الكلية فالألفاظ الجزئية وأسماء الأعلام، مثل «كتاب، القاهرة، حرب أكتوبر» لا تثير مشاكل البتة، فهي بطاقات نلصقها على الأفراد المشخصين، ولكن المشاكل أثيرت بشأن الألفاظ الكلية، مثل «قوة، إنسان، ديمقراطية » علام تدل؟ أو على أي شيء نلصقها؟ وفي الرد على هذا اتجاهان:
المذهب الاسمي
Nomnialism : الذي يرى أن الكليات تماما مثل الجزئيات، مجرد أسماء، لكن بدلا من أن نلصقها على فرد واحد نلصقها على مجموعة من الأفراد.
المذهب الواقعي
Realism : الذي يرى أننا نعتبر الجزئيات - أي تلك المجموعة من الأفراد - متماثلة، نتيجة لمشاركتها في ماهية واحدة، هي مفهوم اللفظ الكلي، إذن مفهوم اللفظ الكلي له ماهية، ذات كينونة ووجود واقعي، أبرز مثال على هذا الاتجاه: أفلاطون الذي أفرد للوجود الواقعي لمفاهيم الألفاظ الكلية عالما مفارقا، هو عالم المثل، وأرسطو الذي استفاض في بحوث الجوهر.
واضح أن استخدام «واقعي» للدلالة على هذا المذهب ثغرة فلسفية؛ لأنه مناقض للمفهوم المعاصر لمصطلح «المذهب الواقعي»، والذي يعني القول بالوجود الواقعي للعالم الخارجي، وجودا مستقلا عن أية ذات مدركة.
وقد عالج بوبر هذا الخلط في استعمال المفهوم باقتراح صائب، طرحه تقريبا عام 1935م في «عقم المذهب التاريخي»، وهو أن نضع للمذهب القائل بالوجود الواقعي لمفاهيم الألفاظ الكلية اصطلاحا آخر هو الماهوية
Essentialism - حسب ترجمة الدكتور عبد الحميد صبرة - فتكون الماهوية مقابلة للاسمية.
وإذا كان العرف قد درج على اعتبار الكليات مشكلة لغوية، فإن بوبر لا يراها هكذا، بل يراها مثل سائر المشاكل الميتافيزيقية، يمكن إخراجها في صورة جديدة، تجعلها منتمية لعلم مناهج البحث.
فالماهويون لا يقتصرون على القول بوجود الكليات، ولكن أيضا يؤكدون أهميتها بالنسبة للعلم فهم يقولون إن الأشياء الجزئية، يظهر فيها كثير من الصفات العرضية، وهي صفات لا تهم العلم، ولنأخذ مثالا من العلوم الاجتماعية: يعنى علم الاقتصاد بدراسة النقد والائتمان، ولكنه لا يعنى بما يمكن أن تتخذه القطع النقدية من أشكال، ولا بمظهر الأوراق النقدية أو الشيكات، فعلى العلم أن يجرد الأشياء من صفاتها العرضية وينفذ إلى ماهياتها، وماهية الشيء - على أية حال - هي دائما كلية.
14
إذن اتصل الموقف الماهوي من الألفاظ الكلية بموقف من طبيعة القانون العلمي، يرى أن العلم ينفذ إلى ماهيات الموضوع، فيكون هدفه هو إعطاء شرح نهائي للعالم،
15
ثابت مطلق يقيني الصدق، فتكون القوانين العلمية هي تعريفات للماهيات، أوضح الأمثلة الدور البارز الذي يلعبه التعريف في الفلسفة الإبستمولوجية لأحد زعماء الماهوية البارزين «أرسطو».
بوبر يرفض هذه النظرية في القانون العلمي وينقدها بالتفصيل،
16
وبغير الدخول في تفاصيل هذا النقد - تجنبا للاستطراد - تكفي هذه الإشارة لإثبات رأي بوبر في أن المشكلة أكبر خطورة من مجرد مشكلة لفظية، فخلف مشكلة الكلمات اللغوية الكلية ومعانيها، أو حتى مشكلة المتماثلات في المواقف، وكيف تتلاءم مع تماثلات استعمالاتنا اللغوية، تتبلج مشكلة أعظم وأكثر أهمية، مشكلة القوانين الكلية وصدقها، مشكلة ردود الأفعال، المتماثلة للمواقف المتماثلة بيولوجيا، والذي يجعلنا نطلق على ما نعتبره متماثلات نفس اللفظ، وطالما أن كل - أو تقريبا كل - ردود الأفعال لها من الناحية البيولوجية قيمة توقعية، فإن هذا يقود إلى مشكلة الاطراد وتوقعنا له؛
17
وهي المشكلة التي عالجها الباب السابق بالتفصيل.
هكذا ثبت رأي بوبر، فهاك مشكلة درج العرف على اعتبارها من أخص خصائص الفلسفة اللغوية، غير أن بوبر لا يرى أن هناك شيئا اسمه الفلسفة اللغوية أصلا، فيتناول المشكلة على أساس أنها ميتافيزيقية، ونظرا لتطور الفلسفة في الاتجاه العلمي، فإنها تنحل من بين أيدينا إلى مشكلة في علم مناهج البحث. (5) ولكن الوضعية اسمية، أي معارضة للماهوية، فضلا عن أن الماهوية اتجاه ميتافيزيقي، فما الذي أدخلنا فيه الآن:
إن بوبر - متسلحا - بنظرته الثاقبة في إعادة تأريخ النظريات الفلسفية، يتناول الوضعية ونقيضتها المثالية: الماهوية، تناولا واحدا، وينقدهما من نفس المنطلق، منطلق أن كليهما يأخذ الألفاظ ومعانيها مأخذ الجد أكثر من اللازم، كلاهما يقوم من أجل التعريف؛ لذلك يطرح بوبر - في ترجمته الذاتية - نقدا للمذهبين معا، تحت عنوان واحد هو «اعتساف طويل، متعلق بالماهوية، ويفصلني عن معظم الفلاسفة المعاصرين.»
18
كما ينقدهما معا في أماكن شتى، أبرزها الفصل الحادي عشر من «المجتمع المفتوح» الجزء الثاني، حيث يجادل الماهويين ويركز النقد على مبدأ ماهوي منتشر جدا، ولا يزال يقيم مذهبا معاصرا؛ أي الوضعية المنطقية ... وهذا المبدأ هو: يجب تعريف المصطلحات إذا ابتغينا الدقة.
19 (6) إذن الاهتمام بالتعريف هو دأب كل من الوضعية والماهوية، لكن بوبر ينقدهما قائلا: إن الأمر ليس كذلك بالنسبة للمنهج العلمي، والمفهوم المعاصر للعلم، حيث لا يلعب التعريف أي دور هام، فالرموز أو العلامات المبتسرة تقدم بدلا من التعبيرات الأطول؛ أي الصياغات المعرفة، بل إن المعرفة العلمية بمغزاها السليم لن تتأثر إطلاقا لو حذفنا منها جميع التعريفات، التأثير سيقع فقط على اللغة، والتي ستفقد مجرد الإيجاز وليس الدقة (هذا لا يمنع من أن الحاجة تلح في بعض الأحيان إلى تقديم تعريفات علمية بغية الاختصار) لكن القاعدة هي أن التعريف غير ذي قيمة علمية،
20
فالعلماء يهتمون بألا تعتمد العبارة أبدا على معاني المصطلحات، حتى إذا كانت هذه المصطلحات معرفة، ولا يحاولون أبدا اشتقاق أية معلومة من التعريف، أو أن يقيموا أية حجة على أساسه، إننا لا نثقل الحمل على التعريفات أبدا، ولا نأخذ معانيها مأخذا خطرا، والوصول إلى الدقة ليس بتقليل ما يشوبهما من غموض،
21
بل بالعناية بألا نثقل الحمل عليها أبدا وبألا نلح بمطلب التعريف لكل اصطلاح.
22
ثم إن التعريف لا يمكنه إقامة معنى اصطلاح، أكثر مما يقيم البرهان أو الاشتقاق صدق عبارة كلاهما يمكنه فقط أن يزيح المشكلة إلى الوراء، على هذا فإن الدعوى بضرورة تعريف كل اصطلاح دعوى مهترئة، تماما مثل الدعوى بضرورة البرهنة على صدق كل عبارة، ولكن الماهويين والوضعيين قد يجادلون بوبر، قائلين: إنهم لا يرومون تعريف كل اصطلاح، فهذا مستحيل، ولكن فقط الاصطلاحات ذات الخطورة في بناء العلم والحضارة كالعدالة والديمقراطية.
23
وهذا لن يبرر موقفهم بل يزيده سوءا، طالما أن هذه المفاهيم ستعرف بمفاهيم غير معرفة، فنضطر إلى تعريفها هي الأخرى بمفاهيم غير معرفة، وهكذا حتى نصل إلى مصطلحات أولية غير معرفة، وهذا مستحيل؛ لأن المصطلحات الأولية غير المعرفة، إما أن تكون ذات معنى تقليدي (لا يكون دقيقا أبدا)، وإما هي مقدمة بواسطة ما يسمى بالتعريفات الضمنية، أي بواسطة الطريقة التي استعملت بها في سياق النظرية، ويبدو أن هذه الطريقة الأخيرة هي الأفضل، ولكنها تجعل تعريف المفاهيم - أي معناها - معتمدا على معنى النظرية وليس العكس، مما يؤكد رأي بوبر في أن الاهتمام يجب أن يوجه إلى مضمون النظرية، وليس إلى تعريفات أو معاني المصطلحات الواردة فيها، لا سيما وأن معظم النظريات يمكن أن تفسر بأكثر من طريقة، على هذا فجميع المفاهيم المعرفة، والمعرفة ضمنا، لن تصبح غامضة فحسب بل وستصبح من الناحية المنهجية ملتبسة،
24
وهذا لا يضير العلم؛ لأن مختلف التفسيرات الملتبسة منهجيا (كالنقاط والخطوط المستقيمة في الهندسة الإسقاطية مثلا) يمكن أن تكون مميزة تماما.
25
وكان هذا كافيا لإقامة دعوى بوبر بأن المفاهيم المحددة بدقة حاسمة لا توجد، اختيار المصطلحات اللامعرفة تعسفي إلى حد كبير، تماما كاختيار بديهيات النظرية.
26
ومسألة التعريفات لا تستحق كل هذا الاهتمام من التحليليين والوضعيين، وبعبارة أخرى الجهود التحليلية لتحديد التعريفات بغير جدوى ليس العلم في حاجة إليها، ولن يجد العلماء وقتا كي يلتفتوا إليها . (7) وكما أوضحنا آنفا، فإن هذا الاهتمام من الوضعية والماهوية بالتعريف؛ نابع من خطئهم الأساسي: خطأ أخذ الألفاظ ومعانيها مأخذ الجد أكثر من اللازم.
إنها الهوة السحيقة التي تفصل بوبر عن الاتجاه التحليلي المعاصر الذي يضم الوضعية بين شطآنه: رأيه القاطع بعدم الوقوع في أسر الكلمات، وعدم الاهتمام إطلاقا بالمعاني؛ لأن النقاش حولها ليس فقط مملا، بل وأيضا ضارا،
27
ويمكن أن نسير أكثر فنقول: إن كم المعرفة التي نجنيها من أي فرع من فروع البحث - باستثناء الدراسات اللغوية - إنما تتناسب تناسبا عكسيا مع كم المناقشات الدائرة حول الكلمات ومعانيها فيها،
28
وسائر الفلاسفة المهتمين باللغة والمعنى على خطأ كبير، بقدر ما هم مغرقون في الاهتمام بالألفاظ، فإن النظريات الأقرب من الصدق، هي فقط التي تستحق الجهاد الفلسفي من أجلها.
وبوبر يوضح التعارض بين موقفه وموقف الفلاسفة اللغويين بهذا الجدول:
29
الأفكار
التي هي
عبارات أو قضايا أو نظريات
تسميات أو اصطلاحات أو مفاهيم
يمكن أن تصاغ في
تقريرات
كلمات
التي ينبغي أن تكون
صادقة
ذات معنى
و
صدقها
معناها
يمكن أن يرد بواسطة
الاشتقاقات
التعريفات
إلى
قضايا أولية
مفاهيم غير معرفة
ومحاولة إقامة - بدلا من رد -
صدقها
معناها
تقود إلى ارتداد لا نهاية له
هذا الجدول يوضح تماما موقف بوبر، فعلى الرغم من التماثل المنطقي بين جانبي الجدول الأيمن والأيسر، فإن الجانب الأيسر ليس له أهمية بينما للجانب الأيمن كل الأهمية الفلسفية،
30
ورفض بوبر لكل من الموقف الماهوي من الكليات أو الوضعية المنطقية، هو ببساطة رفض الجانب الأيسر من الجدول والأخذ بالجانب الأيمن.
ولكن قد يقفز إلى الأذهان مباشرة اعتراض واسع الانتشار في صالح الوضعيين، مؤداه أن القيمة المنطقية والمعرفية للنظرية، إنما تعتمد على معناها، هذا المعنى هو دالة معاني الكلمات التي صيغت فيها النظرية،
31
وبالتالي يصبح بحث الوضعيين في المعاني ذا أهمية فلسفية.
وفي الرد على هذا يقول بوبر: «العلاقة بين النظرية (أو العبارة) والكلمات التي استعملت في صياغتها، هي - من وجوه عديدة - تماثل العلاقة بين الكلمات المكتوبة والحروف التي استعملت في كتابتها.»
32
أي يتمادى بوبر في إنكار أية أهمية للبحوث السيمانطيقية، حتى إنه يماثل دور الكلمات بدور الحروف، وهو يسير في هذه المماثلة إلى أبعد حد، «وقد يقال: إن الكلمات في حد ذاتها لها معان، بينما الحروف ليس لها أي معنى.» لكن بوبر يرد على هذا بأننا يجب أن نعرف الحروف، أي نعرف معناها من زاوية ما، كي نتعرف على الكلمات ونميزها، تماما كما يجب أن نتعرف على الكلمات كي نتعرف على العبارات،
33
وتماما كما أن تغيير كلمة قد يسبب تغييرا جوهريا في معنى العبارة، فإن تغيير حرف قد يسبب تغييرا جوهريا في معنى الكلمة،
34
إن دور الكلمات هو نفسه دور الحروف، الدور التكنيكي البراجماتيكي، وكلاهما مجرد وسائل لتحقيق غايات مختلفة.
35 ،
36 ⋆
الخلاصة أن بوبر يقف من اللغة وألفاظها الموقف الوظيفي البحت، هي أدوات لتحقيق وظائف معينة، وليس فيها أية أبعاد أكثر من هذا، تنتظر الوضعيين ليسبروا غورها بتحليلاتهم المنطقية، وهو يبرهن على هذا بأدلة واضحة:
يمكن لنظريتين صيغتا في اصطلاحات وكلها مختلفة تماما - بحيث يمكن ترجمة الواحدة منهما مباشرة للكلمة المقابلة لها في النظرية الأخرى - أن تكونا متكافئتين منطقيا، بحيث يمكن القول: إن النظريتين مجرد صياغتين مختلفتين لنفس النظرية الواحدة.
الترجمة الجيدة لا تكون حرفية أبدا، لا تكون بوضع لفظة مقابل الأخرى، بل إنها تأويل للنص الأصلي، وإن الترجمة الجيدة لنص قيم، يجب أن تكون إعادة بناء نظرية.
37
إن التعامل دائما مع المحتوى المعرفي، ولا ينبغي الالتفات إلى المسائل اللغوية. (8) وبعد أن ينقد بوبر أسس الفلسفة اللغوية، يلزم منطقيا عن هذا أن ينقد مواقفهم الفرعية أي معالجتهم للمشاكل الفلسفية الكبرى على الأساس اللغوي، فيرفض حلهم لمشكلة العقل والمادة بأن يجعلوها - كما رأينا كارناب يفعل - مشكلة لوجود لغة سيكولوجية ولغة فيزيائية بدلا من وجود كائنين هما العقل والمادة،
38
وبغير استطراد إلى مشاكل فرعية لا تعنينا في هذا السياق، تكفي الإشارة إلى أن ما ذكره الفصل الأول في منحاهم اللغوي، من أسلوبهم في صياغة المشاكل الفلسفية في حدود لغوية، هو بداية أسلوب مرفوض من بوبر، فإذا كان يرفض حتى صياغة المشاكل اللغوية «كالكليات» في حدود لغوية، فكيف لا يرفض صياغة المشاكل الأنطولوجية والإبستمولوجية في حدود لغوية. (9) هذا هو الخلاف الأساسي بين بوبر والوضعية - أي بينه وبين الاتجاه التحليلي المعاصر - إصراره على أن المشاكل اللغوية لم تكن أبدا مشكلة فلسفية، فضلا عن أن تكون المشكلة الفلسفية الوحيدة، فالمشكلة الفلسفية الوحيدة، هي عينها المشكلة العلمية الوحيدة؛ المشكلة الكوزمولوجية، أي مشكلة فهم العالم، بما في ذلك نحن أنفسنا ومعرفتنا كجزء من العالم،
39
العلم والفلسفة معا يساهمان في حل هذه المشكلة، وإنهما ليفقدان كل روعتهما وجاذبيتهما، إذ ما تخليا عنها، بالطبع فإن فهم وظيفة اللغة تمثل جزءا من الحل، أو يساعدنا على الحل، أما أن نحيل المشكلة بأسرها إلى متاهات لغوية، فإن ذلك مرفوض مرفوض مرفوض. (10) وإذا كان الفصل الأول قد أظهر أن الوضعية - بوصفها تحليلية - هي فلسفة معرفية، فإن بوبر يواجههم قائلا: إنهم ليسوا إبستمولوجيين جادين؛ لأن المشكلة الإبستمولوجية الأساسية كانت، وستزال دائما «نمو المعرفة»، وأفضل صورة لدراستها هي نمو المعرفة العلمية، فلا يمكن إطلاقا إحلال دراسة اللغة وأنساقها، الاصطناعية الرمزية، محل دراسة نمو المعرفة وتطور محتواها.
لقد أخطأت الوضعية، حين حددت الفلسفة بمشكلة معينة هي المشكلة اللغوية. (2) نقده لمنحاهم التحليلي (1) وأخطأت أكثر حين حددت منهجها بمنهج واحد لا سواه؛ هو التحليل المنطقي، إن منحاهم التحليلي - والذي أوضح الفصل الأول أن ذلك المنحى اللغوي تابعا له - ليس أقل مجانية للصواب من تابعه اللغوي.
وإن التحليل إذا طرح أصلا، فلا يكون فقط للغة، ولكن تحليلا لموقف المشكلة العلمية وللمناقشات العملية، وفضلا عن هذا، فالفلسفة ليس لها منهج محدد خاص بها؛
40
لأنه ليس هناك شيء اسمه ماهية الفلسفة يمكن أن نكثفه في تعريف لها،
41 ⋆
تعريف كلمة «الفلسفة» يمكن فقط أن يتخذ سمة الاصطلاح والاتفاق؛
42
لذلك ليس للفلسفة منهج محدد خاص، لقد رأينا أن مسألة المنهج غير ذات أهمية في التوصل إلى نظريات العلم، فلا بد وأن تكون من باب أولى غير ذات أهمية بالنسبة للفلسفة، وهي المتميزة عن العلم بأنها مبحث لا تحده حدود ولا تقيده قيود، كل المناهج مشروعة، طالما ستفضي إلى نتائج يمكن مناقشتها مناقشة عقلية،
43
أي يمكن نقدها،
44 ⋆
فالذي يعنينا في الفلسفة ليس المنهج ولا الأساليب الفنية، تحليلية كانت أم تركيبية، إنما الحساسية للمشاكل، واستنفاد كل الجهد من أجلها، إن الفلسفة هي - كما قال الإغريق - وليدة الدهشة،
45
وليس المنهج التكنيكي المحدد، حتى وإذا اضطررنا جدلا إلى رسم صورة عامة للمنهج الفلسفي - كما اضطررنا جدلا إلى رسم صورة عامة لمنهج العلم - لكان هذا المنهج هو الذي يدرس موقف المشكلة الفلسفية، كل ما يقال عنها الآن، وكل ما قد قيل عنها فيما سبق
46 (أي «م1
ح ح
أ أ
م2») وليس تحليلا على وجه الإطلاق. (2) ولنعترف جدلا بالحاجة إلى تحليل منطقي بحت للنظريات، تحليل لا يأخذ في اعتباره كيف تتغير النظرية وتتطور، فإن هذا التحليل لن يجدي في تنقيح أوجه معينة من العلوم التجريبية، وهي الأوجه التي يوليها بوبر حق التقدير،
47
بعبارة أوضح: منهج التحليل لن يجدي في نمو المعرفة.
فبوبر يروم التعامل الديناميكي مع النظرية العلمية، أي البحث في صيرورتها: كيفية تقدمها وعوامل هذا التقدم ودرجته، أما التحليل فهو يتعامل مع النظرية بصفة إستاتيكية: يحلل منطوقا معينا للنظرية، أو تعريف اصطلاح معين فيها، يحلل عبارة معينة من نسق، من المفترض أنه محدد، ولما كان شغل بوبر الشاغل هو «نمو المعرفة خصوصا العلمية» بدا واضحا لماذا يولي ظهره للاتجاه التحليلي بأسره؛ لأنه لن يجدي في نمو المعرفة العلمية؛ إذ يحلل ما هو كائن ولا يضيف جديدا. (3) فضلا عن أن يجدي في نمو الفلسفية؛ فالتحليل بهذا التعامل الإستاتيكي يجني على الفلسفة أكثر؛ فقد كان هدف الإبستمولوجية دائما - سواء مثالية أو تجريبية - هو المساهمة في تقدم المعرفة ونمو العلم، أما الفلسفة فيحدوها الأمل دائما في أن تعرف أكثر عن المعرفة العلمية (الاستثناء الوحيد هو باركلي) حتى جاء الوضعيون بتحليلهم، فأفقدوها هذه النغمة الحلوة المتفائلة التي ألهمتها يوما بالتقليد العقلاني؛ فهم يقصرون مهمة تقدم العلم على العلماء وحدهم، ليس فحسب بل وأيضا يعرفون الفلسفة بنفس الذي سوف تصبح عليه، فطالما ستنحصر في تحليل معاني اللغة ودراسة أنساقها فإنها ستصبح بحكم التعريف غير قادرة على أدنى مساهمة في معرفتنا بالعالم،
48
وستظل دائما حيث هي، حيث اللغة وأنساقها، إنهم يجعلون الفلسفة خواء وفراغا؛ إذ يجردونها من مشكلاتها، أو يقصمون جذور هذه المشكلات، ويواظبون على ممارسة منهج مستحدث كموضة،
49
الفلسفة بالنسبة لهم تطبيقات وممارسات، أكثر منها بحث وطرح أفكار، إنهم يحترفون الفلسفة، ويعتبرونها مهنة فنية يتخصصون فيها، والفلسفة ليست احترافا ولا تخصصا أبدا، إنها انشغال ومعاناة نتيجة الدهشة، بوبر داعية للاتخصص في العلم والفلسفة وفي شتى المباحثات، ويقول: إن العظام من العلماء أمثال كبلر وجاليليو ونيوتن وآينشتين وبور، إنهم الرجال الذين يكرسون حياتهم - بتواضع - من أجل البحث عن الحقيقة، من أجل نمو معرفتنا، الرجال الذين تعني حياتهم: الأفكار الجريئة، ويمكن أن نضم إليهم مساعديهم الأقل ألمعية، غير أنه لا يضم البتة هؤلاء الذين لا يعني العلم بالنسبة لهم أكثر من احتراف أو مهنة فنية، هؤلاء الذين لا يتأثرون بعمق بالمشاكل العظيمة وبالتبسيطات الشديدة للحلول الجريئة،
50
إذا كان بوبر يقول هذا عن العلم، فما بالنا بالفلسفة التي تهدف إلى كلية التجربة الإنسانية بجميع جزئياتها، هل يمكن أن تكون مجرد احتراف الوضعيين لتحليل منطق العلم؟
وبخلاف الوضعيين، فهؤلاء التحليليون الذين يفخرون بتخصصهم في دراسة اللغة العادية، لا يعتقد بوبر أن معرفتهم بالكوزمولوجيا كافية، بحيث تتيح لهم الحكم ما إذا كانت الفلسفة يمكنها المساهمة فيه أم لا،
51
بوبر محق في هذا فعلا؛ فمعروف عن فلاسفة اللغة الجارية أن معرفتهم ضحلة بالعلم والرياضة؛ لأن الفلسفة بالنسبة لهم أيضا تخصص وليست بحثا في المعرفة بمعناها الرحب.
52 (4) أما إذا كان هذا التحليل من أجل هدفه المعروف، وهو تحقيق الوضوح والدقة، فإن الوضوح في حد ذاته له قيمته العقلية الكبرى، إلا أن الدقة ليست هكذا، إنها طبعا مرغوبة، دقة التنبؤ مثلا لها قيمة كبرى، لكن البحث عن الدقة يكون فقط ذا طابع براجماتي، فلا نبحث عن الدقة، فقط من أجل الدقة، ليست هناك أية نقطة تستحق أن نجعلها دقيقة أكثر مما يتطلب موقف المشكلة
53
المطروحة للبحث، فإذا تطلب مثلا التمييز بين نظريتين متنافستين، فلا يمكن هذا إلا بزيادة دقة مقاييسنا،
54
فنتمكن من تعيين الفارق الدقيق بين تنبؤ كل منهما، فنتمكن من تعيين النظرية الأقرب إلى الصواب.
ولنلاحظ أن الدقة على أية حال لا تطلب أبدا في المصطلحات العلمية أو الألفاظ اللغوية، فلو حاولنا وضع مطلب الدقة اللغوية في الجدول الآنف؛ لكان مكانها الجانب الأيسر؛ لأن دقة العبارة سوف تعتمد كلية على دقة الألفاظ المستعملة، ومثيلتها في الجانب الأيمن سيكون اليقين، لكن بوبر لم يشأ طرح فكرة الدقة في الجدول، حتى لا يطرح مقابلتها اليقين، واليقين مثل الدقة، «أوهام وأشباح ينبغي أن نهجر مطلبها.»
55
بل وإن الدقة مضرة، وستؤدي إلى ضياع الوضوح وإهدار الوقت والجهد في تمهيدات عادة ما تصبح غير ذات فائدة؛ لأنها طرق جانبية
56
تصرف عن التقدم الحقيقي للموضوع المطروح للبحث.
لقد كرس الوضعيون حياتهم لهذه الدقة؛ ظنا منهم أن الخصوبة ستنتج عنها كمنتج ثانوي لها، غير أن الخصوبة ليست منتجة للدقة، بل نتيجة لطرح مشاكل جديدة، لم يرها أحد من قبل ، ولإيجاد حلول جديدة، لم يجدها أحد من قبل، هذا بالإضافة إلى أن الدقة لن تحول أيضا دون سوء الفهم، فحيثما كان الحديث لا بد وأن يوجد من يسيء فهمه،
57
وشبيه بهذا القول من بوبر قول المفكر الأمريكي إمرسون: «ثق أنه سوف يساء فهمك، وهل من شر الأمور أن يساء فهمك؟ لقد أسيء فهم فيثاغورث وكذلك «سقراط» «والمسيح» و«لوثر» و«كوبرنيقوس» و«جاليليو» و«نيوتن»، وكل روح طاهرة عاقلة، ولكي تكون عظيما لا بد وأن يساء فهمك.»
58 (ومزيدا من إرضاء بوبر: لنلاحظ أن إمرسون اختار أمثلة من شوامخ العلم والفلسفة) بل وأن وايتهد هو الآخر يرى ما يؤكد رأي بوبر من أن التحليل والتصنيف يبتر الحقيقة ولا يزيدها إلا غموضا،
59
على العموم وايتهد ينتمي للتيار المعادي للتحليل، والخلاصة أن الوضعيين لا بد وأن يخيب سعيهم في البحث عن الوضوح والدقة.
وإذا كانوا يرومون بهذه الدقة خدمة العلم، فإن الدقة - دقة المصطلحات والتعريفات - لم تكن أبدا مطلب العلماء، أي إن العلماء سيعزفون عن جهودهم، بعد أن عزف عنها الفلاسفة؛ لأنهم - أي العلماء - يستعملون مصطلحات مثل «الكثبان الرملية» أو «الرياح»، وهي بلا شك غامضة جدا، مثلا: لم يحاول عالم أن يحدد كم بوصة ينبغي وأن يكون الحد الأقصى لارتفاع تل صغير من الرمال؛ كي نعتبره كثبا، أو ما هو الحد الأدنى لسرعة تحرك الهواء كي نعتبره رياحا، لكن رغم هذا، فإن أمثال هذه المصطلحات تكفي حدا لتحقيق كافة الأغراض الجيولوجية والعلمية بكفاءة، وحتى إذا حدث اختلاف يمكن للعالم أن يقول مثلا: الكثب ارتفاعه بين أربع وبين ثلاثة قدما، أو أن سرعة الرياح تتراوح بين عشرين وبين أربعين ميلا في الساعة، ولكن ليس من الضروري التعيين الدقيق، وهذا هو الحال في جميع العلوم وفي أكثرها تقدما - أي الفيزياء
60 - لم يعتد الفيزيائيون أبدا، الدخول في مناقشات حول معاني المصطلحات التي يستخدمونها أو تعريفاتها، مثل الطاقة والضوء ... إنهم يعتمدون عليها وهم يعرفون جيدا أنها ليست محددة بدقة ولا معرفة بحسم، ولن يعق هذا تقدم العلوم الطبيعية،
61
فليكن لنا فيه أسوة حسنة، فهو أضبط ما لدينا من معرفة، وأكثرها تقدما ونجاحا.
إذن الدقة ليست مفيدة ولا مطلوبة، ولا تساعد في حل أية مشاكل، فحتى حينما يثير المصطلح صعوبات كمصطلح التأني مثلا، فليس هذا لأنه غير واضح أو غير دقيق، ولكن لأن هناك انحيازات حدسية، تدفعنا إلى تحميل المصطلح بما لا يطيق من المعنى، وما وجده آينشتين في نقده للتأني هو أن الفيزيائيين حين يتحدثون عن الأحداث المتآنية، يضعون افتراضا ضمنيا «هو افتراض السرعة الإشارية أو اللانهائية»، ينقلب إلى خرافة، ولم يكن الخطأ في أنه لا يحمل معنى أو أن معناه غير دقيق، ولكن الخطأ كما اكتشفه آينشتين كان في استبعادهم لافتراض نظري لم يلاحظه أحد؛ لأنه يبرهن ذاته حدسيا، وكان قادرا على إزاحة هذه الصعوبة، وهو الافتراض الذي وضعه آينشتين، فلم يكن آينشتين معنيا بالمعنى الدقيق للمصطلح أو تعريفه، ولكن بصدق نظريته،
62
بهذه الطريقة - أي بالبدء من مشكلة فيزيائية محددة - أمكنه أن يدفع العلم إلى الأمام، بلا شك أكثر ألف مرة مما لو كان قد بدأ بتحليل الاصطلاح أو توضيح معناه وتعريفه بدقة.
الخلاصة أن أهداف التحليل ليست مفيدة ولا مطلوبة في العلم فإذا أردنا أن نسدي صنيعا للمصطلحات، فلن يكون بزيادة دقتها، بل بزيادة وضوحها، لكن كيف يمكن توضيح الكلمات إذا ما أردنا لها الوضوح، أو كيف يمكن زيادة دقتها، إذا تطلب منا موقف المشكلة الدقة الأكثر،
63
في الرد على هذا يقول بوبر: إن أي تحرك في اتجاه الوضوح الأكثر أو الدقة الأكثر، يجب أن يكون موجها ولغرض عيني
ad hoc
وأن يكون جزئيا، وهذا الأسلوب يمكن أن نسميه دياليسيز
Dialysis (مقابلا للتحليل الذي يوضح ويدقق في اتجاه مستقيم بغير توجيه من احتياجات معينة)، إنه عملية حل وتصفية، وإذا كان التحليل يحل مشاكل، كما يزعم أنصاره، فإن الدياليسيز لا يستطيع أن يحل مشاكل هو فقط أسلوب عمل لإجابة مطلب معين، فالمشاكل لا يحلها إلا الأفكار الجديدة.
64
إن جهود الوضعيين بغير جدوى، بل وقد تكون مضرة، وهم الذين أرادوا طرد الميتافيزيقا؛ لأنها عديمة الجدوى. (5) لقد تردى الوضعيون في مهاوي التحليل اللغوي؛ بسبب - أو بهدي - رائدهم فتجنشتين، كما اتضح سابقا، وهو الذي شبه الميتافيزيقيين بذبابة دخلت زجاجة، فأخذت تذهب هنا وهناك وتزن، وهو يزعم أن التحليل اللغوي سيوضح لهذه الفراشة طريق الخروج من الزجاجة،
65
لينتهي الزن الفلسفي الميتافيزيقي، لكن بوبر يعتقد أن فتجنشتين هو الذي دخل الزجاجة، وراح يزن هنا وهناك، ولم يستطع أبدا الخروج منها؛ إذ قصر الفلسفة بأسرها على التحليلات هادفا الوضوح والصياغة الدقيقة لتعريفات المفاهيم، ولكنه نسي أن اللغة أساسا تستعمل في وصف العالم، ربما هدف التحليل إلى تلميع النظارات، كي يحظى برؤية واضحة للعالم، ولكن فتجنشتين أمضى العمر كله في هذا التلميع،
66
ونسي أن يفيد منه، نسي أن اللغة مجرد آلة، وأن الفيلسوف الذي يقضي عمره معنيا بشحذ أدواته، مثله مثل النجار الذي يقضي عمره معنيا بشحذ أدواته ولكن لا يستعملها أبدا إلا في شحذ بعضها البعض،
67
وفعلا لم يستفد رائدهم فتجنشتين أبدا بما توصل إليه من تحليلات لتوضيح رؤيتنا للعالم أو تقدم المعرفة، بل وبصرف النظر عن الجدوى، فإنه أخذ يمارس التحليل بطريقة مملة مللا رهيبا،
68
إننا قد نطيق التحليل في مرحلة أو في أخرى، أسبوعا أو أسبوعين، أما أن نقضي العمر كله والفلسفة بأسرها في التحليل فإن هذا لا يقبل ولا يطاق.
69 (6) وهكذا الفلسفة التحليلية واللغوية بأسرها، ثرثرة لا معنى لها ولا جدوى منها، وفتجنشتين بلا ريب تطرف تطرفا لا يقبل، ولكنه - بلا ريب - أيضا قمة من قمم الفكر لا ينبغي أبدا أن يتحدث عنه بوبر بهذه اللهجة، لكن بوبر يتجاوز أحيانا حدود اللياقة، حينما يتحدث عن فتجنشتين أو حتى معه. (3) نقده لحملتهم على الميتافيزيقا (1) ويبدو أن موقف فتجنشتين وأتباعه الوضعيين من الميتافيزيقا ومن أن المشاكل الفلسفية التقليدية والميتافيزيقية زائفة ولغو أو مجرد متاهات لفظية، هو الذي دفع بوبر إلى هذا الأسلوب في الحديث عن رائدهم فتجنشتين.
فبوبر يرى أن الفلسفة لها مشاكل حقيقة، وليس فقط مشاكل مستعملة
Second hand
أي متخلفة عن العلم في صورته اللغوية، إنها مشاكل أصلية، وعليه، وعلى سائر الفلاسفة أن يعملوا جاهدين على محاولة حلها، وهو يفشل تماما في فهم جاذبية الفلسفة بغير هذه المشاكل،
70
بعبارة أخرى: بوبر لا يفهم ما الذي دفع فتجنشتين وأتباعه إلى التفلسف، طالما لا يرون فيه مشاكل حقيقية.
في مقال لبوبر بعنوان «طبيعة المشكلات الفلسفية، وجذورها في العلم»،
71 ⋆
يطرح دعوى مؤداها أن المشاكل الفلسفية الميتافيزيقية حقيقية، وهي دوما ذات جذور علمية واجتماعية ودينية وسياسية، وأنها لتنهار وتتحول إلى مشاكل زائفة ولغو فقط، إذا ما أنكرت عليها تلك الجذور، أو استئصلت منها، وهو في هذا المقال يركز على الجذور العلمية، ويذهب في تفصيلات مسهبة إلى إثبات دعواه بشروح مستفيضة لأمثلة عديدة من أخص خصائص المشاكل الفلسفية كالمثل الأفلاطونية، والذرية الديمقراطية، والأعداد الفيثاغورية، والمقولات الكانتية ليثبت جذورها العلمية في حدود علم عصرها، مثلا العلم الإغريقي القديم، وفكرته البدائية عن المادة، وإنجازاته المعجزة في الرياضة (بعد أن أثبت جذورها - خصوصا المثل - السياسية في المجتمع المفتوح)، على هذا تكون الوضعية بتحليلها قلبت المشاكل الفلسفية الحقيقية إلى مشاكل زائفة ولغو حين تنكروا لتلك الجذور، أي لم يفطنوا إليها وراحوا يقصرون جهودهم على تعقب ما يبدو وكأنه منهج الفلسفة وأسلوبها الفني الذي يعطينا مفتاحا لا يخطئ أبدا في تلمس طرق النجاح.
72
إن دعواهم بخلو المشاكل الفلسفية من المعنى صادقة في حدود، الحدود التي ينسى فيها الفلاسفة جذور هذه المشكلات - كما نسوها هم - حين يدرس الفلسفة بدلا من أن يدرس مشاكلها - كما فعلوا هم - ويصدق رأيهم أكثر كلما اتجهت المشاكل الفلسفية في الاتجاه البحت، أي كلما فقدت أكثر جذورها وأصولها المميزة - كما حدث مع التحليليين - أي كلما أصبحت المناقشات الفلسفية أقرب إلى الوقوع في مهاوي الثرثرة والخلو من المعنى.
73
بعبارة أخرى توضح وتجمل ما سلف: يزعم الوضعيون أن المشاكل الفلسفية التقليدية زائفة ومجرد لغو، وهم يطرحون المشاكل الحقيقية للفلسفة، أما بوبر فيرى العكس، أي يرى أن مشاكل الفلسفة حقيقية، ومشاكلهم هم هي الزائفة، وهي اللغو، هم الذين بتنكرهم لجذور المشكلات «يغوون الفلسفة إلى مستنقع المشاكل الزائفة والمتاهات اللفظية.»
74
إما بأن يطرحوا مشاكل زائفة، وإما بأن يغوونا بأن نركز على هذه المهمة الفارغة التي لا تنتهي أبدا، مهمة الكشف عن زيف ما يعتبرونه هم سلفا - محقين أم مخطئين في هذا الاعتبار - مشاكل زائفة ومتاهات.
بوبر يصر إصرارا قاطعا على حقيقة المشاكل الفلسفية، وعلى ضرورة التفلسف، وإلا لما كان هو فيلسوفا، ويرفض كل جهود التحليلية والوضعية لإذابة هذه المشاكل، ويرفض أيضا أسلوبهم في هذه الإذابة، أي عن طريق معايير معينة، حول قواعد استعمال اللغة، فإنه - أي بوبر - يعتبر مثلا نظريات سلفهم ماخ التي تقصر الواقع على المدركات الحسية، والواحدية المحايدة - التي أخذها رسل عنه فيما بعد - ليست فقط خاطئة، بل إنها ثرثرة بغير معنى، ولكن ليس ذلك لأنها لا تتبع القواعد السليمة لاستعمال اللغة، لكن لأنها تجعل حياتنا لغوا طالما ترد كل النشاط الإنساني بما فيه العلم والمناقشات الإبستمولوجية إلى ما لا يمكن قبوله، إلى محض مدركات حسية.
75
وبعد أن يرفض بوبر محاولة اعتبار المشاكل الفلسفية الحقيقية لغوا، ويعتبر مشاكلهم هم هي اللغو، فإنه يرفض حتى محاولتهم لاعتبارها عنصرا مكونا للمشاكل العلمية، أو حتى اعتبارها مشاكل منطقية، على أساس أن حلها يمكن فقط بواسطة الأساليب المنطقية،
76
بوبر يرد عليهم قائلا: إن كثيرا من مشاكل الفيزياء تحل فقط بواسطة أساليب الرياضة البحتة، لكن ذلك لا يؤثر على تصنيفها كمشاكل فيزيائية؛ لأنها موضوع لبحوث الفيزيائيين، كما أن التحليل المنطقي يلعب دورا كبيرا في النسبية، غير أن ذلك لا يجذبها إلى جانب المنطق؛ لأنها نظرية لعالم فيزيائي، وبالمثل تماما لن يؤثر أسلوب حل المشكلة على كونها فلسفية، حتى وإن كانت جذورها في نظريات كالذرية أو الكوانتم، أو تحل بالأساليب المنطقية، فإنها تظل فلسفية؛ لأنها أقرب إلى المناقشات التي تدور بين الفلاسفة.
أما القول بأن المشاكل طالما هي واقعية، فإن ذلك يجعلها علمية وليست فلسفية، فإن هذا تحذلق ينغلق على ذاته في العقيدة اليقينية القاطعة (الدوجما).
77
الخلاصة: ليس هناك أي مبرر على وجه الإطلاق لاعتبار المشاكل الفلسفية زائفة، التفلسف نشاط ضروري ولا مراء. (2) لقد كانت نظرية رسل في الأنماط الفلسفية إنجازا عظيما، عالجت مفارقات كانت في حاجة إلى التحليل المنطقي ليكشف عنها، لكن الخطأ جاء من الوضعية ورائدها فتجنشتين، حين عمموا هذه الفكرة، وعدوا جميع المشاكل الميتافيزيقية قائمة على مغالطات منطقية ونتيجة لسوء استعمال اللغة.
78
ويمكن أن نسير معهم قليلا، فنقول: إن بوبر مثل أي فيلسوف جاد يكره الرطانة المدعية، لكن خطأ الوضعيين أنهم تصوروا الرطانة المدعية مقصورة على الميتافيزيقا، أو هي الوجه الآخر لها،
79
ويمكن أن نقول جدلا: إن بعض الأحاديث الميتافيزيقية فعلا فارغة، وبعضا من الفلاسفة قد يقولون لغوا يخلو من المعنى، كبعض من أقوال هيجل ومدرسته،
80 ⋆
وأكثر من هذا، فإن تلك الأنماط من التفلسف، قد اهتزت فعلا - ولو إلى حد ما - بتأثير فتجنشتين وأتباعه الوضعيين،
81
وإن كان هذا التأثير لم يتعد كثيرا حدود تأثير رسل وأمثلته، بل وأكثر من هذا، فإن الأسلوب الخاطئ في تعليم الفلسفة، كان داعيا لزيادة اللغو الفلسفي؛ إذ يقذف بالطالب المبتدئ في متاهات تجريدية غاية في الصعوبة، كقراءة عمالقة أمثال أفلاطون وديكارت وكانت، ممن يعجز حتى الطالب المتعمق عن فهمهم، أو على الأقل يجد صعوبة في ذلك، حقا بعض الطلبة الموهوبين يستطيعون اكتشاف الكثير، إلا أنهم نسبة ضئيلة لا يعتد بها، فيكون نتيجة ذلك أن يبدو هؤلاء الفلاسفة أمام الطالب المبتدئ كأنهم يقولون هراء، فيحاول تقليدهم بقول الهراء المقنع بقناع الصعوبة والألفاظ التجريدية.
82 ⋆ ،
83
إذن هناك فعلا بعض الأحاديث الفلسفية لغو، بحاجة إلى التحليل ليكشف عنها، لكن ليست الميتافيزيقا بأسرها - هكذا بجرة قلم واحدة - مجرد ثرثرة؛ لأننا لو تركنا بعضا من الأمثلة النادرة، لوجدنا في معظم الأبحاث الميتافيزيقية كنوزا ثمينة، بل ولا تقتصر على الدرر الفلسفية بل وتحوي أيضا دررا علمية، وبالنسبة للطالب المبتدئ فإنه إذا ألم بموقف المشكلة كاملا بجذورها العلمية والرياضية؛ لتمكن من أن يفهم جيدا ما قاله الفلاسفة العظام عنها، فلن يعود لغوا كما بدا للوهلة الأولى.
84
فكرة اعتبار الميتافيزيقا بأسرها مجرد أحاج وثرثرة فارغة تخلو من المعنى، فكرة خرافية ، وهي معبرة عن رغبتهم الشخصية في أن تكون المشاكل الفلسفية هكذا فعلا، غير أنهم لم يطرحوا هذا كرغبة، بل كتقرير لأمر واقع،
85
ثم إنهم لم يحققوا رغبتهم، ولم يتخلصوا من الميتافيزيقا؛ إذ ليس أسهل من أن تقنع المشكلة بأنها خالية من المعنى أو زائفة فقط، كل ما علينا هو أن نصطلح على معنى ضيق جدا «للمعنى»، وبعد ذلك سيسهل جدا أن تقول عن أي سؤال، لا يتفق مع هذا المعنى الضيق جدا «للمعنى» إنه يخلو من المعنى، وإننا لا نستطيع إطلاقا أن نستخرج منه أي معنى،
86
إن الخطأ في موقفهم من الميتافيزيقا، يتمركز في فكرتهم عن المعنى، والتي تحولت إلى عقيدة قاطعة «دوجما»، و«الدوجما» حين يتم تنصيبها فسوف تسمو على كل المعارك، وتعلو على أي نقاش ويستحيل مهاجمتها،
87
ولقد انتقد بوبر بعنف فكرتهم عن المعنى، واعتبارها معيارا للتمييز فما زال هناك الكثير في الرد على موقفهم من الميتافيزيقا، سيقوله بوبر في نقد محاولاتهم للتمييز. (3) قد تبدو المناقشة السالفة في هذا الجزء من الفصل، مجرد تعبير عن وجهة نظر بوبر المناقضة لوجهة نظر الوضعيين، أما النقد الحاسم لموقفهم من الميتافيزيقا، فهو في هذه الفقرة:
لقد تأثر الوضعيون بعمق، بذلك التعارض البادي بين دقة الرياضة، وبين غموض وعدم دقة الفلسفة، فأرادوا أن يقسموا القضايا بمنتهى الحسم والقطع البات إلى قسمين؛ أحدهما له كل المعنى، والآخر يخلو من المعنى، المجد للأول والقضاء المبرم على الثاني.
غير أن هذه القسمة: أولا مستحيلة، وثانيا: لو أمكنت لكانت خطرا وبيلا على تقدم العلم ذاته:
أولا:
ليس هناك أي مقال في العلم أو الرياضة - لا سيما من الكلاسيكيات - إلا ويمكن، بواسطة الأساليب الفنية للتحليل اللغوي، توضيح أنه يحتوي على قضايا كثيرة زائفة وخالية من المعنى. تهمة الخلو من المعنى
88
فضفاضة يمكن إطلاقها بسهولة، ويستحيل قصرها على الميتافيزيقا الخالصة فقط.
وثانيا:
إن البعض قد يتكلم لغوا، وقد تكون مهمة بعض التعساء كشفه لأنه خطير.
89
لكن البعض قد يتحدث حديثا غير محكم القواعد، وليس بذي معنى كامل بمقاييس الوضعية، وإنما قد يكون مهما ومثيرا، ويستحق الاستماع أكثر من أحاديث أخرى، قد تفوقه في إحكام القواعد والإتيان بالمعنى الكامل، فمثلا حساب التفاضل والتكامل في عهوده الأولى، كان بلا شك لغوا وتناقضات بمعايير فتجنشتين وأتباعه الوضعيين، فهل كان عليهم أن يشهروا أسلحتهم - أي معاييرهم - في وجه رواد هذا الحساب، وهل كان عليهم أن ينجحوا في استبعاد جهودهم،
90
بينما فشل في هذا نقادهم المعاصرون كباركلي، والذي كان على تمام الصواب، بينما مخاصميه رواد التفاضل ينقصهم الكثير جدا، حتى ترضي أحاديثهم الوضعيين.
إذن ما يرضيهم ليس دائما في صالح العلم وتقدمه. (4) ومن هنا نخرج إلى النقد الأكثر حسما، والذي يعد من مآثر بوبر حقا، ومفاده أن الميتافيزيقا يستحيل أن تكون لغوا، فإذا كانت بعض الأفكار الميتافيزيقية القليلة قد عاقت التقدم العلمي، وأبرزها فكرة أفلاطون بتحقير المادة، وكل ما يتصل بالحس كأداة معرفة، أو أداة أي شيء آخر، فإن هناك أفكارا ميتافيزيقية أخرى ساعدت على تقدم العلم بل وكانت ضرورية له، رأينا بوبر في حديثه عن المعرفية الموضوعية بجعلها «م1
ح ح
أ أ
م2» ويوثق أواصر القربى بين شتى الجهود العرفية، ويراها سلسلة واحدة متصلة الحلقات، فلا بد وأن تكون بعض من نظريات الميتافيزيقا قد اتخذت دورا وحلقة أفضت إلى الحصيلة المعرفية التي نستمتع بها اليوم «فكثير من نظرياتنا العلمية قد تطورت عن أساطير مرحلة ما قبل العلم، عن نظريات كانت في وقت ما غير قابلة للاختيار (أي لا علمية أو ميتافيزيقية)، فيمكن أن نتتبع تاريخ نظرية نيوتن إلى الوراء حتى أنكسمندر وهيزيود، والنظرية الذرية كانت غير قابلة للاختيار - أي أقرب إلى الميتافيزيقا - حتى سنة 1905م تقريبا.»
91
بل وإن كثيرا من الأفكار الميتافيزيقية قد أوحت بصورة مباشرة بنظريات علمية.
أبرز الأمثلة أول سؤال فلسفي طرح في التاريخ، التساؤل عن مبدأ فيزيائي واحد، عنصر نهائي نشتق منه جميع الأشياء الأخرى، كان شغل المدرسة الأيونية خصوصا، والفلسفة القبل سقراطية عموما، وحينما تقدم العلم - خصوصا في أوائل القرن التاسع عشر - بدا هذا السؤال ساذجا أبله حتى قطع العلم الحديث بصوابه، وأن الوصول إلى هذا المبدأ - أي الذرة - كان مفتاح التفجر الهائل لنجاح العلوم الطبيعية.
وها هنا نصل إلى المثال الميتافيزيقي المعجز؛ ديمقريطس، لقد أتانا في القرن الخامس قبل الميلاد (460-360ق.م) ناقلا عن أستاذه لوقيبوس أحاديث جد غريبة، فهو يتصور أن هذا العالم مكون من، أو أن المادة الخام الأساسية
Arche
التي صنع منها هي؛ أجسام متناهية الصغر لا متناهية العدد في حركة دائمة، وأن هذه الأجسام لا تقبل الانقسام (من هنا كان مصطلح الذرة يوناني
A-toms = لا منقسمات)، وأنه الحديث الذي أهمل قرونا طويلة، حتى ألهم دالتون بفرض الذرة، فيجيء للعالم الروسي مندليف بعد أكثر من عشرين قرنا، ليقول نفس ما قاله ديمقريطس مشاركا إياه نفس النصيب من الصحة (= كل شيء في العالم مكون من ذرات لا متناهية الصغر، لا متناهية العدد في حركة دائمة)، ونفس النصيب من الخطأ (= هذه الأجسام الصغيرة لا تقبل الانقسام).
وبغير الدخول في تفاصيل مسهبة، يمكن أن تكفي الإشارة إلى «جزء 4» من فصل «الاستقراء خرافة»؛ سنجد أمثلة ساطعة الوضوح ومتصلة:
نظرية طاليس في طفو الأرض على الماء، والتي ألهمت بنظرية الجرف القاري.
أنكسمندر بأبعاده اللامطلقة ألهم النسبية، كما ألهم أرسطارخوس الذي ألهم بدوره كوبرنيقوس وكبلر وجاليليو، أن الأرض تقف حرة في الفضاء، كما ألهم نيوتن فكرة القوى الجاذبية غير المرئية.
92 ⋆
فرض كوبرنيقوس بمركزية الشمس كان تأويلا لفكرة ميتافيزيقية، مطروحة في الأفلاطونية وفي الأفلاطونية المحدثة.
الأعداد المقدسة الفيثاغورية ألهمت كبلر بضرورة الكشف عن قوانين رياضية تحكم النظام الفلكي.
الأمثلة جمة تثبت أن الميتافيزيقا ضرورية لتقدم العلم ذاته، لتوسيع الخيال العلمي، فتلهم بافتراضات حدسية أخصب، وبالنظر إلى هذه المسألة من الزاوية السيكولوجية، فإن بوبر يميل إلى الاعتقاد بأن الكشوف العلمية مستحيلة بغير الإيمان بأفكار من نمط تأملي خالص، وهذا الاعتقاد الميتافيزيقي، قد لا تبيحه النظرة العلمية،
93
لكنه الأمر الواقع.
ويجمل بنا الآن أن نذكر أن كارناب قد أشار إلى ماخ وبوانكاريه وآينشتين كأعلام لحركة تحرير العلم الطبيعي من أي شوائب ميتافيزيقية، لكن بوبر قد أوضح أن هذه الإشارة لم تكن موفقة؛ «لأن ماخ بالذات كان يرنو إلى الاستبعاد النهائي للنظرية الذرية؛ لأنه هو وكثير من وضعيي عصره اعتبروها مبدأ ميتافيزيقيا في الفيزياء، أما بوانكاريه فقد حاول تأويل النظرية الفيزيائية كتعريفات متضمنة، تبعا لنظريته في اعتبار أية عبارة علمية مجرد أداة، وهي نظرية لا يقبلها كارناب خصوصا، أما آينشتين فقد كان معتقدا في مفاهيم ميتافيزيقية ويعمل بحرية بمفهوم «الحقيقة الفيزيائية»، رغم أنه - بلا شك - كان كأي واحد من العلماء الجادين يكره الثرثرة الميتافيزيقية المغرورة.»
94
بعض الأفكار والمفاهيم الميتافيزيقية داخلة في نسيج العلم بطريقة يستحيل معها الحكم عليها بأنها خالية من المعنى، دون أن يجر العلم إلى نطاق هذا الحكم، هذا ما ستثبته مناقشة معاييرهم لتمييز العلم.
خاتمة (1) على هذا النحو صب بوبر جام غضبه على أسس الوضعية، فكان الخلاف بينهما عميقا حقا حتى إنه حين أراد أن يقسم الفلاسفة إلى فريقين متقابلين، كان هو على رأس أحد الفريقين، والوضعية على رأس الفريق الآخر، فريق التحققيين الذي لا يستحق حتى أن نأخذه مأخذ الجد،
95
وهما فعلا فريقان متقابلان، تقابل كانط وفتجنشتين، بوبر تابع الأول، والوضعيون أتباع الثاني.
وقد حاول فيكتور كرافت - عضو الدائرة ومؤرخها وصديق بوبر - بتفاصيل مسهبة أن يعتصر فلسفة بوبر؛ كي يثبت أوجه تشابه كثيرة بينهما، فكان يتصيد أي حرف أو تعبير - ولو حتى مجازي - لبوبر، يحمل وجهة وضعية، ورغم أن كرافت تعسف كثيرا، فهو لم يرتكب أي خطأ أكاديمي ولم يسئ فهم بوبر، ولكن أوجه التشابه التي توصل إليها (مثل التجريبية) والواقعية، والانشغال بأسس العلم ومعياره، والإبستمولوجيا العلمية؛ غير ذات اعتبار، من الممكن تصيد أوجه تشابه بين أي مذهبين فلسفيين طالما هما معقولان، على العموم فإن بوبر عقب على محاولة كرافت هذه بالشكر الرقيق، مردفا إياه بالنفي الحاسم الواضح لأي تشابه بينه وبين الوضعيين. (2) ولكن رغم نقده المتحامل، ورفضه المتطرف أحيانا، فهو يسجل لهم أنهم كانوا متشوقين حقا لتأكيد أهم تقليد للعقلانية، أي حرب العقل ضد الخرافة والسلطة التعسفية، وبواسطة الدليل الوضعي ،
96
بل وإنه يوافقهم على منحى عام لهم هو المنحى التنويري، ووجهة النظر النقدية إلى الفلسفة؛ الفلسفة بما هي - لسوء الحظ - عليه، والفلسفة بما ينبغي أن تكونه،
97
كما أنه يحمد لهم اقتداءهم برسل، وأنهم كانوا بلا مراء علامة بارزة في الفلسفة المعاصرة، لا سيما العلمية فكتاب كارناب «التركيب المنطقي للعالم» من أهم كتب فلسفة العلم في القرن العشرين، أما كتابه «القابلية للاختبار والمعنى»
98 ⋆
فهو أهم ما كتب في مجال فلسفة العلوم الطبيعية، في الفترة المحصورة بين رسالة فتجنشتين، والطبعة الألمانية لمقال تارسكي في مفهوم الصدق،
99
أما حملاتهم العنيفة ضد الميتافيزيقا، فقد ألقت في نفوسنا جميعا رهبة شبيهة بالرهبة من الله حينما نريد أن نتحدث حديثا ذا مغزى، وأصبحنا أكثر حذرا فيما نقول.
100
وحتى الاتجاه التحليلي اللغوي عامة، له فضل كبير في نقد اللغة، وفي الدراسة النقدية لاستعمالاتها المختلفة، النقد كان أحد الدوافع التي دفعت أصلا إلى هذا الاتجاه، وطبيعي أن يستصوب بوبر - فيلسوف النقد - هذا المنزع النقدي، الذي شملهم جميعا حتى رائدهم فتجنشتين،
101
لكن المشكلة في أنهم انقلبوا فجأة عن هذا النقد أو نسوه، وأخذوا يمارسون التحليل اللغوي فقط من أجل التحليل اللغوي، ولم يعودوا نقادا للغة، لكن فقط مهتمين باستعمالاتها كما هي،
102
كما بلغ الحال ذروته في الاتجاه الحالي للتحليل؛ تحليل اللغة الجارية في أكسفورد.
حملة بوبر على الفلسفة اللغوية التحليلية لا هوادة فيها، حتى وهو يسجل لهم، يصر النقد على البروز مرة أخرى. (3) وعلى الرغم من ضراوة الحملة، فالخطأ كل الخطأ هو الظن أن بوبر لا يعتبر اللغة مهمة، إنها في نظره خطيرة الأهمية، أولم يعتبرها - هي والنقد - أهم مكونات العالم 3 قاطبة، إنه يرفض الفلسفة اللغوية التي تبحث عن دقة المعاني وتعريفاتها؛ لأنه يريد فلسفة للغة تشرح لنا وظائفها وتعيننا على فهم معنى اللغة الإنسانية،
103
وقد وضع هو فلسفة للغة من هذا المنظور تبعا لها تكون للغة وظائف أربع: (1)
الوظيفة التعبيرية، أي التعبير عن النفس
Self-Expression . (2)
الوظيفة الإشارية
Signaling Function . (3)
الوظيفة الوصفية
Descriptive Function . (4)
الوظيفة الجدلية (النقاشية)
Argumentative Function . (4) واللغة أيا كان مستواها لن تكون لغة إلا إذا كانت قادرة على إثارة استجابة من كائن حي آخر؛
104
لذلك فلغات الحيوان - أو وسائل تواصله - من رقص أو تلامس أو إصدار أصوات أو غيره؛ قادرة على أداء الوظيفتين الأولى والثانية، أي التعبير والإشارة، ولكن اللغة الإنسانية تتميز بأدائها أيضا للوظيفتين العليتين: الوصف والجدل، اللغة الإنسانية بوظائفها الأربع - لا سيما العليتين - هي علة خروجنا عن مملكة الحيوان، أي علة كوننا بشرا؛ فالوعي الإنساني والوعي بالذات نتيجة لها،
105
إننا ندين بعقلنا وعلمنا وحضارتنا إليها، فهي التي كفلت تواصل الأجيال واستئناف المسير، لا سيما من خلال الوظيفة الرابعة الوظيفة الجدلية.
على هذا النحو يرفع بوبر اللغة إلى أعلى العليين، بينما ينزل الفلسفة اللغوية التي تتوه في المعنى والتعريف والدقة أسفل السافلين، إن فلسفة اللغة - كما يراها بوبر - ينبغي وأن تكون من هذه الزاوية. (5) وبعد، فقد كان هذا الفصل نقدا للخطوط الأساسية للوضعية، نقد منحاهم اللغوي ومنحاهم التحليلي وموقفهم من الميتافيزيقا، ليحدد ذلك بصفة عامة أطرا لنقده محاولاتهم لتمييز المعرفة العلمية، والتي انبثقت عن تلك الخطوط، فبقي الانتقال إلى النقد التفصيلي لتلك المحاولات.
الفصل الثالث
بوبر ينقد معايير الوضعية لتمييز العلم
مقدمة (1) ما بني على الباطل فهو باطل، لقد وضح بطلان الخطوط الأساسية للوضعية المنطقية على الأقل من وجهة نظر بوبر، فهل يمكن لهذه الوجهة من النظر أن ترفض آليا، أو كمحصلة منطقية، معايير التمييز التي ترتبت على الفلسفة الباطلة؟ كلا، لا يجوز هذا ولبوبر بالذات؛ لأنه فيلسوف النقد الذي يرسخ في الأذهان دائما النقد وكيف يكون، والنقد لا يكون أبدا كليا؛ لأن الطابع المرحلي لكل بناء معقد، كان إحدى النتائج التي ترتبت على الصياغة «م1
ح ح
أ أ
م2» مما يلزم أن يكون النقد والإصلاح مرحليا جزءا جزءا، فبناء على هذه النتيجة كان الخطأ الكبير الذي عابه بوبر على اتجاهات شتى، أبرزها موقف الوضعيين من الميتافيزيقا، وأسلوب الماركسية من الإصلاح الاجتماعي، أنهم يرفضون بناء شامخا يحوي مكونات عدة بجرة قلم واحدة.
لذلك لا بد وأن يكون النقد السليم لمعايير الوضعية لتمييز العلم جزئيا، ويمتنع على بوبر بالذات أن يجيء به كحكم كلي عام، يترتب على نقد الخطوط العريضة في الفصل السابق. (2) لكن لا بأس من إفراد الجزء الثاني من هذا الفصل، لوضع خطوط أساسية لنقد عام ينطبق على المحاولات كلها باتجاهها العام، ثم تنفرد الأجزاء التالية لنقد كل محاولة على حدة، فيكون الجزء الثالث لنقد التحقق، والرابع للتأييد، والخامس لمحاولتي كارناب وفتجنشتين، أما الجزء السادس فهو خاتمة. (1) نقد المعايير بصفة عامة (1) ما هو النقد الكلي الذي ينطبق على المحاولات بصفة عامة، والذي يمكن استخلاصه من كتابات بوبر؟ أول ما يقال في هذا الصدد هو أن النزاهة جافت هذه المحاولات، ومجافاة النزاهة بلا مراء أخبث الأدواء الفكرية.
ذلك أن الوضعيين لم يكونوا يحاولون - لا بصدق ولا بإخلاص - وضع معيار لتمييز العلم، بل أرادوا تحقيق مهمة محددة سلفا في أذهانهم، وهي إزاحة الميتافيزيقا تماما من عالم يودون لو ينفرد به العلم وحده؛ لأنه استحوذ كل إعجابهم، وسلب جنانهم، كانت محاولاتهم مغرضة، أي مسوقة بانحياز فلسفي مسبق؛ الميتافيزيقا لغو، مما منعهم من تأدية مهمة التمييز بالصورة اللائقة،
1
بل لعلهم لم يهدفوا إلى التمييز أصلا، بل هدفوا إلى تحطيم الميتافيزيقا، فكانت النزاهة كل النزاهة والإخلاص والجدية والتفاني فقط في محاولة إثبات أن الميتافيزيقا لغو. (2) ولو كان هذا التعبير «لغو» مرادا به أنها لا تنتمي إلى العلم الطبيعي، لكان غير ذي اعتبار؛ لأن الميتافيزيقا تعرف عادة بأنها تجريبية، ولكنهم أرادوا به أكثر من أنها لا تجريبية، أرادوا به تقييما محطما ومهينا،
2
لغو: حكم كلي واحد ناقد للميتافيزيقا بأسرها، ولما كان النقد الكلي أسلوبا خاطئا ذا نتائج مدمرة، أبرزها وضع النقد في غير موضعه، كما فعل بيكون في مواجهة كوبرنيقوس، وبيير دوهيم في مواجهة الذرية،
3
أي رفض المذهب كلية بمبدأ واحد، كما فعلت الوضعية في مواجهة الميتافيزيقا، فقد فشلت معاييرهم في تحقيق أي هدف؛ إذ يستحيل استبعاد كائن ثر رهيب مهيب كالميتافيزيقا بجرة قلم واحدة، ولا حتى على أنها لغو، لو كانوا يريدون استبعاد اللغو حقا ، لأمكنهم هذا عن طريق اختبار الميتافيزيقا فكرة فكرة، كما ينبغي أن يكون النقد، ولو أنهم فعلوا هذا لكانوا قد تبينوا أن معظم عبارات الميتافيزيقا ليست لغوا، ولكنه انحياز فلسفي مسبق. (3) ثم إنهم لم ينظروا إلى المشكلة على أنها اقتراح رأي بمعيار مناسب، يمكن عن طريقه تمييز العلم بل أولوا المشكلة تأويلا تطبيعيا
naturalistic ، أي على أنها مشكلة الكشف عن اختلاف يكمن في صميم الطبائع، طبيعة العلوم التجريبية من ناحية، وطبيعة الميتافيزيقا من ناحية أخرى.
4
وهذه النظرة التطبيعية هي نظرتهم إلى المعنى، فمبدؤهم يحتم أن أية عبارة تجريبية إما ذات معنى أو بغير معنى، وليس ذلك بالاتفاق فيما بيننا، ولا حتى بالقواعد التي اصطلحنا عليها، بل كمسألة أمر واقع، يعود إلى صميم طبيعة العبارة، كما يعود اللون الأخضر إلى صميم طبيعة النبات، وليس إلى القواعد المصطلح عليها بيننا.
وقد تمسكوا بهذا بعضد من نظرية الأنماط المنطقية، لكن صحيح أننا نستطيع أن نبني - كما فعل رسل - لغة مجسدة لنظرية الأنماط، فتكون عباراتها غير مصوغة جيدا، وغير ذات معنى، فإننا نستطيع أيضا أن نفعل كما فعل زيرميلو وخلفاؤه؛ أن نبني لغة تكون عباراتها المطروحة للبحث غير خاضعة لنظرية الأنماط، لكن مصوغة جيدا، وبالتالي ذات معنى وحتى صادقة،
5
فنظرية الأنماط تحكم حكما نسبيا فقط، خلو العبارة من المعنى بالنسبة لاستعمال معين، للغة معينة وليس حكما مطلقا على صميم العبارة.
لتوضيح هذا النقد من بوبر، يمكن القول إنه ليس من الضروري أن نستخدم عبارات تؤدي إلى التناقض الذاتي، كالتي استخدمها رسل في توضيح الأهمية العظمى لنظرية الأنماط المنطقية، فمن الممكن استخدام عبارات تنطبق على مستويات منطقية مختلفة ولكنها ليست متناقضة كأن نقول: إنها جميعا فئات لها أفراد قابلة للدخول في علاقات منطقية.
هذا النقد لاستخدامهم نظرية الأنماط، يحطم تطبيعهم لمبدأ الخلو من المعنى «أ عضو في أ» قد تكون خالية من المعنى في لغة معينة، ولكنها ستعود ذات معنى في لغة أخرى، البرهان على الخلو من المعنى بالنسبة للغة ما - لغة العلم الطبيعي مثلا - من الخطأ اعتباره برهانا على أن التعبير بصميم طبيعته خال من المعنى في كل اللغات كلغة الأديان مثلا، إصدار مثل هذا الحكم ذو شأن عويص؛ إذ يجب إثباته في جميع اللغات المتسقة، ليس فحسب بل ويجب أيضا إثبات استحالة وجود أية جملة ذات معنى في أية لغة متسقة، بديلا للعبارة المطروحة للبحث، ولم يحدث أبدا أن اقترح أحد الوضعيين كيف يمكن الإتيان بهذا البرهان،
6
لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أنهم - خصوصا في عهودهم الأولى - كانوا يتحدثون عن اللغة بالمعنى المطلق، وظنوا أن في إمكانهم حذف أي مفهوم أو جملة لا يرونها ملائمة.
7
هذا نقد من بوبر لوجهة معينة من المعايير، وجهة اعتبار الميتافيزيقا خالية من المعنى بصميم طبيعتها، بعضد من نظرية الأنماط المنطقية. (4) على أساس هذا النقد أو التفنيد تبدو استحالة تحقيق هدفهم في تمييز المعنى عن اللامعنى، فالخطأ الكبير الذي تعثرت فيه المعايير هو المطابقة بين المعنى والعلم واللامعنى واللاعلم، هذه المطابقة هي التي كفلت رد سهامهم إلى صدورهم، فببساطة إذا كانت القضايا المتحققة وتحصيلات الحاصل هي فقط ذات المعنى، فإن أي نقاش حول المعنى سيصبح بدوره خاليا من المعنى،
8
وتصبح كل المناقشات التي تشرح معايير الوضعيين لتمييز العلم هي بدورها ثرثرة بغير معنى، تظل المعرفة العلمية بغير معيار، ليس بوبر هو الذي نوه إلى هذا النقد، فقد وجهه رسل في نقده الشهير من أن معيار التحقيق غير قابل للتحقيق، بل ولا يبدو أن أحدا تعرض لدراسة الوضعية، ولا حتى من الوضعيين أنفسهم ولم يلتفت إلى هذا الخطأ، والموقف الذي يستحيل أن يتسق، كما وضح إبان مناقشة المعايير نفسها.
ثم إن بعض العبارات العلمية قد تكون قابلة للتحقق جدلا، بينما نفيها غير قابل له، فهل تكون العبارة ذات معنى، بينما نفيها غير ذي معنى! هذا كلام لا يستقيم، أو هو لغو وضعي بغير معنى (هذا ما تفاداه كارل همبل في معيار القابلية للتأييد).
إذا أردنا مثالا يوضح هذا النقد الوجيه من بوبر، فلنأخذ القانون العلمي الذي يسمى أحيانا صياغة بلانك لأول قوانين الديناميكا الحرارية، وهو: «لا توجد آلة أبدية الحركة»، هذا قانون طبيعي، إذن ذو معنى، لكن الملاحظ أنه عبارة كلية، أي لا وجودية، والتي ثبت استعصاؤها على التحقيق، فمن الأحرى أن العبارة الوجودية المناظرة له، أي نفيه، تكون وقوعها داخل نطاق العلم أوضح وأكثر حسما، لكن هذه العبارة الوجودية هي «توجد آلة أبدية الحركة» ليست علما أي غير ذات معنى!
الحديث المتسق هو أن تكون العبارة صادقة، بينما نفيها كاذب، لكن كيف تكون العبارة ذات معنى ومجرد نفيها بغير معنى؟! أخذ الوضعيين بالمعنى واللامعنى جعل الحديث يلتوي ويتناقض. (5) بل وإن خطأ المحاولات لم يقتصر على المطابقة بين العلم والمعنى من ناحية، واللاعلم واللامعنى من ناحية أخرى، بل تعداها إلى تصور إمكانية الفصل الحاسم بينها، في حين أن الخط المميز الفاصل يستحيل أن يكون حاسما،
9
الأمر ليس ضربة قاصمة تشطر العبارات نصفين لا ثالث لها علم ولا علم، بل هناك درجات من السمة العلمية؛ أي درجات من القابلية لتطبيق المعيار الذي ينبغي أن يقترح لتمييز العلم.
10 ⋆
قصور معاييرهم عن مواجهة فكرة التدرج يبرز واضحا بالإشارة إلى أن معاييرهم، لا تميز فقط العلم عن اللاعلم، بل وأيضا المعنى عن اللامعنى، فتكون هذه المعايير لا تحل المشكلة، بل فقد تبدلها بمشكلة أخرى، هي مشكلة البحث عن معيار يفصل بين العبارات أو النظريات ذات المعنى الخصيب، وتلك ذات المعنى الفقير،
11
أي التدرج في المعنى.
ومن ناحية أخرى، فإن النظريات الميتافيزيقية - كما وضح آنفا - رائدة للأفكار العلمية؛ لذا فإن المعايير الوضعية ستثير مشاكل ومتاعب لا جدوى منها،
12
أو هي مضرة ستصيب العلم بإجداب، إذ ستطيح بكل ما ليس علما، فتضيع فرص إلهام كثيرة.
ثم إن تطور العلم عن الأساطير والميتافيزيقا، يحتم وجود حدود مشتركة بينهما، أو على الأقل باهتة، أي ستظل على الدوام بعض من الأفكار المشتركة بين العلم والميتافيزيقا، وهذا يوضح من ناحية أخرى أن الخرافات من شأنها أن تطور بعضا من عناصرها القابلة للاختبار، حتى تصل إلى الدرجة العلمية.
الخلاصة أن الخط بين العلم واللاعلم متموج وليس مستقيما، والفصل الحاسم القاصم مستحيل. (6) تلك هي الخطوط العريضة للنقد الذي ينطبق على المحاولات ككل، حسب استخلاصها من كتابات بوبر: إنها ليست نزيهة، وتصورت إمكانية نقد أو هدم الميتافيزيقا بأسرها بمبدأ واحد، واعتقدوا أن رأيهم ليس رأيا، بل كشفا لصميم الطبائع، ثم طابقوا بين العلم والمعنى واللاعلم واللامعنى، وتصوروا إمكانية الفصل الحاسم بينهما.
كل هذه الأخطاء وغيرها، تأدت بجميع معايير الوضعيين إلى أن تكون مكنسة تكنس الكثير جدا: النظريات الفيزيائية الكلية، وتكنس القليل جدا، تترك معظم عبارات الميتافيزيقا وكل عبارات العلوم الزائفة؛ أي ببساطة نظل في فوضى معرفية، ومعايير للتمييز لا مبرر لإقامتها.
لكن المحاولات بدت في الفصل السابق عديدة ومتميزة، فلا بد من لقاء بين بوبر وبين كل محاولة على حدة، وليكن الجزء التالي للقاء بوبر أو نقده للتحقق، أهم المعايير وأبرزها وأكثرها شيوعا وشهرة، إنه الأصل والعلم، أو على الأقل المعيار الوضعي الرائد. (2) نقد معيار التحقق (1) أول ما يقوله بوبر في نقد التحقق، هو أنه مرفوض تماما، على أساس وطيد من رفضه، أو دحضه للاستقراء؛
13
ذلك أن التحقق ليس إلا صورة أبسط، أو ظلا للمنطق الاستقرائي، فكما نجمع الملاحظات التجريبية لتفضي إلى القانون العلمي، نجمع المدركات الحسية لتفضي إلى العبارة العلمية، ليس هناك فارق حقيقي بين الاستقراء والتحقق، وقد سبق أن ذكرنا أن بيتر مونز قد أوضح أن الاستقراء له معنى ضيق يدور حول التكنيك الفني في اشتقاق قانون عام من عدد محدود من الملاحظات، وهو المعنى الذي كنا نتصرف في حدوده في الباب السابق، لكن المشكلة لها أيضا معنى واسع: كيف ترتبط الكلمات التي نستعملها في وصف العالم بالعالم الذي يمر بخبرتنا؟ في إجابة الوضعيين على هذا، نجد الاستقراء بوصفه مبدأ يحكم فلسفة لغوية، قد اتخذ اسم معيار التحقق،
14
ويكشف هذا عن نفسه بوضوح أكثر مع رائدهم فتجنشتين؛
15
إذ يؤكد أن كل قضية لا بد وأن تكون قابلة للرد إلى قضايا ذرية، عرفها بأنها لوح أو أوصاف للوقائع.
يرفض بوبر التحقق، على نفس الأساس الراسخ الذي رفض به الاستقراء
16 ⋆
من الناحية الميثودولوجية، الوضعيون بلا جدال استقرائيون كبار، خصوصا وأن الاستقراء كان لا يزال متربعا على عرشه وقت نشأتهم وازدهارهم، وبالذات شليك وكارناب - في المرحلة الأولى من تطوره الفكري - كانا من حماة الاستقراء على أساس من حمايتها للمنهج التجريبي آنذاك.
وقد ذهب بيتر بيرنايز إلى استحالة استدلال قانون عام، أو احتمالية هذا القانون من حالات محددة، هي الحجة الأساسية التي يضعها بوبر ضد الاستقراء
17
والوضعيين، ولكن جانب بيرنايز الصواب، حجج بوبر ضد الاستقراء أوسع كثيرا كثيرا، من هذا، إذ لم يشر بيرنايز إلى أكثر من مشكلة الاستقراء، بوصفها حجة أمام التحقق، والمهم أن هذا ليس بالشيء القليل؛ إذ إن شليك حينما شعر بخطورة موقفهم بسبب مشكلة الاستقراء، حاول حل المشكلة بأن قال: إنه يعترف مع هيوم بأنه ليس هناك تبرير منطقي للعبارات الكلية؛ ذلك لأنه ليس هناك عبارات كلية، إنها ببساطة ليست عبارات حقيقية،
18
بل محض قوانين تساعد على استنباط العبارات الجزئية الحقيقية (التحقق يكنس الكثير جدا)، هكذا تردى الأمر بالتحقق إلى الاعتراف بأن العبارات الكلية العلمية، مثل العبارات الكلية الميتافيزيقية، عبارات زائفة! أين هو إذن تمييز العلم. (2) وبخلاف الاستقراء ورفض بوبر له، فإن التحقق معيار بوصفه مصدرا للمعرفة، فهو يعني أن الوضعية قد وجدت مصدرا، هو الخبرة الحسية، إذا أمكن إرجاع العبارة إليه كانت فقط دون سواها - لها القيمة المعرفية - فكانت علمية ذات معنى ومشروعة، لكن هل المدركات الحسية، هي فعلا المصدر النهائي للمعرفة بالطبيعة،
19
أي للمعرفة العلمية، فتكون معيارا يميزها؟
طبيعي أن يجيب بوبر على هذا بالنفي، لا الخبرة الحسية ولا أي شيء آخر يمكن أن يكون المصدر النهائي للمعرفة، فهو يرفض تعيين هذا المصدر، بل وينفي إمكانية الوصول إليه، ويصر على الترحيب بكافة المصادر، شريطة تعريض نتائجها للنقد.
لقد ظن الفلاسفة المعرفيون طويلا أن مهمتهم هي البحث عن هذه المصادر، عن أصل المعرفة وأنهم إذا وجدوها فقد عرفوا من أين يأتون بالمعرفة المثلى، إنهم يبحثون دائما عن سلطة تحكم حياتهم المعرفية، وكانت أكثر المصادر يقينا هي الله،
20
حتى جاء الوضعيون فواصلوا التيار التجريبي العتيد الذي يضع الخبرة الحسية - أي القابلة للتحقق هنا - في موقع هذه السلطة التي نستمد منها المعرفة المثلى، المعرفة العلمية التجريبية، هكذا نجد الفارق بين المعرفة التي ترتكن على الله سبحانه وتعالى، أو الكتاب المقدس وأرسطو، وبين المعرفة التي ترتكن على التحقق الحسي فارقا مذهبيا طفيفا، لكن للأسف المنهج واحد، هو المنهج الباحث عن مصدر للمعرفة ينصبه متسلطا عليها كمصدر نهائي وكمعيار للصدق ولليقين.
هكذا نجد الفلاسفة الذين ظنوا أنفسهم يقيمون - بواسطة التحقق - ثورة مدوية، جعل منهم هذا التحقق في جوهر الأمر فلاسفة تسلطيين
authoritarianism
بهذا المعنى الرجعي التقهقري العتيق.
الخبرة الحسية بالذات، يستحيل أن تكون - كما يدعي التحقق - مصدرا أو معيارا، فكافة العبارات السلمية، التي لا بد وأن يكون لها معنى - بأية وجهة للنظر - ليست مؤسسة على الملاحظة، ولكن على كافة مصادر المعرفة، فإذا سئل شخص عن عبارة ما: كيف عرفتها؟ وكانت إجابته قرأتها في جريدة الأهرام، أو في دائرة المعارف البريطانية فلا بد وأن تكون هذه الإجابة مقنعة أكثر من «لاحظتها أو وقعت في خبرتي الحسية.» لكن الوضعي قد يرد على بوبر قائلا: ومن أين تعتقد أن جريدة الأهرام أو دائرة المعارف قد أتت بهذه المعلومة؟ لو أنك قد استأنفت البحث إلى ما فيه الكفاية فيقينا ستنتهي إلى تقريرات حول ملاحظات لما تشاهده الأعين (وهي التي أسموها - بعد سقوط التحقق - جمل البروتوكول)، فحقا أن الكتب تقام على كتب أخرى، وحقا أن التاريخي - مثلا - يستمد مادة عمله من الوثائق، لكن هذه الكتب والوثائق في النهاية مؤسسة على الملاحظات، وإلا كانت أشعارا وأكاذيب أو ميتافيزيقا، أي كلاما يخلو من المعنى: لا-علم.
21
بوبر الآن سيبطل هذه الدعامة للتحقق على أساس الحجج التالية: (أ)
عملية تعقب أية معلومة إلى أسسها النهائية - حتى وإن كانت معلومة تجريبية - هي عملية مستحيلة، فإذا حاولناها ندخل في سلسلة من الإجراءات المملة المعقدة الشاقة، ونجد موضوع البحث في النهاية قد ازداد واتسع، ككرة من الجليد تتدحرج فوق الثلج،
22
هناك استحالة نظرية في تطبيق المعيار، سيتشعب بدلا من أن ينحل - كما يظن الوضعيون - إلى سلسلة من الملاحظات الحسية البسيطة. (ب)
حتى الملاحظة الحسية في حد ذاتها، تتضمن هي نفسها تأويلا، إنها مصبوغة بمعرفة الملاحظ، أما الملاحظة الخاصة فهي مستحيلة، وإن أمكنت فهي عقيمة غير مثمرة، بعبارة أخرى: العبارات التجريبية ليست محض مدركات حسية، بل فيها شيء آخر أضفاه الذهن، هذا النقد من بوبر قائم على أساس فكرته المعروضة في الباب السابق: فكرة إسقاط الاستقراء على أساس التوقعات أو الافتراضات العلمية التي تسبق الملاحظة التجريبية. (ج)
ثم إن محاولة تطبيق المعيار باتساق، سوف تبطل ما أسماه آينشتين بالمهمة العليا للفيزيائي،
23
مهمة البحث عن الأسس النظرية العامة. (د)
وحتى المعلومات المقامة على ملاحظات حسية يمكن التحقق منها مباشرة، والتي قد تكون ذات أهمية كبيرة، قد تخطئ وبحسن نية، لا سيما إذا كان الحدث مثيرا وجريئا، أو حدث بسرعة، أو إذا كان من نوعية تغري بالتأويل أو تطلب تفسيرا معينا، هذا التفسير والتأويل في معظم الأحيان يشوه ما تمت رؤيته بالفعل، بعبارة أخرى: عملية التحقق الحسي إن أمكنت أصلا، فهي مستحيلة الإمكان الخالص؛ أي النزيه، الآن قد بدت الاستحالة أمام فكرة التحقق أصلا. (ه)
وإن استحالة التحقق لقائمة في أبسط عبارة؛ لأن كل وصف يستعمل أسماء كلية، مما يجعل لكل عبارة - معنى ما - خاصية النظرية أو الفرض، أبسط مثال «هنا كوب ماء.» لا يمكن أن تحققها أي خبرة ملاحظة، والسبب أن الكليات التي ظهرت فيها لا يمكن أن تقصر على أي خبرة حسية محدودة، الخبرة الحسية الفورية، هي فقط الخبرة الحسية الفورية، حالة فريدة، أما كلمة كوب «مثلا، فهي تشير إلى أجسام فيزيائية تعرض ما يشبه القانون في السلوك، وبالمثل كلمة ماء.» الكليات لا يمكن أن ترد إلى فئات من الخبرات التحقيقية، إنها لا يمكن أن تؤسسها.
24
واضح أن هذا النقد قائم على أساس نظرية بوبر المنهجية، الشبه كانطية، التي ترى أن الذهن يخلق الفروض والتوقعات ثم يتلقى بعدها وعلى أساسها: الخبرات، وبالطبع هذه نظرة مرفوضة من الوضعيين نظرا لحسيتهم المتطرفة، ولكن لما كانت هذه النظرية تشكل استحالة منطقية أمام التحقيق الخالص النزيه، فلا بد بالطبع أن يهب «ألفرد آير» ثائرا في وجه كل هذا، ويقول لبوبر: كلا! نحن لا نفسر الخبرات على ضوء التوقعات والفروض، بل إن الخبرة هي التي تمدنا بأساس كل تفسير لها.
25
ويستأنف آير الإحاطة بوجهة نظره قائلا: لكن ما الذي يجعل الخبرة أساس تفسير معين دون غيره، وإذا اعتبرت بقعة حبر كوب ماء، فهل ما زال لدي تبرير لهذا؟ يجيب آير على هذا بأن اللغة التي يستعملها تتوقف على اكتسابه عادة قبول عبارات معينة، كنتيجة لاكتساب خبرات ملائمة، وعلى قدر ما تعلو هذه العبارات على الخبرة التي أقيمت عليها، فإنها تقيم توقعات قد تخيب،
26
واضح أن آير الآن يحذر حتى من النزر اليسير من نظرية بوبر، وهو يؤكد أن هذا هو شرط استطاعة تطبيق اللغة على العالم، بحيث لا يخيب هذا التطبيق دائما، ويؤكد آير أن التحقق يكفل فعلا الربط بين الخاصة التجريبية - التي هي سمة العلم - وبين التعبيرات اللغوية، فيقول: إن الخبرة هي التي ترخص التأويلات التي أتعلم أن أقيمها عليها، وأنها - أي الخبرة - هي القاعدة العامة، قاعدة اكتشافنا للعالم ولا يبطلها أنها قد تخيب في أي وقت، وفكرة أن الخبرة قد تخيب أو تحبط قائمة على دوران منطقي؛ لأني لا أحكم بأن خبرة معينة قد أحبطت إلا على أساس خبرة أخرى،
27
وهكذا لم يزد آير على أن أكد فرض الوضعية الأساسي.
وقد رد بوبر على هذا ردا معقولا، قال: إن هذا النقد لا يعدو أن يكون توضيحيا للخلاف الأساسي بينه وبين آير، أو بين الوضعية عموما، والمتمثل في أن الوضعية - وخصوصا آير - تأخذ بنظرية الحس المشترك في المعرفة، التي ترى أن العقل دلو أو سلة تملؤها انطباعات الحس بالمعارف،
28 ⋆
وهذه النظرية ما سبق أن فندها بوبر بالتفصيل في الباب السابق.
إذن حتى الآن يمكن اعتبار هذا النقد من بوبر للتحقق، لا يعدو أن يكون رفضا له على أساس وجهة نظره التي تخالف الوضعية؛ لذلك فهو في الواقع ليس نقدا موضوعيا ملزما وما له هذا الشأن إنما هو الانتقادات التالية: (3) ونحن نناقش التحقق في الفصل الأول، بدت أمامه استحالة خطيرة، تتمثل في أن القانون العلمي، يتحدث عن أفق مفتوح، مليء بالإمكانيات اللامتناهية، مما يشكل استحالة أمام حصر رده إلى الخبرة الحسية، والحق أن هذه الاستحالة، هي التي حدت بعضو الدائرة فردرش فيزمان
F. Waismann
إلى القول بأن هناك نقصا خطيرا في هذا المبدأ، وأنه لا وجود لتعريف أي حد تجريبي يحصر جميع الإمكانيات وكلما اصطنعنا الدقة في الملاحظة، وجدنا ذلك الأفق وقد ازداد اتساعا؛ ومن ثم استحال عقد مقارنة بين القضية التي تقال، وبين الواقع الخارجي، الذي لم تستنفد ملاحظاتنا له كل إمكانية؛
29
لذلك اضطر فيزمان نفسه إلى الإقلاع عن الإيمان بهذا المبدأ رغم أنه أول من نشره بوضوح في مقال له عن التحليل المنطقي، في مجلة المعرفة
Erkennits
عام 1930م.
30
وهذه الاستحالة الخطيرة - التي لا جدال فيها - هي التي جعلت التحقق «مكنسة تكنس الكثير جدا» إذ أفضت إلى القضاء على أنساق العلوم البحتة، وفي غمار تشوق الوضعيين للقضاء على الميتافيزيقا، ألقوا بالنظريات البحتة في نفس الهوة السحيقة، هوة العبارات الزائفة؛ لأن النظريات العلمية لا تتميز بقابلية الرد إلى تقريرات الملاحظة، أكثر مما تتميز به عبارات الميتافيزيقا.
31 (4) ثم كان خطأ التحقق العظيم، وهو المطابقة بين معنى القضية وأسلوب تحققها وصدقها، ولما كان التحقق نهائيا طالما هو واقع؛ وجب أن يكون الصدق بدوره نهائيا، غير أن الصدق النهائي؛ أي اليقين، مرفوض تماما في العلم المعاصر، وأول من يرفضه الوضعيون أنفسهم، وهذه المطابقة لا تخرق أسس العلم ومنطقه فحسب، بل وتخرق حتى الحس المشترك، أي الموقف العادي في الحياة اليومية؛ لأننا حين نريد التأكد من صدق معلومة، لا نبحث عن مصادرها، وإنما نحاول اختبارها، حقا هناك استثناءات لمعلومات نتأكد من صدقها بإرجاعها إلى مصادرها كالمعرفة التاريخية مثلا، ولكن حتى في هذه الحالات، فإن المؤرخ لا يبحث في تأصيل المعلومات أو إثبات صدقها بإرجاعها إلى الخبرة الحسية المباشرة، الخبرة الحسية لا تكون أبدا ضمان صدق معلومة، بل إن بعض المعلومات التي تدور حول وقائع غير قابلة للملاحظة قد تكون ذات الأهمية العظمى،
32
مثلا الكوانتم للنظريات عن أصل الكون كالسديمية مثلا.
غير أن ألفرد آير يثور أيضا في وجه هذا النقد، ويقول: إن التحقق لا بد وأن يكون معيارا للصدق، فإننا نبرر عبارة بأخرى، وهذه الأخرى بأخرى، مما يوقعنا في ارتداد لا نهاية له، لن يوقفه إلا العبارات التي تنقل الخبرات مباشرة، والسبب الوحيد الذي يجعلنا نتمسك بهذه العبارات هو أنها لا تحتاج تبريرا أكثر، فهي مبررة بما فيه الكفاية، بواسطة الحدوث الفعلي للخبرات التي تصفها، وهذا يعني الحق في التأكد من صدق هذه العبارات، ليس بواسطة عبارة أخرى، لكن بواسطة واقعة الوجود المباشرة للخبرات موضوع البحث، والآن ليس هناك سبب معقول يبرر دعوى بوبر برفض اعتبار الخبرات مبررة مباشرة، وأن العبارات المعبرة عنها تعطينا أساسا ملائما لقبولها،
33
مرة أخرى: لم يزد آير على أن أكد وجهة نظره، ومرة أخرى نقول له: إن العبارات المقررة للخبرة بهذه السذاجة مستحيلة أصلا.
غير أن آير يستأنف مناقشة بوبر، قائلا: إن ما قرره - أي آير - آنفا يبطل دعوى بوبر بأن المعرفة ليس لها أي مصدر غير معرض للخطأ، والتي على أساسها كان هذا النقد للتحقق من أن صدق المعلومة ليس بإرجاعها إلى أصولها إنما باختبارها، يقول آير: إن هذا صحيح فقط في الحدود التي نجد فيها أن ما دعا المتحدث لأن يقول ما قاله، ليس أفضل الطرق لتحديد صوابها؛ لأن هذا هو ما يجعلنا نهتم أساسا بقيمة المعلومة، أكثر مما نهتم بكفاءة المتحدث في أن يعلمنا بها، ولكن حتى هذا لا يؤيد دعوى بوبر؛ لأنها تفترض أن اختبار الوقائع بوصفه مصدرا للمعرفة لا يعطي هذه المعرفة أي شرعية،
34
لكن بوبر يجعل مصير النظرية، أي قابليتها للتكذيب، وكذبها أو عدمه متوقفا على اختبار الوقائع المناظرة للنظرية، وبالطبع فإن اختبار الوقائع يعني إجراء الملاحظات التي تجعلنا نقبل أو نرفض عبارات تجريبية معينة، هي التي ستحدد مصير النظرية، ولكن تبعا لنظرية بوبر هذه، فإن اختبار الوقائع لا يشكل اختبارا لأي شيء؛ لأنه ليس مصدرا للمعرفة، فلا يمكن إذن أن نخرج منه بأي شيء، وحقا أن هناك وقائع مثل الوقائع التاريخية لا يمكن اختبارها تحققيا، لكن المعرفة لا بد أن تعتمد نهائيا على الملاحظة،
35
ويبدي آير دهشته؛ لأن بوبر بذل قصارى جهده ليزلزل الاعتقاد بأن المعارف التاريخية، تعتمد في النهاية على شهادة الأعين للأحداث التي تشير إليها، وأنه يذكرنا دائما بأن الأعين عصبيا قابلة للخطأ، ناسيا أنه في نهاية التحليل لا بد وأن يكون الأساس الوحيد لكيلا نثق في شهادة أعين معينة، هو شهادة أعين أخرى نثق فيها أكثر.
36
وليس من العسير رد هذه الدعاوى الفارغة من آير، فإن اختبار النظرية بواسطة الوقائع لا يعني التحقق منها، فالتحقق غير مطلوب نهائيا؟ وإذا كان هناك هدف من الاختبار بالوقائع، فهو محاولة التكذيب، ثم إن الأمر اختلط على آير كما هو واضح؛ فقد كان يهدف أصلا إلى دحض أفكار بوبر لأن يكون التحقق مصدرا للمعرفة؛ وبالتالي محكا للصدق، وواضح أن كل ما قاله لا يعني إطلاقا أن التحقق؛ أي الخبرة الحسية مصدرا، بل يعني نفس ما يعنيه بوبر من أن الخبرة الحسية تحدد مصير النظرية، بعد أن نكون قد وصلنا إليها من أي مصدر شئنا.
مناقشة آير لا تعدو أن تكون ثرثرة وضعية، تلف وتدور حول فروضهم المسبقة التي جانبت الصواب، ولم تضف شيئا غير أن التقاليد الأكاديمية لم تكن تسمح بتجاهل مناقشة آير، فالمفروض أنه فيلسوف له شأن عظيم خصوصا في الفلسفة الإنجليزية المعاصرة، والخطأ أصلا، أن نمنح أي وضعي منطقي هذه المكانة، طالما أنهم ينفرون من الفلسفة، وفي النهاية بعد أن اعتقد آير بأنه فند بوبر، يقول: إن بوبر قد استبعد التحقق بوصفه محكا للصدق تفاديا لتدخل العناصر الذاتية في البناء الموضوعي للعلم،
37
لكن آير جانب الصواب هنا أيضا - كما يجانبه في معظم المواضع - فبوبر لم يستبعد التحقق خصوصا كمحك الصدق تفاديا للعناصر الذاتية بل للسبب أو الأسباب السالف ذكرها، وأيضا للأسباب الآتية: (5) لقد أوضح الفصل الأول أن التحقق منهاج لتمييز الكلمات أو المفاهيم ذات المعنى وليس فقط العبارات، والتحقق من الكلمات موقفه أسوأ؛ لأنه يعني تأويل الكلمات التي ليست ثوابت منطقية تأويلا عدديا، لكي تصبح ذات معنى والتأويل العددي يعني إعطاء قائمة تحصي الأشياء التجريبية الواقعية التي تسميها الكلمة، ويمكن أن نسمي هذه الإحصاءات تعريفات عددية لمعاني الأسماء،
38
وتصبح اللغة محتوية فقط على هذه الكلمات المتحققة مع الكلمات المنطقية، وطالما أن بقية الكلمات بغير معنى، فهي إذن لغة عددية، لغة اسمية بحتة،
39
وهذه اللغة الاسمية البحتة لا تناسب إطلاقا الأغراض العلمية؛ لأن جميع عباراتها ستكون تحليلية، إما يقينية وإما متناقضة ذاتية، وسيستحيل التعبير عن أية عبارة تركيبية فلا يمكن في لغة اسمية محضة صياغة جملة لا نستطيع تقرير صدقها أو كذبها بمقارنة قوائم التعريفات أو الإحصاءات للأشياء المذكورة في الجملة، وهكذا يكون صدق أو كذب أية جملة مقررا بمجرد أن نعرف معاني الكلمات المذكورة فيها.
40
فمثلا لو قيل: «أحمد، محمد، محمود ... إلخ.» رجال فهم الذين يمكن الإشارة إليهم تحققا من مفهوم رجل، ثم جاءت العبارة «محمد رجل.» لكانت بالطبع صادقة وذات معنى، وعلمية ... لأن مفاهيمها متحققة، أما بوبر فيقول: إنها ستكون يقينية لأن السبب تحليلي محمد متضمن مفهوم رجل فنحن وضعناه في قائمة تعريفه ونحن نتحقق منه أما لو قلنا: «بوبي رجل.» لكانت خاطئة أي متناقضة ذاتيا، ولنفس السبب التحليلي وهو أننا لم نضع «بوبي» في قوائم التحقق من مفهوم رجل بل وضعناه في قوائم التحقق من مفهوم كلب،
41
حيث إنه جرو، وبالمثل لو وضعت معنى «أبيض» في القائمة التالية: (1)
الورقة التي أكتب عليها. (2)
منديل اليد. (3)
السحب. (4)
تمثال من الجليد.
فستكون العبارة «شعري أبيض» والتي لم أكن قد عرفتها بعد وأنا أضع القائمة كاذبة، بل متناقضة ذاتيا، مهما كان لون شعري الحقيقي.
42
الحق أن هذا نقد معقول من بوبر، فكرة أن ضرورة التحقق من الكلمات كي تكون ذات معنى، تعني أننا نحدد بدقة الدلالات الحسية للكلمة قبل أن نستعملها، معنى ذلك أن الاستعمال لن يكون إلا تركيبات منطقية ومن هنا نجد أن مبدأ التحقق من الكلمات الذي أكده شليك خصوصا، سيفضي بنا إلى عالم من تحصيلات الحاصل، ولا قضايا تركيبية، وأوجه ما في هذا النقد أنه يوضح خطورته على العلم ذاته، وحجتهم أنهم يضحون بكل شيء من أجله فماذا أبقى لنا هذا المذهب المتناقض، بعد أن عرض العلم ذاته للخطر، فإن هذه اللغة ذات المفاهيم المتحققة، تسد الطريق أمام عالم، تكشف أمامه وقائع جديدة هذه اللغة غير ملائمة للأغراض العلمية لا يمكن صياغة الفروض فيها، أية لغة مناسبة للعلم هي على العكس تماما يجب أن تحوي كلمات لا يمكن تعريفها عدديا، ويجب أن تستعمل الكلمات الحقيقية، سواء أمكن تعريفها أو تحقيقها أم لا، بعبارة أخرى: كل فرض علمي جديد، يفتح أفقا جديدا، فكيف نعبر عنه بلغة اسمية، حددت سلفا وبدقة مفاهيم كلماته، على هذا لا يبدو مسوغا لرفض بعض المفاهيم لأنها ميتافيزيقية، فأين هو التمييز، إن التحقق من المفاهيم لا يناسب إطلاقا، لغة العلم فضلا عن أن يميزه.
لقد كان نقد بوبر في هذه الفقرة منصبا على منحاهم الأسمى، وتعريفاتهم العددية للكلمات المتحققة، التي يريدونها تجريبية لدرجة أن تكون مجرد تجميعات عددية، من شأنها أن تسد الطريق أمام تقدم العلم، وبغير أن تميزه أصلا. (3) نقد معيار القابلية للتأييد والاختبار (1) أما عن أولى بدائل التحقق، أي القابلية للاختبار والتأييد، فعلى الرغم من أنها - كما أوضح فيكتور كرافت - استجابة لنقد بوبر، ومحاولة للخضوع له خضوعا تسمح به مبادئهم الوضعية،
43
فإن بوبر ما زال يرى فيها مجرد محاولات لاستبعاد الميتافيزيقا ولصياغة مبدئهم التجريبي، بصورة أكثر دقة، فحينما أسقط في يد التحقق ظن الوضعيون أن هذه البدائل كفيلة بإنقاذ الموقف، لكن الأمر لم يكن هكذا، فإن التحقق كان على الأقل واضحا وبسيطا وقويا، أما هذه البدائل فعلى النقيض تماما
44
لم تكن واضحة بل ملغزة ومعقدة، لا تعدو أن تكون صورا ضعيفة مضعفة من التحقق. (2) ثم إن هذا المعيار مجرد تجسيد للمنهج الاستقرائي، أكثر من التحقق إذ اتخذ هذا المعيار في أحد أطواره، المنطوق «ينتمي التعبير اللغوي للعلوم التجريبية، فقط إذا أمكن تأييده بواسطة المعيار الاستقرائي، أو الدليل الاستقرائي.» وذلك على يد كارناب في كتابه «الأسس المنطقية للاحتمال»، «متصل المنهج الاستقرائي»
45
ها هنا التمييز الصريح بواسطة المعيار الاستقرائي، مما يجعله مدموغا بسقوط الاستقراء ربما أكثر من التحقق. (3) كما أن معيار التأييد لن يميز العلم أكثر مما يميزه التحقق، فالعبارة تكون أكثر قابلية للتأييد، كلما كانت أكثر قابلية للاختبار بمقاييس الوضعية أي كلما أمكن اشتقاقها من عبارات الملاحظة؛ فالتأييد - كما أوضح الفصل الأول - يعني اتصال العبارة بفئة من عبارات الملاحظة من هذه الوجهة تكون النظريات غير قابلة للتأييد بدرجة عالية؛ لأنها غير قابلة للاشتقاق من عبارات الملاحظة فهي غير قابلة للتأييد بصورة مرضية، تماما كما أنها غير قابلة للتحقق بصورة مرضية وما زال معيار التأييد يستبعد الهام من العلم؛ النظريات الكلية المثمرة.
ولما تبين الوضعيون هذا، راح شليك يشرح كيف أننا في العلم لا نحتاج للقوانين الكلية حقيقة، وأننا نستطيع الاستغناء عنها، «معايير الوضعية مكانس تكنس الكثير جدا، تكنس القوانين الكلية العلمية.» فقد اعترف شليك أنها غير قابلة للتحقق لكنه لم يملك إلا التأكيد على ضرورتها للتنبؤ،
46
أما كارناب فأمام استحالة تأييدها قال: إنها غير ضرورية إطلاقا، أولم يقل بوبر: إن التأييد صورة ضعيفة مضعفة من التحقق؟!
من السهل جدا الإتيان بفئة جمة من عبارات الملاحظة تؤيد قضايا علوم التنجيم والفراسة، مراعية لأدق قواعد معيار التأييد وليس فحسب، بل وإن أخبث عبارة ميتافيزيقية يمكنها أيضا أن تجتاز هذا المعيار.
47 ⋆
الخلاصة أن معيار التأييد - كسائر معايير الوضعية - مكنسة تكنس الكثير جدا (النظريات الكلية العلمية)، وتكنس القليل جدا (تترك العلوم الزائفة والميتافيزيقا)، والنتيجة أن نظل في فوضى معرفية، ومعيار للتمييز لا مبرر لأن يقام. (4) من ناحية أخرى، فإن كارناب قد طرح نظرية مسهبة في التأييد بمعنى الاحتمالية، وقد ظن أن هذا إعلاء من شأن المعيار على أساس الدور الهام لحساب الاحتمال في الصورة المطورة للاستقراء، تطويرا يلائم سقوط الحكم بالصدق أو الكذب، وظهور منطقي ثلاثي القيم، يضع قيمة اللامعنى بينهما وهو المنطق الذي يحكم العلم الآن، وقد اعتبر الوضعيون اختبار القابلية للتأييد سبرا لدرجة الاحتمالية، فلا يكون التأييد معيارا يميز العبارة العلمية فحسب، بل وأيضا يعين درجة احتماليتها، وتبعا لوجهة النظر الاستقرائية التي تبحث عن أعلى درجة من الاحتمال، فإننا سنبحث عن العبارات ذات قابلية التأييد العالية، وهذا من شأنه أن يرسخ معيار القابلية للتأييد، ويعظم من أهميته.
48 ⋆
غير أن بوبر يرى أن القوانين العلمية الكلية لها درجة الاحتمالية صفر؛ لأن هناك تناسبا عكسيا بين المحتوى المعرفي وبين درجة الاحتمال، فالعبارات التحليلية - تحصيلات الحاصل - ذات المحتوى المعرفي صفر، هي وهي فقط ذات درجة الاحتمالية واحد صحيح، أي اليقين، وكلما ارتفعت درجة المحتوى المعرفي، كلما انخفضت درجة الاحتمالية، وقد عبر بوبر عن هذا قائلا: الاحتمالية المنطقية للجملة «س» بالدليل المعطى «ي»، تنقص حينما يزيد المحتوى المعرفي ل «س»،
49
ونظل نسير في هذا المسار التنازلي للاحتمال، حتى نصل إلى النظريات الفيزيائية البحتة أي القوانين الكلية، وهي ذات أعلى درجة من غزارة المحتوى المعرفي، فنجدها ذات أدنى درجة من الاحتمالية أي صفر، أو قريبا من الصفر؛ لذلك فبوبر - كعادته دائما - عكس الاستقرائيين، يرى أن الاحتمالية العالية ليست إطلاقا هدفا من أهداف العلم؛ لأنه - أي بوبر - يؤكد على الطابع الإخباري للعبارات العلمية، العلم يهتم بالنظرية ذات المحتوى المعرفي العالي؛ وبالتالي ذات الاحتمالية المنخفضة، وهو لا يهتم بعبارة درجة احتماليتها عالية، ومحتواها المعرفي غث تافه، لكن يهتم بالفروض الجريئة ذات المحتوى المعرفي الغزير والاحتمالية المنخفضة، ويا حبذا لو كانت صفرا فإنه سيعني أن المحتوى ضخم للغاية.
وقد يبدو هذا تناقضا، فمثلا جيوفيري وارنوك يرى في هذه النظرية الاحتمالية البوبرية تناقضا ظاهريا واضحا، كيف يرى بوبر أن قبول العبارة العلمية ليس في ذات الهوية مع درجة احتماليتها الاحتمال بمعنى حساب إمكانيات الحدوث، كيف يرى بوبر أن صدفه حدوث قانون عام معين، والتي تعطي عددا كبيرا لاحتمالات كثيرة، هو في الواقع صفر؟ هذه النظرية لم تقنع وارنوك، وهو يقول ببساطة: إن الأمر الواقع ليس هكذا.
50
وفضلا عن أن وارنوك لم يفهم بوبر جيدا في أكثر من موضع، أو في كل موضع، وفضلا أيضا عن أنه قال هذا فقط بسبب خضوعه الدوجماطيقي لسلطان الاستقراء، فإن لنا أن نستأنف عرض نظرية بوبر بما هو كفيل بفك هذا التناقض الظاهري؛ إذ إن الاحتمالية العالية لو كانت هدفا للعلم، لأصبح العالم يفضل الاهتمام بتحصيلات الحاصل بينما هدفه هو تقدم العلم، والإضافة إلى محتواه المعرفي، والفلاسفة الاستقرائيون المعتقدون أن العلم يجب أن يهدف إلى الاحتماليات العالية لا يستطيعون التعامل بعدالة مع حقائق من قبيل أن صياغة القوانين الكلية واختبارها هي أهم هدف لمعظم العلماء، وأن قابلية العلم للاختبار البين ذاتي تعتمد على هذه القوانين، أي من الخطر أو من المستحيل احتذاء حذو كارناب في القول بأنها غير ضرورية.
إن درجة تأييد العبارة العلمية وحسب مفهوم بوبر للتأييد؛ تعتمد على قسوة اختباراتها وصمودها أمام هذه الاختبارات؛ أي تعتمد على درجة قابليتها للاختبار، ودرجة القابلية للاختبار بدورها تتناسب تناسبا طرديا مع غزارة المحتوى المعرفي، أي تناسب عكسي مع درجة احتماليتها، إذن طالما نريد درجة عالية من التأييد، فإننا نريد محتوى معرفيا عاليا، أي احتمالية منخفضة.
إذن هناك استحالة منطقية في إقامة معيار التأييد على أساس إدخاله في ذات الهوية مع الاحتمال، الذين لا يرون هذا ويصرون على البحث عن الاحتمالية العالية - كجيوفري وارنوك - مبدؤهم هو: اختر دائما الفرض الأكثر احتمالية، أي الفرض ذا المحتوى الأقل، وأيضا اختر الفرض ذا أعلى درجة من الخاصة المغرضة
Ad Hoc
أي الذي يضم عناصر مغرضة؛ بغية تحقيق الاحتمالية العالية، ولما كان العلماء لا يحبذون الفروض المغرضة، كان هدف الاحتمالية العالية يفضي إلى قاعدة متناقضة، وسننتهي إلى وضع فرض يلائم كل الحقائق المعروفة، ويتجاوزها قليلا قدر الإمكان،
51
أي ستنتهي إلى عبارة لا علمية على الأصالة ويا له من تمييز للعلم. (5) لقد انتهت الوضعية إلى أن جميع القوانين الكلية لها درجة التحقق صفر، كما أوضح كارناب نفسه في أي عالم لا متناه، وحتى في أي عالم مننتاه عدد الأشياء والأحداث فيه واسع، بما يكفي، فإن درجة تحققه لن تتميز عن الصفر، ونظرا لارتباط التأييد بالتحقق، وارتباطه السابق بالاحتمال، فإن القوانين الكلية غير قابلة للتأييد، أي تأييدها صفر.
حاول كارناب مواجهة هذا بتقديم مفهوم جديد أسماه المعدل
qualified ، معدل حال تأييد القانون «ل»، بحيث نصل في النهاية إلى درجة تحقق قريبة من الواحد بدلا من الصفر، وذلك بقياس درجة تأييد القانون بقياس درجة تأييد حالة من حالاته،
52
ولكن لم يذكر كارناب أن هذا المعيار الجديد يجتاز بصفة فعلية أيا من المعايير أو النظريات التي أقامها في حساب الاحتمال، طالما أنه يعنى بالتأييد الاحتمال، وربما لم يكن يستطيع إثبات هذا؛ لأن حال تأييد القانون «ل» بالدليل «د»، هي ببساطة ليست دالة احتمالية من «ل ، د».
53
إن التأييد بهذه الوجهة الاحتمالية، ليس معيارا غير ملائم فحسب بل وإنه خطير، فإذا كان التأييد - الذي هو الاحتمال - صفرا، فإن درجة عقلانية الاعتقاد في قانون مدعم جيدا، لن تختلف تقديريا عن صفر، أو عن درجة عقلانية الاعتقاد في قانون مفند أو حتى في جملة متناقضة ذاتيا
54 (لنلاحظ أنه في فلسفة بوبر درجة عقلانية الاعتقاد في قانون، تعتمد على درجة تأييده، حسب مفهوم بوبر للتأييد).
وإذا أردنا أن نتلافى كل هذا، فلا بد من الاعتراف بأن الوضعية أخذت بتعريف خاطئ للتأييد وأخطأت أكثر حينما جعلته بمعنى الاحتمال أن كارناب لم يحاول أن يوضح أن حالات التأييد التي نتوصل إليها تكون متسقة دائما مع مسار الكشف العلمي، فمثلا لم يحاول توضيح أن كل قانون تم تفنيده له حالات تأييد أقل من حالات تأييد قانون صمد للاختبار.
55
أما فكرة بوبر في أن احتمالية القوانين الكلية صفر، فكونها مناقضة للحس المشترك أو للمألوف، ليس مبررا كافيا لتركها، والوقوع في كل هذا الالتواء في مفهوم الوضعية للتأييد، لم يسعف التواءه وتعثره الشديد كمعيار للعلم.
كل هذا جعلهم هم أنفسهم يتركونه في محاولة وضع معيار جديد هو لغة العلم. (4) نقد لغة العلم (1) أما عن مشروع كارناب لبناء لغة للعلم، فهو في رأي بوبر ليس إلا محاولة أكثر سفسطائية، لكن هجران كارناب للتحقيق وبدائله، وللنظرية التطبيعية في الخلو من المعنى، في سبيل هذه اللغة، تطور على درجة كبيرة من الأهمية ومرغوب،
56
ويبدو أنه مرغوب في نظر بوبر؛ لأنه يمكن من النقد الحاسم، ولأن دلالته الحقيقية هي أنه يحطم مبدأ خلو الميتافيزيقا من المعنى. (2) لكن كان لهذا المشروع مرحلة أولى، هي اللغة الفيزيائية، خلاصة نقد بوبر لها هو كالآتي:
إنها تجعل أية عبارة حول كائنات لا فيزيائية بغير معنى، على هذا فالعبارات التي تصف إحساسات وعواطف لا تدخل في نطاق هذه اللغة فتصبح عبارات جميع الخبرات الذاتية في نفس المستوى المنطقي مع العبارات الميتافيزيقية الثيولوجية، وهذا ليس في صالح اتجاه الوضعية المعادي للثيولوجيا وللميتافيزيقا؛ لأن الميتافيزيقيين والثيولوجيين يسعدهم جدا اعتبار عبارة مثل «الله موجود، والروح موجودة» هي على وجه الدقة في نفس المستوى المنطقي مع عبارة مثل «لدي خبرات واعية» أو «توجد مشاعر مثل الحب والكراهية، متميزة عن الحركات الجسمانية والفيزيائية التي كثيرا - إن لم تكن دائما - ما تصاحبها.»
57
بعبارة أخرى: من المسلم به أن هناك مستويين من الكائنات؛ مستوى فيزيائي ومستوى لافيزيائي، اللغة الفيزيائية تهدف إلى حذف المستوى اللافيزيائي، لكن أحد أوجه هذا المستوى هي العواطف والمشاعر والانفعالات لا سبيل إلى نكرانها، وبالتالي لا سبيل إلى حذف هذا المستوى، فلنضع فيه جميع الكائنات الميتافيزيقية والثيولوجية.
أما عن محاولة رد هذا النقد بالفلسفة السلوكية، وقابلية الرد إليها فهو في رأي بوبر ليس إلا ميتافيزيقيات مادية وقعت في مصائد لغوية،
58
ويمكن توضيح هذا على النحو التالي:
أولا: المدرسة السلوكية في علم النفس، هي مدرسة تنكر أي احتياج للشعور أو اللاشعور، وتفسر السلوك كله في ضوء الأفعال المنعكسة الشرطية؛
59
لهذا فهي ترى أن البحث النفسي والاجتماعي، يعتمد في وصفه وتفسيره على الوقائع الملاحظة؛ وبالتالي على السلوك العادي للموضوعات التي يقوم بدراستها وهم يؤكدون على أن منهجهم يقوم على الخبرة نفسها،
60
بل وإن بعض السلوكيين المتطرفين المعبرين عن السلوكية المختزلة
Reductive Behaviourism
رفضوا وجود ظواهر عقلية على الإطلاق، مبررين هذا بإنكار وجود أي موضوع خاص بعلم النفس وحده، لا يوجد ما يسمى بالوعي أو الشعور، كل ما هنالك سلوك وميول للاستجابة على نحو معين تجاه مثيرات معينة، أما الاختلاف بين ما هو عقلي وما هو فيزيقي فلأن العمليات أو الحالات العقلية أنواع خاصة من العمليات أو الحالات الفيزيقية، وهم يركزون على تطوير النظريات التي تتضمن تعبيرات أو عمليات فيزيائية أو كيميائية أو فسيولوجية ليثبتوا اتجاههم.
وكما هو واضح فالمدرسة السلوكية مادية على الأصالة، وهي بالطبع اتجاه الوضعية بإزاء علم النفس، ولكارناب وهمبل بالذات باع طويل فيها.
والآن فإن ركيزة نقد بوبر للغة الفيزيائية من وجود العواطف والمشاعر كضرورة لوجود مستوى لافيزيائي، يمكن ردها تماما داخل الفلسفة السلوكية فتكون مجرد ردود أفعال سلوكية لمؤثرات بيئية محض فيزيائية، وبذلك يسقط نقد بوبر، والسلوكيون يستطيعون فعلا استبعاد كافة التفسيرات الداخلية ليستبقوا فقط التفسيرات السببية الخارجية القائمة على الملاحظة المباشرة والتجربة المحدودة بإزاء السلوك الخارجي للظاهرة.
لكن بوبر يجيب على هذا الرد بأنه مجرد محاولة لتفسير كائنات ميتافيزيقية تفسيرا ماديا؛ بغية إرضاء مطالب لغوية.
هل أصاب بوبر في هذه الإجابة؟ الواقع لا، والظفر ها هنا للوضعية؛ لأن الاتجاه السلوكي في علم النفس اتجاه قوي، وعليه تعلق كل الآمال في التقدم المنشود لعلم النفس، منذ أن بدأ مع واطسن واستمر مع نيلر ميلر وسبنسر وتولمان وسيكنر وغيرهم وهو قوي؛ لأنه ينزع منزعا وضعيا سائدا في العلوم الإنسانية، التي تحاول أن تجعل من نفسها أفرعا في العلوم الطبيعية بغية تحقيق ما حققه من نجاح؛ لذلك يقال: إن الوضعية المنطقية من الاتجاهات الفكرية المعاصرة التي لها دور في تطوير علم النفس وتقدمه،
61
وذلك بمعنى أنها هي التي دفعت - أو ساعدت على دفعة - في الاتجاه السلوكي.
ولقد استبعد السلوكية الخبرات الداخلية للإنسان، باعتبارها ذاتية خالية من المعنى (منتهى الوضعية)؛ ولذلك تخلصوا من فئة الوعي أو الشعور،
62
حتى إنه يقال عن هذا الاتجاه: إنه يجعل من علم النفس علم نفس بغير نفس.
إنه اتجاه قوي، لا يمكن اعتبار تلك العبارة السابقة من بوبر، والتي قيلت نقدا للفلسفة اللغوية تقويضا أو حتى نقدا له، ويجب أن يعترف بوبر بأن الاتجاه السلوكي فعلا يرد نقده السابق.
على العموم إخفاق بوبر هنا، ليس بالشيء الكثير، فاللغة الفيزيائية أصلا تركها واضعوها، وحاولوا أن يضعوا بدلا منها لغة العلم الموحد. (3) ولغة العلم الموحد مجرد تعميم للغة الفيزيائية، وقد حققت هدف كارناب في الخضوع لقواعد صارمة محددة؛ إذ لا يمكن للغة مثل هذا الخضوع إلا إذا كانت صناعية،
63
لكن هل حققت بهذا الخضوع هدف التمييز؟
قيل: إنه نناقش المعيار ذاته؛ أي اللغة، يجمل بنا أولا أن نناقش أساسها أي جمل البروتوكول، فما الذي قاله بوبر في هذا النقد:
أولا:
فكرة جمل البروتوكول، ليست من ابتداع الوضعية تماما؛ فقد سبق أن نادى بها رايننجر
Reininger ، وكانت نقطة بدايته التساؤل الآتي: أين يقع التناظر أو الاتفاق بين العبارات وبين الوقائع أو الحالات أو الشئون التي تصفها؟ ووصل إلى استنتاج مؤداه أن العبارات يمكن أن تقارن فقط بالعبارات - نفس ما وصل إليه نيوراث وكارناب - وتبعا لرأي رايننجر، فإن التناظر بين العبارة والواقعة ليس إلا تناظر بين عبارات تنتمي إلى مستويات مختلفة من العمومية، فالتناظر بين عبارات من مستوى عمومية عال، ومع عبارات لها نفس المحتوى المعرفي، لكن من مستوى عمومية أقل، ويظل هذا التناظر يتدرج تنازليا في مستويات العمومية حتى نصل في النهاية إلى العبارات المسجلة للخبرة، والتي يطلق عليها رايننجر اسم العبارات العنصرية
Elementary statements .
64
وهي ليست إلا ما أسماه كارناب ونيوراث جمل البروتوكول.
بل وأكثر من هذا فإن رايننجر مثل نيوراث، رفض اعتبار هذه الجمل غير قابلة للتعديل أو النقد، لكن رايننجر أعطانا منهجا لاختبار العبارات العنصرية في حالة الشك فيها، وهو منهج مفاده استنباط نتائجها واختبار هذه النتائج،
65
أما نيوراث فلم يعطنا مثل هذا المنهج، ولا هو أعطانا أية قواعد أو أسس لقبول جمل البروتوكول أو رفضها وبغير القواعد لا يمكن لعملية التمييز أن تتم عموما لم يكن نيوراث مهتما بمشكلة التمييز، وكان طرحه لفكرة «جمل البروتوكول» مخلفا أثريا أو ذكرى باقية لنظرية تقليدية ترى أن العلم التجريبي يبدأ من مدركات الحس (بالطبع يقصد بوبر الاستقراء).
ثانيا:
فكرة جمل البروتوكول ليست إلا النزعة السيكولوجية معبرا عنها بأساليب كارناب، ونيوراث، فعملية إبدال الخبرات الحسية بعبارة دالة على الحس هو مجرد ترجمة النزعة السيكولوجية في النمط الصوري من الحديث،
66
لكن المعرفة الموضوعية علمتنا أن الخبرات الذاتية أو الشعور أو الاقتناع، لا يمكن أن تلعب دورا داخل العلم إلا دور موضوع علم النفس،
67
ولا تجعل جمل البروتوكول مفضلة،
68
فضلا عن اتخاذها أساسا للعلم وتمييزه.
ثالثا:
لا يمكن رد صدق العبارة العلمية، إلى الخبرة الخاصة، النسق العلمي كليا وجزئيا يجب أن يكون موضوعيا، المرور بخبرة ذاتية لا يجدي في تبرير عبارة علمية أو حتى لا علمية، ولن يهتم العلم بأني مقتنع أو غير مقتنع بها حتى إن كان سبب هذا الاقتناع بانطباعات حسية لا يتطرق إليها شك الاقتناع الذاتي، لن يعني العلم إلا إذا أمكن طرحه موضوعيا، أي مؤيدا باجتياز اختبارات نقدية منطقية تجريبية حاسمة، إذن يجب مراعاة الموضوعية في أسس العلم كما نراعيها في كافة مراحله، والجمل التي نتخذها أساسا له، بدورها لا بد وأن تكون قابلة للاختبار البين ذاتي، على هذا لا يمكن أن يوجد في العلم عبارات نهائية غير قابلة للتكذيب من حيث المبدأ ولو عن طريق تكذيب بعض من النتائج التي تلزم عنها؛
69
لذلك وجب استبعاد فكرة جمل البروتوكول الصادقة أبدا.
رابعا:
من ناحية أخرى فقد جعلت جمل البروتوكول لغة العلم ليست منتمية للفيزياء بما فيه الكفاية طالما تفسح مجالا للخبرات الذاتية «تكنس القليل» وأيضا تجعلها منتمية للفيزياء أكثر من اللازم؛ إذ تستبعد افتراضات هي فعلا ميتافيزيقية، لكن لا بد منها للفيزيائي «تكنس الكثير» فأبسط عبارة عن مقياس الجهد الكهربي - وهذا مثال كارناب نفسه - لا تقبل مثل هذا الرد، ومعظم المفاهيم التي يعمل بها الفيزيائيون، مثل مجالات القوى وجسيمات الذرة، لا تقبل أي رد إلى جمل البروتوكول.
خلاصة نقد بوبر السابق لجمل البروتوكول هو:
أولا:
ليست ابتكارا أو إضافة، بل هي تقليد لريننجر وتقليد مبتسر.
ثانيا:
ليس في العلم مجال للخبرات الذاتية أسس العلم مثلة يجب أن تكون موضوعية تماما.
ثالثا:
ليس في العلم عبارات مطلقة أو تعز على التكذيب.
رابعا:
نقد بوبر العام لمعايير الوضعية: هي مكانس تكنس القليل جدا وتكنس الكثير جدا تجعله جمل البروتوكول منطبقا على معيار لغة العلم.
هذا عن نقد أساس اللغة، جمل البروتوكول. (4) أما عن اللغة ذاتها، فيمكن تنظيم خلاصة نقد بوبر لها على النحو التالي:
أولا:
وقبل كل شيء ليس هناك ما يسمى بلغة العلم، كي نشغل أنفسنا ببنائها رمزيا أو غير رمزي، أمثال هذه التجهيزات الفنية الرمزية المعقدة التي تهدف إلى محاولة إيراد صورة أو نسخة مصغرة للعلم، يستحيل أن تفيد أحدا في عملية المعرفة لا العلم ولا الفلسفة ولا حتى الحس المشترك، ليس هناك أي نمط من الاهتمامات العلمية يمكن أن يصاغ في مثل هذه اللغة، هذه جهود لا جدوى منها ولا داعي لها، فضلا عن أن تكون الجهود الفلسفية الوحيدة.
70
ثانيا:
هذه اللغة تحطم نظرية الوضعية التطبيعية في الخلو من المعنى، وبغير أن نترك أي أمل في إعادة بنائه، النقد الذي أبداه بوبر بشأن استعمالهم لنظرية الأنماط المنطقية، يطبقه هنا بوبر بصورة أخرى أكثر حسما؛ لأن البرهان على خلو العبارة ذاتها بصميم طبيعتها من المعنى، كان يجب أن يكون صادقا بالنسبة لكل لغة كافية للعلم التجريبي، الميتافيزيقيون عالمون أن عباراتهم لا تنتمي إلى مجال العلوم التجريبية، فبداهة لن يتخلى أحد عن الميتافيزيقا فقط؛ لأنها لا تصاغ داخل العلم، أو داخل لغة مناسبة للعلم،
71
لتكن الميتافيزيقا خالية من المعنى بالنسبة للغة العلم فهناك لغات أخرى كثيرة يمكن أن تصاغ فيها عبارات الميتافيزيقا بدقة وإحكام، هذا النقد يخرج منه بأن قصارى ما تثبته هذه اللغة هو أن الميتافيزيقا ليست فرعا من العلم التجريبي ويا لها من نتيجة خطيرة!
ثالثا:
الوضعي المنطقي، وعالم الرياضيات البحتة كورت جودل
Kort Gadel
الذي ينتمي مع كارناب إلى مدرسة فريجه في بناء الأنساق، اشتهر بنظريتيه في اللااكتمال
incompleteness theorems
اللتين نال عنهما جائزة آينشتين؛ وهما: النظرية الأولى هي في أي نسق صوري ملائم لنظرية العدد، توجد صياغة غير قابلة للفصل
undecidable
أي صياغة غير قابلة للبرهنة، وأيضا نفيها غير قابل للبرهنة.
ولما كان من الممكن أن نضيف إلى هذا أن تلك الصياغة غير القابلة للفصل قد تكون صادقة، فإن النتيجة اللازمة للنظرية هي أن اتساق النسق الصوري الملائم لنظرية العدد لا يمكن البرهنة عليه داخل النسق نفسه، وتلك هي النظرية الثانية.
72
والآن يتسلح بوبر بأن جودل بواسطة هاتين النظريتين، قد أثبت أن هذه اللغة الموحدة (النسق اللغوي الواحد) لن تكون كافية لوضع جميع تقريرات العلم، وإن كفتهم فلن تكون كافية لصياغة براهينهم، وبواسطة النظرية الثانية بالذات، نثبت أن المناقشة حول اتساق لغة العلم بواسطة اللغة نفسها هي مناقشة بغير معنى ولا جدوى،
73
هكذا دائما لا نجد أي أحاديث فلسفية بغير معنى ولا جدوى إلا أحاديث الوضعيين.
ومن ناحية أخرى، فإن تارسكي - صاحب الكشف العظيم في التمييز بين اللغة الشيئية واللغة البعدية - قد أثبت أن أية لغة كلية واحدة تستحيل، وإلا فستكون متناقضة ظاهريا
؛ إذ كيف يمكن التمييز بين اللغة الشيئية واللغة البعدية، بين لغة العلم ولغة فلسفة العلم، إنها ستكون ملتبسة لا توضح الحدود بينها، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة لما أوضحه بوبر من أن الخلط بين مجالي اللغة الشيئية واللغة البعدية هو أكبر أسباب تعثر فلسفة كارناب، وهو سبب صعوبة كتابه «التركيب المنطقي للغة» كما أن تارسكي يردف قائلا: إن منطقها يقع حتما خارجها، فيضيف بوبر قائلا: ولماذا لا تقع ميتافيزيقاها أيضا خارجها إنها لن تستطيع استيعاب العالم كله، فتغلقه في وجه الميتافيزيقا.
رابعا:
وقد يعترض الوضعيون على كل هذا النقد من بوبر اعتراضا مؤداه أن العلم المصوغ بدقة صارمة لم يكن مقصودا، فكارناب اعتاد أن يتكلم - لا سيما في كتاباته الأخيرة - عن لغة كلية عامة مصطلح عليها
universal
مما يشير إلى أنه لم يكن يفكر في لغة كلية مصوغة بدقة، بوبر يرد على هذا بأنه قول صائب، غير أنه يحطم مرة أخرى صلاحيتها للتمييز؛ وبالتالي مبدأ خلو الميتافيزيقا من المعنى، فإذا لم تكن قواعد لغة العلم الكلية دقيقة صارمة، فإن الحكم بعدم إمكانية التعبير عن الميتافيزيقا فيها حكم جزافي بلا مسوغ يلزمه.
74
خامسا:
بل وإن بوبر سيثبت منطقيا، استحالة أن تميز العلم عن الميتافيزيقا، وها هنا نقد بوبر الذي يستطيع بحق أن يطيح بلغة العلم؛ لأن اللغة الملائمة للعلم يجب أن تحتوي مع كل صياغة محكمة نفيها، ولما كانت بالضرورة تحوي جملا كلية أصبح عليها أن تحوي جملا وجودية، هذا يعني أنها يجب أن تحوي جملا عادة مما يعتبرها كارناب ونيوراث وسائر الوضعيين والمعادين للميتافيزيقا؛ ميتافيزيقية.
75
المنطق يقسم القضايا إلى كلية وجزئية ويعتبر القضايا الكلية لا وجودية ليس من الضروري أن يكون لما صدق موضوع الجملة الكلية وجود حقيقي لكن موضوع القضية الجزئية، يجب أن يكون له ما صدق حقيقي وهي لذلك وجودية.
الآن تبدو الفقرة السابقة لبوبر غامضة، فمن المعروف أن قضايا الميتافيزيقا أقرب إلى الكلية أي اللاوجودية، فكيف باحتواء العلم على عبارات وجودية بالذات تكون محتوية على الميتافيزيقا، إنها تكون كذلك بناء على الآتي:
سيضع بوبر فرضا ميتافيزيقيا، موغلا في الميتافيزيقية هو: «توجد روح مشخصة، قادرة على كل شيء، حاضرة في كل مكان، عالمة بكل أمر.» واضح أنه شبيه إلى حد ما بفكرة الألوهية، لكن بوبر لم يستطع طرح مفهوم آلة الأديان كاملا، فهو يعترف بأن البعد الأخلاقي الخير، لا يمكن فعلا التعبير عنه في الحدود الرمزية للغة العلم.
ثم سيوضح بوبر كيف يمكن أن يبني هذا الفرض كتعبير مصوغ جيدا أي له معنى في لغة العلم فقط يمكن أخذ القضايا الحملية الأربع الآتية بصفة أولية
as primitive : (1)
الشيء «أ» يشغل الموضوع «ب»، أو بدقة أكثر «أ» يشغل موضعا تمثل النقطة «ب» حيزا منه بالرموز «مو «أ»، ب» أي العلاقة مو (موضع) تربط «أ » و«ب». (2)
الشيء «أ»، آلة أو جسم، أو شخص، يمكن أن يضع الشيء «ب» في داخل الموضع «ج» بالرموز، «ضع «أ، ب، ج».» (3) «أ» يتفوه
76 ⋆
ب «ب» بالرموز «تو «أ، ب».» (4) «أ» سؤل عما إذا كان «ب» أم لا بالرموز «سو «أ، ب».»
ونحن نفترض أن لدينا وتحت تصرفنا أسماء لكل التعبيرات على الصورة «مو «أ، ب».» و«ضع «أ، ب، ج».» أيضا للتعبيرات التي سترد فيما بعد لمساعدتها.
توخيا للبساطة سيستعمل بوبر أسماء اقتباسية
Quatation Names
للدلالة عنها، ورغم أن هذا إجراء غير دقيق لا سيما حين تشير المقتبسات إلى متغيرات كثيرة، كما في رقم 14 إلا أنها صعوبة يمكن تخطيها.
والآن فباستعمال 1، 2 يمكن بسهولة تقديم الصياغات الآتية، بمساعدة التعريفات الواضحة (أي التعريفات المنطقية لتلك العبارات).
77 (5) «أ» حاضر في كل مكان أو «ل» «كل مو «1».»
وبمساعدة 3، 4 نطبق منهج كارناب في الرد، ونقدم الجمل الآتية: (6) «أ» قادر على كل شيء أو «ل» «كل ضع «أ».» (7) «أ» يفكر في «ب» أو «فك «أ، ب».»
وكارناب يوصينا بأن نقبل مثل هذا المحمول، وبمساعدة (7) يمكن أن نضع التعريفات الواضحة الآتية: (8) «أ» شخص مفكر أو «ش ف «أ».» (9) «أ» روح مشخصة أو «ش ر «أ».» (10) «أ» يعرف أن «ب» في الموضع «ج» أو «ف مو «أ، ب ج».» (11) «أ» يعرف أن «ب» يستطيع وضع «ج» داخل الموضع «د» أو «ف ضع «أ، ب، ج، د».» (12) «أ» يعرف أن «ب» يفكر في «ج» أو «ف فك «أ، ب، ج».» (13) «أ» لا يسبر غوره (أي لا يعرف: «ف») أو «لا - ف «أ».» (14) «أ» يعرف الواقعة «ب»، أو «ف «أ، ب».» (15) «أ» موثوق «ب» أو «ث «أ».» (16) «أ» عالم بكل أمر أو «كل ف «أ».»
78
على هذا النحو يمكن بمنتهى السهولة وضع صيغ وجودية رمزية محكمة هي ميتافيزيقية على الأصالة داخل لغة العلم (لذلك كان احتواء اللغة للعبارات الوجودية إمكانية لاحتواء عبارات ميتافيزيقية) وليست هناك أية صلة بين أحكام الصياغة اللغوية داخل الحدود الفيزيائية وبين الخاصة العلمية، أين هو المعيار الذي يميز العلم؟ (5) وأكثر من هذا فمن الممكن الإتيان بشواهد تجريبية من الواقع تؤيد ذلك الفرض الميتافيزيقي - هذا إن لم يكن من الممكن تفسير كل واقعة تجريبية على أنها تؤيد السبب أنها عبارة تحصيل حاصل - أي صادقة منطقيا، درجة احتماليتها واحد صحيح (لنتذكر أن بوبر يؤكد أن درجة الاحتمالية لا ترجح النظرية العلمية) أو لا يمكن تمييزها عن الواحد في أي عالم متناه من حجم كاف.
79
إذ إن شواهد تجريبية وخبرات كثيرة يسهل جدا ردها إليها، وهذا يعني أنها ممكنة التحقق ولو بالمعنى الضعيف، أما درء هذا بأن التحقيق هو أسلوب تعيين صدق العبارة فهذا لا يساعد التحققيين،
80
لا سيما إذا نظرنا إلى العبارات العلمية التي لا نستطيع تعيين صدقها كالقوانين العلمية الكلية.
والخبرات التي تحقق هذا الغرض يمكن أيضا أن تؤيده وليس أسهل من اختباره، إذا كان الاختبار يهدف إلى التأييد،
81
إنه ممكن التأييد التجريبي بل وبقيمة عالية جدا لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار مفهوم القابلية للتأييد الأخير، بمعنى الاحتمالية، إن احتماليتها أكثر من احتمالية أي قانون علمي أصيل.
إن هذا الفرض الميتافيزيقي الخبيث الذي وضعه بوبر، لا يسقط لغة العلم فحسب بل وسائر معايير الوضعية لتمييز العلم، إنه الشاهد القوي الساطع على إخفاق المعايير في استبعاد الميتافيزيقا، أي فقدانها لمبرر وجودها. (6) والخلاصة أن لغة العلم لن ترسم سياجا قويا حول العلم يميزه، بل ستبقى من مخلفات مبدأ ميتافيزيقي - هو العلم يبدأ بمعطيات الحس - اعتنقه يوما نيوراث اعتناقا مشوبا بعاطفة شديدة، وكان بالمعية يشهرها كسلاح بتار في الحملة ضد الميتافيزيقا.
82 (7) وفي ختام مواجهة بوبر لصديقه الشخصي وخصمه الفلسفي كارناب بقي تصنيف كارناب الأحاديث إلى النمط المادي (حديث العلم) والنمط الصوري (حديث فلسفة العلم) وفكرته القائلة إن كل الأحاديث يجب أن تكون قابلة للترجمة إلى النمط الصوري كي تكون علمية وذات معنى، بوبر يرفض هذا ببساطة، وقصارى ما يمكن قوله أن النمط الصوري أفضل من النمط المادي وذلك فقط حينما تكون ماهية الفلسفة هي التحليل اللغوي، وهذا ما انتهى دحضه الفصل السابق (جزء رقم 3). (8) على هذا النحو ينزع بوبر معايير الوضعية تماما كي يخلي الطريق أمام التكذيب، غير أنه لم يتعرض لمعيار فتجنشتين المتأخر؛ فقد رآه لا يستحق حتى التعرض أو التفكر، فقد اكتفى بالإشارة إلى أن «بحوث فلسفة» - الذي طرح فيه فتجنشتين هذه المحاولة لتمييز العلم - غاية في الغموض والسخافة، يضايق من يقرؤه لدرجة الرغبة في البكاء،
83
وأنه غث وتافه وأنه - أي بوبر - حتى لا يختلف معه؛ لأنه لا يجد فيه ما يستحق الاتفاق أو الاختلاف!
خاتمة (1) النغمة المسيطرة على هذا الفصل هي احترام وإجلال الميتافيزيقا، وبذل قصارى الجهد للزود عنها وهي في الواقع نغمة مسيطرة على كتابات بوبر بأسرها. (2) والنقد الذي كون هذا الفصل لا يفيد في مشكلة التمييز فحسب، بل ويكمل الفصل السابق في إنجاز مهمة النقد الحاسم للوضعية على أساس الدور العظيم الذي تلعبه معايير التمييز في إقامة صلب المذهب.
وطالما أن النقد حاسم ومحيط بالمادة، فوجب الآن أن نعتبر الوضعية ومعاييرها من شئون الماضي أمرا ذاويا في تاريخ الفلسفة، وهذا هو الأمر الواقع فعلا، لقد انتهت الحركة وسواء بفضل من بوبر أو غيره فلا بد أنها واقعة الرضا العظيم له فبعد القضاء على خرافة الاستقراء كان القضاء على الوضعية المنطقية ولا جدال أعظم آمال بوبر الفلسفية.
والآن فإن مناقشة ما إذا كان بوبر وضعيا أم لا، هي بداهة من نافلة القول السخيف، لكن المشكلة أن كثيرين يصرون على أنه هكذا!
الفصل الرابع
تعقيب
مقدمة (1) الكثيرون عرضوا للوضعية، والأكثر عنوا بنقدها لكن موضوع هذه الدراسة عرضتها من منظور جديد، يعني بأن دعائم المذهب على ممر تطوراته هي معايير لتمييز العلم فهي محاولات لتفريده وقصر المجال عليه، أما عن نقد بوبر، فهو أوفى نقد لها، ولا شك أن الفصلين الثاني والثالث قد أثبتا هذا؛ أن بوبر هو الرائد لكل نقد علمي لها. (2) ولما كان نقد بوبر حاسما، ولما كانت الوضعية المنطقية موضوعا فرعيا وليس الأساس في هذا البحث، فلا مجال لتعقب نقدها الواسع في شتى الدراسات الفلسفية شرقا وغربا ولا حتى بإبداء بعض الملاحظات على الوضعية ومعاييرها للتمييز،
1 ⋆
ويكفي أن نناقش موقف بوبر من هذا، فنصل إلى الخاتمة. (1) تعقيب على موقف بوبر من التحليل اللغوي (1) المنهج التحليلي جعل الوضعيين قادرين على الإحاطة بمشكلاتهم كل على حدة، وكان لفتهم لأهمية البحوث اللغوية إثراء للفلسفة، إنهم إضافة حقيقية للاتجاه التجريبي العتيد، إضافة متطورة في تسلحها بالمنطق الرياضي وحملتهم على الميتافيزيقا - رغم تعنتها - كشفت عن مواطن لبس، ووجهت الفكر نحو موضوعات أكثر واقعية، لكن الوضعية المنطقية أخطأت بلا شك، ونادت بما يستحيل أن يقبله كل حريص على تقدم عنصر العقل من الإنسان، كان بوبر أكثر من رائع في ألا ينساق في تيارها التحليلي العاتي، فضلا عن أن يأخذ على عاتقه مواجهتهم ونقدهم، وأن هذا الموقف النقدي أبرز المواقف التي تؤكد شجاعته الأدبية وأصالته الفكرية، فبينما يقول جيوفري وارنوك: «اعتاد الفلاسفة أن يأخذوا الأمر حسب الموقف الذي وجدوه، وأن يسبحوا باقتناع مع التيار.»
2
فإن بوبر يصر على موقفه النقدي الثابت من الوضعية المنطقية، ويكون بهذا قد وقف وحيدا في مواجهة تيار جامح تماما مثلما وقف في مواجهة عمالقة الفكر أفلاطون وهيجل وماركس في دعواه للمجتمع المفتوح، وكان دائما على مستوى المواجهة، أو يزيد.
3 ⋆
لكن ورغم ذلك يستحيل أن نمر على موقف بوبر منها، بغير التعقيب عليه تعقيبا ناقدا، يوضح أخطاء بوبر، وبغير هذا النقد تكون صحبتنا لبوبر فيلسوف النقد لم تعلمنا الدرس الذي نرومه.
ولكن بادئ ذي بدء، ينبغي أن نضع في الاعتبار أن موقف بوبر المعروف في هذا الباب ينطوي على مواجهتين:
مواجهة مع التيار التحليلي عامة.
مواجهة مع الوضعية المنطقية خاصة.
ولما كان التحليل هو الأصل والوضعية فرعه، وجب أن نناقش موقفه من التحليل، ثم نناقش موقفه من الوضعية ورفضها للميتافيزيقا ومعاييرها في الجزء التالي. (2) لقد وضح أن بوبر يرفض رفضا جذريا - وببساطة - التحليل اللغوي وتحليلات منطق للغة والسبب هو نظريته الوظيفية في اللغة؛ إذ يبغي منها ما يبغيه من مجرد أداة تؤدي وظائف معينة هي الإشارة والتعبير والوصف والجدل، وطالما تمت هذه الوظائف، فلا داعي البتة لما يرومه التحليليون من دقة فوق الحاجة.
وإن كان كلود برنار قد سبق دعوى بوبر وأكد على ألا نهتم أبدا بالألفاظ، بل نهتم فقط بالوقائع، وأوضح أن القيمة الوهمية التي نخلعها على الألفاظ كثيرا ما تخدعنا،
4
فإن هذا لا يمنعنا من الحكم بأن بوبر تجاوز الحدود في مطلبه هذا بتسطيح موقفنا من الدقة اللغوية. كيف لفيلسوف علم، وليس فنان أو شاعر، أن يحارب ابتغاء الدقة بكل هذا الحماس، لو أمكنا اصطناع الدقة الكافية للتعبيرات الفلسفية، لأمكنا أن ندرأ عنها اتهاما طال التصاقه بها وهو «تعبيرات فضفاضة»، وهل ينكر أحد أن كثيرا من المشاكل التي عرقلت التقدم كانت بسبب الاختلاف حول تحديد معنى كلمة معينة، ليس في العلم أو في الفلسفة فحسب، بل وفي المعاهدات السياسية والقوانين، بل وحتى في الحياة الشخصية والاجتماعية تنجم مشاكل كثيرة بسبب الاختلاف حول تحديد المقصود من معنى كلمة معينة.
5 ⋆
والأدهى من ذلك أن بوبر راح يؤزر موقفه بإعطاء الأمثلة من الفيزياء، الدالة على أنها لا تعنى بدقة بدقة المصطلحات، أولا: يمكننا أن نزيد على الأمثلة التي أوردها بوبر أمثلة أخرى أشد نصوعا كالاختلاف الكبير بين الدلالات التي يسميها مصطلح القوى، وغالبيتها لا تملك أبدا أية علاقة بالقوى في معناها الخاص مثلا قوة الحصان ليست قوة، بل قدرة، والقوة الحيوية وقوة التيار، وقوة الضوء أي شدته مثال آخر «ميكانيكا الكم» يدل على علم ليس به أي شيء ميكانيكي، بل ويستحيل ذلك ولا يمكننا أن نأخذ لفظ ميكانيكي إلا بالمعنى المجازي الواسع الفضفاض، كأن نقول: التركيب الميكانيكي للساعة أو الدولة، وهي أيضا ليست فيها أي علاقة بالتكميم بمعنى الكميات.
6
إذن الفيزياء علم دقيق، ولكن مصطلحاته ليست بدقته الصارمة، هذا قول صحيح، لكن الخطأ هو اعتباره حجة على أي شيء، حجة بأن نحتذي هذا الحذو ولا نأبه بأن مفاهيمنا اللغوية غير دقيقة، إنه نوع من التقليد الأعمى، والعبودية لتقدم الفيزياء هل لأنها أكثر تقدما، فيجب أن نحتذي حذوها في حسناتها وأيضا في سيئاتها؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الفيزياء تعوض هذا اللبس في مصطلحاتها باعتمادها أولا وأخيرا على اللغة الرياضية، وهل من شك في أن الدقة الفائقة للرياضة بحكم طابعها التحليلي، من أهم أسباب تقدم الفيزياء ثم إن الفيزيائيين ليسوا حريصين حرص بوبر على هذا الالتباس في المفاهيم والمصطلحات، هم - بلا شك - يرومون التخلص منه.
لقد أعرب بوبر عن تمام تقديره لأهمية الكفاح ضد التسليم الساذج بالمذهب الطبيعي، أي المذهب أو النزعة التعالمية
Scientism
الدالة على التقليد الأعمى لمنهج العلم ولغته،
7
فلعله هنا يقدر كفاحنا ضد هذه الهفوة التعالمية منه. (3) يتمادى بوبر في رفض التحليل اللغوي، لدرجة أنه يقول: يجب أن نتجنب المشاكل اللفظية بأي ثمن
at any cost .
8
هل يدعونا بوبر إلى تجنب المشاكل اللغوية والتحليل، حتى ولو كان في هذا التجنب خسارة نتحملها، هذا التعبير يوحي بأنه يعادي التحليل فقط من أجل العداء.
لكن بوبر أوضح أنه يعادي التحليل ليس من أجل العداء، ولكن لأنه لا يجدي في نمو المعرفة طالما أنه يحلل ما هو كائن ولا يضيف جديدا - كما أوضحنا في الفصل الثاني - لكن لا أعتقد أن بوبر أصاب في هذه الحجة؛ لأن التحليل يساعد على الإيضاح والدقة، وهذا من شأنه أن يساعد على التقدم، أو تمهيد طريق التقدم، هل من الضروري أن يأتي الباحث بنظرية جديدة ويصوغها في جملة محدودة ليكون قد أضاف للمعرفة، غريب حقا أن يتعلق بوبر فقط بهذا الأسلوب المباشر في الإضافة. (4) إن بوبر قد تناقض مع نفسه في الرفض القاطع للتحليل اللغوي جملة وتفصيلا؛ فقد أنكر تحديد منهج معين للبحث الفلسفي، أو مصدر معين للمعرفة، وقال: إن كل المناهج متاحة، وكل المصادر نرحب بها شريطة تعريض نتائجها للنقد، ثم عاد بعد ذلك وأنكر على التحليليين منهجهم اللغوي بالذات، رغم أن نتائجه قابلة للنقد البين-ذاتي؛ أي الموضوعي، كيف ينكره بعد أن أعطى الحق في ممارسة كل منهج، لقد فطن بوبر إلى خطئه هذا، فعاد في فاتحة الترجمة الإنجليزية من كتابه «منطق الكشف العلمي »، التي طرحت بعد عشرين عاما من الأصل الألماني، وقال: إن هذا المنهج اللغوي ممكن شريطة ألا يكون المنهج الوحيد، وبعد أن أنكر أدنى ضرورة للتحليل يعود ليقول في هذه الفاتحة: إن هناك فعلا بعض المفارقات المنطقية في حاجة إلى التحليل ليكشف عنها وأن التحليل قد يكون جزءا من الحل أو يساعد على الحل، لكن ليس الفلسفة كلها، ثم يعود بعد هذه الفاتحة مرة ثانية في سيرته الذاتية لينكر ثانية أدنى ضرورة للتحليل عامة أو للتحليل اللغوي خاصة أنه موقف متذبذب؛ لأنه غير متسق.
ودليل آخر على عدم الاتساق في هذا الموقف، هو:
بعد كل ما رأيناه عن عدائه للتحليلات الفيلولوجية الرامية إلى تحديد المعنى ... نراه كثيرا ما يستغرق هو نفسه، في تحليلات فيلولوجية مريدا بها أن يزيد المعنى وضوحا، في الباب السابق مثلا، رأيناه يدخل في تحليلات فيلولوجية كثيرة منها:
المعرفة بمعناها الذاتي ومعناها الموضوعي.
الأصل الفيلولوجي للفظ اللاتيني
interpretatic
الذي يقابل لفظ
interpret
في الإنجليزية ومدى دقة المقابلة بين اللفظين، وتطور اللفظ ومعناه على مر العصور، أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس، هو فقط الذي يحلل ويدقق في المعنى حين يريد.
حقا أن له موقفا يتسق مع اللامبالاة بمعاني الألفاظ، أي أول كتبه؛ فقد صدر في أوائل الثلاثينيات بعنوان
Logic der forschung
أي منطق البحث العلمي، ثم صدرت ترجمة الإنجليزية بعنوان
Logic Of Scientific discovery
أي منطق الكشف العلمي ليس هناك أي مبرر على الإطلاق لهذا التغيير في العنوان، فما الذي منعه من أن يخرجه في الإنجليزية بعنوان
Logic of Scientific research
أي منطق البحث العلمي، لا سيما وأن اصطلاح «البحث» أصوب بالنسبة لفلسفة بوبر، فهو يرى أن العلم ليس فيه كشوف بل هو محض افتراضات حدسية نبحث عن الأصوب منها، ومصيرها جميعا التكذيب، لقد أبدى بريان ماجي في حديث له مع بوبر دهشته مع هذا التغيير، ولم يعر بوبر هذا أي التفات، مرة أخرى موقفه الرافض بقطع للتحليل اللغوي، متذبذب لأنه غير متسق. (5) إن الاتجاه التحليلي قد ثبتت أركانه وتوطدت أقدامه، وجاء بنتائج لا يستهان بها
9
بل وكاد يثبت أنه من أكثر فروع الفلسفة إثمارا، وأصبح من أهم الفروع في الفلسفة المعاصرة، فقط انحصر النزاع فيما إذا كان هو كل الفلسفة أم بعضها وهو بالقطع بعضها.
فرغم أهمية التحليل فإن الفلسفة لو قصرت عليه لأصيبت بالغثاثة، وفقدت ما يجعلها فلسفة متميزة عن العلم، من حريتها في طرح أي سؤال وفي اتباع أي منهج، وفقدت مكمن روعتها وهو حرية التجول في وديان الفكر، فضلا عن أن الفلسفة بصميم طبيعتها لا تقصر على شيء، من هذه الوجهة - أعني قصر الفلسفة على التحليل - يمكن أن نعطي قيمة كبيرة لنقد بوبر، غير أن التحليل - كما يشهد الأمر الواقع - ليس هو كل الفلسفة المعاصرة هو مجرد تيار من عدة تيارات فيها، علينا أن نجني ثماره، في الوقت الذي نجني فيه ثمار التيارات الأخرى ونظرا لقوة التيار التحليلي، فلا يمكن اعتبار موقف بوبر الرافض له مباشرة تقييما أو حكما يصدر ، بل نعتبره فقط معبرا عن موقفه الشخصي ورأيه الخاص.
وإنا لنعود ونؤكد أن بوبر لا يتخلى أبدا عن قوة موقفه وصلابته؛ فقد قال واتكينز: إن بناة الأنساق الميتافيزيقية الشامخة راح زمانهم، وإن التحليليين يعاب عليهم أنهم يقضون أعمارهم في عمل قد ينتهي إلى أشتات نتائج متفرقة، بغير اتجاه واحد يجمعهم في وجهة نظر عامة، والظفر المعاصر للاتجاه البين بين، بين بناء النسق الكلي، وبين التحليل الجزئي، وهو اتجاه فلاسفة يحيطون بمشاكل متفرقة، كل واحد على حدة، لكن على قدر ما تتشعب المشاكل والأفكار يمكن تمييز اتجاه معين يوصل بين أفكاره الرئيسية في الميادين المختلفة،
10
وواضح أن بوبر - على حد رأي واتكينز - أبرز من يمثلون هذا الاتجاه الظافر، اتجاه البين بين، فهو يعالج مشاكل عدة بنظرة عامة واحدة، هي النظرة النقدية.
أي إن بوبر أقوى في موقفه من موقف التحليليين، لكن خطأ بوبر هو أنه أراد أن يحذف التحليل بأسره من ميدان الفلسفة، وهذا ما لا ينبغي، لقد تطرفت الوضعية في تحليلها حين أرادت قصر الفلسفة عليه، وهذا خطأ، وتطرف بوبر في رفض التحليل أصلا ، وهذا أيضا خطأ معالجة التطرف لا تكون بالتطرف في الاتجاه المضاد، وإلا كانت معالجة الخطأ بالخطيئة. (6) بقيت ملاحظة أخيرة في التعقيب على موقف بوبر من التحليل، وهي أنه اكتفى بالهجوم الضاري على التحليل اللغوي، وتحليلات منطق اللغة، لم يتعرض بما فيه الكفاية للتحليل المنطقي مع إمامة رسل، لم يوضح تقييمه، أو حتى رأيه في الجهاز الرمزي الذي اصطنعه رسل من أجل التحليل المنطقي هل ينطبق عليه رأيه في التحليل اللغوي من أنه لا يضيف جديدا للمعرفة، لم يحدد بوبر موقفه، واكتفى بالتعبيرات المتناثرة هنا وهناك، التي تحمل أعظم آيات الإجلال لرسل، والاعتراف بأن فضله عليه وعلى الفلاسفة المعاصرين عموما أعظم من أي فيلسوف آخر، وبصفة عامة، فإن الانطباع الذي تتركه مناقشات بوبر للتحليل هو أنه شديد الكراهية لفتجنشتين ووضعيته، شديد الإعجاب برسل، ومن ذا الذي لا يعجب برسل، شيخ فلاسفة العصر بغير منازع! وأعظم عقلية أنجبها القرن العشرين. (7) في هذا الجزء من الفصل ناقشنا موقف بوبر من التحليل، وهو يضم نقده لمنحى الوضعية التحليلي واللغوي معا، باعتبار الثانية مندرجة في الأولى. (2) تعقيب على نقد بوبر لموقف الوضعية من الميتافيزيقا ولمعاييرها (1) بقي فقط مناقشة نقد بوبر لموقفهم من الميتافيزيقا، ولمعاييرهم في التمييز، ويمكن اعتبار الموقفين - رفض الميتافيزيقا والمعايير - وجهين لعملة واحدة، طالما أن الغرض الأساسي للمعايير هو استبعاد الميتافيزيقا. (2) وكما رأينا، فقد لاقى موقفهم من الميتافيزيقا نقدا شاملا من بوبر، أجمل ما فيه أنه جاء من عالم وفيلسوف علم، والحق أن هذا النقد من أقوى مواقف بوبر، ومن أكثرها إذكاء له في عالم التفلسف، أساس هذا الموقف هو أن بوبر شديد الاحترام للميتافيزيقا، بينما الوضعيون شديدو الاحتقار لها، السبب في هذا الموقف المتناقض - رغم أن كليهما فيلسوف علم - هو أن معرفة الوضعيين بالميتافيزيقا سطحية، فهم شديدو الجهل بها والناس دائما أعداء لما جهلوا، بينما بوبر واسع العلم بها، أعماله - لا سيما المجتمع المفتوح - تثير دهشة المتخصصين من سعة علمه بدقائق تاريخ الفلسفة، علمه الواسع بالميتافيزيقا، هو الذي مكنه من أن ينزلها حق منزلتها؛ إذ لا يعرف الفضل بين الناس إلا ذووه.
كان بوبر رائعا قويا متمكنا، على تمام الاتساق مع نظريته في وحدة المعرفة ووحدة أسلوبها، وهو يشهر في وجه الوضعيين حجة أن الميتافيزيقا تمهد للعلم وفي اعتبار الجهود المعرفية كلها حلقات في سلسلة واحدة، لقد قال جوزيف أجاسي معقبا على هذا الرأي من بوبر: إن النظريات الميتافيزيقية هي وجهات للنظر حول طبائع الأشياء تماما كما كانت نظرية فاراداي عن الكون كمجال للقوى، وإن الفارق الوحيد بين طبيعتي هاتين النظريتين، هو أن النظريات العلمية - كما يرى بوبر - قابلة للتكذيب بينما النظريات الميتافيزيقية غير قابلة له، وكما أوضح أجاسي
11
أيضا فإن النظريات بل والحقائق العلمية، تفسر من وجهات نظر ميتافيزيقية مختلفة، وهو ينوه بهذا إلى رأي بوبر السابق من أن النسق العلمي يحوي بالضرورة عناصر ميتافيزيقية، ولقد اعتاد أجاسي الامتعاض من العداءة التي اعتاد معلمو الفيزياء على أن يظهروها للميتافيزيقا، باعتبارها فيزياء العصور الغابرة، أما هو فيمجد بعض الميتافيزيقا على أنها فيزياء المستقبل.
لكن كون الميتافيزيقا ضرورة لتمهيدات العلم، ليست بدعة أو كشفا توصل إليه بوبر، ليؤيده شارحه جوزيف أجاسي، بل هو حقيقة تاريخية ثابتة ومعروفة
12 ⋆
البدعة هي أن ينكرها أو يجهلها الوضعيون. (3) أما عن نقد بوبر لمعايير التمييز، فقد كان غاية في القوة والمضاء، لم يخب أبدا إلا حين نقد اللغة الفيزيائية، كما أوضحت آنفا.
لكن اللغة نفسها لم تستقم، وهي تحمل أعظم مآسي الوضعية، أعني حين قال كارناب - وهو التجريبي العتيد - بالأنا وحدية المنهجية
Solpsism ، فمن المعروف أن هذه الأنا وحدية المنهجية «معلم مميز للمثالية المتطرفة المغرقة»،
13
على العموم فإن هذه اللغة قد انحلت إلى لغة العلم، التي وجدت من بوبر أقوى نقد، والأكثر حسما وأهمية، خصوصا وأنها آخر مراحل محاولات دائرة فيينا لتمييز العلم، نقد بوبر المحاولات لا يترك مجالا لمناقشة أو تعقيب، إنه ببساطة أثبت استحالة أن تكون، استحالة أن تميز علما أو حتى تستبعد ميتافيزيقا.
وأجمل ما في هذا النقد أنه متسق تمام الاتساق مع فلسفة بوبر ذاتها مع أهمية النقد وأسلوبه الجزئي مع رفض الاستقراء، مع العقلانية النقدية، نظريته في منطق الاحتمال واعتباره للميتافيزيقا، وهو مع هذا نقد موضوعي خالص، يقبله كل باحث عن التقييم المنطقي لهذه المحاولات، سواء اتفق مع فلسفة بوبر أم اختلف معها باستثناءات بسيطة، مثل الأوجه المتعلقة برفض الاستقراء وتوضيح الاستحالة النظرية للتحقق، تبعا لنظريته هو.
والأجمل والأكثر اتساقا أن معيار التكذيب سيتلافى كل هذه الانتقادات المطروحة في الفصل الثالث تماما كما تلافت فلسفة بوبر كل الانتقادات المطروحة في الفصل الثاني، وفي هذا الاتساق إحراز لنقطة هامة في صالح بوبر لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن تناقض الوضعيين مع أنفسهم ودوراناتهم المنطقية من أبرز عوامل انهيارهم.
لكن من الملاحظ أن بوبر في سياق نقد التحقق، قد أوضح استحالة أن تكون الخبرة الحسية بالذات مصدرا للمعرفة (كما حاول إثبات هذا في رفض الاستقراء) هذا بعد أن سمح بكل المصادر على الإطلاق شريطة تعريض نتائجها للنقد، فلماذا يضطهد بوبر مصدر الخبرة الحسية بالذات لا سيما وأن نتائجها قابلة للنقد، أغضب هذا الاضطهاد بول برنايز، ورأى أن بوبر فيه يناقض نفسه، ويناقض نصحه الدائم بالتواضع المعرفي، وعدم احتقار أي مرحلة أو نمط معرفي، حتى ولو كان خرافة أو أسطورة
14
فلتكن معطيات الحس التحققية ليست معرفة مباشرة، وليس هناك معبر منطقي من المدركات الحسية إلى العبارات لكن هذا لا يحول بيننا وبين التعلم من الخبرة، وتعلم استعمال اللغة، فلماذا يتمادى بوبر في إنكار أي وجود للخبرات الحسية التحقيقية، بوصفها مصادر ترد إليها المعرفة، أو العبارة إذا كانت علمية؟
15
الواقع أن بوبر لم يضطهد مصدر الخبرة ولم يحتقره كما تصور بوبر بيرنايز، لكن الفكرة أن فلسفة بوبر - كما أوضح الباب السابق - تعني أن هناك استحالة في تلقي معطيات الحس بذهن خالص، التوقعات الفطرية والافتراضات السابقة، تعني استحالة التحقق كما يرومها الوضعيون؛ لذلك يستحيل أن تكون المعرفة مجرد تسجيل للحس كما يهدف التحقق، تماما كما يستحيل أن تكون مجرد تسجيل للخرافة أو الفروض أو أي مصدر آخر من مصادر المعرفة.
خاتمة (1) لقد كان بوبر أكثر من رائع وهو يرفض مجاراتهم، رغم ما أوضحه تمهيد هذا الباب من عوامل شكلية وموضوعية، كان من شأنها أن تلقي به في قلب التيار التحليلي عامة والوضعي خاصة.
الانحياز لطرف بوبر تؤيده أقوى الدعامات وأمتنها والتي تعز حتى على النقاش، ألا وهي شهادة الواقع والتاريخ، شهدت الأيام بأن فلسفة الوضعيين رغم تطرفهم ووضوح الرؤية أمامهم، وتمسكهم الراسخ بمبادئهم، ورغم أنهم من أساطين العلم والمنطق ... رغم كل هذا لم يستطع المذهب الصمود، وبعد عقود قليلة من السنين كانت محاولات إنقاذ المذهب وتكييفها وتعديلها، تأدت بهم إلى تناقضات، أو إلى الانتهاء إلى مبادئ تناقض الأصل الذي بدءوا منه، باختصار انتهوا إلى اضمحلال المذهب وتفككه، أو على أحسن الفروض إلى ذوبانه في التيارات التحليلية الأخرى، فكان عمره حقا قصيرا إذا ما قيس بالعمر المعهود للمذاهب الفلسفية حينما تكون شامخة. (2) لقد تعرضت الوضعية للنقد المتحامل أكثر من أي مذهب آخر، لكن نقد بوبر بالذات له منزلة خاصة؛ لأنه شاهد من أهلهم، فهو مثلهم يألف الفيزياء والرياضة على دراية واسعة، بتقدم العلوم الطبيعية فقط اختلف عنهم في سعة إلمامه بالفلسفة الخالصة والميتافيزيقا، وهذا جعل نقده متبصرا بالمذهب وأسسه ومعاييره، داعيا لأهدافه ومراميه، متقنا لأساليبه المنطقية والفنية والعلمية، ومن ناحية أخرى سد الطريق على الوضعية لاتهامه بالتأخر والجهل بالعلم، كما تتهم كل ناقد لها يحترم الميتافيزيقا. (3) ولكن رغم ثقل وخطورة نقد بوبر فإني لا أوافق على الاحتمال الذي يرجحه من أن يكون هو المسئول عن القضاء على حركة الوضعية المنطقية، لا هو ولا أي ناقد آخر، بل أعتقد أن السبب الذي عجل باضمحلال المذهب، إنما يكمن في الصعوبات التي بدت في صميمه، في التناقضات التي انطوت عليها أفكارهم نفسها، وفي تقدم العلوم الفيزيائية البحتة في الاتجاه التجريدي، وسيرها في المسار الاستنباطي. في الفيزياء المعاصرة اتجاهان: الفيزياء التجريبية، وأعظم أعلامها مندليف ورذرفورد وبيير وماري كوري، والفيزياء البحتة وأعظم أعلامها، هو أعظم الأعلام طرا: آينشتين وماكس بلانك ولويس دي بروي، والآن الغلبة للاتجاه الاستنباطي البحت، ولا يعتمد العالم فيه كثيرا على المعمل، إن لم يكن لا يدخله؛ فقد قيل عن آينشتين: إنه لم يجر في حياته تجربة واحدة لكي يصل إلى النظرية النسبية، وكانت معظم جهوده الفيزيائية على الورق، حيث يجري معادلاته، كل هذا أدى إلى استحالة قيام فلسفة علمية على أساس من معطيات الحس المباشر، أي التحقق وسائر تعديلاته، من معايير تميز العلم على هذا الأساس. (4) على أية حال لا بد أن ينتهي المطاف إلى الإقرار بأن محاولات الوضعية لم تحل المشكلة المطروحة للبحث، لقد اضمحل التحقق من تلقاء نفسه، حين حاول أن يقاوم الاحتضار متخذا صورا أخرى كالقابلية للاختبار والتأييد أو لغة العلم، لم تكن أقل منه إخفاقا، ثم كانت الطامة الكبرى أن يتنكر فتجنشتين للتحقق وهو المعيار الأساسي، ثم جاء نقد بوبر حاسما باتا. (5) معيار القابلية للتكذيب بلا جدال أقوى وأصوب وأمتن منطقيا وفلسفيا وعلميا، بما لا يقارن بهذا التحقق، ولا ينبغي أن نأخذ في الاعتبار ما يتمتع به التحقق من شهرة فلسفية لم تحزها إلا أفكار قلائل في القرن العشرين، فهو لم يحز في هذا معشار ما حازه الاستقراء، ومتى كانت الشهرة معينا على التقويم
16 ⋆
كم من الأفكار الغثة السطحية؛ وبالتالي الخاطئة راجت رواجا، والسبب واضح هو أنها مستطيعة إرضاء الغالبية العظمى وهم ذوو العقول السطحية وكم من الأفكار الثرية ظلت حبيسة، والسبب أيضا أنها استعصت على فهم العوام فجافت ميولهم ولم تجد لنفسها سوقا، لا يعني هذا طبعا أن معيار التحقق تافه أرضى عقول الوضعية الساذجة، بالطبع كلا، قصارى ما أعنيه أن الشهرة ليست معينا على التقويم وأن كون التحقق ذائع الصيت، وأن التكذيب لا تدري به الأغلبية فإن هذا لا يعني شيئا، ولا ينفي أن التكذيب أصوب ألف مرة من التحقق وبالتالي من الاستقراء، وأنه أفضل محاولة وضعت حتى الآن لتمييز المعرفة العلمية، ولماذا لا ندع معيار القابلية للتكذيب يتحدث عن نفسه
17 ⋆
فنخصص له الباب القادم بأسره؟
الباب الثالث
معيار القابلية للتكذيب
تمهيد
إيجاد معيار مقبول، يجب أن يكون المهمة الحاسمة لكل إبستمولوجي لا يقبل المنطق الاستقرائي.
1 (1) ها نحن ذا قد وصلنا إلى بيت القصيد من هذه الدراسة: المعيار الذي وضعه بوبر لتمييز المعرفة العلمية التجريبية، أي معيار التكذيب، أو بدقة أكثر: معيار القابلية لإثبات الكذب، ولما كان هذا المعيار هو صلب فلسفة بوبر، فقد تناثر الحديث عنه في ثنايا البحث، مما يساعدنا أكثر على أن نعرضه في هذا الباب بصورة واضحة متكاملة. (2) فقد انتهينا حتى الآن إلى الآتي: ليس هناك استقراء من أي نوع كان، لا منطقي ولا سيكولوجي ولا براجماتي؛ لذلك فالحكم بأن العبارة علمية يستحيل أن يستند على أنها قائمة على عدد كبير جدا من الملاحظات، أو على كونها آتية من الخبرة، فضلا عن أن أصل النظرية ومن أين أتت لا ينبغي أن يعنينا كثيرا، بل إطلاقا.
وإن معايير الوضعية واقعة في تناقضات ومصاعب، جعلتها غاية في الخلخلة والاهتراء؛ بحيث إنها لا تميز شيئا، وكانت نتيجة مناقشة كل طور من أطوار معايير الوضعيين، هي أننا نبقى في فوضى معرفية في كنف معيار للتمييز لا مبرر لإقامته.
ولكننا انتهينا أيضا - في مناقشة الوضعيين - إلى التباس حدود الميتافيزيقا بالعلم، فحقا أنها طوال تاريخها تقود تقدم العلم، إلا أنها ليست علما بالطبع، واختلاطها بالعلم دون حدود أو معايير، يمثل خطرا معرفيا بالإضافة إلى ما هو أهم ألا وهو العلوم الزائفة التي تدعي القدرة على الإخبار عن الواقع في حين أنها ليست كذلك.
وكما أوضحت مقدمة البحث، كانت العلوم الزائفة هي الشرارة التي فجرت مشكلة التمييز في ذهن بوبر، والتي من أجلها أساسا بحث عن معيار لتمييز العلم، والتي من أجلها أيضا توصل إلى أنه القابلية للتكذيب، وكان الصخب العلمي الذي ملأ أجواء النمسا إبان شباب بوبر حول القدرات المعرفية لنظريات فرويد وأدلر وماركس وآينشتين، في حين أن نظرة بوبر العلمية الفلسفية العميقة تؤكد له أنها ليست سواء في المنزلة أو حتى في السمة العلمية، كان هذا هو الذي أكد له أن المهمة الأولى لمنطق المعرفة هي أن يقدم محاولة لتمييز العلم التجريبي تحكم استعمال هذا المصطلح، «محاولة لرسم خط بأفضل الطرق المستطاعة بين عبارات أو اتساق عبارات العلم الطبيعي، وبين سائر العبارات الأخرى سواء كانت دينية أو ميتافيزيقية أو عبارات علوم زائفة.»
2
أو تحصيلات حاصل، فلنلاحظ أن بوبر - مثل الوضعيين ومثل غالبية المناطقة المعاصرين - يأخذ بالنتيجة العظيمة التي انتهت إليها المدرسة المنطقية في فلسفة الرياضة بزعامة رسل ووايتهد، وهي الطابع التحليلي، التحصيل حاصل لقضايا المنطق الرياضية، أي الانتهاء إلى أنها لا تخبر بشيء البتة عن الواقع.
فالمعيار هو اقتراح مبدأ إذا خضع له نسق من الأفكار اعتبرناه علما تجريبيا طبيعيا أي يعطينا أخبارا ومحتوى معرفيا، وقوة شارحة عن العالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نعيش فيه، دونا عن سائر العوالم الممكنة منطقيا، وهي فئة لا متناهية، ومن الناحية الأخرى ترومه نسقا تجريبيا، يمثل عالما غير متناقض، أي عالما محتملا منطقيا، لا يكون ميتافيزيقيا، بل وممثلا لعالم الخبرة الممكنة: العالم التجريبي الواقعي.
3
وبوبر يزعم أن القابلية للتكذيب هي المعيار الذي يميز كل هذا، والذي يفرد نسق العلم التجريبي عن سائر الأنساق المعرفية الأخرى، مهما كانت صورتها المنطقية.
هذا الباب سيعرض لزعم بوبر هذا: معيار القابلية للتكذيب، يعرض الفصل الأول ماهية هذا المعيار أو كيف يمكن إجراؤه ونتائج هذا الإجراء، وأيضا محاولة التخلص منه أو التحصين من التكذيب، في الفصل الثاني نناقش أسس هذا المعيار التجريبية، وفي الفصل الثالث نتعرض لتفاوت منزلة النظريات، أي درجات قابليتها للتكذيب، أما الفصل الرابع فهو لتطبيقات المعيار، وننهي الحديث بتعقيب هو مناقشة لمعيار التكذيب وفلسفة بوبر التكذيبية.
الفصل الأول
معيار القابلية للتكذيب
معيار القابلية للتكذيب هو حل مشكلة التمييز هذه فهو يقول إن العبارات أو أنساق العبارات لكي تحوز السمة العلمية لا بد وأن تكون قادرة على الدخول في صراع مع ملاحظات محتملة أو معقولة.
1 (1) معيار القابلية للتكذيب وكيف يميز العلم (1) لقد أوضح بوبر أن النظريات العلمية فروض، قد تأتي بأية طريقة، مثلما تأتي الفكرة الفنية أو الخرافة أو الأسطورة بأية طريقة ، لكن ما يميز العلم عن أي نشاط عقلي آخر هو قابليته المستمرة للتكذيب بواسطة الخبرة التجريبية؛ إذ تعطينا العبارة معلومات عن العالم التجريبي الذي نحيا فيه، أي تكون علمية، فقط إذا كان من الممكن أن تتصادم مع الخبرة، فالفكرة آتية أساسا من عبقرية الدماغ العلمي المستعينة بالحصيلة المعرفية، لكن «ليس هناك علم إلا إذا قام تكامل بين الفكرة والواقع، ذلك التوافق الذي لا ينتهك بين اليد والدماغ ذلك التكامل المفروض والمحقق بمقابلة دائمة بين النظرية ومحاضر الملاحظة الحسية بالمقارنة والتقريب المتماديين في الدقة، بتفصيل كل إعلام للفرضية وتفصيل كل نتيجة للتجربة.»
2
ويؤكد بوبر أن هذه المقارنة والمقابلة هي إمكانية الإخضاع لاختبارات نسقية منهجية قد تؤدي في النهاية إلى التفنيد، فالخضوع للاختبار وإمكانية التفنيد التجريبي - أي التكذيب - هو ما يميز الصورة المنطقية للقضية العلمية عن بقية الصور المنطقية لسائر القضايا التركيبية، أي التي تتخذ الشكل المنطقي: «أ هي ب».
3
إن القابلية للتكذيب هي المعيار الذي يحدد مفهوم العلم التجريبي الطبيعي، أي العلم الذي يعطينا مضمونا إخباريا ومحتوى معرفيا وقوة شارحة عن العالم التجريبي الواحد والوحيد، فتعتمد الخاصية العلمية للقضية على إمكانية إثبات كذبها بواسطة أدلة تجريبية من وقائع الحس الملاحظة، أي الإمكانية التجريبية، وليس فقط الإمكانية المنطقية «إذ إن المحاكمة العلمية لا تفترض إمكانية الملاحظة فحسب، بل وإنجازها أيضا.» على هذا يمكن تمييز العلم التجريبي بأن «العبارة العلمية على قدر ما تتحدث عن الواقع فإنها يجب أن تكون قابلة للتكذيب، وعلى قدر ما لا يمكن تكذيبها، فإنها لا تتحدث عن الواقع.»
4 (2) وقد يثير هذا الاتجاه نحو التكذيب اضطرابا لأنه مخالف للمألوف،
5 ⋆ «غير أن النظرة المتروية توضح أن الكذب حقا جريمة خلقية مستهجنة، لكنه من الناحية الأخرى منجز حديث جدا من منجزات الإنسان، وهو الذي جعل اللغة على ما هي عليه، أي أداة للتقرير الخاطئ كما هي أداة للتقرير السليم.»
6
لكن عبارات العلم التجريبي هي فقط التي يمكن إثبات كذبها؛ لأنها تتحدث عن الواقع الذي يمكن الرجوع إليه ومقارنتها به؛ لذلك فهي في موقف حرج حساس؛ مما جعل بوبر في فصل «منهج العلم» يلح على مطلب الجرأة؛ فالجرأة هي فقط التي تمكن من اقتحام المجهول واكتشاف الجديد، فالحقيقة ليست ظاهرة كما تدعي العقلانية الكلاسيكية، بل هي تكمن خلف ما يبدو لنا من العالم، ولعلها ذات طبقات عدة، الطبقة الخارجية النهائية هي المظاهر البادية، وما يفعله العالم العظيم هو أن يخمن بجرأة يحدس بإقدام، كيف تكون هذه الحقائق الداخلية، ويمكن أن تقاس درجة الجرأة بقياس مدى البعد بين العالم البادي وبين الحقيقة المفترضة حدسا، أرسطارخوس وكوبرنيقوس عالمان عظيمان؛ لأنهما افترضا أن الشمس هي مركز الكون، في حين أن المظهر البادي يقول: إنها قابعة فقط في سماء الأرض.
غير أن ثمة نوعا آخر من الجرأة لا يتعمق بل هو متعلق بالمظاهر البادية؛ إنه جرأة التنبؤ؛ فالتنبؤ هو هدف العلم المقدس، ويحدد بوبر مهمة عالم العلوم الطبيعية بأنها البحث عن القوانين التي تمكنه من استنباط التنبؤات،
7
فالفرض الشارح لا بد وأن يتنبأ بأوجه معينة من العالم البادي، هذا النوع من الجرأة هو الأهم وهو ما يميز الفرض العلمي بالذات،
8
فالفرض الميتافيزيقي يمكنه أن يحقق الجرأة بالمعنى الأول، يمكنه أن يحدس الحقيقة الكامنة التي لا تبدو للعيان، لكن لا يمكنه أن يحقق الجرأة بالمعنى الثاني، لا يمكن للفرض الميتافيزيقي أن يتنبأ بوقائع تجريبية ستحدث أمامنا في العالم التجريبي وقابلة للملاحظة، إنه لو فعل هذا لتعرض لمخاطرة كبيرة، مخاطرة الاختبار والتفنيد، مخاطرة التصادم مع الخبرة، إنها مخاطرة لا يقوى عليها إلا العلم؛ لذلك نكشف كل يوم أخطاء بعض من نظرياته فنتركها ونصل إلى الأفضل، بفضل إمكانية التكذيب كان العلم هو البحث الدائم التقدم، فإمكانية تكذيب العبارات العلمية هي قابليتها الشديدة للنقد والمراجعة لأن تترك وتحل محلها عبارات أفضل.
ومن هنا اقترح بوبر أن تكون الجرأة من النوع الثاني، والبعد المنهجي الذي يقابلها، أي الاستعداد للبحث عن الاختبارات والتفنيدات هو ما يميز العلم التجريبي عن اللاعلم، خصوصا عن الأساطير والميتافيزيقات في مرحلة ما قبل العلم.
9
البعد المنطقي والبعد المنهجي هما وجها عملة التكذيب الواحدة، حيث إن القابلية للتكذيب هي ذاتها القابلية للاختبار،
10 ⋆
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي: «ما يميز الفيزياء التي يقدمها أفلاطون في محاورة «طيماوس» من الفيزياء الحديثة، أن أفلاطون يطلق الفروض في تفسيره للظواهر، وتحديد العناصر الأولية، وبيان الحركات السماوية، دون أن يمتحن صحة هذه الفروض بالتجارب والملاحظات.»
11
إن أفلاطون لا يختبر فروضه، أي لا يحاول تكذيبها، ولا هي قابلة للتكذيب؛ لأنها ليست علما. (3) المعيار إذن هو إمكانية للتكذيب، أي التفنيد والنفي، وليس إمكانية التحقق أي الإثبات فمثلا العبارة: «غدا سوف تمطر السماء شمال الوجه البحري.» عبارة علمية تجريبية؛ لأن الخبرة الآتية في الغد يمكن أن تكذبها،
12
يمكن أن تشرق الشمس غدا شمال الوجه البحري ولا تمطر السماء، فتدلنا الخبرة التجريبية على أن هذه العبارة كاذبة، إنها لذلك - وليس لإمكانية تحققها - علمية فحقا أن الخبرة الآتية في الغد قد تدلنا على أن السماء تمطر شمال الوجه البحري، وأن العبارة صادقة، غير أن هذا لا يجعلها علمية، أو بمعنى أدق ليس هو المحك الذي نعتمد عليه في اعتبارها علمية، رغم أنه يجعلها صادقة، إنما ذلك المحك هو قابلية التكذيب القائمة فيها على أية حال.
تمسك بوبر بالتكذيب جعله يتفادى كل مشاكل التحقق، فينجح في هدفه الأساسي وهو التمييز بين قضايا العلوم التجريبية الحقيقية سواء كانت صادقة أو كاذبة، وبين قضايا العلوم الزائفة مهما كانت صادقة، وبعد أن يميز بوبر العلم سيعالج منطقه معالجة تكفل له السير قدما نحو الاقتراب من الصدق أكثر وأكثر.
13 ⋆ (4) أما الذي يجعل القابلية للتكذيب معيارا تجريبيا قادرا على تمييز العلم التجريبي؛ فذلك لأنه يرسو على أسس تجريبية، هي العبارات الأساسية
basic statements
وهي عبارات تجريبية مفردة لها الصورة المنطقية للعبارات الموجودة المحددة، أو بتعبير تارسكي
14 ⋆
القضايا ذات الطابع الوجودي
existential character
التي تقرر وجود أشياء معينة متصفة بصفة معينة.
15
أي وجود شيء معين في زمان معين ومكان معين فتشير علانية إلى موضوع مادي يمكن ملاحظته مما يجعل من الممكن مباشرة إثباتها أو إنكارها على أنها إما صادقة أو كاذبة، وهذه العبارات مدموغة بالخبرة الحسية، إلا أنها لا تصف هذه الخبرة،
16
تبعا لفلسفة بوبر التي تثبت استحالة تدخل الحس الخالص في المعرفة.
أما العبارات الوجودية غير المحددة مثل «هناك «س» في مكان ما من زمان ما.» فهي تبعا لمعيار القابلية للتكذيب، لا يمكن أبدا أن تكون في حد ذاتها علما، هي لا علم؛ ذلك لأنها لا يمكن أن تخبر بشيء ما لم تنسب إليها الشروط التي تحددها، أي التي تجعلها وجودية محددة على الرغم من إمكانية اشتقاقها من قضايا كلية علمية قابلة للتكذيب، إلا أنها ليست من فئة العبارات الأساسية؛ لأنها ليست محددة تفتقر إلى الصورة السابقة المشروطة لعبارات الملاحظة.
وطالما أن العبارة الأساسية لها صورة العبارة الوجودية المحددة فهي إذن عبارة خصوصية
particular statement
عن واقعة خصوصية
particular fact ، وهذه العبارات تمثل عمود التكذيب الفقري ودماءه، وهي التي خولت له إمكانياته، وهي - وهي فقط - التي جعلته قادرا على تمييز العلم التجريبي، ولولاها لما تميز التكذيب عن أية فكرة منطقية كأفكار هيجل مثلا.
فلنفترض أننا فتتنا العالم التجريبي على طريقة برتراند رسل إلى أقصى درجة ممكنة، أي إلى عدد لا نهائي من الأحداث، كل حادث واقع في آن معين من الزمان ونقطة معينة من المكان، جماع هذه الأحداث هو العالم التجريبي، ولنضع لكل حدث جملة تنقله، بتعبير رسل: جملة ذرية ... هذه الجمل الذرية وارتباطاتها معا هي العبارات الأساسية، إنها نسق من جميع العبارات الممكن تصورها عن الواقع، المفردة والمتسقة ذاتيا، والتي لها صورة منطقية معينة «صورة العبارة الوجودية المفردة» لذلك سيحتوي نسق العبارات الأساسية على عبارات كثيرة ليس بينها توافق متبادل
incompatible ،
17
إذ إنها تعبر عن الوقائع التجريبية أي الممكنة، التي قد تحدث وقد لا تحدث.
ونظريات العالم الطبيعي؛ أي محاولات الكشف عن القوانين التي تحكم العالم التجريبي، هي محاولات رسم حدود وفواصل بين هذه العبارات الأساسية، حدود تحدد الممكن الذي سوف يحدث وسوف نلقاه في خبراتنا، وتمنع ما خارجها من الحدوث؛ لذلك يقول بوبر: إن إمكانية التكذيب هي إمكانية الدخول في علاقات منطقية مع عبارات أساسية محتملة؛ أي من فئة كل العبارات الأساسية الممكنة، وإن هذا لهو المطلب الجوهري والأساسي؛ لأنه متعلق بالصورة المنطقية للفرض؛
18
كي يكون علميا.
لذلك يكون التعبير المنطقي عن قابلية التكذيب هو: تكون النظرية قابلة للتكذيب؛ أي عملية، إذا كانت تقسم فئة كل العبارات الأساسية المحتملة تقسيما واضحا إلى الفئتين الفرعيتين
sub-classes
اللافارغتين:
فئة كل العبارات الأساسية التي لا تتسق النظرية معها، أي التي تستبعدها وتمنعها، فإن حدثت أصبحت النظرية كاذبة، وهذه هي فئة المكذبات المحتملة للنظرية.
فئة كل العبارات الأساسية التي تتسق النظرية معها؛ أي لا تناقضها وهي العبارات التي تسمح بها النظرية.
والخطورة والتعويل في السمة العلمية على الفئة الأولى، بحيث يمكن تلخيص هذا كالآتي، تكون النظرية قابلة للتكذيب إذا كانت فئة مكذباتها المحتملة ليست فارغة.
فلنمثل فئة جميع العبارات الأساسية الممكنة بمساحة دائرية، وجميع الأحداث الممكنة بأنصاف أقطار الدائرة، فيجب أن يكون نصف قطر واحد على الأقل غير متفق مع النظرية، أو قطاع دائري واحد ضيق، سيمثل أن الحدث يجب أن يكون قابلا للملاحظة، وعلى هذا يمكن تمثيل المكذبات المحتملة لمختلف النظريات بقطاعات دائرية ذات اتساعات مختلفة، ونقارن فئات المكذبات باتساع القطاعات المستبعدة بواسطتها، فتكون فئة مكذبات النظرية أكثر إذا كان قطاعها أوسع،
19
مما سيعني أنها أكثر قابلية للتكذيب، أي أكثر علمية.
إن النظرية تضع تقريرا فقط عن مكذباتها المحتملة - أي تقرر فقط إمكانية كذبها - وهي لا تقول شيئا عن العبارات الأساسية التي تسمح بها النظرية لا تقول: إنها صادقة،
20
وإذا طلبنا منها هذا وقعنا في مهاوي التحقق. (5) بناء على هذه العبارات الأساسية تتم عملية الكشف عن القابلية للتكذيب، والتكذيب، أي إمكانية مواجهة، ومواجهة، القضايا العلمية بالواقع التجريبي.
بالنسبة للعبارة المفردة، فإن إثبات كذبها إذا كانت كاذبة، يمكن في التو واللحظة،
21
وعلى الرغم من أن هذه العبارات هي أساس عملية التكذيب التجريبي؛ لأنها النهايات التي يرتكز عليها إجراء المعيار، إلا أنها ليست موضوع مشكلة التمييز بين العلم واللاعلم الآن، وإن كانت موضع مشاكل أخرى عديدة،
22 ⋆
موضع مشكلة التمييز أساسا هو القضايا الكلية، أي القوانين والنظريات.
لكن الطبيعة الكلية العمومية لقوانين ونظريات العلم، تعني استحالة مواجهتها بالواقع التجريبي؛ لأنها تتحدث عن أفق لانهائي، يستحيل حصره في زمان ومكان معينين يمكن إخضاع ما يضمانه لنطاق اختبار تجريبي، فكيف يمكن الكشف إذن عن كونها قابلة للتكذيب أو غير قابلة له؟
يمكن هذا عن طريق استنباط عبارات مفردة من النظرية، يسهل أن نواجهها بالواقع، فيكون الاستدلال التكذيبي استدلالا استنباطيا صرفا هابطا من الكليات إلى جزئياتها، ولا أثر للاستقراء فيه البتة.
لكن مجرد إمكانية استنباط عبارات مفردة من النظرية، لا يعني أن النظرية علمية؛ إذ لكي نستنبط عبارات مفردة من النظرية التي هي كلية سنحتاج حتما إلى عبارات مفردة أخرى تمثل الشروط المبدئية
itnitial conditions
لما يجب أن تخضع له متغيرات النظرية، ويمكن أن نقارن هذا بما يذهب إليه المنطق الرياضي من اعتبار القضايا الكلية دالات قضايا وليست قضايا ؛ إذ تنتظر وقوع الجزئي من موضوعها الكلي، الذي يجعلها قضية، لكن بالطبع في نظريات العلم لا تكون المسألة مجرد مثال جزئي للقانون الكلي، بل وإن بوبر يصوب أنظاره دائما شطر النظريات الفيزيائية البحتة، وفي اختبار التكذيب تكون النظرية إحدى مقدمات الاستنباط، وبقية المقدمات عبارات مفردة أخرى تخدم كشروط أساسية لحدوث ما تخبر به النظرية، والذي سيكون نتيجة الاستنباط التي نقابلها بالواقع التجريبي.
لكن هل مجرد إمكانية استنباط عبارات مفردة من النظرية - بمساعدة عبارات مفردة أخرى - هي عينها إمكانية التكذيب التي تميز النظرية العلمية؟ بالطبع كلا، فأية عبارة لا تجريبية، مثلا ميتافيزيقية أو تحصيل حاصل يمكن أن نستنبط منها عبارات مفردة بمساعدة عبارات مفردة أخرى، فمثلا: «إذا كانت «أ» هي «أ»، لكانت السماء ستمطر غدا، لكن «أ» هي «أ»؛ إذن السماء ستمطر غدا.» وهي نتيجة تمثل عبارة أساسية.
فهل يمكن أن نبحث عن إمكانية استنباط عبارات مفردة، تخبر بشيء جديد لم تخبر به العبارات المفردة التي خدمت كشروط أساسية، هذه الإضافة سوف تستبعد تحصيلات الحاصل، لكنها لن تستبعد العبارات الميتافيزيقية،
23
فمثلا: «كل حادث لا بد له من علة غائية، وقد حدث اليوم زلزال في أثينا؛ إذن زلزال أثينا له علة غائية.» إنها أكثر من المقدمات، لكنها ليست عبارة تجريبية مفردة.
لكي نتجنب كل هذا، ونستطيع جعل القابلية للتكذيب معيارا يميز العلم بكفاءة، يجب أن نضع نصب أعيننا مطلب القاعدة الآتية: «يجب أن تسمح النظرية بأن نستنبط منها عبارات تجريبية مفردة أكثر من العبارات التي يمكن استنباطها من العبارات التجريبية التي تمثل الشروط الأولية بمفردها.»
24
إذا سمحت النظرية بهذا، أمكن مواجهة تلك العبارات المستنبطة منها بالواقع التجريبي، الذي قد يكشف عن كذبها، أي كانت النظرية قابلة للتكذيب؛ فهي إذن علمية، وهذه العبارات المستنبطة منها تمثل مضمونها المعرفي، الذي تخبرنا به عن العالم التجريبي، إنها تنبؤاتها. (6) إذن الاستنباط هو منهج التكذيب؛ لأنه أساس منهج العلم، وكل هذا يعني أن فكرة القابلية للتكذيب كمعيار تكاد تكون بديهية؛ لأنها لا تعني أكثر من أن العبارة موضع البحث يجب وأن يلزم عنها نتائج
consequences ، تسمح من حيث صورتها أو خاصيتها بأن تكون كاذبة، وهذا بدوره لا يعني أكثر من أن القانون الفيزيائي بصفة عامة يمكن أن تختبره التجارب،
25
يمكن أن يقبل مخاطرة التفنيد. (2) معيار القابلية للتكذيب والمحتوى المعرفي (1) وإن النظرية التي تقبل مخاطرة التفنيد؛ أي القابلة للتكذيب، ستصف عالمنا المعين، عالم خبرتنا الوحيد، وستفرده عن فئة كل العوالم الممكنة منطقيا، وبمنتهى الدقة المستطاعة للعلم.
26
وكلما ازدادت النظرية في محتواها المعرفي وفي عموميتها وفي دقتها، كلما عينت هذا العالم أكثر، إن إمكانية التصادم مع الواقع - أي القول بما قد لا يحدث في الواقع فيكذب النظرية - هي التي تميز النظرية العلمية، إنها قدرتها على الاستبعاد على منع بعض الحوادث المحتملة من الحدوث، وكلما منعت النظرية أكثر كلما أخبرتنا أكثر،
27
وكلما عرضت نفسها لإمكانية انتهاكات أكثر، كلما زادت قابليتها للتكذيب.
فمثلا: «الماء يغلي في درجة مائة مئوية.» هذه عبارة علمية إذ يمكن مقابلتها بالواقع ممكن ألا يغلي الماء في هذه الدرجة، إذا حدثت هذه الواقعة، وحدوثها ممكن، يتم تكذيب العبارة، لكن نلاحظ أن العبارة تمنع حدوث غليان الماء في أية درجة أخرى، 60 درجة أو 90 درجة، وإذا أضفنا إليها تحديدا آخر وقلنا: «إن الماء يغلي في درجة 100 درجة في مستوى سطح البحر.» كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها منعت أكثر، فقد منعت كل ما منعته سابقتها، بالإضافة إلى أنها منعت غليان الماء في درجة 100 درجة فوق سفح جبل أو في هوة سحيقة، أو في أي مكان ضغطه الجوي، مختلف عن الضغط فوق سطح البحر، وإذا أضفنا إليها تحديدا آخر وقلنا: «في مستوى سطح البحر، يغلي الماء في درجة 100 درجة في الأوعية المكشوفة.» كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها تمنع غليان الماء في هذه الدرجة عند سطح البحر في الأنابيب أو في المراجل المغلقة، إنها تمنع الأكثر؛ لأنها تحتوي على المعلومات الأكثر، ولهذا قابليتها للتكذيب أكثر. (2) هذا المثال يوضح أن القابلية للتكذيب ترتبط بالمحتوى المعرفي ارتباطا مباشرا، بل إنها تقدم المحتوى المعرفي في قشرة بندقة
28
مما يجعل العلاقة بينهما تناسبا طرديا، فمثلا تزيد عمومية
Universality
العبارة بزيادة المحتوى، النظرية الأكثر عمومية ذات محتوى يفوق محتوى النظرية، أو النظريات الأقل منها عمومية؛ إذ إنها تمنع ما تمنعه، بالإضافة إلى ما جعلها أعم؛ لذلك فهي أكثر قابلية للتكذيب، وهي أيضا أغزر في محتواها المعرفي؛ لأنها تضم محتوى العديد من العبارات التي تعممها.
إن العبارة العلمية هي العبارة ذات المحتوى المعرفي الإخباري عن العالم التجريبي، وهي لذلك العبارة القابلة للتكذيب. (3) والمحتوى المعرفي
Informative content
للعبارة هو: محتواها التجريبي ومحتواها المنطقي. «المحتوى التجريبي
Informative content : هو فئة المكذبات المحتملة للنظرية؛ فهي العبارات الإخبارية التي تنتج عن النظرية، وإن لم تحدث كذبت النظرية.»
29
ونلاحظ أن هذا تعريف عام لا يصلح للعمل الفعلي في منطق العلم، ففي العادة، الذي يعنينا هو المحتوى التجريبي لنظرية عمومية شارحة، وكما سلف فإنها لا تعطينا بمفردها عبارات ملاحظة أساسية تمثل محتواها التجريبي، لا بد من عبارات ملاحظة أخرى، مثلا العبارة العمومية: «كل الغربان سوداء.» لا تعطينا بمفردها العبارة الأساسية: «الآن يوجد هنا غراب أسود.» فلا بد وأن نضيف إليها: «الآن يوجد هنا غراب.» لكن تلك العبارة العمومية بمفردها، يمكن أن نستنبط منها العبارة: «الآن لا يوجد هنا غراب أبيض.» وهذا هو الذي أرشد بوبر في تعريف محتوى النظرية إلى أن يقفل راجعا إلى فكرة أن النظرية تخبرنا عن الوقائع القابلة للملاحظة بقدر ما تخبرنا عن الوقائع التي تمنعها؛ أي بقدر ما تخبرنا عن الوقائع التي لا تتفق معها؛ لذلك كانت فئة عبارات الملاحظة - الأساسية - التي تناقض النظرية، تعين أو تساوي محتواها التجريبي؛
30
أي إن فئة المكذبات المحتملة
potential falsifiers
التي تجعل النظرية قابلة للتكذيب؛ هي محتواها التجريبي، مما يجعل المعيار يحتم - بل يعني - وجود محتوى تجريبي للعبارة، وماذا نريد من العلم أكثر من هذا؟
وكل نظرية لها أيضا محتوى منطقي
logical content
ومفهوم القابلية للاشتقاق
derivability
هو الذي يحدد المحتوى المنطقي؛ إذ إنه فئة كل العبارات التي ليست بتحصيل حاصل والتي يمكن اشتقاقها من العبارة أي فئة معقباتها
consequences
لزوماتها المنطقية
31
أي ما يلزم عنها منطقيا. (4) على هذا تكون تحصيلات الحاصل فارغة بغير أي محتوى معرفي؛ لأن فئة مكذباتها فارغة، وأيضا فئة معقباتها فارغة؛ أي إن محتواها التجريبي ومحتواها المنطقي كليهما فارغ، في حين أن جميع العبارات الأخرى التي ليست بتحصيل حاصل حتى الكاذبة منها، لها محتوى منطقي غير فارغ.
32
وحيثما ترتبط مقاييس المحتوى التجريبي لنظرية بأخرى، فلا بد وأن ترتبط أيضا مقاييس محتواها المنطقي.
بالتعبير الرمزي عن هذا، نفترض أن لدينا النظريتين: «ن1» و«ن2»، ولنرمز للمحتوى المعرفي بالرمز «م ت» وكان لدينا الصياغة الآتية: (1) م ت «ن1» <
م ت «ن2»
فلا بد وأن تنطبق أيضا على محتواهما المنطقي، فإذا رمزنا للمحتوى المنطقي بالرمز «م ط»، نصل إلى الصياغة الآتية: (2) م ط «ن1» <
م ط «ن2»
وبداهة فإن نفس المقاييس تنطبق على المحتوى المعرفي بصفة عامة،
33
ولما كانت نظرية بوبر التكذيبية تعني التناسب العكسي بين درجة غزارة المحتوى المعرفي وبين درجة الاحتمالية بمعنى احتمالية الصدق، وجب أن تنطبق نفس المقاييس أيضا على الاحتمالية، لكن بصورة عكسية، فبالطبع المحتوى المعرفي للربط بين النظريتين «أ» و«ب»، سيكون أكبر من، أو على الأقل مساويا لمحتوى أية منهما، فإذا كانت «أ» هي العبارة: ستمطر السماء يوم الجمعة، و«ب» هي العبارة: سيكون الطقس لطيفا يوم السبت، و«أ ب» هي العبارة: ستمطر السماء يوم الجمعة ويكون الطقس لطيفا يوم السبت، لكان محتوى «أ ب» التجريبي أكبر من محتوى «أ» ومن محتوى «ب» التجريبي؛ وبالتالي تكون احتمالية
34
أو احتمالية صدق «أ ب» أقل من احتمالية «أ» أيضا أقل من احتمالية «ب» وبالتالي نصل إلى: (3) م ت «أ» >
م ت «أ ب» <
م ت «ب»
لما كان هذا يناقض القانون المناظر للاحتمالية، فإذا رمزنا للاحتمالية بالرمز «ح» نصل إلى: (4) ح «أ» <
ح «أ ب» >
ح «ب» (2)
والصياغتان 3، 4 يقيمان الدعوى التي تعد أحد المعالم الأساسية لمنطق التكذيب البوبري؛ أي تزايد المحتوى المعرفي بتناقص احتمالية الصدق، والعكس أيضا صحيح، أي تناقص الاحتمالية بتزايد المحتوى، أو بتعبير آخر: بتزايد المحتوى بتزايد اللااحتمالية، وتبعا للصياغتين 1 و2 معا ينطبق نفس الأمر على المحتوى المنطقي؛ إذ يزيد هو الآخر بتناقص الاحتمالية، فتكون النظرية أقوى منطقيا إذا كانت احتمالية صدقها أقل، وهذا هو القانون الذي على أساسه تمسك بوبر منذ البداية بأنه إذا كان تقدم المعرفي يعني العمل بنظريات ذات محتوى معرفي أعلى، فلا بد وأن نهدف إلى العمل بنظريات ذات احتمالية صدق أقل، وإلا كانت أهدافنا العلمية المنطقية متناقضة، وهذا هو الأساس المنطقي الراسخ، الذي عارض به بوبر الرأي الاستقرائي الشائع القائل: إننا ننشد - بداهة - النظريات ذات احتمالية الصدق الأعلى،
35
ولما كان رأيا قويا ومعارضته عسيرة، فقد اقترح دكتور بروس بروك ويفل
Bruce Brooke Wavell
على بوبر أن يتوقف في هذا الصدد عن الحديث عن حساب الاحتمال ويقصر معالجته فقط على المحتوى التجريبي والقوة المنطقية؛ أي المحتوى المنطقي، ويقول بوبر: إنه فكر جديا في هذا الأمر، لكنه وجد أن معالجة المحتوى المعرفي تفضي بصورة لا محيص عنها إلى هذه النظرة إلى الاحتمالية وإلا فإننا سنبقي عليها بصورة لا نقدية - وهذا ما لا يمكن أن يقبله بوبر أبدا - تجعلنا نقبل نظريات سفسطائية وخاوية، فلا بد إذن من الاصطدام مع هذا الرأي الاحتمالي الشائع، خصوصا وأننا دخلنا منذ البداية في اصطدام مع أساسها الأكثر شيوعا، أي الاستقراء،
36
وبعد فهذا هو أحد الأسس التي وضع عليها بوبر هدف العلم النهائي: فطالما أن احتمالية الصدق المنخفضة تعني احتمالية التكذيب العالية، فلا بد وأن يكون هدف العلم هو درجة القابلية للتكذيب أو للتفنيد أو للاختبار العالية، وهذا هو على وجه الدقة مطلب المحتوى المعرفي العالي؛
37
وبالتالي درجة احتمالية الصدق المنخفضة.
وكل هذا يوضح مدى ترابط فلسفة بوبر، واتساق منطق التكذيب، رغم استقلال بوبر النادر، ومعارضته للأوهام التي لا قبل لأحد بمعارضتها. (5) وفيما بعد جاء بوبر في كتابه «المعرفة الموضوعية: تناول تطوري» ليوسع في نطاق فكرة المحتوى المعرفي كثيرا، فقد أوضح أن فئة المحتوى المنطقي تتضمن فئتين فرعيتين لهما هما: (أ)
فئة محتوى الصدق
Truth Content ، وهي فئة كل القضايا الصادقة التي يمكن اشتقاقها من العبارة، وجميع العبارات التي ليست بتحصيل حاصل، حتى العبارات الكاذبة، لها محتوى صدق؛
38
إذ من الممكن أن نستنبط عبارة صادقة من أية عبارة كاذبة، مثلا عن طريق العبارة الانفصالية (7)، التي تتخذ الصورة المنطقية «إما «ق» أو «ك»»، فإذا كانت «ق» هي العبارة الكاذبة، أمكن أن نضيف إليها العبارة الصادقة «ك»، فنستنبط منها القضية الصادقة «ق 7 ك»، أو مثال آخر: إذا كان اليوم هو السبت، لكانت العبارة «اليوم هو الجمعة» عبارة كاذبة، لكن يمكن أن نستنبط منها العبارات الصادقة «اليوم ليس الأحد» و«اليوم ليس الثلاثاء» وهكذا.
ولعل هذه هي الصورة المنطقية الدقيقة الحاسمة لتلك الحقيقة الميثودولوجية العامة المبهمة، والتي تعد عجيبة وطريفة في الوقت ذاته، ألا وهي أن الفرض قد يكون مثمرا جدا دون أن يكون صحيحا، وهذا أمر لم يغب عن بال فرنسيس بيكون.
39 (ب)
فئة محتوى الكذب
Falsity Content
وهي فئة كل القضايا الكاذبة التي يمكن اشتقاقها من العبارة، وهذه الفئة - من الناحية المنطقية - مقصورة على العبارات الكاذبة فقط، وبالطبع إطلاق مصطلح فئة على محتوى الكذب فيه كثير من التجاوز؛ فهو لا يتصف بالخصائص المنطقية المميزة لمفهوم «المحتوى»، أو مفهوم فئة المعقبات
Consequences class
وهو ليس نسقا استنباطيا،
40
وذلك تبعا لمفاهيم ألفرد تارسكي التي يعمل بها بوبر لكن عبارات هذه الفئة - شأن أية عبارات كاذبة - يمكن أن نخرج منها بعبارات صادقة بواسطة الطريقة الانفصالية السابقة مثلا.
ويشرح بوبر محتوى الكذب بطريقة تارسكية، فيقول: إنه كالآتي: (أ)
هناك محتوى أو فئة معقبات للعبارة «أ». (ب)
وهي تحتوي كل العبارات الكاذبة التي تنتج عن العبارة «أ». (ج)
وهي لا تحوي أية عبارة صادقة.
41
وبالطبع التوصل منطقيا إلى تكذيب العبارة أو النظرية العلمية، يعتمد على فئة محتوى الكذب، فإذا استطعنا أن نجعل هذه الفئة ليست فارغة، استطعنا أن نجعل النظرية بدورها مكذبة تبعا للارتباط بين مقاييس المحتوى المنطقي والمحتوى التجريبي، الذي هو فئة المكذبات المحتملة، من الناحية المنطقية العبارة الصادقة محتوى كذبها فارغ، وإن كانت العبارة الكاذبة محتوى صدقها ليس فارغا، تبعا لإمكانية استنباط عبارة صادقة منها، وهذا برهان آخر على مدى ثقوب نظرة بوبر، حين يجعل البحث عن قابلية التكذيب هي المعيار.
وقد ميز بوبر أيضا في المحتوى المنطقي بين: المحتوى المنطقي المطلق والمحتوى المنطقي النسبي.
فإذا رمزنا: لفئة المحتوى المنطقي للعبارة «أ» بالرمز «أ».
ولفئة المحتوى المنطقي للعبارة «م» الصادقة منطقيا، أي التحصيل حاصل بالرمز «م»، بالطبع ستكون «م» فئة صفرية فارغة ويكون التمييز بين الفكرتين كالآتي:
المحتوى المنطقي المطلق
absolute content
للعبارة هو «أ» ويمكن تحديده «أ = أ، م».
أي هو محتوى «أ» في حالة التسليم فقط بالمنطق، وبالطبع المنطق مجرد قوانين صورية لا تزيد شيئا فهو فئة فارغة، لا تعبر إلا عن القوانين الضرورية المطلقة الصدق.
لذلك كان محتوى العبارة هنا مطلقا.
المحتوى المنطقي النسبي
Relative logical content
فهو محتوى العبارة في حالة التسليم بمحتوى آخر، كأن نتحدث عن محتوى العبارة «أ» مسلمين بالمحتوى «ي» مثلا، أي بمساعدة «ي»: فيمكن أن نرمز إلى المحتوى المنطقي النسبي كالآتي: «أ = أ، ي».
أي هو فئة كل العبارات القابلة للاستنباط من «أ» فقط بالنسبة لحالة وجود «ي»، أو بمساعدة «ي».
42
والمحتوى المنطقي النسبي له الأهمية الكبرى في المعالجة الفعلية لمنطق العلم، فإذا كانت «ي» هي الخلفية المعرفية في الوقت الراهن، ليكن الوقت «ت» أي بناء العلم اليوم، ولنرمز له بالرمز «ع»، وكانت العبارة «أ» افتراضا حدسيا مقترحا الآن، فإن ما يعنينا منه هو محتواها النسبي «أ، ع» وليس محتواها المطلق، فقط محتواها بالنسبة ل «ع» في الوقت «ت»، أي بالنسبة لعلمنا اليوم، أي إننا نهتم بالجزء من المحتوى الذي يتجاوز «ع ت»، أي بناء علمنا اليوم ويضيف إليه، ولما كنا نهتم أساسا بتطوير العلم كان هذا المحتوى النسبي يصلح تماما للعمل في منطق العلم، وهو فعلا هكذا فمحتوى العبارة الصادقة منطقيا فارغ، مما يجعل المحتوى النسبي للعبارة «أ» بالنسبة ل «ع» صفرا إذا كانت «أ» تحوي فقط الخلفية المعرفية، ولم تضف بالفعل أي شيء إليها،
43
فقط دورانات منطقية، هذا إذن محك جيد لاختبار الفروض الجديدة في العلم.
44 ⋆ (6) لقد ذكرنا أن بوبر بعد أن يميز العلم عن طريق القابلية للتكذيب، سوف يعالج منطقه معالجة تكفل له السير قدما نحو الاقتراب من الصدق أكثر وأكثر، مما يجعلنا في مأمن من مغبة أية خاصة سلبية ترتبط بمفهوم الكذب، الذي يرادف الخطأ، أي تماما ما ينبغي تجنبه.
ولقد فعل بوبر ذلك عن طريق تقديمه لتصور منطقي جديد، لفكرة أسماها رجحان الصدق
verisimilitude
التي تعني أن النظرية أصبحت أكثر مماثلة للصدق
more truthlikeness
وقد توصل إليها عن طريق الربط بين فكرتين له أخذهما أصلا من تارسكي وهما: مفهوم الصدق، ومفهوم المحتوى المنطقي.
45
فقد أوضحنا أن الصدق هو المبدأ التنظيمي لشتى الجهود المعرفية، بوصفه الهدف النهائي بعيد التحقيق، بمعنى أن النظريات تتنافس في الاقتراب من الصدق، وكل إنجاز علمي جديد هو توصل لنظرية جديدة تلافت مواطن الكذب في سابقتها، فأصبحت أكثر منها اقترابا من الصدق، وهي لذلك قهرتها وتغلبت عليها
supereseded it
ومن هنا تكون القابلية للتكذيب هي عماد الاقتراب التقديري الأكثر
better approximation
من الصدق، والذي هو التعبير المنطقي عن التقدم العلمي المستمر، وهذا الاقتراب التقديري الأكثر من الصدق، هو ما يسميه بوبر «رجحان الصدق»، ولما كان يعني تلافي مواطن كذب، واقترابا أكثر من الصدق، كان - أي رجحان الصدق - يزيد بزيادة محتوى الصدق ويتناقص بزيادة محتوى الكذب؛
46
لذلك كان رجحان الصدق مفهوما يقوم على مفهومي المحتوى المنطقي والصدق؛ لأنه لا يعني أكثر من المحتوى المنطقي الأكثر اقترابا من الصدق.
وهو مثل كل - أو تقريبا كل - مفاهيم بوبر المنطقية الميثودولوجية نسبي يتعلق بالمناقشة العلمية المطروحة في الوقت المعين، الوقت الراهن، وبالمناقشة بين الفروض وبعضها؛ لذلك فهو مفهوم أساسا ليحكم بتفوق نظرية على الأخرى، حين تتميز عليها برجحان صدقها رجحان صدق «ن2» على «ن1»؛ لذلك فلا بد وأن يكون له شروط، وهي أن تكون النظرية «ن1» متضمنة في النظرية «ن2»، التي تفوقت عليها، وإلا لما أمكنت المقارنة بينهما، وأن تقول «ن2» كل ما قالته «ن1»، ثم تتجاوزها فتفسر جميع الوقائع التي تفسرها «ن1» ثم تستطيع أيضا أن تفسر بعض الوقائع التي تفشل «ن1» في تفسيرها؛ وبالتالي ستكون أية معلومة تفند «ن2» ستفند أيضا «ن1»؛ وبالتالي يكون الحكم بتفضيل «ن2» على أساس رجحان صدقها لا غبار عليه، وأخيرا يجب أن تكون العبارات الصادقة التي يمكن اشتقاقها من «ن2» أكثر من التي يمكن اشتقاقها من «ن1»، والعبارات الكاذبة أقل، وكل ذلك يعني أن «ن2» أجرأ وأغزر في المحتوى المعرفي، أي أكثر قابلية للتكذيب وهذا يوضح أن النظرية الأكثر قابلية للتكذيب هي الأقل كذبا.
وقد وجه ألفرد آير عدة انتقادات لمفهوم رجحان الصدق، منها أن بوبر قد وضعه كبديل لما حذفه من تقدم النظريات ووصولها إلى الصدق خلال التحقق، وهذه سفسطة وضعية، فالمفهوم هو التعبير المنطقي لتقدم العلم، المتسق تماما مع منطق بوبر الرافض أصلا للوضعية المنطقية.
ومن الناحية الأخرى، رأى آير أن «رجحان الصدق» لا يزودنا بمعيار حقيقي للتقدم نحو الصدق؛ لأننا لا نحكم «برجحان صدق» «ن2» إلا إذا تم تفنيد «ن1» بالفعل، في حين أن ما يعنينا هو تلك الفروض التي لم يتم تفنيدها بالفعل وهذه لا يجدي معها مفهوم «رجحان الصدق»، ولعل هذا نقد وجيه وإن كان يمكن تخفيف حدته بالإشارة إلى الفصل الثالث «درجات القابلية للتكذيب»؛ حيث نجد أساليب التوصل إلى الأفضل، ومن ثم الأقرب من الصدق، من بين مجموعة النظريات المتنافسات، التي لم يتم تفنيد أي منها. (7) لم ينتبه بوبر إلى ارتباط التكذيب بالمحتوى المعرفي، إلا في مرحلة لاحقة متأخرة عن المرحلة التي توصل فيها إلى الفكرة الأساسية للمعيار،
47
ذلك على الرغم من أن ارتباط التكذيب بالمحتوى المعرفي هو الذي خول له إمكانية المعالجة الشاملة لمنطق النظرية العلمية، وهو أحد الأسباب التي جعلته متفوقا على معايير الوضعية، ومستطيعا ما لا تستطيعه، مثل المفاضلة بين النظريات، واستبعاد تحصيلات الحاصل.
48
إننا بالبحث عن التفنيد والنفي، وليس التحقق والإثبات، نستطيع استبعاد عبارة مثل «إما أن تمطر السماء غدا أو لا تمطر.» وهي واجبة الاستبعاد إذ إنها لا تعطينا أي محتوى إخباري عن الواقع؛ فهي تحصيل حاصل من الصورة المنطقية «إما «ق» أو لا «ق»»، لكن حينما يأتي الغد، فأيا كانت معطيات الخبرة الحسية لا بد وأن نتحقق من العبارة، لكن تكذيبها يستحيل منطقيا فنستطيع الحكم بأنها لا علمية.
49
بعبارة أخرى: التكذيب المرتبط بالمحتوى المعرفي يستطيع تمييز العلم الإخباري حقيقة، حتى عن العلوم الصورية ذات تحصيلات الحاصل، المتنكرة في هيئة العبارات الإخبارية، وهي إحدى - بل وأهم - وسائل العلوم الزائفة، وهي واضحة متجلية في الفروض الميتافيزيقية المتطرفة الموغلة في غياهب العقل الخالص، وأيضا في الفكر الثيولوجي. (3) القابلية للتكذيب اختبارا (1) ماهية العلم ليست جماع نتائجه؛ أي نظرياته، كلا بالطبع؛ لأنها متغيرة دوما، ولا يكاد يختلف اثنان على أن ماهية العلم، أي معلمه المميز، الذي يجعله كيانا قائما عبر القرون هو منهجه، وإن اختلفت الآراء على ما هو هذا المنهج، ولكن ماذا عسى أن يكون هذا المنهج، الذي ليس باستقراء البتة، سوى اختبار الفروض التي تأتي بأية طريقة، فماذا عسى أن نفعل بالفروض سوى أن نختبرها، فبغير الاختبار لن نستطيع استبعاد الخطأ، أي إنجاز الخطوة «أ أ» من الصياغة «م1
ح ح
أ أ
م2» التي ترسم مسار العلم.
وإن القابلية للتكذيب
Falsifiability
هي ذاتها القابلية للاختبار
Testability ، المصطلحان مترادفان، فالكشف عن القابلية للتكذيب ليست إلا الكشف عن قابلية الاختبار التجريبي للنظرية التي تدعي السمة العلمية، أي التي تدعي الإخبار عن الواقع، الكشف عن إمكانية مواجهتها بهذا الواقع، فنرى هل تخبر عنه أصلا أم لا، ثم نرى هل تخبر عنه كذبا أم لا. (2) فالاختبار هو القاعدة الأساسية والجوهرية في منهج العلم، وإن شئت قلت: هو القاعدة التجريبية الوحيدة، والتي تتفرع عنها كل القواعد الأخرى لمنهج العلم.
فبعد أن نختبر النظرية - أو الفرض الجديد - من الناحية المنطقية، أي نكشف عن أنها ليست تحصيل حاصل، وأنها لا تناقض نفسها، ولا تناقض النظريات المقبولة التي تسلم هي بها، لا بد من اختبارها تجريبيا عن طريق اختبار الاستنتاجات أي التنبؤات التي نستنبطها منها،
50
وهدف هذا الاختبار هو الكشف عن مدى استطاعة النتائج الجديدة التي تلزم عن النظرية على الصمود أمام متطلبات التطبيق، سواء كانت مبعثها التجريب العلمي البحت، أم التطبيقات التكنولوجية العلمية، ويتم الكشف عن هذا بمنهج التكذيب الاستنباطي، وأيضا لا أثر للاستقراء البتة، فبواسطة بعض العبارات الأخرى المقبولة سلفا يمكن أن نستنبط عبارات أخرى من النظرية هي التنبؤات، خصوصا التنبؤات التي يمكن اختبارها بسهولة، ومن بين جماع العبارات أو التنبؤات المستنبطة من الفرض، نختار تلك التنبؤات التي لا يمكن أن تتوصل إليها النظريات الموجودة سلفا، بل نختار على وجه الخصوص التنبؤات التي تناقضها تلك النظريات، ثم نواجه هذه التنبؤات بالتطبيقات العملية والتجريب؛ أي نحاول تكذيبها
51
أو اختبارها.
إذن القابلية للتكذيب التي هي القابلية للاختبار، هي أسلوب التعامل مع العلم أي منهجه أو أساس قواعده المنهجية الذي لا مندوحة عنه؛ لذلك كانت معيار العلم القادر على تمييزه. (3) وكون القابلية للتكذيب تعني معيار العلم، وتعني اختباره، يوضح أنها ذات وجهين: وجه صوري ووجه واقعي؛ أي إننا نرومها من أجل مطلبين:
مطلب صوري منطقي يعني تعيين وتمييز الصورة المنطقية للنظرية العلمية.
مطلب واقعي عملي هو أن نختبر النظرية من طريق مواجهة ما نستنبطه منها بالواقع التجريبي، وهذا الاختبار لا بد وأن ينتهي - منطقيا
52 ⋆ - إلى أحد احتمالين لا ثالث لهما: التكذيب وإما التعزيز. (4) إذن ثمة فارق كبير جدا بين القابلية للتكذيب
falsifiability
وبين التكذيب
falsification ، فأولا بوبر لا يروم بمعياره أن نتثبت بالفعل من كذب كل عبارة علمية ونفندها كلا بالطبع فهذه كارثة محققة،
53
وإلا فما هو علمنا اليوم؟ إنه نسق العبارات العلمية القابلة للتكذيب والتي لم يتم تكذيبها بعد، فالمعيار هو القابلية للتكذيب من حيث المبدأ، من حيث الإمكانية، من حيث القوة بمصطلحات أرسطو، أن نتثبت من أن إمكانية التكذيب قائمة في النظرية، لا أن النظرية كاذبة بالفعل.
إن القابلية للتكذيب مجرد معيار يميز الخاصة التجريبية لأنساق العبارات العلمية، أما التكذيب فهو حكم على النسق، تقييم معرفي له، رفض له. (5) وكما سلف فإن اختبار النظرية إما أن يفضي إلى التكذيب أو إلى التعزيز.
التكذيب
Falsification
تحكم على النظرية بالتكذيب إذا لم تكن نتيجة الاختبار في صالحها أي إذا تناقضت التنبؤات المستنبطة منها مع الواقع التجريبي؛ لأن تكذيب التنبؤات يكذب بدوره النظرية، فإذا حدث هذا أصبحت النظرية فاشلة مفندة، فنستبعدها من بناء العلم رغم أنها علمية وستزال، لكننا وضعنا أصبعنا على موطن الكذب، فسنتلافاه في النظرية الجديدة التي ستحل محلها فستكون أكثر اقترابا من الصدق وأغزر في المحتوى المعرفي وفي القوة الشارحة؛ لذلك فكل تكذيب هو ظفر علمي جديد، وليس خسارة كما قد يبدو للنظرة السطحية العابرة.
التكذيب على ذلك تقييم معرفي وحكم خطير، فلا بد إذن من وضع قواعد تحكمه وتحدد تحت أية الظروف تعتبر النظرية مكذبة.
يمكن القول: إن النظرية تكون مكذبة، فقط إذا قبلنا عبارات أساسية تناقضها،
54
أو بدقة أكثر إذا قبلنا عبارات أساسية تناقض العبارات الأساسية المستنبطة من النظرية.
وهذا هو الشرط الأساسي، لكنه ليس كافيا؛ إذ يجب أن نقبل فقط العبارات الأساسية القابلة للإعادة والاسترجاع، العبارات الأساسية الشاردة التي لا يمكن استرجاعها مرة أخرى لن ندعها تفند النظرية العلمية، ويمكن أن نذكر في هذا المقام ما أورده جان فوراستيه عن ملاحظة ألكس كاريل في لورد عام 1903م فهي ملاحظة متعلقة بالظواهر المتمردة التي ترفض أن تنفذ إلى أطر العلم الرسمي، والتي تقابلها منطقيا العبارات الأساسية الشاردة؛ فقد قام كاريل بالانتقال إلى لورد في قطار للحجيج فعرفه أحد زملائه على الشابة ماري بيلي التي يهددها الموت الفوري وطلب إليه معالجتها وفحصها، وبموجب ملاحظات كاريل وملاحظات رفاقه الأطباء المعالجين، كانت ماري مصابة بالتهاب الصفاق السلي، وليس لها في الحياة إلا أيام معدودة (أي نضع النظرية الباثولوجية التي يعملون بها كمقدمة كبرى في الاستنباط وبقية المقدمات هي العبارات الأساسية التي تنقل حالة ماري بيلي، ويكون التنبؤ الذي ينتج عن هذا الاستنباط هو أنها ستموت) إلا أن كاريل لاحظ تحسنا أذهله بسرعة وإن كان يبدو مستحيلا في ذات الوقت (ها هي عبارة أساسية مناقضة للتنبؤ، أي مكذبة للنظرية الباثولوجية) وفيما يلي بعض انعكاسات كاريل الشخصية كما دونها «إنه تحقق المستحيل، لا ريب أني ارتكبت خطأ في التشخيص، لعل الأمر كان مجرد التهاب بصفاق عصبي، مع ذلك لم تكن هناك بوادر الالتهاب العصبي، يلي كل أعراض الالتهاب السلي، لكني أراني متصلا بقضية معجزة، ليكن سأمضي حتى النهاية ...» ويستأنف كاريل قائلا: «أتراها وقائع علمية جديدة، أم وقائع تابعة لدائرة الروحانية وفوق الطبيعة، علي أن أستخلص شيئا.» ونتيجة لذلك قد انقلب كاريل للتصوف،
55 ،
56 ⋆
ويعلق جان فوراستيه على هذا قائلا: إنه نموذج لرد فعل عميق في حضرة حدث منعزل والحل الذي تفرضه المحاكمة التجريبية هو إعادة الملاحظة في حين أن هذا مستحيل في الحالة التي تدرسها هنا؛
57
لذلك كانت غير ذات قيمة علمية، بعبارة أخرى: لن ندعها تفند النظرية الباثولوجية المتعلقة بمرض التهاب الصفاق السلي؛ لأنها واقعة تنقلها عبارات أساسية شاردة لا يمكن استرجاعها.
والعبارات الأساسية - القابلة للاسترجاع - المفندة لنظرية ما لن نتركها هكذا مشتتة، بل لا بد من افتراض فرض يصفها، أي يمكن استنباطها منه، إنه فرض يصف الأثر القابل للحدوث مرارا وتكرارا؛ أي الذي ليس شاردا بحدث شارد، والذي يفند النظرية وسيكون فرضا مستوى عموميته منخفض، على أية حال أقل من مستوى عمومية النظرية وسيسمى الفرض المكذب.
58
والفرض المكذب يحل مؤقتا محل النظرية العلمية؛ لذلك لا بد وأن يكون علميا تجريبيا أي قابلا للتكذيب فيدخل في علاقات منطقية مع فئة عبارات أساسية معينة، بل أكثر من هذا لا بد حين نعرضه لاختبار التكذيب أن تكون نتيجة الاختبار هي التعزيز؛ لأنها لو كانت لتكذيب سنرفضه ونبحث عن فرض مكذب آخر نتيجة اختباره هي التعزيز فيحل محله، ولنلاحظ أن العبارات الأساسية التي فندت النظرية هي ذاتها التي تعزز الفرض المكذب لها في نفس الوقت.
ومن المهم إذن أن نميز بين فئة العبارات الأساسية الممكنة، وهي فئة كل العبارات الأساسية المحتلة، وبين فئة العبارات الأساسية المقبولة
Accepted
وهي التي ننتقيها من تلك العبارات الأساسية الممكنة لتكون أساس الحكم على النظرية، سواء كان تكذيبا أو تعزيزا تبعا لنتيجة الاختبار، ولنلاحظ أن نتائج الممارسة المنهجية في العلم، تعتمد أولا وأخيرا على قرار قبول عبارات أساسية معينة دون غيرها.
على هذا النحو يبدو مفهوم التكذيب بلا أية مشاكل منطقية، خصوصا وأن قواعد المنطق تسلم بأن مثالا نافيا واحدا يكذب النظرية مهما كانت عموميتها ، لكن هيلاري باتنام اعترض على مفهوم التكذيب اعتراضا يتلخص في أن مفهوم التكذيب ليس حاسما في العلم تماما مثل التحقق، وأن هذا سيفند نظرية بوبر لكن لا يفند الاستقراء، مما يعني أن بوبر لم يحل مشاكل ولم يأت بجديد كما تصور.
59
بالطبع أخطأ باتنام، فهو أولا لم يميز بين الوجه المنطقي الحاسم، وهنا التكذيب يفوق التحقيق الاستقرائي ويحل مشاكله بلا أدنى جدال؛ نظرا للاتماثل المنطقي بينهما، وبين الوجه الميثودولوجي المبهم الغامض، المتوقف على اتخاذ القرارات وهذا سنناقشه في الجزء الرابع من هذا الفصل، مناقشة توضح أنه يفوق أيضا التحقق.
التعزيز
Corroboration
إذا تعرضت النظرية لاختبار القابلية للتكذيب، واستنبطنا منها عبارات أساسية جديدة، وكانت هذه العبارات متوافقة مع الواقع، بعبارة أخرى لم نجد فئة عبارات أساسية تناقضها، فقد تم تعزيز النظرية، بمعنى أنها قد صمدت لامتحان التكذيب، فأثبتت مادتها فلا بد من قبولها فقط؛ لأننا ليس لدينا داع لرفضها، فالتعزيز - الذي هو جواز مرور الفرض إلى عالم العلم - هو مدى صمود الفرض أمام اختبارات منهج العلم القاسية، وكلما كانت الاختبارات أقسى كلما حازت النظرية التي تجتازها على درجة تعزيز أعلى، وكلما كانت النظرية أعظم أي أغزر في المحتوى المعرفي وأجرأ في القوة الشارحة وأكثر اقترابا من الصدق؛ أي أكثر قابلية للتكذيب، كلما تمكنت من الصمود أمام اختبارات أكثر قسوة؛ وبالتالي كلما كانت درجة تعزيزها أعلى؛ لذلك كان بوبر يؤكد دائما على قسوة الاختبار حتى لا تستطيع النظرية أن تعزز وتعبر إلى نسق العلم بسهولة.
التعزيز هو النتيجة الإيجابية لكل ممارسة منهجية ناجحة، فالنجاح لا يعني أكثر من توصل العالم إلى فرض جديد يحل المشكلة بكفاءة عالية ويصمد أمام الاختبار، وحتى لو لم يكن الفرض الجديد قد كذب سابقه، فإنه يمكن أن يحل محله، لو صمد لاختبارات أقسى فحاز على درجة تعزيز أعلى؛ لذلك يمكن التعبير عن كل خطوة منهجية ناجحة بالصياغة الآتية: > «ف1، م ت» >
د «ف2، م ت»
60
حيث إن:
ف1:
الفرض الموجود في الحصيلة المعرفية السالفة.
ف2:
الفرض الجديد الذي ينافسه.
د:
درجة تعزيز الفرض.
م:
في ضوء مناقشة الفرض، في الوقت «ت»: م ت. > :
أقل من.
هذه الصياغة تبرر قبول «ف2»؛ إذ تعني أن درجة تعزيز «ف1» في ضوء مناقشاتنا في الوقت الراهن، أي إمكانية قسوة الاختبار التي نستطيعها بوسائلنا الآن، أقل من درجة تعزيز الفرض الجديد في ضوء هذه المناقشات؛ مما يعني أن نسق العلم سنحذف منه «ف1» ونضع بدلا منه «ف2»؛ لأنه أكثر تعزيزا.
وكل ذلك دون أن نجنح إلى أية مفاهيم احتمالية بمعنى حساب نسبة حدوث الفرض إلى متتالية معينة من الأحداث، فمفهوم التعزيز لا علاقة البتة بالاحتمالية، إنه يشير إلى قوة الفرض ذاته، مدى صموده أمام الاختبارات القاسية؛ وبالتالي إلى مدى عقلانية قبوله، وكل ذلك لا علاقة له البتة بالاحتمالية تبعا لمنطق بوبر
61
التي هي احتمالية الأحداث.
والتعبير عن تفاوت درجات التعزيز بالصياغة الرمزية السالفة، يبرز اختلافا أساسيا بين بوبر وبين جمهرة المناطقة المعاصرين؛ إذ توضح أن قياس تفاوت درجة التعزيز يعني مقارنة الفرض الجديد بسابقه المطروح في الحصيلة المعرفية وبينما يرى بيير دوهيم، ومن بعد العالم المنطقي الكبير كوين، أن اللزومات المنطقية
Consequences
التي تخضع للاختبار لا تخص الفرض الجديد وحده، بل تخص النسق المعرفي بأسره والذي انتمى إليه الفرض، برفض بوبر هذه النظرية الكلية، ويرى أن اختبار الفرض على حدة وبصورة منفصلة مسألة جوهرية لتقدم العلم،
62
وقياس ما يضاف إليه حقيقة.
ورغم هذا الخلاف الكبير بين بوبر وكوين، إلا إن كوين لا يملك إلا استصواب ما أسماه الطبيعة النافية لنظرية بوبر المنهجية،
63
بمعنى أن الدليل قد يفند الفرض لكن لا يؤيده بحال أو هو يؤيده بمعنى ناف سلبي هو غياب التفنيد،
64
ويرى كوين أن هذا المنحى النافي يجب أن يكون أساس التعامل مع العلم؛ لأنه كفء لهذا، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أنه لا يتعلق إلا بالعبارات الكلية، وهي صورة القانون العلمي، فبالطبع العبارات الجزئية (بعض أ هي ب) لا يجدي التعامل معها بالمنهج النافي شيئا، وإذا انتقلنا من هذا الوجه المنطقي إلى الوجه الميثودولوجي، وجدنا أن مهمة التجربة هي تفنيد لفرضيات لا تأييدها؛ لأن الفرضيات لا يمكن إثباتها إنما يمكن فقد عدم تفنيدها، ويعلق عالم الإحصاء الروسي ف. ف. ناليموف (1910م-؟) على هذا بأن بوبر قد أضفى صيغة فلسفية على هذا القول المعروف لكل عالم إحصائي.
65
ويتفق ناليموف مع كوين على أن جميع المشاكل الاستقرائية والتحققية؛ أي الناجمة عن المنطق القائل باستمداد المعرفة من التجربة، تزول مع هذا المبدأ، فتستطيع نظرية بوبر المنهجية أن تحفظ منطق العلم سليما تماما.
ولعل المناقشة السالفة أبرزت أن التعزيز لا يعني أي إثبات أو برهنة أو تأييد أو تحقيق للفرض، هو يعني فقط مبرر قبوله، وليس فحسب بل ومهما كانت الاختبارات قاسية أو مهما صمد أمامها الفرض أي مهما حاز على درجة تعزيز عالية فإن القبول فقط مؤقت؛ لأننا ننتظر يوما يتطور فيه العلم أكثر فنستطيع وضع الفرض أمام اختبارات أقسى قد تكذبه بالفعل، «فالفرضيات تظل دائما عرضة لمزيد من الاختبار، وهنا - كما قال بوبر - يكمن مصدر تقدم العلوم الطبيعية، والواقع أن العلم يعيد النظر دائما في صحة فرضياته؛ لأن إمكان إجراء تجربة حاسمة يتوقف على مستوى تطور النظرية باستمرار كما يتوقف على التجربة.»
66
وقد أثار مفهوم التعزيز جدلا كبيرا، مثلا لأن معيار التكذيب يعني أن النظريات ليست فقط قابلة للتطور والتحسين، ولكن يمكن أيضا أن تكذبها خبرة جديدة، وهذا يمثل احتمالا خطيرا قد يحدث في أية لحظة وتتركز خطورته إذا كانت النظرية معززة جيدا.
67
لكن بوبر يقول لنفترض أن الشمس لن تشرق غدا فإننا مع هذا سنظل نعيش ونواصل اهتماماتنا العلمية، وسيحاول العلم أن يشرح ظاهرة عدم شروق الشمس في ذلك اليوم؛ أي سيحاول أن يشتقه من قوانين، سيحاول أن يضع نظرية جديدة تفسر هذا الحدث وأيضا تفسر نفس الخبرات القديمة (شروق الشمس كل يوم)، ومن الناحية الميثودولوجية نجد أننا قد رفضنا مبدأ الاطراد لأنه ميتافيزيقي، لا يمكن إثباته ولا دحضه، فمن الخطأ إذن افتراض أنه مبدأ ثابت لا يتغير، وهذا يعني أن احتمال تكذيب قانون معزز جيدا، هو من الناحية الميثودولوجية بغير أهمية، بل وإن وضع هذا في الأذهان بدوره ذو أهمية كبيرة لأنه يساعدنا على أن نكتشف ما الذي نتطلبه وما الذي نتوقعه من القوانين الطبيعية،
68
أي إنها محض فروض سنتوصل يوما إلى الأفضل منها.
وثمة اعتراض لآير يتلخص في أنه لا يرى مبررا لقسوة الاختبار طالما أن الفروض لن تظفر بأية ثقة إذا ما اجتازتها،
69
لكن آير لم يصب فمطلب درجة التعزيز العالية هو مبرر قسوة الاختبار؛ لأنه سيمنع الفروض الضعيفة غير القادرة على الصمود أمام الاختبارات القاسية من الدخول إلى عالم العلم، والثقة هذه مطلب لا محل له في منطق العلم، لأن العلم طابعه النقد، والنقد يتطلب الشك لا الثقة.
وقد اعترض على التعزيز أيضا إيمر لكاتوس
Immre Lakatas
فقد ذهب إلى أن الفرضيات تصبح مقبولة بمجرد ما يتضح أنها تنبئ بحقائق جديدة هامة، ولا داع لمفهوم التعزيز، غير أن أمر لاكاتوس لم يزد شيئا فما تنبئ به النظرية لن يتضح إلا بالاختبار؛ وبالتالي بالتوصل إلى تعزيز الفرض، على العموم أغنانا ناليموف عن الرد على لكاتوس أو قال تعقيبا على اقتراحه: «الواقع أنه من المناسب في هذا المقام أن نتحدث عن برامج العمل، لا عن الفرضيات العلمية، وهنا لا بد من تطبيق طريقة بوبر في التفنيد.»
70
أما جيوفيري وارنوك فقد أثار صخبا كبيرا في محاولة لنقد التعزيز وهو واحد من أبرز من لا يستطيعون التخلص من وهم الاستقراء، وساءه كثيرا أن «دعوة بوبر التي عادت الاستقراء بصراحة، وبجفاف شديد مقبولة على نطاق واسع.»
71
وقد دخل في محاولة لا تنم إلا عن سوء الفهم كي يثبت أن بوبر نفسه استقرائي كبير - وهناك محاولة مماثلة نقلها هيلاري باتنام على نفس الأسس - وأن مشكلة الاستقراء لا تهدد شيئا بقدر ما تهدد نظرية بوبر المنهجية، وكل ذلك على أساس مفهوم التعزيز؛ لأن الوقائع الملاحظة إذا لم تتعارض مع النتائج المستنبطة من النظرية فإن النظرية تعزز، وذلك يعني أننا نفترض على الأقل أنها سوف تصمد أمام نفس الاختبارات كلما تكررت، لا سيما وأن الاختبارات المعنية يجب أن تكون قابلة للتكرار، وهذا يعني - في نظر وارنوك - أن مشكلة الاستقراء ما زالت قائمة فعلى أي أساس نفترض نفس النتائج لنفس الاختبارات كلما تكررت، وكما تساءل هيوم ما الذي يضمن أن الحالات المتماثلة سيكون لها آثار متماثلة، وكيف نعتمد على النظرية في المستقبل على أساس اجتيازها للاختبارات الماضية،
72
وعلى هذا يقول وارنوك: قد يكون هذا تساؤلا أبله، لكنه مرة أخرى تساؤل هيوم الذي يتمسك بوبر بأنه غير قابل للحل، ولكن نظرية بوبر كما هو واضح تفضي إليه، أما إذا حاول بوبر أن يرفض هذا السؤال بوصفه غير ملائم أو مساء فهمه، فإنه يقدم خدمة للاستقرائيين.
73
واضح من العبارة الأخيرة أن وارنوك يحاصرنا، ويسد الطريق أمام أية محاولة لدرء خطئه هو العظيم، ونقده الذي لا يعدو أن يكون عجزا عن الإحاطة بنظرية بوبر، وهو خطأ لأنه يقوم أولا وأخيرا على فكرة المستقبل: الأخذ مستقبلا بالنظرية المعززة في الماضي، ومما هو كفيل بالرد على وارنوك حرف واحد كان أحد مكونات الصياغة الرمزية المعبرة عن التعزيز، أو بدقة أكثر عن الأخذ بالفرض على أساس حيازته لدرجة تعزيز أعلى: > «ف1، م ت» >
د «ف2، م ت»
الحرف المعني هو «ت»، الذي يوضح أن الحكم بالتعزيز على أساس المناقشة في الوقت الراهن «ت» فقط، ولعل وارنوك لا يعلم أننا لا نصادف إطلاقا في كتابات بوبر كلمة «المستقبل»، وبدلا منها يستعمل «مؤقت»، الحكم بتعزيز النظرية حكم مؤقت، يجعلنا نأخذ بها في الوقت الراهن بناء على علمنا اليوم، أما بخصوص المستقبل، فلا يعنينا منه إلا تأكدنا من أنه يحوي لحظة ستثبت خطأ النظرية، وحينما تأتي هذه اللحظة، سنتركها ونأخذ بالأفضل ونحن نتأكد من هذا على أساس الطابع الفرضي لعبارات العلم، وقابلية التكذيب القائمة فيها، والتي ستصبح تكذيبا يوما ما، إننا لم نفترض أبدا اطراد نتائج اختبارات النظرية في صالح تعزيزها، بل نفترض العكس تماما، أن وسائل العلم ستتطور في المستقبل فنتوصل إلى اختبار أكثر حسما، قد يتمكن من تكذيب النظرية.
فأين هو شذى الاستقراء الذي يفوح من التعزيز، وبالتالي من معيار التكذيب كما يتوهم جيوفري وارنوك وهيلاري باتنام؟ (4) مواجهة التحصين ضد التكذيب (1) غير أن حل مشكلة التمييز، أي معيار القابلية للتكذيب، رغم كل هذا يبدو - إلى حد ما - صوريا وليس واقعيا؛ إذ يمكن دائما تجنب التفنيدات التجريبية والتملص من التكذيب بأن نضيف للنظرية فروضا جديدة تتلافى مواطن الكذب، أو بأن ننكر التجارب المفندة، أو حتى بأن نشكك في نزاهة المجرب، كل هذا ممكن، وإذا استمر، توصلنا إلى نظريات محصنة
immunized
74 ⋆
ضد التكذيب؛ أي ببساطة غير قابلة له، وإذن ويمكن أن نفعل هذا حتى مع أشد النظريات علمية، مع نظرية نيوتن أو آينشتين مثلا وبهذا لا تصبح القابلية للتكذيب معيارا يحدد السمة العلمية. (2) هذه الصعوبة الواضحة أمام القابلية للتكذيب، لم يناقشها بوبر في بداية الأمر كإمكانية مواجهة عامة للمعيار، تبدو كحجة خطيرة في يد كل من لا يريد الأخذ به، بل طرحها في منطق الكشف العلمي بوصفها مواجهة مع الاصطلاحية أو الأداتية
Conventionalism, Instrumentalism
بالذات، ثم جاء بعد ذلك في كتاباته اللاحقة ليعمها ويناقشها بصفة عامة أمام كل المعارضين أيا كانت مذاهبهم.
وبوبر يبرر هذا بأسباب تاريخية لعلها وطأة المذهب الاصطلاحي والأداتي في الجو الفلسفي إبان ظهور «منطق الكشف العلمي»، في أوائل الثلاثينات من هذا القرن، خصوصا وأن الطابع العام لهذا الكتاب هو أنه يعنى كثيرا بمواجهة الاصطلاحية في كل موضع، بعد الوضعية المنطقية بالطبع.
ومن الناحية الأخرى نجد هذه الصعوبة في وجه المعيار تمثل لأزمة منطقية ضرورية عن مذهب الاصطلاحية، وتبعا لهذا لا يمكن لهم قبول المعيار أصلا؛ لذلك عني بوبر عناية خاصة بمناقشتهم والرد عليهم. (3) والاتجاه الأدائي أو الاصطلاحي في فلسفة العلم بأقطابه العظام، ابتداء من باركلي حتى إرنست ماخ وبيير دوهيم وهنري بوانكاريه، هو اتجاه يرى في النظرية العلمية محض أداة نافعة وإجراء مفيد ليس أكثر، فحتى الجمل الكيفية التي لها فعلا معنى، بل ومعنى وصفي هي في الواقع مجرد وصف له دور وقوة الأداة، فليس هناك مشكلة حول ما إذا كان القانون العلمي وصفيا أم تفسيريا، فالقانون العلمي مهما كان مجرد أداة
75
هو «أسلوب للبحث العلمي ودالات قضايا توصف بالصلاحية وعدم الصلاحية، لكنها لا توصف البتة بأنها صادقة أو كاذبة.»
76
لذلك نجد فكرة الصدق والكذب الأساسية في فلسفة بوبر؛ وبالتالي التكذيب والقابلية له، ليست لها أي دور في هذا المذهب فهو ينتهي إلى أن النظريات العلمية، أو النظريات التي تسمى بالعلوم البحتة، لا تعدو أن تكون مجرد قواعد حسابية
Computation Rules
أو قواعد استدلالية، لها نفس خصائص القواعد الحسابية التي للعلوم التطبيقية.
77
بالطبع بوبر الذي يرى في القوانين العلمية فروضا لها محتوى معرفي يحاول دائما الاقتراب أكثر من الصدق، لا بد وأن يرفض تماما هذه النظرية، وقد سبق أن رأيناه آنفا يرفض النظرية الماهوية
Essentialism
التي ترى في القانون العلمي توصلا صادقا للماهية الثابتة، ويمكن اعتبار هاتين النظريتين: الأداتية والماهوية، طرفي النقيض في محاولة فهم طبيعة القانون العلمي، ويمكن أيضا أن نأخذ بتفسير خون باسمور لنظرية بوبر بأنها اتجاه توفيقي أو محاولة لإيجاد طريق بين الأداتية والماهوية
78 ،
79 ⋆
وإنها فعلا لكذلك، فهو يأخذ من الأداتية اعتبار القانون العلمي محاولة منا ليس فيها أي شيء مطلق أو ثابت، بل قابلة دوما للتعديل والتطوير، ويأخذ من الماهوية أن القانون العلمي متعلق فعلا بحقائق الأشياء ومضمونها ومعرفتها هي ذاتها؛ ذلك أن بوبر يرى للقانون العلمي طبيعة تفسيرية، وأن هدف العلم هو التوصل لشرح مرض لكل ما نجده في حاجة إلى تفسير،
80 ،
81 ⋆
شريطة أن يكون شرحا مستوفيا لعدة شروط هي: (أ)
لا بد وأن يكون الشرح مفضيا منطقيا إلى ما يفسره على ألا يكون العكس صحيحا تجنبا للدورانات المنطقية، فمثلا: إذا تساءلنا عن تفسير لظاهرة أن البحر هائج اليوم، وكان التفسير هو أن كوكب أورانوس غاضب، ثم تساءلنا عن تفسير لغضب كوكب أورانوس، وكان التفسير هو أن البحر هائج، كان التفسير باطلا، أما لو كان التفسير باختلاف الضغط الجوي، أو فسرنا مد البحر بجذب القمر؛ لكانت تفسيرات معقولة لأنها تفضي إلى الظاهرة المفسرة، بغير أن تفضي الظاهرة المفسرة إليها. (ب)
يجب أن يكون الشرح قريبا من الصدق قدر المستطاع، أو بالأصح يجب ألا نكون قد تبينا كذبه نتيجة للاختبارات النقدية. (ج)
يجب أن يكون الشرح قابلا للاختبار بصورة مستقلة وأن يجد له أدلة مستقلة وأن نعطيه درجة قبول
satisfaction
على أساس درجة قسوة الاختبارات التي اجتازها،
82
أي درجة تعزيزه.
ومن الناحية المنطقية، ليس ثمة أي فارق بين الطبيعة التفسيرية الشارحة القانون العلمي وبين طبيعة التنبؤية الاختبارية، الفارق ليس من جهة البناء المنطقي بل من جهة الأشياء التي تعتبرها مطلوبة، والأشياء التي لا نعتبرها هكذا، فإذا كنا لا نطلب البناء وإنما نطلب الشروط الأولية أو بعض القوانين الكلية أو نطلب الشروط الأولية والقوانين الكلية معا، بقصد استنباط الأخبار المعلوم لنا منها، فنحن بصدد البحث عن تفسير شارح، وإذا اعتبرنا القوانين الكلية والشروط الأولية معلومة وليست مطلوبة واستخدمناها لمجرد استنباط الأخبار حتى نحصل على معرفة جديدة فنحن هنا بصدد التنبؤ، وإذا اعتبرنا إحدى المقدمتين أي القانون الكلي أو الشروط الأولية موضع سؤال واعتبرنا البناء أمرا نطلب مقارنته بنتائج التجربة فنحن هنا بصدد اختبار المقدمة موضع السؤال.
83
لذلك فالطبيعة التفسيرية الشارحة والطبيعة التنبؤية الاختبارية مجرد أوجه لعملة واحدة، فالشرح العلمي شرح سببي، على ألا نأخذ مفهوم السببية بمعنى مطلق، بل فقط بمعنى نسبي جدا؛ فهو يوضح أن حدثا معينا يكون علة لحدث آخر، وذلك بالنسبة لقانون عام يحكمهما، ولكن وضع شرح سببي لحدث معين يعني الاشتقاق الاستنباطي لعبارة تصف هذا الحدث مستخدمين كمقدمات للاستنباط قوانين عمومية بالإضافة إلى عبارات أساسية تمثل الشروط الأولية، على كل هذا يكون استخدام القانون العلمي في الغرض التفسيري هو الوجه الآخر لاستخدامه في الغرض التنبؤي الاختباري التكذيبي،
84
هكذا نجد فلسفة بوبر دائما متسقة مترابطة.
المهم الآن أن هذه النظرة للقانون العلمي تجعل له محتوى إخباري ولا يمكن أن يكون محض أداة خاوية، فلا بد إذن أن يرفض بوبر النظرية الأداتية التي لا تتسق مع نظرته التفسيرية الاختبارية ولا مع رأيه بأن المعرفة العلمية هي محاولة لمعرفة وقائع الطبيعة وعملياتها وإلا لما كانت قابلة للتكذيب وتصحيح الخطأ والتقدم المستمر.
85
لذلك عني بوبر بدحض آراء الاصطلاحيين، ويتلخص رده عليهم في أن هناك فروقا جوهرية وعميقة بين النظرية العلمية وبين القاعدة التكنولوجية الحسابية، وأن المذهب الأداتي يسري على القاعدة التكنولوجية لكن عاجز تماما عن أن يأخذ في الاعتبار الفارق بينها وبين النظرية العلمية البحتة، ومن هنا تنهار الأداتية لأن الفروق بينهما عميقة حقا، أميزها أن العلاقة المنطقية بين النظرية العلمية والقاعدة التكنولوجية هي علاقة لا تماثلية، وهي تختلف عن العلاقة المنطقية بين النظريات وبعضها، أو عن العلاقة المنطقية بين القواعد التكنولوجية وبعضها، وأن الأسلوب الذي نمتحن به القاعدة التكنولوجية يخالف الأسلوب الذي نختبر به النظرية العلمية، وأن المهارات التي يتطلبها تطبيق القاعدة التكنولوجية، تختلف عن المهارات التي يتطلبها البحث في الأسس النظرية لتحديد مجالاتها وإمكانيات تطبيقها.
86
ورغم هذا، فإن بوبر لا ينكر أن المدرسة الاصطلاحية تستحق التقدير ، فأصحابها أوضحوا العلاقة بين النظرية والتجربة، وقدروا الأهمية التي لم يقدرها الاستقرائيون لقوانا الخلاقة وللعمليات المنطقية التي تدخل في صميم التجارب، وقد تمكن مذهبهم من حل مشكلة الاستقراء.
87
لذلك فهو مذهب متسق ويمكن الدفاع عنه،
88 ⋆
ورغم أن بوبر والكثيرين لا يقبلونه فهو قوي نوعا ما، وهو لذلك لا يقتصر عليهم، فقد لجأ إليه شليك حينما تعذر التحقق من القانون العلمي، اعتبره مجرد أداة، أما البراجماتية فهي - مع إمامها تشارلز بيرس - محض مذهب موسع تفرع عن الأداتية، فقد أخذت به أكثر، فالوضعية ترى أداتية القانون العلمي الكلي فقط، بينما العبارات التجريبية المفردة اختبارية أو هي صادقة أو كاذبة تبعا للتحقق، أما البراجماتية فترى حتى «القضية الفردية مثلها مثل العدد والآلات، لا توصف بأنها صادقة أو كاذبة، بل توصف بأنها صالحة أو غير صالحة.»
89
والمعروف أن البراجماتية ترى أداتية، بمعنى التسخير الأداء مهمة ذات منفعة معينة كل شيء في الحياة، حتى القيم الخلقية والجمالية، بل وحتى الحقيقة الدينية.
والذي يهمنا أن هذا المذهب يمكن أن تلزم عنه حجة عامة ضد معيار القابلية للتكذيب وهي: أن التكذيب يعود إلى الواقع والملاحظة، في حين أن النسق العلمي بناء منطقي لا يعتمد على التجارب، بل على قوانا المنطقية، ما يعتمد على التجارب هو القواعد التكنولوجية التي نشتقها منه، أما النسق النظري للعلوم الطبيعية فهو غير قابل للتحقق وهو أيضا غير قابل للتكذيب، فطالما أن المسألة مجرد أداة منطقية تبسط الظواهر الطبيعية العقدة فيكفي أن تكون محض عبارات متسقة منطقيا ويمكن دائما أن تتوصل إلى تناظره مع الواقع، فلا تقع إمكانية التكذيب أبدا احتمال الوصول إلى تناظر النسق مع الواقع، قائم دائما وبأكثر من طريقة بأن تقدم فروضا أو تعريفات عينية
ad hoc ، لغرض التملص من التكذيب، أو بتعديل التعريفات المحددة من قبل، أو بالتشكيك في قيمة التجارب وحقيقيتها، باختصار يمكن دائما التملص من التكذيب فلا يقع أبدا إذن تبعا للمدرسة الاصطلاحية. - وتبعا لإمكانية التملص من التكذيب التي يمكن أن تقوم في أية مدرسة يستحيل تقسيم النظريات إلى أنساق قابلة للتكذيب وأنساق لا تقبله، أو بالأحرى ستكون القسمة مبهمة ويصبح معيار القابلية للتكذيب غير ذي قيمة بوصفه معيارا لتمييز العلم. (4) في الرد على هذا ينبغي أولا ملاحظة أن معيار القابلية للتكذيب له وجهان:
وجه منطقي، متعلق بالإجراءات المنطقية المعتمدة على العبارات أساسية، وهي واضحة دقيقة حاسمة، شأن كل ما هو منطقي.
وجه منهجي، متعلق بالإجراءات المنهجية واتخاذ القرارات التي تحدد مصير النظرية وهي من الصعب تحديدها، أو حتى القيام بها على وجه الدقة الحاسمة فهي شأن كل ما هو منهجي؛ مبهمة عامة.
90
ولنلاحظ أن هذا الاعتراض متعلق بالجانب المنهجي من التكذيب، بأسلوب التعامل مع النظرية وجعلها متكيفة دائما مع الواقع؛ لذلك لا يكون رد هذا الاعتراض إلا باتخاذ قرار منهجي هو: ألا تتبع أبدا منهج الاصطلاحيين، وهذا أفضل لأن اتجاههم ضار ولقد توصل ج. بلاك
J. Blak ، قبل إمامهم هنري بوانكاريه بأكثر من مائة عام إلى تقييم هذا الاتجاه الاصطلاحي قائلا: التعديل اللطيف للظروف سوف يجعل أي فرض متسقا مع الظواهر، وهذا أسلوب يشبع الخيال، لكنه لا يفيد في تقدم المعرفة.
91
لذلك فمن منطلق الحرص على تقدم المعرفة، والاقتناع بأن طرح الفروض القابلة للتكذيب هو أضمن أساليب هذا التقدم؛ لأننا حين نضع أيدينا على مواطن الكذب سوف نتمكن من الوصول إلى الفرض الأصوب الذي يتجنبها، وهكذا دواليك ... عن هذا المنطلق لا بد وأن نأخذ على خط مستقيم قاعدة منهجية تناقض مثيلتها عند الاصطلاحين، فبالنسبة للفروض المساعدة
Auxiliary hypothesis
التي يدعي الاصطلاحيون أنها يمكن أن تبطل دائما عملية التكذيب، يمكن أن نحكمها بقاعدة نتفادى بها هذا، وهي: تقبل فقط الفروض التي لا تقلل درجة قابلية تكذيب؛ أي اختبار النسق المطروح للبحث، بل على العكس تزيدها، وهذا الفرض الجديد، الذي سيزيد درجة القابلية للتكذيب، من شأنه أن يقوي النظرية فيجعلها تستبعد أكثر وتمنع أكثر مما كانت تمنعه قبل طرح الفرض، وعلى هذا يصبح تقديم فرض مساعد جديد، يجب وأن يؤخذ دائما لمحاولة لبناء نسق جديد، نسق نحكم عليه على أساس ما إذا كان سيمثل بالفعل تقدما في معرفتنا بالعالم الخارجي أم لا.
92
وبهذا نلاحظ أن تقديم الفروض المساعدة لا يشكل عقبة ميثودولوجية في وجه القابلية للتكذيب، بل على العكس سيساهم في تأكيدها؛ إذ سيساعد على نمو العالم.
وهذا هو الرد على كل من يتمسك بإمكانية تحصين النظريات ضد التكذيب سواء أكان اصطلاحيا أم غير اصطلاحي. (5) ولكن في هذا الصدد يجب أن نميز بين الفروض المساعدة والفروض العينية
ad hoc hypothesis
على أساس أن الفروض العينية مغرضة، وهي التي تعني فعلا قلبا وقالبا، أصلا وهدفا، التملص من التكذيب، ويبدو أنها هي التي كانت في ذهن الاصطلاحيين في معرض اعتراضهم على معيار القابلية للتكذيب.
والفرض العيني هو الفرض الذي يوضع لتفسير ظاهرة بعينها أو حدث بعينه، وليس له ما يؤيده غير هذه الظاهرة أو هذا الحدث، ويقابله الفرض الذي تقوم على صدقه بينة مستقلة؛ أي الذي تؤيده أمور أخرى غير التي وضع أصلا لتفسيرها،
93
وهذا هو الفرض المساعد حقيقة، والفرض العيني لا يمكن اختباره مستقلا عن النسق ككل، بعكس الفرض المساعد، ويمكن دائما وضع فرض عيني يغطي موضع الكذب الذي نكتشفه في النظرية مما يحمي النظرية من التفنيد؛ ومن ثم يجعل محاولة التكذيب مستحيلة الوصول إلى نهاية معينة، وحل هذه المشكلة كما يثيرها الاصطلاحيون - أو أي سواهم - يكون بالتمييز بين الفروض المساعدة والفروض العينية، فنقبل الأولى ونرفض الثانية، والتمييز بين الفرض العلمي والفرض المساعد مثل أي تمييز ميثودولوجي أمر مبهم يكون فقط على وجه التقريب، مثلا قدم فولفجانج باولي فرض «النيوترينو» تماما كفرض عيني، ولم يأمل في إمكانية التوصيل يوما إلى دليل مستقل له، بل وكان مثل هذا الدليل مستحيلا في وقته، لكن مع تطور المعرفة عن جسيمات الذرة أصبح فرضا مساعدا وأمكن اختباره مستقلا؛ لذلك لا يجب أن نتحامل بقسوة على الفروض العينية فقد تصبح يوما ما قابلة للاختبار المستقل، وقد يكون اختبارا مفندا فيؤدي بنا إلى التخلي عن الفرض والتوصل إلى فرض عيني جديد، قد يصبح مع الأيام فرضا مساعدا وهكذا ...
94
وهذا السماح المثيودولوجي البسيط بأننا لا ينبغي أن نخشى الفروض العينية أكثر من اللازم؛ لأن هناك تفنيدات لا يمكن تجنبها بأية حال، يبرره أن معيار القابلية للاختبار بصفة عامة يسلحنا ضدها، وأن جميع العلماء على وجه التقريب يتحاشون الفروض العينية دائما، ولم يكن باولي سعيدا أبدا بفرضه.
95 (6) وتأكيدا لهذا المنحى الصحي للعلماء، يدعمه بوبر بقاعدة متعلقة بالإجراءات الفعلية للمنهج العلمي، ومتممة لقاعدة نبذ الفروض العينية والأخذ بالفروض المساعدة، السابقة المتعلقة بمنطق المنهج، وهذه القاعدة هي أن يتسلح العالم بقدر من الأمانة الفكرية ألا يكون مثل هؤلاء الذين رفضوا النظر إلى تلسكوب جاليليو؛ لأنهم يعنون بأن يكونوا على صواب، أكثر من عنايتهم بأن يعرفوا شيئا جديدا، وهم قلة لا يحسب لها حساب.
96
فإذا كان العالم سيتحاشى التكذيب بأي ثمن فسيعمل على إعادة تفسير الأدلة كي تتوافق مع قضاياه، وسيصبح تناوله غير علمي بشكل يمثل خلفا محالا
Absurdity ،
97
بل سيتنازل عن العالم التجريبي بأسره.
وقد أشار بفردج إلى كل هذا، وإلى ضرورة عدم التشبث بالأفكار التي لا تثبت صلاحيتها «فينبغي أن نكون على استعداد للتخلي عن فروضنا أو تعديلها طالما يتضح أنها لا تتمشى مع الوقائع، وليس هذا بالأمر الهين كما يبدو للوهلة الأولى، فعندما يبتهج المرء أن يرى إحدى بنات أفكاره الجميلات تبدو قادرة على تفسير كثير من الحقائق التي لولاها لكانت متنافرة، وعندما يجد هذه الفكرة مبشرة بالمزيد من التقدم؛ فقد يغريه هذا بالتغاضي عن أية مشاهدة لا تتفق مع الصورة التي نسجها، أو على التخلص منها بأي تفسير، فليس من النادر أبدا أن يتمسك الباحثون بفروضهم المهلهلة، متعامين عن الأدلة المعارضة لها وأن يتعمدوا إخفاء النتائج المخالفة لفروضهم.»
98
أي المكذبة لها، بل وحل بفردج هذا بقاعدة شبيهة بقاعدة بوبر، لكن طبعا ليس في دقتها إذ قال: إذا فشلت نتائج التجربة أو المشاهدة الأولى في دعم الفرض، فمن الممكن أحيانا بدلا من نبذه كليا في أن نوفق بينه وبين الحقائق المعارضة له بواسطة فرض إيضاحي ثانوي،
99
أي مساعد المهم دائما هو قبول النقد؛ إذ إن رفض النقد - الذي هو في العلم الاختبار ومحاولة التكذيب - أمر خطير للغاية؛ إذ إنه مجلبة للدوجماطيقية، ولكن أيضا لا ينبغي أن يترك العالم نظريته بسهولة فهذا يعني أنه لم يكتشف الإمكانيات المختبئة فيها، وفي العلم يوجد دائما مكان للمساجلة والنقاش والهجوم والدفاع، وبهذا نتمكن من اكتشاف جميع إمكانيات النظرية، الفرض العلمي حدس افتراضي
Conjecture
ويجب أيضا أن يحدس العالم افتراضيا: أين يجب أن يتوقف الدفاع عن نظريته المفضلة ومتى يجب أن يبحث عن نظرية جديدة.
100
والقاعدة الأساسية أن يتسلح العالم بسلاح النقد الذاتي؛ النقد الذاتي لنظريته والنقد الذاتي لنقد نظريته، كما سبق أن أرشده بوبر في فصل «منهج العلم». (7) الخلاصة: إن التحصين ضد التكذيب خطر على العالم؛ لذلك لا يجب أن نتملص من التفنيدات، لا بتقديم افتراضات وتعريفات عينية لهذا الغرض بالذات ولا بأن نرفض قبول النتائج التجريبية غير الملائمة للنظرية، ولا بأية وسيلة أخرى مماثلة وأن نشكل نظرياتنا بعيدا عن الغموض قدر الإمكان؛ لكي نعرضها بوضوح للمناقشة الاختبارية، ومن الناحية الأخرى يجب ألا نتخلى عن نظرياتنا بسهولة؛ لأن ذلك موقف غير نقدي تجاه الاختبارات.
101
ويعلق بريان ماجي على هذا بأن التكذيب القاطع أمر يمكن الوصول إليه على المستوى المنطقي، ولا يمكن على المستوى الميثودولوجي، وهذا يعني أن بوبر تكذيبي بدائي على مستوى المنطق، غير أنه تكذيبي سام على المستوى المنهجي.
102
خاتمة (1) على هذا النحو كانت محاولة بوبر لتقديم معيار يميز العلم التجريبي عن طريق قابليته للتكذيب، ولعلها توضح أن دور القابلية للتكذيب كمعيار للعلم التجريبي يماثل دور عدم التناقض كمعيار للعلم بأجمعه، فالنسق المتناقض يفشل في تفريد
to single out
فئة فرعية ملائمة من فئة كل العبارات الممكنة، وبالمثل النسق غير القابل للتكذيب، يفشل في تفريد فئة فرعية ملائمة من فئة كل العبارات التجريبية الممكنة،
103
ويمكن أن نستعير ها هنا تعبير الإمام الغزالي؛ فقد رأى هو الآخر أن دور معيار العلم بالنسبة للعلم - أو بالنسبة لأدلة العقول - كدور العروض بالنسبة للشعر، أو دور النحو بالنسبة للإعراب، إذا كما لا يعرف منزحف الشعر عن موزونه إلا بميزان العروض، ولا يميز صواب الإعراب عن خطئه إلا بمحك النحو، كذلك لا يفرق بين فاسد الدليل وقويمه وصحيحه وسقيمه إلا بهذا الكتاب،
104
أي كتاب معيار العلم، ويؤكد الغزالي أن كل نظر لا يتزن بهذا المعيار هو فاسد العيار غير مأمون الغوائل والأغوار.
105
وكما هو معروف، فإن ما تصوره الإمام الغزالي من معيار للعلم لا يعدو أن يكون المنطق الأرسطي وقياسه العقيم، وهو بالطبع معيار لا يجدي فتيلا في العلم الذي نحاول تمييزه الآن أي العلم الطبيعي الاحتمالي دائم التقدم القابل للتكذيب؛ فالعلم الذي أراد الغزالي تعييره بمعياره ذلك هو العلم اليقيني الذي يقوم على البرهان الحقيقي والبرهان الحقيقي هو ما يفيد شيئا لا يتصور غيره وذلك حسب مقدمات البرهان، فإنها تكون يقينية أبدية لا تستحيل ولا تتغير أبدا،
106
والعلم اليقيني «هو أن تعرف أن الشيء بصفة كذا مقترنا بالتصديق بأن لا يمكن ألا يكون كذا، فإنك لو أخطرت ببالك إمكان الخطأ فيه والذهول عنه لم ينقدح ذلك في نفس أصلا.»
107
وبالطبع العلم الحقيقي الذي نريد نحن تمييزه هو بالضبط نقيض هذا، فهو على وجه التحديد الدقيق: ما يفيد شيئا يتصور غيره؛ لأنه العلم اللايقيني.
وحقا أنه ليس ثمة مجال لهذه المقارنة بين المعيارين؛ لأن العلم الذي وضع الغزالي معياره هو العلم الديني والعلوم الفقهية اليقينية التي يناسبها كثيرا المنطق الأرسطي، فهو يستخلص من مقدماتها الكبرى الكلية - التي هي إلهية أي قاطعة اليقين - النتائج الضرورية، اليقينية بالتالي، التي تلزم عنها، غير أن الغزالي نفسه قد أراد أصلا بمعياره هذا أن يثبت تهافت العلوم المكتسبة عن طريق العقل أو عن طريق التجربة، وخصوصا العلوم التجريبية، مقارنة بتلك العلوم اليقينية، وكان الأدنى إلى الصواب أن يدرك الغزالي أن هذين العلمين: العلوم الدينية والعلوم المكتسبة لا منافسة ولا تناطح بينهما، فلكل مصدره ومجاله وأيضا معياره. (2) ولكن على الرغم من أن دور معيار القابلية للتكذيب بالنسبة للعلم، يماثل دور مبدأ عدم التناقض، فإن بوبر قد طرح محاولته واضعا نصب عينيه أننا يجب أن نترك أي تساؤل عن التبرير، إذا كان التبرير يعني إثبات الصدق، فكل النظريات فروض يمكن أن تترك يوما ما؛ لذلك فإن محاولة بوبر لن ترضي أولئك الذين يبحثون عن نسق من العبارات قاطعة اليقين غير قابلة لإثبات الخطأ، أولئك الذين يرجعون ماهية العلم وكل عظمته إلى صدق عباراته، إنهم لن يتقبلوا محاولة بوبر، وهذا يسعده كثيرا لأن يختلف معهم اختلافا شكليا وموضوعيا، سببه أن نظرتهم المغرورة للعلم لن تنطبق على أشد فروعه تقدما، وأعظمهما احتراما في نظر بوبر؛ أي الفيزياء البحتة.
108 (3) ولكن لنلاحظ أن العبارات الأساسية تلعب دورين مختلفين، فقد استخدمنا نسقا من كل العبارات الأساسية الممكنة منطقيا؛ كي نحصل بمساعدتها على إثبات الخاصة العلمية التجريبية، فهي المحك الأخير في هذا الإثبات، لكننا من الناحية الأخرى ننتهي إلى فئة من العبارات الأساسية فقط المقبولة، لتكون أساس الحكم على النظرية إما تعزيزها وإما تكذيبها وتعزيز الفرض المكذب لها حسب نتيجة الاختبار، وأيا كانت النتيجة فإنها تعني التوقف عند عبارات أساسية معينة تقرر قبولها.
والخلاصة أن العبارات الأساسية هي النهايات التي ينتهي عندها كل استنباط، وهي أيضا لا بد وأن تدخل في مقدمات كل استنباط، أي إنها أساس معيار التكذيب؛ لذلك يجمل بنا أن نفرد لها الفصل التالي.
الفصل الثاني
العبارات الأساسية
(1) مشكلة العبارات الأساسية (1) لنلاحظ حتى الآن أن كل بحث منهجي في النظرية العلمية: الكشف عن خاصيتها العلمية أي قابليتها للتكذيب والاختبار، والاختبار سواء انتهى إلى تعزيز أو تكذيب، وأيضا الفرض المكذب، كل ذلك يعتمد على العبارات الأساسية، أن لها الدور الأعظم وهي المحك الأخير. (2) لكن هناك مشكلة إبستمولوجية خطيرة تحيق بها، فنحن نتثبت من الخاصة العلمية للنظريات، عن طريق العبارات الأساسية، التي هي الأسس التجريبية للنظرية العلمية، ولكن كيف يمكن أن نتثبت من الخاصة التجريبية للعبارات الأساسية، وكيف يمكن اختبارها، الأمر الواقع يقول: إن الخطأ قد يحدث في عملية الملاحظة الحسية، وهذا قد يؤدي إلى عبارات أساسية خاطئة، ومن النادر أن يفكر العالم في كون العبارة الأساسية - التي هي خصوصية - لا تجريبية،
1
ربما نظرا لما قصرت عليه القضايا الميتافيزيقية من عمومية وكلية؛ لذلك لا بد من وضع شروط للعبارات الأساسية تقي من هذا.
وبخلاف هذا فإن مشكلة العبارات الأساسية، تختلف عن معظم مشاكل منطق العلم؛ إذ تتعلق هذه المشاكل بالممارسة العملية للبحث العلمي، أما مشكلة العبارات الأساسية فهي لا تهم العالم كثيرا وهو منشغل ببحثه، بل تتعلق أكثر بنظرية المعرفة،
2
إنها إذن ذات أهمية خاصة بالنسبة لنا - نحن الباحثين - في فلسفة العلم، أهمية إبستمولوجية. (3) غير أن التجريبيين والوضعيين لا يرون في العبارات الأساسية وإثبات خاصيتها التجريبية أية مشكلة إبستمولوجية أو غير إبستمولوجية؛ لأنهم يسلمون بأن المعطيات الحسية هي المعبر الوحيد لأية عبارة علمية، وهي المصدر الوحيد للمعرفة، وأن التفكير الخالص لا يزيد المعرفة بالعالم الخارجي قيد أنملة، فكل ما نعرفه عن عالم الوقائع، يجب أن يكون قابلا للتعبير في صورة عبارات عن خبراتنا، والإحساس الفوري بما توصله العبارة هو الذي يحدد صدقها، أي يحدد اتفاق حدودها مع معطيات الخبرة أو عدم اتفاقها.
3 ⋆
ومن هنا يؤكدون أن العبارات الأساسية مطروحة بغير مشكلة، وبغير احتياج إلى محك للصدق أو الكذب، والعبارة الأساسية لا تعتبر كاذبة إلا إذا تناقضت مع فئة العبارات الأساسية المقبولة، وإذا لم تتناقض فهي صادقة، وهذه الفئة لا تتميز أصلا إلا بواسطة صورتها المنطقية التي تعبر عن أن الحادثة كذا حدثت في المكان كذا والزمان كذا، والتقييد الوحيد عليها هو أن مدى الأحداث التي تنقلها، أي مكانها وزمانها، يجب أن يكون قابلا للملاحظة بوضوح، ويرى آير أنها طالما حدثت ووقعت في الخبرة؛ أي لوحظت، فهي مقبولة، فالفرد لا يمكن أن يخطئ بصدد خواص المعطيات الحسية؛ لأنها معروفة مباشرة، ومن هنا كانت هذه العبارات التي هي تقريرات الذات عن الخبرات التي تتلقاها تبرهن نفسها بنفسها، وهي لهذا تمدنا بالأساس الأكيد الذي تقام عليه المعرفة التجريبية بأسرها،
4
وتوقف الارتداد الذي لا نهاية له.
ويوضح هربرت فيجل أنهم يمضون في تحليلاتهم على هذا الأساس، فيكون التحليل عبارة عن التثبت منها عن طريق الرجوع التدريجي إلى معطيات الخبرة، ويعتقدون أنهم بهذا استبعدوا كل الاعتبارات السيكولوجية، ولم يسمحوا إلا بالاعتبارات المنطقية، فيترتب على هذا تحليل الألفاظ والجمل المشتقة من سواها، باعتبارها تركيبات منطقية، مقامة على ألفاظ وجمل أولية تكون ذات صلة مباشرة بالخبرة، فيكتفي تحليل العبارات العلمية تماما بتتبعها إلى مستوى العبارات والألفاظ الدالة على الوقائع الخبرية؛ أي العبارات الأساسية، فتكون هي الأصول البسيطة التي ترتد إليها المعرفة ممثلة الأساس الراسخ الوطيد.
5 (4) لكن بوبر يرى أن العبارات ليست مؤسسة على الخبرة بهذه البساطة؛ إذ لا توجد أية خبرة خالصة أو تقرير خالص عن الخبرة، هناك عملية ترنسندنتالية متأصلة في أي وصف للخبرة، فكل عبارة لها خاصية النظرية أو الفرض، حتى أبسط عبارة «هنا كوب ماء.» «كوب» كلمة كلية تشير إلى أجسام تنتظم جميعها تحت ما يشبه القانون الذي ينظم سلوكها وسلوكنا بإزائها، بإزاء كل ما يتخذ سمة الكوب،
6
فكيف يمكن حصرها في خبرة حسية فورية، العبارات المفردة الدالة على الوقائع الجزئية ليست أقل تجريدا من النظريات العلمية الكلية، في فلسفة بوبر ليس هناك أي فارق منطقي بين عبارة «كل البجع أبيض.» وبين عبارة «لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.» لأن أسبقية التوقعات على أي مدرك حسي - ليس في العلم فحسب، ولكن في الحياة بصفة عامة - تجعل الطابع الفرضي الاحتمالي لعبارات العلم منطبقا على سائر العبارات؛ لذلك يؤكد بوبر أن كل عبارة - مهما كانت بسيطة - هي نظرية، وكما سبق أن أوضح كانط فإن المدركات مصبوبة في قوالب العقل، أي مؤولة على ضوء مقولاته، وفكرة وجود معطيات غير مؤولة هي بدورها نظرية وليست واقعة خبرة، فضلا عن أن تكون نهائية أو واقعية أساسية.
لهذا لا توجد أية أسس تجريبية غير مؤولة، أو تعبر عن معطيات غير مؤولة، فمثل هذه المعطيات لا توجد أصلا، أبسط الوقائع التجريبية دائما مؤولة في ضوء النظريات ومشبعة بها،
7
وبالفروض التي تلقى بها الذهن الخبرة، ويمكن أيضا - بخلاف كل هذا - أن نلقي تجسيدا للبون الشاسع بين معطيات الحس وبين وقائع الخبرة مع هلمهولتز وماخ، فنظرية هيرمان لودفيج هلمهولتز
Herman Ludwig von Helmholtz (1821-1894م) المعروفة باسم نظرية الهيروغليفات تذهب إلى أن إحساسات الإنسان وأفكاره ليست نسخا للأشياء الواقعية والعمليات الطبيعية، وليست صورا طبق الأصل عنها، بل إشارات اصطلاحية، رموز، هيروغليفات؛ ذلك لأن هلمهولتز عالم كبير ذو ميول كانطية، واعتبر الإحساسات مجرد رموز لعلاقات العالم الخارجي، وقد أنكر عليها كل مماثلة أو تعادل مع الأشياء التي تمثلها،
8
وذلك عكس ماخ الذي رأى في الأشياء مجرد رموز لمجموعة معقدة من الإحساسات.
ولكل ذلك لن تجدي إطلاقا الإشارة إلى فارق بين النظرية الكلية وبين العبارات المفردة، كأن نقول: إن الأخيرة عينية، بينما النظريات محض صياغات رمزية مجردة؛ إذ يمكن أن نقول نفس الشيء عن أكثر العبارات عينية،
9
إن العبارات الخصوصية الدالة على الوقائع الجزئية ليست أقل تجريدا من النظريات العلمية الكلية.
فرغم أن مذاهب الوضعيين تبدو أنها تجعل العبارات الأساسية بغير مشاكل، إلا أننا لا ينبغي أن نلتفت إليها، فقد أسقط الباب الأول خرافة الاستقراء، ثم أسقط الباب الثاني فلسفة الوضعية الخالصة ومطالبها التحققية، أوضح بوبر أن معطيات الحس المتاحة، التي يبنى عليها العلم، هي تأملات في ضوء نظريات ، مطبوعة دوما بالطابع الحدسي الفرضي لكل النظريات، ومن هذا المنطلق، نلاحظ أن بوبر غير مصطلحاته في «منطق الكشف العلمي» كان يستعمل مصطلح «الأسس التجريبية»، لكنه لاحظ أن هذا المصطلح يلقي في الروع إيحاء الحسيين من أن العلم «مؤسس» على الخبرة الصلبة التجريبية، فتركه رغم أنه أكثر تعبيرا، وفضل استعمال مصطلح «العبارات الأساسية»، ليوضح أن المسألة مسألة اصطلاح واتفاق على عبارات معينة، مسألة اتخاذ قرار، ليؤكد أن الأسس التجريبية للعلم الموضوعي ليست ثابتة، وليس فيها أي شيء مطلق، وأنها تقارن بالمستنقع الرخو وليس بالأرض الراسخة،
10
وأن العلم لا يرسو على صخور صلبة ثابتة، بل إن البناء الجريء لنظرياته هو تشييد صرح عظيم على ركام،
11
ركام لا يقوم على أساس، وإن كان ركاما تجريبيا. (5) لذلك فإن مشكلتها - أي مشكلة العبارات الأساسية - بحق عميقة وخطيرة؛ فقد أوضح ج. ف . فرايز
G. F. Freis - وهو أحد المفكرين القلائل الذين شغلتهم أسس الخبرة بعمق - أنها تجعل البحث العلمي محاصرا بأخطار ثلاثة: الدوجماطيقية - ارتداد لا نهاية له
Infinite Regress - النزعة السيكولوجية
.
إذا كنا لن نقبل عبارات العلم دوجماطيقيا، فلا بد وأن نبررها، إذا لجأنا إلى التبرير المنطقي بواسطة الحجج العقلية، فسيكون تبرير العبارات فقط بواسطة عبارات، وهذا يقود إلى ارتداد لا نهاية له، أما إذا صممنا على الرجوع إلى الخبرة الحسية، فيبدو أننا سنلجأ إلى النزعة السيكولوجية طالما سنبرر العبارات بالمدركات الحسية، حيث نجد المعرفة الفورية
Immediate Knowledge
التي يمكن أن نبرر بها المعرفة الوسطية
mediate Knowledge : المعرفة المعبر عنها في رموز وسيطة،
12
فيكون التأصيل التجريبي للعلم في الإقرار بأن عباراته الأساسية مجرد معرفة وسيطة انتقلت من المعرفة الفورية، التي هي مدركات الحس، إنها إذن النزعة السيكولوجية، وقد أوضحت مناقشة جمل البروتوكول مدى تردي الوضعية فيها، وإذا حاولنا تجنبها، وجدنا أن العبارات - رغم التوثيق الحسي للعلم - تبرر فقط بواسطة العبارات، طالما أن المسألة كلها تعبيرات لغوية مما يلقي ظلال الشك والإبهام، بل والاستحالة على العلاقة بين العبارات الأساسية وبين الإدراك الحسي، وهذا سيقود إلى ارتداد لا نهاية له، بل والمشكلة أكثر من ذلك؛ إذ إنها تناقض ظاهري
فلو نظرنا إلى العبارات على أنها منطق بحت فهذا يقود إلى ارتداد وإذا نظرنا إليها على أنها حس بحت، فإن هذا يقود إلى النزعة السيكولوجية، فهل نلجأ إلى الدوجماطيقية؟ المشكلة إذن خطيرة. (2) حل بوبر لمشكلة العبارات الأساسية (1) الآن كيف يتفادى بوبر هذه الأخطار الثلاثة؟ أو كيف يحل المشكلة؟
بالنسبة للدوجماطيقية فهي غير ذات شأن؛ لأن بوبر فيلسوف النقد، فبداهة لا بد أن يرفض أن قبول دوجماطيقي للعبارات، إننا بالفعل لا نخشى إلا بأس الخطرين: الارتداد بلا نهاية والنزعة السيكولوجية، إنها المحاصرة بين الوقوع في الحس البحت أو في المنطق البحت. (2) بوبر يحل هذا التناقض، مثلما حل أي تناقض شبيه في أية زاوية أخرى من زوايا منطق العلم - أي عن طريق الفصل الحاسم بين وجهة المشكلة السيكولوجي وبين وجهها المنطقي الميثودولوجي؛ إذ يجب أن نميز بين معرفتنا وخبراتنا الذاتية واعتقاداتنا وشعورنا - وهذا موضوع علم النفس، وبين العلاقات الموضوعية بين الأنساق المختلفة من العبارات العلمية، وفي داخل كل منها.
13
الملاحظة تعطينا معرفة متعلقة بالوقائع ونحن نلم بالوقائع فقط عن طريق الملاحظة، غير أن إلمامنا هذا لا يقيم صدق أية عبارة، وكما أوضح فصل «المعرفة موضوعية» لا ينبغي أن تشغل الإبستمولوجيا بتساؤلات حول أسس معرفتنا، وبدقة أكثر عن السؤال: أنا الذي أملك الخبرة «س»، كيف يمكن تبرير وصفي إياها؟ وكيف يمكن الدفاع عنها ضد أي شك؟
14
فهذا تناول سيكولوجي وموقفه ليس بالضعيف بل هو منتشر انتشار المعرفة الذاتية، فحتى وقت قريب كانت هذه النزعة مأخوذا بها في المنطق فيعتبر علم العمليات العقلية وقوانينها؛ قوانين الفكر، وتبعا لهذا الاتجاه فإن التبرير الوحيد للمنطق هو أننا لا نستطيع أن نفكر بأية طريقة أخرى، والاستدلال المنطقي ليس له أي تبرير إلا أننا خبرناه كضرورة فكرية، كشعور بأننا مجبرون على التفكير تبعا لخطوط معينة، هذا
15
الاتجاه السيكولوجي معروف في المنطق أهم أعلامه ميشيل مونتاني وهيوم وفرديناند شيلر
F. Schiller ، وهم ينكرون أي استقلال للمنطق عن علم النفس حقا،
16
هذا الاتجاه المنطقي قد أصبح من شئون الماضي، فمن المستحيل الآن أن يحاول أحد تبرير استدلال منطقي بأن يكتب على هامشه: مررت بخبرة شعور حاد باقتناعي بهذا الاستدلال،
17
لكن الأمر مختلف في فلسفة العلم حيث نجد النزعة السيكولوجية راسخة القدم وقد عبرت جمل البروتوكول عنها بقوة؛ إذ أراد كارناب أن يبني اللغة الفيزيائية أو لغة العلم الموحد عليها، بل ويسود الاعتقاد بصفة عامة بأن عبارات العلم التجريبية مؤسسة على الخبرات التي هي مدركات الحس، أي إن النزعة السيكولوجية ضعيفة في المنطق؛ لأن الجميع على وعي بها فيتجنبونها، لكنها قوية في المعرفة التجريبية، أي العلم؛ لأنها مقنعة بقناع النزعة الفيزيائية.
بالطبع ولا بد وأن يقر بوبر أنها مرفوضة في المجالين على حد سواء، فالإدراك الحسي والاعتقاد والاقتناع، والشعور بأننا مجبرون على التفكير بطريقة معينة ... كل هذه اهتمامات السيكولوجي لا الإبستمولوجي، في فصل «المعرفة موضوعية» حارب بوبر أي انشغال ذاتي في ميدان الإبستمولوجي، وفي الباب الثاني عاب على كارناب ونيوراث سيكولوجية عبارات البروتوكول، فلا بد إذن أن يرفض هذه النزعة السيكولوجية، ويؤكد على موضوعية العبارات الأساسية، ولكن كيف أكد بوبر على هذه الموضوعية وفي موقع هو مرتع خصب للنزعة السيكولوجية؟
في «منطق الكشف العلمي» أكد على موضوعيتها بإيضاح أن التساؤل الإبستمولوجي الأساسي هو: كيف يمكن اختبار العبارات العلمية بواسطة نتائجها الاستنباطية؟ أو أي نوع من النتائج ننتقيها لتكون بدورها قابلة للإخبار البين-ذاتي؟ وهذا النوع من التناول الموضوعي اللاسيكولوجي يمكن قبوله دائما حينما يكون التعامل مع عبارات منطقية وتحصيلات حاصل،
18
مما يؤكد: من ناحية استنباطية منهج العلم، ومن الناحية الأخرى - وهي الأهم الآن - أن تناول العبارات الأساسية في العلم، لا يختلف إطلاقا عن تناول صياغات منطقية، كلاهما - وكل ما هو إبستمولوجي - موضوعي صرف.
جاء بوبر بعد عشرين عاما ليعدل السؤال السالف الذي يحدد الإبستمولوجية التجريبية تحديدا يؤكد موضوعية العبارات الأساسية، ليكون على الصورة التالية: ما هي أحسن صورة لنقد النظريات أو الفروض، بدلا من أن ندفع عنها الشك؟
19
واضح أننا لا نجد فارقا كبيرا بين التساؤلين، وأن الثاني يفترض ضمنا الأول ، بيد أنه يتطرف عنه في التأكيد على أهمية النقد وأساسه، أي الاختبار، وعلى إدراك أهمية تكذيب النظرية وكل هذه العوامل - النقد، الاختبار، البحث عن التفنيد - هي ما يضمن الموضوعية، وبصفة عامة فإن نظرية بوبر في مسار منطق العلم وإجراءاته المنهجية هي ما يؤكد موضوعية العبارات الأساسية، فالاستدلال العلمي استنباطي، وليس هناك إلا طريق واحد للتأكد من صحة سلسلة الاستدلالات المنطقية، هو أن نضعها في الصورة التي يمكن فيها اختبارها بسهولة: نقسمها إلى خطوات صغيرة عديدة، كل منها تسهل مراجعتها وفحصها على كل من درس الأساليب الفنية المنطقية الرياضية، لتحويل الجمل
transforming of Sentences
وبعد هذا، إذا استمر أحد يثير الشكوك، فسنطلب منه أن يعين الخطأ في خطوات البرهان، أو أن يفكر في المسألة من جديد،
20
هذا هو حال المنطق، وهو نفس حال العلوم التجريبية، فهما سيان في الموضوعية، جملة وتفصيلا؛ إذ يمكن استحضار العبارات الأساسية بنفس الطريقة التي تمكن كل من درس الأساليب الفنية الملائمة، من اختبارها تماما كالنظريات، وإذا رفضها فلن تعنينا مشاعره أو اعتقاداته أو شكوكه، بل يعنينا أن يصوغ تقريرا يناقض التقرير الذي وضعناه، معززين به العبارة، وأن يعطينا الإرشادات لكيفية اختبار هذا التقرير، وإذا فشل في هذا سنطلب منه أن يدرس العبارة بعناية أكثر، وأن يعيد التفكير ثانية، أما التقرير الذي تحتم صورته المنطقية أنه غير قابل للاختبار، مهما كانت درجة وثوقه السيكولوجية، فلا يمكنه - على أحسن الفروض - أن يلعب في العلم أكثر من دور المنبه الذي يثير مشكلة، أو يلعب دور عنصر الوحي والإلهام لحدس حل للمشكلة، لكن يستحيل أن يلعب أي دور ميثودولوجي أو منطقي أو إبستمولوجي،
21
فإن قبول العبارات الأساسية قد يكون ذا علاقة سببية بخبراتنا، وخصوصا خبرة المدركات الحسية، بيد أننا لن نحاول تبريرها بهذه الخبرات.
هذا الفصل الحاسم بين الوجه السيكولوجي وبين الوجه المنطقي الميثودولوجي، هو الذي مكن بوبر من التأكيد على موضوعية العبارات الأساسية؛ وبالتالي أنقذ بوبر من مآل الوضعيين وجمل البروتوكول؛ أي من الوقوع في الهاوية السيكولوجية.
نحن الآن بمأمن من الخطرين ؛ الدوجماطيقية، والنزعة السيكولوجية.
22 (3) لم يبق إلا الخطر الثالث، خطر إمكانية ارتداد لا نهاية له، وبوبر سيتفادى هذا الخطر بتأكيد نسبية العبارات الأساسية، أي كون قبولها محض قرار.
فمن المعروف أن أي اختبار للنظرية - سواء انتهى إلى تعزيزها أو إلى تكذيبها - لا بد وأن ينتهي إلى عبارات أساسية نقرر قبولها، وإذا لم نقرر قبول عبارات أساسية معينة، فإن الاختبار لم ينته إلى شيء، وهو فاشل لا بد من إعادته، من الناحية المنطقية لا بد حتما من أن نجبر على الوقوف عند عبارات أساسية معينة بدلا من أخرى، وإلا فإننا نترك الاختبار بأسره ونلجأ إلى غيره.
أي لا بد من الوقوف عند عبارات أساسية معينة، لكننا في الفقرة السابقة أكدنا موضوعية العبارات الأساسية عن طريق تأكيد أن كل عبارة يمكن أن تصبح بدورها موضوعا للاختبار، لكن هذه العملية - كما أوضح كارناب في نقده لمنطق بوبر، وكما وافق بوبر على هذا - تؤدي إلى ارتداد لا نهاية له
Infinite Regress
لكي يوقف بوبر هذا الارتداد، يقول: إن الاختبار عملية منطقية لا بد وأن تقرر التوقف في إحدى مراحلها، هذا التوقف للارتداد محض قرار نتخذه، ونلاحظ أن بوبر في كل مناسبة يكرر التعبير «عبارات نقرر التوقف عندها.» «عبارات نقرر قبولها.» لأن المسألة أولا وأخيرا مجرد قرار نتخذه، وشأنه شأن أي قرار يدل على قوة العزيمة ووضوح الرؤية، وإذا أخذنا في الاعتبار أن العبارات الأساسية هي لنقل الوقائع التجريبية إلى عالم المنطق، أمكننا الانتقال من عالم المنطق البحت إلى عالم الميثودولوجي البحت، حيث نجد بفردج يقول: «يكمن القدر الأكبر من معرفة الباحث العلمي، وجزء كبير من عبقريته، في قدرته على اختيار ما يستحق الملاحظة وهو اختيار حاسم، كثيرا ما يتوقف عليه نجاح أو فشل عمله خلال شهور طويلة، وكثيرا ما يفرق بين المكتشف النابغ ... وزميله الذي يتقد ببطء وعناء.»
23
قرار التوقف عند عبارات أساسية - أي وقائع - معينة عمل هام؛ وهو لذلك لا بد أن يسترشد باعتبارات نظرية مختلفة، هي: (أ)
ألا نقبل عبارة أساسية غير متصلة منطقيا بتسلسل الاختبار الاستنباطي.
إننا نقبل العبارات الأساسية في سياق اختبار النظريات.
24 (ب)
التوقف يجب أن يكون عند عبارات أساسية من نوعية اختبارها سهل، والاختبار السهل هنا يعني أن الاختبارات المختلفة تتفق نوعا ما على قبولها أو رفضها، وإذا لم تتفق، فالاختبار يستمر أو يبدأ من جديد.
وإذا لم ننته بعد كل هذا إلى شيء البتة، ولم نستطع اتخاذ قرار بالوقوف عند عبارات أساسية معينة، فإن ذلك دلالة واضحة على أن العبارات موضع البحث ليست قابلة للاختبار البين-ذاتي، أو أننا لم نكن نتعامل مع أحداث قابلة للملاحظة، فنقرر أن النظرية موضع البحث ليست علمية، أما إذا جاء يوم استحال فيه، على ملاحظي العلم الوصول إلى اتفاق حول عبارات أساسية يتوقفون عندها، فإن هذا سيشير إلى فشل اللغة كوسيلة من وسائل التواصل العالمي، إنه سيشير إلى بلبلة ألسن
Babel of Tangues
جديدة، يرتد العلم معها إلى خلف محال
absurdity ، فيتحول صرحه العظيم إلى أطلال.
25
بالطبع هذا محض احتمال ضعيف يطرحه الجدل الذي يريد إثبات أن الأمور إذا استحكمت أزمتها، فإن هذا لن يكون بأي حال بسبب عدم إمكانية اتخاذ قرار بالتوقف عند عبارات أساسية معينة، بل الخطأ قد يأتي من اللغة ذاتها كوسيلة، وليس أبدا من مبدأ اتخاذ القرار الذي يوقف الارتداد، بعد أن أوقفنا الدوجماطيقية والنزعة السيكولوجية.
26 (4) وقد يثار الجدل بأن قبول العبارات الأساسية، طالما له صفة القرار، فلا بد من وجهة ما أن يكون له صفة الدوجما، على قدر ما نتوقف عن تبرير القرار بحجج واختبارات أكثر، بوبر يقول: إنها دوجماطيقية، لكنها ليست كالدوجماطيقية التي كان هو أول من حذر منها، بل هي دوجماطيقية سليمة متبصرة؛ لأننا حين نجد الحاجة لاختبارها أكثر، سوف نختبرها على التو، وهذا بدوره يجعل سلسلة الاستنباط بلا نهاية من حيث المبدأ، لكنه أيضا ارتداد لا نهاية له سليم غير ضار، طالما أننا لا نطلب من أي من العبارات أن تحاول إثبات النظرية، وطالما أن قبول النظرية مؤقت، ولما كنا قد استطعنا تنحية النزعة السيكولوجية تماما، كانت عبارات بوبر الأساسية قادرة على إثبات سلامتها المنطقية في مواجهة أي جدل. (3) مناقشة موقف العبارات الأساسية (1) والآن طالما وصل البرهان المنطقي إلى شكل مرض، وأصبح كل شيء قابلا للمراجعة فإننا نتخذ قرارا بالتوقف عند عبارات أساسية يسهل اختبارها بين الذوات، وهذا المطلب هو الذي يميز عبارات بوبر الأساسية عن جمل البروتوكول، التي لا يمكن أن تكون قابلة للاختبار.
في منطق العلم من وجهة نظر بوبر، أكدت العبارات الأساسية، التي هي النهايات التجريبية للعلم، أننا لا نحتاج إلى جمل البروتوكول بالمعنى الذي حدده كارناب ونيوراث، أي بوصفها مدركات حسية، إلا إذا دعت الحاجة إلى استقصاء جوانب سيكولوجية، كاختبار أزمنة ردود أفعال الخبراء الذين ينفذون الاختبار كي نحدد موازناتهم الشخصية
، أي لا نحتاج إليها في دراسة إبستمولوجية العلم، إنما في دراسة سيكولوجية الرجال الذين يقومون ببنائه، أو بإرساء هذا البناء، إن مدركات الخبرة قد تدفع هذا القرار؛ وبالتالي قد تدفع إلى قبول أو رفض العبارة، لكن العبارة الأساسية المقبولة لا يمكن أن تبرر بواسطتها، اللهم أكثر مما تبرر بواسطة خبطة المنضدة.
27
نلاحظ أن بوبر الآن يتباهى باستطاعته الفصل والتمييز بين الوجه المنطقي والوجه السيكولوجي، وهذا ما لم يستطعه كارناب ونيوراث، ولا الوضعية المنطقية عموما. (2) لكن لم يوافق آير على هذا، ويبدو أنه لا يوافق على فلسفة بوبر بأسرها، ورأى أننا تبعا لهذا لن نجد أي مبرر للحكم بصدق أو بكذب العبارة الأساسية، فبوبر حتى لم يطابق بين الرفض والكذب وبين القبول والصدق، فالقبول والرفض محض قرارات مما ترك الاحتمال قائما أمام قبول عبارات أساسية كاذبة، ورفض عبارات أساسية صادقة، ويرى آير - طبعا - أن التبرير الوحيد للعبارات الأساسية هو الخبرة، لكن بوبر قد قال: إن الخبرة فقط قد تدفع إلى القرار، لكن العبارة الأساسية لا تبرر بها أكثر مما تبرر بخبطة المنضدة، ويقول آير: إننا لو أخذنا هذه النتيجة حرفيا، فلن يعود هناك أي سبب معقول يبرر ضرورة أن تشير العبارات الأساسية إلى أحداث قابلة للملاحظة، ولم يعد واضحا أمامنا أي مغزى نأخذ به حديث بوبر عن الملاحظة كاختبار ويكفي أن تدخل العبارات التجريبية الأخرى في علاقات منطقية معينة مع العبارات الأساسية، ولكن ماذا عسى أن يعني كل هذا، إذا ما كانت العبارات الأساسية نفسها ليست مبررة تجريبيا.
28
أبسط ما نقوله في الرد على آير هو أن نحيله إلى الشروط التي وضعها بوبر للعبارات الأساسية، وخصوصا الشرط التجريبي، وإلى أسلوب اتخاذ القرار الذي يكفل موضوعيته ويجعله قابلا للاختبار بين الذوات. (3) لكن من الناحية الأخرى، طالما كانت العبارات الأساسية تقبل بمحض قرار، ثم إنها تحدد مصير النظرية، كانت النظرية هي أخرى تقبل بمحض قرار؛ لذلك نجد مشابهة بين أسلوب بوبر في تحديد مصير النظرية العلمية وبين أسلوب المدرسة الاصطلاحية، فهم أيضا يرون أن الأسس التجريبية التي تحدد نتائج الاختبار وتحدد مصير النظرية مسألة اتفاق أو اصطلاح بحت واتخاذ قرار، ويرون أيضا - كما يرى بوبر - أن هذا الاتفاق أو الاصطلاح، متعلق إلى حد ما باعتبارات الفائدة.
وقد سبق أن رأينا بوبر يرفض المنطق الميثودولوجي لهذه المدرسة؛
29
لذلك فهو يوضح فارقا جوهريا، يميزه عنهم في هذا الصدد، هذا الفارق هو أن بوبر لا يجعل القرار يحدد قبول العبارات الكلية، أي النظريات، تلك تحدد قبولها نتائج الأخبار، القرار يحدد فقط قبول العبارات الأساسية التي هي عبارات خصوصية،
30 ⋆
أما الاصطلاحيون فيرون أن الاتفاق أو القرار، يحدد قبول كل من العبارات الخصوصية والعمومية على حد سواء.
لكن هل حقا هذا فارق جوهري بينهما كما يدعي بوبر؟ لا يبدو الأمر كذلك، فطالما أن قبول العبارات الأساسية هو الذي يحدد مصير العبارات العمومية والأولى يحددها القرار، فلا بد أيضا أن يحدد الثانية، ولو بصورة غير مباشرة، قد تكون أضعف وأبهت منها عند الاصطلاحيين لكن الخلاف ليس عميقا.
لكن هناك فعلا فارقا حقيقيا وعميقا في الأسس الميثودولوجية التي ينطلق منها كل من بوبر والاصطلاحيين إلى عملية قبول العبارات؛ فالاصطلاحيون يحكمون مبدأ البساطة في قبول العبارات العلمية، أما بوبر فيحكم مبدأ قسوة الاختبار تبعا لداروينيته المنهجية، ثم إننا في منطق بوبر نجد الاختبار محكوما بصفة حاسمة بالتطبيق التجريبي للنظرية، وأن قبول العبارات الأساسية متصل بهذا التطبيق، وحقا هناك صلة بين قسوة الاختبار وبين مبدأ البساطة في منطق بوبر، إلا أنه يأخذ البساطة بمفهوم مخالف لمفهوم الاصطلاحيين؛ فالبساطة الأكثر عند بوبر تعني المحتوى التجريبي الأكبر، وبالتالي إمكانية الاختبار الدقيق،
31
وهذا يكون أبسط لأنه يفضي بنا إلى العبارة الأكثر عمومية، التي تحل محل العديد من العبارات الأقل منها عمومية، وستكون أيضا أقرب من الصدق وأجرأ، باختصار أكثر قابلية للتكذيب.
32 ⋆
وكل هذا مختلف تماما عن مبدأ البساطة عند الاصطلاحيين، والذي يعني القدرة على تبسيط الظواهر الطبيعية التي هي معقدة،
33
والتبسيط هنا له مغزى استطيقي، والاصطلاحيون عموما يجعلون الصفة الحاسمة في التعامل مع النظريات العلمية للدوافع الاستطيقية، وحقا أن الدوافع الاستطيقية كائنة في زاوية أو أخرى من زوايا العلم، والفيثاغورية تبرز هذا، وكما يؤكد بفردج فإن الاهتمام بأحد فروع العلم قد ينشأ نتيجة الجمال الكامن في المادة، أو الطريقة الفنية المستعملة، وأن علماء التاريخ الطبيعي وعلماء الحيوان كثيرا ما ينجذبون إلى دراسة مجموعة معينة من الحيوانات بذاتها؛ لأنهم يجدون مظهرها بهيجا، وأن عالم البكتريا قد يحب استعمال أسلوب معين لأنه يتجاوب وحساسيته الجمالية
34
كما يؤكد ج. ن. ريدلي أن هناك جمالا داخليا كامنا في البنية المعمارية للتفكير العلمي،
35 ،
36 ⋆
لكن الدوافع الاستطيقية بمغزاها المتطرف تبلغ أقصى مداها في فلسفة العلم مع الاصطلاحيين والأداتيين، فقد نص هنري بوانكاريه على أن «العالم لا يدرس الطبيعة لأن هذه الدراسة مفيدة بل لأنه يجد متعة في هذه الدراسة، وهذه المتعة ترجع إلى أن الطبيعة جميلة، وإذا لم تكن جميلة، فإنها لا تستحق أن تعرف، بل وإن الحياة نفسها لا تستحق أن تعاش.»
37
وقد أوضح بوانكاريه أنه لا يعني الجمال الذي يثير الحواس، بمعنى جمال الخصائص والمظهر، وليس لأنه يزدريه أو لا يأبه به، كلا، ولكن لأن هذا النوع من الجمال لا شأن للعلم به، إذ يعني بوانكاريه الجمال الداخلي الكامن، الذي يأتي من النظام «الهارموني» المتناسق لأجزائها، والذي لا يستطيع إدراكه إلا نمط خاص من الذكاء البحت،
38
ثم إن هذا الجمال الداخلي هو الذي يهب الأجسام هيكلها، وبالتالي جمالها الخارجي الذي يخاطب الحواس ويتملقها، هو الذي يهبها تألق مرآها، وكمال جمالها، وبغيره يصبح هذا الجمال الخارجي مبهما غير محدد ومراوغا دائما، وعلى العكس من ذلك الجمال العقلي الداخلي، فهو مكتف بذاته، وإن العالم ليلزم نفسه بالعمل الطويل المضني، ربما من أجل هذا الجمال، أكثر من أن يكون من أجل مستقبل أفضل للإنسانية.
39
يبدو بوانكاريه متطرفا في الاستغراق في نشوته الجمالية بالعلم، مما قد يفصل العلم عن التزامه الحتمي بمشكلات المجتمع، ودوره الأساسي في الحضارة، لكن بوانكاريه على أية حال عالم فذ، وهو الأخبر بالعلم، خصوصا الرياضي منه، فلا بد وأن يكون الأقدر على الاستمتاع به، لا بد أيضا أن يكون هذا الاستمتاع أمرا يخصه هو وحده، وليس قاعدة منطقية ميثودولوجية، إنه يكاد يكون حالة نشوة سيكولوجية، وبوبر لا يوافق إطلاقا على إدخالها في نطاق منطق العلم. (4) وفي ختام مناقشة موقف العبارات الأساسية، نوضح أن شأنها شأن سائر جزئيات فلسفة بوبر، تتسق مع هذه الفلسفة، بل وتؤكدها، فقد أكدت خرافية الاستقراء، خرافية أسبقية الوقائع الملاحظة على النظرية، إننا لا نبدأ من هذه الوقائع لنصعد إلى النظرية بل على العكس نبدأ من النظرية التي افترضناها ثم - من خلال الاختبار الاستنباطي - نهبط إلى الوقائع التجريبية، إلى العبارات الأساسية التي نتخذ قرارا بالتوقف عندها؛ لهذا تمسك بوبر بأن منهج العلم هو الاستنباط نقيض الاستقراء.
ثم إن قبولها محض قرار، قد يتراجع العلماء عنه في وقت لاحق، بل لا بد وأن يتراجعوا، فهي إذن ليست صخورا جبلية، بل هي ركام لا يقوم على أساس، وإننا نتوقف عن السبر في أعماقه إلى حد معين، ليس لأننا وصلنا إلى قرار مكين، ولكن ببساطة لأننا قررنا التوقف وقررنا أن الاختبارات إلى هذا الحد كافية، وأنها كفيلة بالمهمة المنوطة بها، وهذه المهمة إنما هي فقط بالنسبة لوقتنا الراهن ولعلمنا اليوم، لنقيم عليها بناء معرفتنا في هذا الآن، وقد يأتي آخرون بعدنا يجرون اختبارات أعمق ، ويقررون التوقف عند عبارات أساسية أخرى؛ ليقيموا عليها بناء أشمل.
وهذا يثبت من الناحية الأخرى رأي بوبر في أن كل شيء في العلم مؤقت ومحض افتراض واحتمال، وأن لا شيء في العلم ثابت أو مطلق البتة.
الخلاصة أن الحديث عن العبارات الأساسية، قد أثبت الآن كل ما ادعى في البداية أنه سيثبته.
وفضلا عن كل هذا، فإن إضفاء بوبر السمة الموضوعية على العبارات الأساسية يمثل تأصيلا لنظريته في موضوعية المعرفة، وهذا بدوره يؤكد أنها إحدى إبداعاته التجديدية التي تمثل إضافة للفلسفة الإبستمولوجية، فقد قدم لينين تفسيرا مؤداه: «أن المثالية الذاتية هي نقطة الانطلاق للفلسفة التجريبية النقدية، ومقدمتها الأساسية أن العالم هو إحساساتنا.»
40
لكن بوبر يقدم فلسفة تجريبية نقدية تتخلص من تلك المثالية الذاتية، وتؤكد اتجاهه الواقعي، بل وأنها موضوعية على الأصالة، لقد أراد بوبر أن يكون فيلسوف المعرفة الموضوعية وقد استطاع. (5) والآن اتضح دور العبارات الأساسية، وأمنت موقفها المنطقي من الأخطار الثلاثة: الدوجماطيقية - والنزعة السيكولوجية - والارتداد الذي لا نهاية له، وأكدت موضوعيتها، وناقشنا جوانبها المختلفة، بقي أن نحدد بدقة الشروط التي يجب أن تتوافر فيها. (4) شروط العبارات الأساسية (1) يجب أن يتوافر في العبارات الأساسية نمطان من الشروط:
شروط صورية؛ أي منطقية.
شروط مادية؛ أي تجريبية. (2) بالنسبة للشروط الصورية المنطقية؛ فهي كالآتي: (أ)
لا يمكن استنباط عبارة أساسية من عبارة كلية بغير شروط مبدئية
initial Conditions ؛ لأننا لا نستطيع أن نخرج بوقائع قابلة للملاحظة من العبارة الكلية بمفردها، فمثلا لو وضعنا نظرية نيوتن وقوانينه الثلاثة، هكذا فقط بغير أية شروط مبدئية، فيستحيل استنباط أية عبارة تفيد بالوقائع الملاحظة، أي عبارة أساسية.
وإن العبارتين الكليتين: «كل البجع أبيض» و«كل البجع أسود» لا يناقضان بعضهما (لأن التناقض يكون بين: «كل البجع أبيض» و«كل البجع ليس أبيض.») غير أنهما معا لا يتضمنان أكثر من أنه ليس هناك بجع، وهي ليست عبارة ملاحظة فلا يمكن حتى التحقق منها؛ لذلك فالعبارة المفردة
Singular Statement
التي يمكن استنباطها من عبارة كلية بحتة
purely-all ، ستكون فقط في الصورة: «إذا وجدت بجعة في المكان «ك»، للزم عن ذلك وجود بجعة بيضاء في المكان «ك».» أو «إما أن يوجد في المكان «ك» لا-بجعة، أو توجد بجعة بيضاء.» وهذه هي فقط العبارة المفردة التي يمكن استنباطها من العبارة الكلية فقط، بغير الشروط الأساسية، وهي تحصيلات حاصل، إنها عبارات لحظية
Instantial Statements
ليست عبارات أساسية، فهي لا تعبر عن وقائع ملاحظة، يمكن أن تمثل الأسس التجريبية للنظرية، فلا يمكنها أن تكون مكذبات محتملة، ولا أن تلعب أي دور آخر من تعزيز أو تكذيب، أي أدوار العبارة الأساسية، أو أي دور آخر في العلم؛ لأنها ليست وجودية محددة.
41
ولو قبلنا العبارات اللحظية كعبارات أساسية، فسنحصل لأية نظرية علمية أو لا علمية على عدد فائق من المحققات.
لكن طالما أن العبارات اللحظية قابلة للاشتقاق من العبارات الكلية، فإن نفيها يجب أن يكون مكذبات محتملة ؛ ولهذا فهي قد تكون عبارات أساسية إذا استوفت بقية الشروط، والعكس صحيح، فيجب اعتبار العبارات اللحظية من صورة نفي العبارات الأساسية.
42
وليس قاعدة أن نفي العبارة الأساسية، سيكون بدوره عبارة أساسية، فمثلا: في موضوع دراستي الآن دانمركي عظيم بالغ الرشد، نفيها يكون «في موضوع دراستي الآن دانمركي ليس عظيما ولا بالغ الرشد.» يمكن قبوله كعبارة أساسية، لكن في معظم حالات العبارات الأساسية، لا يمكن نفيها عبارة أساسية، مثلا: «في موضوع دراستي الآن بعوضة.» مجرد نفيها لا يعطينا صورة إخبارية لواقعة تجريبية، فهو ليس عبارة أساسية، بل عبارة لحظية؛
43
لأنه نفي للصورة المنطقية ذاتها.
ومن المهم ملاحظة أن العبارات الأساسية التي هي قوية قوية بحيث لا يمكن اشتقاقها من القوانين الكلية بمفردها، سيكون لها محتوى معرفي، أكثر من محتوى نفيها الذي قد يكون عبارة لحظية، وهذا يعني أن محتوى العبارات الأساسية يفوق احتماليتها المنطقية؛ لأن احتمالية النفي أعلى من احتمالية الإيجاب لكن محتوى النفي أقل من محتوى الإيجاب، وهذا يتسق مع - أو يؤكد - نظرية بوبر الاحتمالية التي تراها متناسبة عكسيا مع المحتوى المعرفي، مما يجعلنا نبحث عن النظرية الأقل احتمالا، كي نظفر بالمعرفة الأكثر. (ب )
أما الشرط الصوري المنطقي الثاني، فهو أن العبارة الكلية والعبارة الأساسية يمكن أن يتناقضان بعضهما، وهذا الشرط لا يمكن استيفاؤه، إلا إذا أمكن استنباط نفي العبارة الأساسية من النظرية التي تناقضها، كما أوضح مثال حالة ماري بيلي المطروح في الفصل السابق.
44
من هذين الشرطين معا، أي من:
استحالة استنباط عبارة أساسية من العبارة الكلية العمومية بغير شروط مبدئية + العبارة العمومية والعبارة الأساسية يمكن أن تناقضا بعضهما إذا أمكن اشتقاق عبارة أساسية من العبارة الكلية التي تناقضها.
ينتج الآتي:
الصورة المنطقية للعبارة الأساسية يجب أن تكون من تلك الصورة التي تعني أن نفيها - أي نفي الصورة المنطقية - لا يمكن أن يكون بدوره صورة عبارة أساسية.
وإننا نلاقي بالفعل عبارات تختلف صورتها المنطقية عن صورة نفيها، إنها العبارات العمومية والعبارات الوجودية، هما نفي لبعضهما لكن صورتهما المنطقية مختلفة ، ويمكن أن نبني العبارة المفردة بطريقة مماثلة، العبارة «يوجد غراب في الحيز المكاني الزماني «ك».» تختلف في صورتها المنطقية، وليس فقط في صورتها اللغوية عن العبارة «لا يوجد غراب في الحيز المكاني الزماني «ك».» لأن العبارات من الصورة «يوجد كذا وكذا في الحيز «ك».» وكذا وكذا من الأحداث تحدث في الحيز «ك» تسمى عبارات وجودية مفردة، أو عبارة يوجد المفردة، أما العبارات التي تنتج عن نفيها فهي «لا يوجد كذا وكذا في الحيز «ك».» أو «لا يحدث كذا وكذا في الحيز «ك».» يمكن أن نسميها عبارات لا وجودية مفردة، أو عبارة لا-يوجد المفردة، على هذا يمكن أن نضع القاعدة التالية بشأن العبارات الأساسية، وهي قاعدة على غرار القواعد المنطقية، جامعة مانعة: «يجب أن يكون للعبارة الأساسية صورة العبارة الوجودية المفردة.»
وهذا ما سبق أن اشترطناه وسلمنا به مقدما في الفصل السابق، لكن ها هو ذا البرهان المنطقي له، الذي يجعلنا نرفض التسليم بأية عبارة وجودية غير محددة كعبارة علمية.
والآن، فإن هذه القاعدة تجعل العبارة الأساسية تستوفي الشروط «أ»، طالما أن العبارة الوجودية المفردة لا يمكن أن تستنبط فقط من عبارة كلية عمومية دقيقة
Strictly universal
أي من عبارة لا وجودية دقيقة؛ فالمنطق يرادف بين كلية العبارة ولا وجوديتها، وتجعلها أيضا تستوفي الشرط «ب»، طالما أنه يمكن اشتقاق عبارة وجودية بحتة من كل عبارة مفردة، فقط بحذف كل إشارة لأي حيز مكاني زماني، وكما رأينا فالعبارة الوجودية البحتة يمكن فعلا أن تناقض نظرية، أي تناقض عبارة كلية.
45 (ج)
الربط بين عبارتين أساسيتين لا تناقضان بعضهما، هو بدوره عبارة أساسية؛ ولهذا فإذا كان كل من العبارة ونفيها عبارة أساسية، فإن ربطهما ليس عبارة أساسية لأنهما ليستا متسقتين.
وأيضا يمكن أن نحصل على عبارة أساسية بربط عبارة أساسية بأخرى ليست أساسية، مثلا الربط بين:
العبارة الأساسية: يوجد مؤشر
في الحيز «ك».
والعبارة اللاأساسية: لا يوجد مؤشر في حركة في الحيز «ك».
هو بدوره عبارة أساسية؛ لأنه مكافئ منطقيا للعبارة الوجودية المفردة: «لا يوجد مؤشر في سكون في الحيز ك.»
ويلزم عن هذا النتيجة الآتية: «لو كان لدينا النظرية «ن» والشروط المبدئية «ر» حيث نستنبط منها التنبؤ «ب»، فإن العبارة «ر. ب» أي «ر. ولا. ب» ستكون هي مكذب النظرية «ن» وبالتالي عبارة أساسية.»
46
إذن من الناحية المنطقية الميثودولوجية، يمكن جدا أن نأخذ في الاعتبار العبارات الأساسية المركبة، أو المؤلفة، ضمن فئة العبارات الأساسية المقبولة، وإن كان يمكن أيضا أن نقصر فئة العبارات الأساسية المقبولة عن العبارات الذرية - بتعبير رسل - ونفصل عنها كل العبارات المؤلفة أو المركبة، وستكون بالطبع عبارات ذرية نسبية، فطالما أنها عبارات أساسية فقبولها محض قرار أو اتفاق فقط بالنسبة لمتخذي القرار.
ثم نأتي بعد ذلك، ونبني أو نؤلف من فئة العبارات الأساسية الذرية، فئة أخرى هي فئة العبارات الأساسية المركبة أو المؤلفة، والمقارنة بين هاتين الفئتين أمر ضروري جدا في مقارنة تفاوت النظريات في درجة قابليتها للتكذيب كما سيوضح الفصل التالي.
وفي تأليف أو تركيب العبارات الأساسية يجب مراعاة الشروط الآتية: (1)
نفي أي من العبارات الأساسية التي هي ذرية، لا نقبله كعبارة أساسية؛ لأنه سيعني نفي الصورة المنطقية ذاتها؛ وبالتالي فلن تكون العبارة المنفية في صورة عبارة أساسية. (2)
نقبل كل ربط بين عبارتين أساسيتين طالما هما متسقتان، ويبدو الاتساق وكأنه بداهة مطلب ضروري في غير حاجة إلى ذكر، وهو يبسط كثيرا معادلات مختلفة للنظرية التي تقبل بعد رفض النظرية المكذبة، إلا أنه يمكن الاستغناء عنه على قدر ما لا نستخدم عبارات غير متسقة فقط في فئة المكذبات. (3)
لا نقبل نفي أية عبارة أساسية مركبة، إذا كان النفي نفيا لصورتها المنطقية. (4)
ولا نقبل عبارات مؤلفة من ربط عبارات غير أساسية.
والهدف من هذه الاستبعادات هو تأكيد أن فئة كل العبارات الأساسية ليست هي فئة كل العبارات التجريبية، صحيح أن بوبر - بداهة - يقطع بحسم بأن جميع العبارات الأساسية هي قطعا بمنتهى الوضوح تجريبية، إلا أن العكس ليس صحيحا، فليست كل العبارات التجريبية ولا حتى كل العبارات القابلة للملاحظة هي عبارات أساسية؛ لأننا يجب أن نستبعد - كما وضح آنفا - العبارات الشرطية اللزومية مثل «إذا وجدت حشرة في الحجرة لكانت حشرة.» هذه عبارة تجريبية وقابلة للملاحظة لكنها لا تتسم بصورة العبارات الأساسية، فهي لا تصلح اختبارا للنظريات، إنها من العبارات اللحظية.
47 (3) بقي الشرط المادي، وهو المتعلق بتأكيد تجريبية محتوى الصورة المنطقية التي حددناها في الفقرة السابقة، فتجريبية العبارات الأساسية، تعني أنها تقرر صدقا أو كذبا وقائع قابلة للملاحظة، أي حدوثات
occurances
داخل حيز زماني مكاني، ضيق بما فيه الكفاية،
48
هذا الشرط المادي متعلق بالحدث الذي حدث في المكان أو الحيز «ك»، كما أخبرتنا العبارات الأساسية والشرط أن يكون الحدث قابلا للملاحظة، وهذا يعني أن العبارة الأساسية يجب أن تكون قابلة للاختبار البين-ذاتي بواسطة الملاحظة، ولما كانت العبارة الأساسية مفردة، فإن هذا المطلب يمكن بالطبع أن يشير فقط إلى الملاحظين المحايثين في الزمان والمكان بصورة ملائمة.
49 (4) من هذه الوجهة يمكن تأويل الأحداث الملاحظة بمغزى النزعة السيكولوجية، فيبرز الاتهام بأن بوبر قد سمح لها بالتسلل إلى منطق العلم، بعد أن بذل قصارى جهده لدرئها، غير أن بوبر يرد هذا الاتهام بأنه يستعمل مفهوم «الأحداث الملاحظة» بالمعنى التالي: الأحداث المتضمنة في موضع وتحرك من الأجسام الفيزيائية المرئية
macroscopic ، أو بدقة أكثر: كل عبارة أساسية، إما أن تكون هي ذاتها عبارة حول مواضع نسبية لأجسام فيزيائية، أو أنها مكافئة لعبارة أساسية من هذا النوع الميكانيكي أو المادي، وأما عن كون هذا الشرط قابلا للتطبيق فهذا متصل بالواقعة القائلة أن النظرية القابلة للاختبار البين-ذاتي
inter-subjectivity
هي أيضا قابلة للاختبار البين-حسي
inter-sensality ، وهذا يعني أنها قابلة لاختبار متضمن في مدركات حاسة معينة، ويمكن من حيث المبدأ استبداله باختبار متضمن في مدركات حاسة أخرى.
على هذا فالاتهام القائل: إن بوبر بالتجائه إلى القابلية للملاحظة، قد عاد إلى النزعة السيكولوجية، هو اتهام لا تزيد فعاليته عن فعالية آلاتها بأنه قد سمح بالعود إلى النزعة الميكانيكية أو المادية، لكن بوبر يظل محايدا تماما، حاميا لمصطلحه - القابلية للاختبار - من أية إدانة سيكولوجية.
50
إن الشرط المادي يكفل لنا أن العبارات الأساسية عبارات تقرر حدوث حدث معين متفرد في حيز محدد من المكان والزمان، إنها إذن تجريبية على الأصالة. (5) لذلك يقول بوبر: إن هذا الشرط يجعلنا نحصر فئة العبارات الأساسية تبعا لمتطلبات أعتى وأدق تجريبي يمكن أن نواجهه، وهي في الوقت نفسه متطلبات ليست أقل دقة من أدنى حد لما يشترطه المطلب الموضوعي لبوبر،
51
ولنلاحظ أن بوبر يتحدى بتجريبيته أعتى التجريبيين، إنه تجريبي صميم كل ما في الأمر أن تبصره، خصوصا إدراكه لخرافية الاستقراء ولدور العقل وإمكانياته، أو بالأصح استعداداته، قد حمى تجريبيته من التطرف الذي يجعلها مهترئة مخلخلة، واقعة في براثن مشكلة الاستقراء. (6) لكنا نعود فنقول: إن دور العبارات الأساسية الجوهري في اعتبار النظرية علمية أو لا علمية، ثم في قبول النظرية أو رفضها، أي تعزيزها أو تكذيبها - أي في الحكم أولا وأخيرا على النسق المعرفي - هذا الدور فقط هو الذي جعل بوبر تجريبيا صميما ... وقادرا على أن يكون فيلسوف العلم التجريبي الأول.
الفصل الثالث
درجات القابلية للتكذيب
القابلية للتكذيب مسألة نسبية، مسألة درجات.
1
مقدمة (1) ليست نظرية آينشتين علمية، تماما كما أن نظرية كبلر علمية ولا نظرية مندليف الذرية علمية تماما، كما أن نظرية دالتون في هذا الصدد علمية ... كلا بالطبع العلم يتقدم، فلا بد وأن توجد درجات في المنزلة العلمية للنظريات؛ لأن هناك درجات في جرأة النظريات وفي قوتها الشارحة وفي محتواها المعرفي، وطالما أن هناك معيارا للتكذيب قادرا على تمييز النظرية العلمية، فسيكون بالتالي قادرا على تمييز النظرية الأكثر علمية، إنها الأكثر قابلية له، وفي هذا الفصل سنناقش كيفية تحديد تفاوت درجات القابلية للتكذيب.
ولنلاحظ أن البحث هنا، لا يعين أي شيء مطلق، كأن يعين أن النظرية تقبل التكذيب أو لا تقبله بصفة حاسمة، كلا فالمفروض أننا هنا - في هذا الفصل - لا نتعامل إلا مع النظريات القابلة للتكذيب أصلا، ونريد أن نعين أمرا فقط بالنسبة لها. (2) ولتعيين تفاوت درجات النظريات في القابلية للتكذيب أهمية ميثودولوجية كبيرة؛ فقد أوضح فصل «منهج العلم» أن الميثودولوجي يستحيل أن يرسم الطريق إلى الفرض الجديد، كما يدعي المنطق التقليدي الاستقرائي؛
2 ⋆
ولذلك كان هدف نظرية بوبر المنهجية - والذي حظي منه بالعناية الفائقة - هو كيفية الاختيار بين الفروض المتنافسة، التي نتوصل إليها بأية طريقة، إن كانت جميعها قريبة من الصدق وقادرة على حل المشكلة، فكيف يمكن الاختيار إذن؟ خصوصا وأن أي فرض يحتوي على قدر من الخطأ وقدر من الصواب ولا يمكن إثبات أن أي فرض صادق 100٪ ولا أنه كاذب 100٪، بعبارة أخرى ليس هناك تحقيق نهائي ولا تكذيب نهائي،
3
وفي هذا الفصل يوضح بوبر كيف يتمكن العالم من الاختيار، إنه يختار أكثر النظريات قابلية للتكذيب ويستبعد الأخرى.
ولقد كان توضيح بوبر لمنهج الاختيار بين الفروض المتنافسة من أبرز مواطن الاستحسان في نظريته المنهجية، وبصفة عامة فإن عملية الاستبعاد المنظم
systematic elimination
4 - على حد تعبير بفردج - من أهم القواعد المنهجية في فن البحث العلمي.
وكما سيوضح السياق التالي، فإن البحث في تفاوت درجة القابلية للتكذيب يعني التقييم الميثودولوجي لمختلف الجوانب المنطقية للنظرية العلمية. (3) وطالما أن قابلية النظرية للتكذيب، تعني أن فئة مكذباتها المحتملة ليست فارغة، فلا بد وأن تكون النظرية أكثر قابلية للتكذيب كلما كانت فئة مكذباتها المحتملة أوسع؛ لأن هذا يعني أنها تقول أكثر عن عالم الخبرة، فتستبعد فئة أكبر من العبارات الأساسية، وتقر بفئة أصغر، فالنظرية ذات المحتوى الغزير يمكن تكذيبها بسهولة أي درجة قابليتها للتكذيب عالية؛ لأنها تسمح للعالم التجريبي فقط بمدى ضيق جدا من الاحتمالات، فتستبعد تقريبا كل الأحداث الممكنة التصور، أي الممكنة تجريبيا فهي تقرر الكثير عن عالم الخبرة، وعلى هذا ففرصتها ضعيفة في الهروب من التكذيب.
5
هدف العلوم التجريبية هو - على وجه الدقة - الحصول على نظريات تقبل التكذيب بسهولة، إنها تهدف إلى تقييد مدى الأحداث الممكنة إلى الحد الأدنى إلى الحد الذي يؤدي معه أي تقييد آخر إلى تكذيب فعلي للنظرية، وإذا تمكنا من هذا أي من وضع نظرية لا تحتمل أية درجة أعلى من التكذيب، فإننا سنتوصل إلى وصف عالمنا الفعلي بأدق ما يمكن أن تصفه النظرية ، وهذه النظرية سوف تفرد
single out
عالم خبرتنا المعين عن فئة جميع عوالم الخبرة الممكنة منطقيا، ولن تسمح فقط إلا بالأحداث
events
والحدوثات
accurancy
التي نصادفها بالفعل ونلاحظها،
6
بالطبع هذا حديث منطقي فقط عن احتمال ضعيف للغاية هو الوصول يوما ما - بعيدا جدا - إلى النظرية ذات أعلى درجة من التكذيب بوصفها ستكون أكمل نظرية علمية ممكنة.
لكننا نريد الآن أن نناقش كيف يمكن تعيين النظرية الأكثر قابلية للتكذيب بالنسبة لعلمنا اليوم. (1) درجات القابلية للتكذيب على أساس علاقات الفئة الفرعية والقابلية للاشتقاق (1) يمكن مقارنة درجات القابلية للتكذيب على أساس سعة فئات المكذبات المحتملة لكن هذه الفئات لا متناهية، مما يجعل تعيين الأكثر والأقل فيها مسألة حدسية بغير قواعد ثابتة، وهذه صعوبة لا يمكن الإحاطة بها، حتى لو وضعنا فئة الأحداث مثلا بدلا من فئة العبارات الأساسية، ونعين النظرية التي تمنع أحداثا أكثر، هذا لا يحل المشكلة لأن الأحداث بدورها لا متناهية، لا سيما وأن ارتباط حدث تمنعه النظرية بحدث آخر، سواء كانت تمنعه أم لا، هو بدوره حدث تمنعه النظرية.
7 (2) إن أفضل أسلوب لمقارنة فئات المكذبات المحتملة، هو مقارنتها عن طريق علاقة الفئة الفرعية
Sub-class-relation
فتكون النظرية «ص» أكثر قابلية للتكذيب من النظرية «س»، إذ كانت فئة مكذبات «س» مجرد فئة فرعية في فئة مكذبات «ص».
ولتوضيح ذلك نفترض أن كل عناصر الفئة «س» هي أيضا عناصر في الفئة «ص»، على هذا تكون «س» فئة فرعية في ص «س
ص» إما أن تكون كل عناصر «ص» هي بدورها عناصر في «س»، وفي هذه الحالة تكون الفئة «س» مطابقة للفئة «ص»، وإما أن توجد عناصر في «ص» لا تنتمي ل «س»، هذه العناصر هي التي تمثل فئة الفارق
difference class
وهي تتمة «س» بالنسبة ل «ص»، وهي بالتالي التي تجعل «س» فئة فرعية في «ص»،
8
وهذه هي الحالة التي تهمنا وتجعلنا نحكم منطقيا بأن فئة المكذبات «ص» أكبر.
ولما كان تضمن الفئة الفرعية يستلزم منطقيا أن تكون الفئة الأصلية أوسع كانت علاقة الفئة الفرعية تناظر بصورة جيدة التقدير الحدسي للأكثر والأقل؛ إذ تكون الفئة الفرعية هي فئة المكذبات الأقل، وبالتالي تكون النظريات ذات درجة تكذيب أقل. (3) وبالحديث المنطقي عن النظريات أو العبارات العلمية، فإننا لو وضعنا لدرجة القابلية للتكذيب الرمز «ق ك»، وأردنا أن نعبر عن المفاضلة بين العبارتين «م»، «ن» يمكن أن نضع الصيغة الرمزية الآتية:
ق ك «م» <
ق ك «ن»
أي قابلية العبارة «م» للتكذيب، أكبر من قابلية العبارة «ن» وذلك إذا - وفقط إذا - كانت فئة المكذبات المحتملة ل «م» تتضمن فئة المكذبات المحتملة ل «ن» كفئة فرعية،
9
بالطبع لا بد وأن توجد دائما فئة متممة غير فارغة، في حالة العبارات العمومية لا بد وأن تكون لا متناهية؛ على هذا لا يمكن لنظريتين عموميتين - تفاوتتا في درجة القابلية للتكذيب - أن تختلفا في آن واحد مهما تمنع عددا معينا من الحدوثات
accurances
المفردة تسمح بها الأخرى بل يختلفا في منع عدد لا متناه من الحدوثات.
أما إذا كانت فئتا مكذبات العبارتين «م»، «ن» متطابقين، فإننا نصل إلى الصياغة الرمزية: «ق ك «م» =
ق ك «ن».»
التي تعني أن لهما نفس درجة القابلية للتكذيب.
10
وإذا لم تكن إحدى الفئتين تتضمن الأخرى، فإن العبارتين لهما درجتا تكذيب غير قابلتين للمقارنة أي:
ق ك «م» // ق ك «ن»
وتتساوى جميع العبارات اللاعلمية والميتافيزيقية غير القابلة للتكذيب في درجة القابلية للتكذيب وهي الصفر، وتتطابق جميع فئات مكذباتها، إذ هي فارغة، ولما كان لا توجد إلا فئة فارغة واحدة فإنها ستلزم بالتالي عن كل وعن أية عبارة لا علمية، وكانت جميع فئات مكذبات هذه العبارات متطابقة في صورة فئة واحدة هي الفئة الفارغة.
فلو أخذنا العبارة التجريبية «أ»، والعبارتين اللاعلميتين «ب»، «ج» نصل إلى المعادلة:
ق ك «ب» =
ق ك «ج» =
صفر
في حين أن ق ك «أ» <
صفر
وبعد سقوط اليقين، لا يمكن أن توجد عبارة مطلقة الخطأ بالتعبير السليم درجة كذبها أو قابليتها للتكذيب واحد صحيح إلا العبارة المتناقضة ذاتيا، ولتكن «ج» وبالتالي سيكون لها فئة كل العبارات الأساسية الممكنة منطقيا كفئة مكذبات محتملة، وهذا يعني أن أية عبارة يمكن أن نقارنها بالعبارة المتناقضة ذاتيا، فأية عبارة لا بد وأن تكون فئة مكذباتها فئة فرعية، في هذه الفئة التي تضم جميع العبارات الأساسية الممكنة منطقيا، والتي تجعل تكذيب عبارتها واحدا صحيحا لذلك: (1) ق ك «ح» <
ق ك «أ» <
صفر
ولما كان الواحد الصحيح هو درجة تكذيب العبارة المتناقضة ذاتيا فقط أمكنا أن نضع التقدير العشوائي: (2) ق ك «ح» =
1
ومن (2) نصل إلى: 1 <
ق ك «1» <
صفر.
ولأن التناقض الذاتي يؤدي إلى كل عبارة، وكل عبارة تؤدي إلى تحصيل الحاصل، فلا بد وأن تقع دائما درجة تكذيب العبارة التجريبية بين الواحد الصحيح والصفر،
11
فالعبارات العلمية تقع في منطقة وسطى محددة من ناحية بالعبارات المتناقضة ذاتيا، ومن الناحية الأخرى بتحصيلات الحاصل، أي بين درجة التكذيب واحد صحيح وصفر.
ولما كانت نظرية الاحتمال تقوم على بديهية، مؤداها أن القضية التجريبية قضية احتمالية، بمعنى أنها ليست قضية يقينية، كما أنها ليست قضية مستحيلة وإنما تقف بين اليقين والاستحالة،
12
كان التسلسل المنطقي السالف يوضح كيف أن التكذيب يمكن تماما أن يحل محل النظرية الاحتمالية الاستقرائية في المنطق التقليدي، لكن بالطبع يسير على عكسها تماما، فالقضية ذات درجة التكذيب «واحد صحيح» هي القضية التي يعطيها المنطق الاستقرائي درجة احتمالية: صفر، كما أن العبارة ذات درجة التكذيب صفر، هي التي يعطيها المنطق الاستقرائي درجة احتمالية واحد صحيح وهكذا،
13 ⋆
وبوبر دائما على عكس الاستقرائيين تماما. (4) ولو قارنا درجات القابلية للتكذيب على أساس علاقة القابلية للاشتقاق
Derivability relation ، فسنصل إلى نفس النتيجة التي سنصل إليها لو قارناها على أساس علاقة الفئة الفرعية كلا الأسلوبين يعطينا صورة شباك تتصل نهاياتها جميعا بالتناقض الذاتي وتحصيلات الحاصل ودرجة القابلية للاشتقاق هي درجة المحتوى المعرفي، التجريبي والمنطقي:
المحتوى التجريبي للعبارة =
فئة مكذباتها المحتملة.
المحتوى المنطقي للعبارة =
فئة كل العبارة التي ليست بتحصيل حاصل، والتي يمكن اشتقاقها من العبارة.
فالمحتوى المنطقي نصل إليه عن طريق القابلية للاشتقاق؛ لذلك يمكن أن نصل إلى تقدير الأكثر والأقل قابلية للتكذيب عن طريق القابلية للاشتقاق، فإن أمكن اشتقاق «ص» من «س» «بالرموز: س
ص»، للزم منطقيا إمكان اشتقاق المحتوى المنطقي ل «ص» من «س»؛ وبالتالي وجب أن يكون المحتوى المنطقي للعبارة «س» مساويا للمحتوى المنطقي للعبارة «ص»، أو أكبر منه، ويكون مساويا له: إذا أمكن اشتقاق «ص» من «س»، وأيضا «س» من «ص».
أي: س
ص. ص
س.
أي لو كانت إمكانية الاشتقاق متبادلة، في هذه الحالة تتساوى العبارة «س» والعبارة «ص» في درجة المحتوى المنطقي، وفي درجة القابلية للتكذيب وللاختبار.
ويكون المحتوى المنطقي للعبارة «س» أكبر، ودرجة تكذيبها أعلى من «ص»، إذا أمكن اشتقاق «ص» من «س» ولم نتمكن من اشتقاق «س» من «ص»، ففي هذه الحالة يكون المحتوى المنطقي للعبارة «ص» فئة فرعية للمحتوى المنطقي للعبارة «س».
وإذا كانت العبارة علمية أصيلة، لا تحتوي على عناصر ميتافيزيقية، يمكن أن نتبع هذا بالنسبة للمحتوى التجريبي، ونصل إلى نفس النتيجة.
ويمكن تلخيص هذا كالآتي، كي نوضح قواعد المقارنة على أساس قابلية اشتقاق المحتوى: (أ)
إذا كان للعبارتين نفس المحتوى التجريبي، وجب أن يكون لهما نفس المحتوى المنطقي. (ب)
إذا كان محتوى العبارة «س» المنطقي أكبر من محتوى العبارة «ص» المنطقي، فلا بد وأن يكون محتواها التجريبي أكبر أو على الأقل مساويا له، ونطرح احتمال التساوي لأن «س» قد تكون ربط «ص» بعبارة وجودية خالصة أي غير محددة أو أية عبارة ميتافيزيقية مما يجعلنا نعزو «س» نفس المحتوى المنطقي الذي نعزوه ل «ص»، وبالتالي لن يكون المحتوى التجريبي ل «س» أعلى من محتوى «ص» التجريبي. (ج)
إذا كان محتوى «س» التجريبي أكبر من محتوى «ص» التجريبي، فلا بد وأن يكون محتواها المنطقي أيضا أكبر أو أنه غير قابل للمقارنة لأسباب مناظرة للأسباب السالفة كأن تكون «س» مجرد ربط «ص» بعبارة لا تفيد إخبارا.
14 (5) الخلاصة حتى الآن أن:
درجة القابلية للتكذيب =
درجة القابلية للاختبار =
درجة اتساع فئة المكذبات المحتملة =
درجة المحتوى التجريبي =
درجة المحتوى المنطقي.
لذلك نحكم بأن النظرية «س» لها درجة تكذيب أو اختبار أعلى من «ص» إذا كانت فئة مكذبات «ص» محض فئة فرعية، من فئة مكذبات «س» الأوسع؛ لأن ذلك يعني أن «س» تتضمن محتوى منطقيا وتجريبيا أكبر من «ص» إذ يمكن اشتقاق «ص» منها.
على كل هذا تتضح الصورة العامة التي حددها بوبر في فصل «منهج العلم» من أن يختار العالم النظرية الأكثر قابلية للتكذيب والاختبار، فقد أصبح واضحا أن هذا سينتهي به إلى الظفر بالنظرية الأغزر في المحتوى المعرفي: (6) بل وليس فحسب إذ سينتهي به إلى النظرية ذات:
أعلى درجة من العمومية.
أعلى درجة من الدقة.
فإذا وضعنا القوانين الطبيعية الأربعة الآتية:
س:
كل مدارات الأجسام السماوية دوائر.
ص:
كل مدارات الكواكب دوائر.
م:
كل مدارات الأجسام السماوية إهليجية.
ن:
كل مدارات الكواكب إهليجية.
وإذا مثلنا لعلاقات القابلية للاشتقاق بالأسهم، أمكنا وضع الشكل التالي:
يوضح الشكل إمكانية اشتقاق جميع العبارات من «س»، وإمكانية اشتقاق: «ن» من «م» و«ص»، وعدم إمكانية اشتقاق «س» من أية عبارة، وعدم إمكانية اشتقاق أية عبارة من «ن».
وكما توضح الأمثلة تقل درجة العمومية بالتحرك من «س» إلى «ص»، «س» تقول أكثر مما تقوله «ص»؛ لأن مدارات الكواكب فئة فرعية من فئة مدارات الأجسام السماوية التي تضم مدارات الكواكب والنجوم والتوابع كالأقمار ... وبالتالي يكون تكذيب «س» أسهل من تكذيب «ص».
لأن أي جسم سماوي لا يتحرك في مدار دائري من شأنه أن يكذب «س»، بينما لا يكذب «ص» إلا كوكب بالذات، من هنا كان تكذيب «ص» يلزم عنه منطقيا ضرورة تكذيب «س» لكن العكس غير صحيح، فقد تكون العبارة الأساسية التي كذبت «س» حول مدارات أقمار مثلا.
إذن الشكل يوضح أن «س»، وهي أكثر العبارات قابلية للتكذيب، هي أيضا أكثرها عمومية
Universality . • ليست العمومية فقط، بل وأيضا الدقة، دقة التنبؤ، فكلما تحركنا من «س» كلما قلت الدقة، حتى تبلغ أقل درجة لها في «ن»، فالدوائر فئة فرعية في فئة الإهليجات، فإذا كذبنا «م» ... فلا بد وأن تصبح «س» كاذبة، لكن العكس غير صحيح، ويمكن تطبيق ملاحظات مناظرة على تحركات الأسهم الأخرى، فبالتحرك من «س» إلى «ن» تقل كل من درجة العمومية ودرجة التنبؤ، وبالتحرك من «ص» إلى «ن» تقل الدقة وبالتحرك من «م» إلى «ن» تقل العمومية.
15
إذن أكثر العبارات قابلية للتكذيب والاختبار، هي أكثرها عمومية وأكثرها دقة في التنبؤ؛ لأنها الأغزر في المحتوى المعرفي.
16 ⋆ (7) وإذا عدنا إلى القاعدة الميثودولوجية: ألا ندع شيئا بغير تفسير - والتي تفسر ميتافيزيقيا بقانون العلية - وجدنا أنها تعني هنا أن نحاول دائما استنباط العبارات، من عبارات ذات مستوى عمومية أعلى، مما يجعلنا نبحث دائما عن العبارات ذات أعلى درجة من العمومية والدقة؛ وبالتالي من غزارة المحتوى، وبالتالي من أعلى قابلية للتكذيب ولأقسى الاختبارات.
لكل ذلك اتخذ بوبر محور دعواه قابلية النظرية العلمية للتكذيب، وألح منذ البداية على ضرورة أخذ العبارة ذات أعلى درجة من قابلية التكذيب وبوبر في نظرته الشمولية لمنطق العلم على تمام الاتساق، فهو يطالب بالبحث عن النظرية ذات أدنى درجة من الاحتمالية وأدنى درجة من الاحتمالية تناظرها أعلى درجة من قابلية التكذيب كما أوضحنا أنفا.
وطالما أن بوبر يرفض الاحتمالية بمفهومها التقليدي الاستقرائي، أي الذي يحسب نسبة حدوث متحققات النظرية إلى احتمال معين من الأحداث، فيمكن الآن أن نضع بدلا من الاحتمالية مفهوم المدى
Range ، والمدى هو فئة العبارات الأساسية التي تسمح بها النظرية، هو درجة الحرية التي تسمح بها للواقع، إنه فئة العبارات الأساسية المتاحة، المناقضة لفئة العبارات الأساسية الممنوعة التي تمثل المكذبات المحتملة للنظرية، فإذا كانت درجة تكذيب العبارة «س» أعلى من «ص» لأن «س» من مستوى عمومية ودقة أعلى؛ لكانت فئة العبارات المتاحة ل «س»، هي فئة فرعية من فئة العبارات المتاحة «ص»، أي إن مدى «س» فئة فرعية من مدى «ص»؛ لأن عبارات الفئة الفرعية بين فئات العبارات المتاحة، تناقض عبارات الفئة الفرعية بين فئات العبارات الممنوعة «المكذبات»، العلاقات عكسية؛ لأن المدى والمحتوى التجريبي مفاهيم عكسية، من هنا يمكن أن نقول - تبعا لمنطق التكذيب: إن مدى العبارتين يتصلان ببعضهما تماما، أو يناظرن احتماليتهما المنطقية؛ فالنظرية ذات المحتوى المعرفي الكبير أي ذات درجة القابلية للتكذيب الكبيرة هي النظرية التي تسمح للعالم التجريبي فقط بمدى ضيق؛ أي ذات أقل درجة من الاحتمالية.
17 (2) درجات القابلية للتكذيب على أساس درجة تأليف النظرية وأبعادها (1) لكن أسلوب علاقة الفئة الفرعية - وما يرتبط به من قابلية الاشتقاق والمدى - لا يصلح لتعيين النظرية الأكثر قابلية للتكذيب، إلا إذا كانت فئتا المكذبات المحتملة للنظريتين المتنافستين، تتضمن إحداهما الأخرى، أما إذا تقاطعت فئتا المكذبات المحتملة بغير هذا التضمن، أو لم يكن بينهما عناصر مشتركة فإننا لن نستطيع المقارنة بينهما؛ وبالتالي لن نستطيع تعيين النظرية الأكثر قابلية للتكذيب أنه أسلوب لا يتيسر دائما.
كما أن العبارة ذات درجة العمومية العالية كصياغة بلانك لقانون بقاء الطاقة قد تصبح تحصيل حاصل، وتفقد محتواها التجريبي ما لم نحدد الشروط المبدئية ببعض المقاييس؛ أي بواسطة عدد صغير من كميات العزم المميزة لحالة النسق،
18 ⋆
هذه الشروط المبدئية
initial condition
التي يجب أن نتثبت منها ونضعها في الصياغة لا يمكن توضيحها في علاقة الفئة، رغم أنها بوضوح وثيقة الاتصال بمشكلة القابلية للاختبار والقابلية للتكذيب وتحديد تفاوتهما،
19
أي درجتهما؛ إذ هي تزيدهما.
في هذه الحالة يمكن مقارنة درجات التكذيب ، عن طريق مقارنة درجة تأليف
composition
العبارات الأساسية التي تكفي لتكذيب النظرية؛ لأن العبارات الأساسية المكذبة تتكون من ارتباط:
الشروط المبدئية + نفي التنبؤ الذي نشتقه من العبارة، فتكون أعلى درجة من التكذيب، هي أقل درجة من التأليف تحتاجها العبارات الأساسية كي تستطيع أن تناقض النظرية، أي تكذبها.
20
وهذا واضح وبديهي؛ لأنه متسق؛ فالنظرية حيثما تكون على درجة عالية من العمومية والدقة وغزارة المحتوى المعرفي، يكون القطاع الذي تحكمه وتقيده من العالم واسعا جدا؛ لذلك لا تحتاج لتحديدات كثيرة وشروط متنوعة وستكون قابليتها لتكذيب عالية، فتكذيبها ميسور لا يحتاج لعبارات أساسية عالية الدرجة من التأليف على ذلك يكون من المنطقي جدا أن نتثبت من درجة القابلية للتكذيب عن طريق درجة تأليف العبارات الأساسية المكذبة، مع ملاحظة أن التناسب بينهما عكسي بالطبع. (2) لكن هناك شرطا جوهريا وأساسيا هو أن نتمكن دائما من إيجاد طريقة لمقارنة العبارات الأساسية؛ كي نتثبت من أنها أكثر أو أقل تأليفا؛ أي مكونة بدورها من عدد أكثر أو أقل من العبارات الأساسية من أبسط الأنواع: وكل العبارات الأساسية التي لا تصل درجة تأليفها إلى الحد الأدنى المطلوب مهما كان محتواها سوف تسمح بها النظرية، يعني هذا منطقيا أن شروط حدوثها سهلة غير معقدة، فقط لأن درجة تأليفها منخفضة.
21
وأبرز الصعوبات التي تقابل هذا المنهج هو أنه ليس من السهل أن نعرف بمجرد فحص العبارة، ما إذا كانت مؤلفة أم لا، أي ما إذا كانت مكافئة لربط عبارات أبسط، ففي كل عبارة - كما يؤكد بوبر نفسه خصوصا في نقد التحليل والتحقق - ترد أسماء كلية، وبتحليلها تنحل العبارة إلى ربط بين عبارات، وبإزاء هذا لا يمكن أن نجد أية نهاية طبيعية، لا سيما أننا في كل انحلال نستطيع أن نقدم كليات لا معرفة، تفتح المجال أمام إمكانية انحلالات أخرى للعبارة ... وهكذا ستبدو أبسط عبارة وكأنها مؤلفة من عبارات بل من عدد لانهائي من العبارات، فيستحيل التثبت من تفاوت تأليف العبارات الأساسية؛ كي نتثبت من تفاوت درجة القابلية للتكذيب.
ولكي نتجنب هذا يمكن اختيار «فئة عبارات أساسية معينة» ولتكن العبارات الأولية
Elementary ، أو الذرية
Atomic
ومن هذه العبارات الأولية يمكن أن نتوصل إلى كل العبارات الأخرى، عن طريق الربط وبقية العمليات المنطقية الأخرى.
22
ولكن هل يمكن أن نحدد بهذه الطريقة صفرا مطلقا للتأليف، بمعنى أن تكون الفئة الأولية، ممثلة لفئة العبارات الأساسية التي لا تأليف فيها إطلاقا، ويبدأ التأليف في التدرج صاعدا ابتداء منها؟ الواقع أنه لا يمكن تحديد صفر مطلق لدرجة التأليف لنفس السبب السابق (أي الكليات) وأيضا لأنه سوف يفرض قيودا خطيرة تحد الاستعمال العادي للغة العلم
23 ⋆
حدا لا جدوى منه.
لكن رغم ذلك نستطيع مقارنة تأليف العبارات الأساسية، والعبارات الأخرى بهذا الأسلوب، عن طريق اختيار عشوائي لفئة من العبارات الأساسية الذرية نسبيا فتتخذها أساسا للمقارنة، ويمكن تعريف فئة العبارات الأساسية الذرية نسبيا بواسطة قاعدة توليد
generating Matrix
لتكن مثلا : «يوجد جهاز قياس ل... في المكان ... يقع مؤشره بين علامات التدرج ... و...» هذه القاعدة دالة عبارة، وفئة العبارات الأساسية التي نتوصل إليها بواسطتها، أي بواسطة إحلال متغيرات محل ثوابتها الفارغة يمكن تعريفها بأنها فئة العبارات الأساسية الذرية النسبية؛ وبالتالي المساوية للمؤلف
equi-compisite
و«المؤلف» هو الأول الذي يسهم في «تأليف» العبارة، فيزيد التأليف بزيادته.
24
وفئة كل هذه العبارة + كل الروابط التي تتشكل فيها = المجال
field
مجال النظرية وربط العدد «وليكن العدد «ع»» من مختلف العبارات الذرية نسبيا يسمى «ع-وحدة
N-tuple »
25 ⋆
حيث إن «ع» هي وحدات المجال، ويمكن القول: إن درجة التأليف مساوية للعدد «ع»؛ أي لعدد وحدات المجال.
وإذا وجد للنظرية «ن» مجال من العبارات المفردة (وليس من الضروري أن تكون عبارات أساسية)، مثل: لعدد ما «د»، لا يمكن تكذيب النظرية «ن»، بواسطة أي «د-وحدات» من المجال، على الرغم من أن تكذيبها ممكن بواسطة «د + 1 وحدات»، فيمكن أن نسمي «د» العدد المميز للنظرية بالنسبة لذلك المجال، وكل عبارات المجال التي درجة تأليفها أقل من «د» أو مساوية ل «د» تسمح بها النظرية، بصرف النظر عن محتواها. (3) والآن يمكن أن نقيم درجات القابلية للتكذيب على أساس هذا العدد المميز «د»، ولكي نتجنب اللااتساق الذي قد ينشأ من استعمال مجالات مختلفة، يبدو من الضروري استخدام مفهوم أضيق نوعا ما من مفهوم المجال، أي مفهوم مجال التطبيق.
فإذا كانت النظرية «ن» هي المعطاة، فالمجال هو مجال تطبيق النظرية «ن»، وفي هذا الصدد نحاول إيجاد العدد «د» المميز للنظرية «ن» بالنسبة لهذا المجال،
26
وبوبر يسمي العدد «د» المميز للنظرية بالنسبة لمجال التطبيق بعد النظرية
Dimension of the theory
ويسميه «بعد»؛ لأننا نستطيع أن نفكر في كل «ع-وحدة
N-tuple » للمجال على أنها مرتبة ترتيبا فراغيا
configuration
في مكان شكلي للأبعاد المحددة، فمثلا لو كانت «د» = 3، لكانت العبارات المسموح بها بسبب تأليفها، هي صورة منخفضة جدا لأبعاد ثلاثة، وهي فئة فرعية لهذا الشكل، وكلما حاولنا إقلال درجة التأليف مثلا بالانتقال من «د» = 3 إلى «د» = 2، فإن هذا الانتقال يناظر الانتقال من الجسم إلى السطح (من المكان الثلاثي الأبعاد إلى المكان الثنائي الأبعاد) مما يوضح أن البعد «د» كلما كان أصغر كلما كانت درجة القابلية للتكذيب أعلى.
27
ومفهوم مجال التطبيق لا يقتصر على العبارات الأساسية؛ إذ يمكن أن تنتمي إليه العبارات المفردة من كل الأنواع، ولكن بمقارنة أبعادها بمساعدة مفهوم المجال يمكن أن نقدر درجة تأليف العبارات الأساسية، فالمفروض أن العبارة المفردة المؤلفة بدرجة عالية تناظر العبارة الأساسية المؤلفة بدرجة عالية؛ لذلك فالنظرية ذات البعد الأعلى تناظر النظرية التي لها فئة العبارات الأساسية ذات درجة التأليف المرتفعة وذلك يناظر درجة القابلية للتكذيب الأقل. (4) والآن لدينا منهجان مختلفان لمقارنة درجات القابلية للاختبار أو التكذيب: أحدهما بواسطة الفئات الفرعية للنظرية، والآخر بواسطة أبعاد النظرية قد لا يمكن تطبيق أيهما في بعض الأحيان، وقد يمكن تطبيق واحد منهما فقط، وفي كل حال لا يوجد تنافس بينهما إذ حين نتمكن من تطبيق المنهجين، فسنصل في معظم الحالات إلى نفس النتائج.
كيف ذلك؟ الأمر بسيط للغاية فبمساعدة نظرية الأبعاد ترى أن بعد الفئة يجب أن يكون أكبر من أو مساويا ل «بعد» فئتها الفرعية؛ بسبب تناظر فئات النظرية مع أبعادها.
28
لكن قد تتساوى أبعاد نظريتين متفاوتتين في درجة القابلية للتكذيب نتيجة لعلاقة فئة فرعية، وفي هذه الحالة نأخذ بنتيجة منهج الفئة الفرعية، فهو بصفة عامة المنهج الأدق والأكثر حسما والأوضح. (5) وحتى الآن، ارتبطت درجة القابلية للتكذيب بدرجة القابلية للاختبار، واتساع فئة المكذبات، وبعلاقة الفئة الفرعية وبالمحتوى المعرفي: التجريبي والمنطقي، بعلاقات القابلية للاشتقاق، وبالدقة والعمومية وبالمدى والاحتمالية، وبدرجة تأليف العبارات الأساسية المكذبة، وبأبعاد النظرية ومجال تطبيقها. (3) درجات القابلية للتكذيب والبساطة (1) وإن درجة القابلية للتكذيب ترتبط أيضا بدرجة البساطة
Simplicity
بساطة النظرية، فكلما كانت النظرية أبسط كلما كانت أكثر قابلية للتكذيب والعكس صحيح. (2) وإن مفهوم البساطة لذو أهمية قصوى في فلسفة العلم، وهو مثل أي مفهوم ميثودولوجي آخر مبهم غير واضح، خصوصا وأنه يدخل المناقشات الفلسفية بصور عدة، فقد يشير إلى الأفكار البسيطة كمقابلة للمركبة، أو للمكونات البسيطة للعالم، وقد يشير إلى بعض الخصائص البسيطة لبنية العالم كمقابلة للخصائص المعقدة، وقد يشير إلى بعض الخصائص البسيطة لبنية العالم كمقابلة للخصائص المعقدة، وقد يشير إلى بعض الخصائص الصورية للنسق المنطقي، أو لمجرد وصف ما نتحدث عنه بالبساطة،
29
والبسيط في اصطلاح الفلاسفة هو الشيء الذي لا جزء له أصلا كالوحدة والنقطة وهو لفظ مولد يقابله المركب، بمعنى الشيء الذي له جزء.
30
لكن في الآونة الأخيرة، لا ينصب الاهتمام على مفهوم البساطة إلا بوصفه منتميا لفلسفة العلم، إذ يقال عادة: إن البساطة صفة مرغوبة في مفاهيم وقوانين ونظريات العلم الطبيعي، بل وإن البساطة أساسية للبحث العلمي تماما كالبديهات المسلم بها مثل قابلية الطبيعة للفهم، وخضوعها لنفس القوانين، وإمكانية إخضاعها للقياس،
31
ومؤدى مسلمة البساطة أن أبسط تفسير يتفق مع الملاحظات المتعلقة بالموضوع هو الصحيح على الأرجح،
32
والمقصود بالبساطة هنا أن تكون النظرية محتوية على أقل عدد ممكن من المفاهيم الأساسية والعلاقات مع أعلى معيار من التجريد، وبعبارة أخرى: إن النظرية تبدأ بعدد قليل من المفاهيم والمبادئ الأساسية أو البديهات،
33
وهذه هي البساطة التي يفترضها العقل بدرجة عالية في النظرية بصورة تدخل هذا الافتراض في نطاق مسلمات البحث العلمي، ومسلمة البساطة هذه قاعدة مبنية على الخبرة العلمية فقد أثبتت فائدتها الجمة، لكن مهما كانت أهميتها من الناحية العلمية فإنه من المستحيل اختبارها علميا، وهذا ما يجعلها موضع بحث في فلسفة العلم، خصوصا وأنها أدت إلى استبعاد كثير من الأفكار الذاتية من مجال البحث،
34
كما أن إيمان العلماء بأهمية البساطة في النظرية على أساس فهم الظواهر والوقائع والحوادث في العالم بواسطة أقل عدد ممكن من الأفكار والفرضيات، كان من الدوافع القوية في تطوير النظرية العلمية والوصول بها إلى درجات تجريدية عالية.
35
وما يجعل لها الأهمية القصوى في فلسفة العلم من الناحية الأخرى، هو انهيار فكرة السببية، بعد أن تبينا قيامها على أسس ميتافيزيقية ما لها من قرار، فوجب أن نتخلى عنها، وليس أمامنا إلا أن نحل مفهوم البساطة محلها، وهذا ما فعله إرنست ماخ وكيرخهوف
kierchoff
وأيضا ريتشارد أفيناريوس
richard Avenarius (1843-1896م) «وبوبر شديد الإعجاب بأفيناريوس» إذ وضعوا الشرح الأبسط بدلا من الشرح السببي الذي استعمله جون ستيورات مل مثلا، وماخ وأفيناريوس خصوصا كانا يعتبران البساطة هي الوصف الاقتصادي المقتر للعالم.
36
المهم أن الشرح الأبسط أو الوصف الأبسط هو هدف العلم، فنحن نفضل شرح العالم بنظرية واحدة عن شرحه بعدد لانهائي أو كبير جدا من العبارات المفردة، وما ذلك إلا لأن النظرية الواحدة ستعطينا شرحا أبسط، وطالما نفضل النظرية من أجل البساطة فلا بد وأن نفضل أبسط النظريات، ولا بد وأن تكون النظريات بسيطة قدر المستطاع، بل وكذلك المفاهيم وإن كان بوبر بالذات لا يعنى إطلاقا بالمفاهيم ولا يهتم إلا بالقوانين ذات المحتوى المعرفي، وهو لذلك لا يهتم إطلاقا ببساطة المفاهيم والبساطة عنده هي فقط بساطة العبارات أو النظريات. (3) وإذا سألنا لماذا يجب أن تكون المفاهيم والنظريات العلمية بسيطة؟ لوجدنا ثلاث إجابات أساسية:
المواءمة البراجماتية
:
أي نتفق على ما هو أبسط؛ لأن البساطة أفيد من الناحية العلمية، فنجد هنري بوانكاريه مثلا، وهو من أبرز ممثلي الاتجاه الأداتي في فلسفة العلم - والاتجاهات الأداتية والاصطلاحية والبراجماتية تسير إلى حد كبير في اتجاه واحد - نجد بوانكاريه يؤكد أن مبدأ الاختيار بين النظريات هو اختيار أبسط الاصطلاحات الممكنة،
37 ⋆
فقد ميز بوانكاريه بين الواقع المفرط التعقيد من جهة، وبين القوانين العلمية البسيطة التي تفرضها عقولنا عليه من الجهة الأخرى، فليست الطبيعة هي البسيطة، بل قوانينا التي نفرضها عليها هي البسيطة؛ لأن القوانين هي التي تفرض ما تريده على عالم يكاد يكون مصطنعا، وقد وصف بوانكاريه قانون نيوتن بالسهولة، بينما وصف حركة الكوكب بأنها معقدة، ومعنى هذا أن قانون نيوتن قد أعطى تفسيرا مبسطا لهذه الظواهر الطبيعية؛
38
لذلك يعطي بوانكاريه القانون العلمي ثلاث وظائف هي: السير بالعلم نحو الوحدة والتنبؤ، وتبسيط الظواهر الطبيعية المعقدة.
39
والحق أن بوانكاريه - لأنه رجل علم حقيقة - قد انشغل بمشكلة البساطة بجميع أبعادها: بساطة النظرية وبساطة المفهوم، بل وحتى بساطة الوقائع
Facts ؛ إذ رأى أن ينتفي العالم لموضوع دراسته أبسط الوقائع الممكنة، وهي التي يمكن استخدامها مرات متعددة، والتي بتكرر حدوثها، والمتألفة من أبسط عدد من العناصر وغير المتغايرة الخواص، وأوضح بوانكاريه أن هذه الوقائع هي على وجه الخصوص الوقائع المتناهية الكبر والمتناهية الصغر؛ لذلك انتقاها العلماء موضوعا للدراسة.
40
لكن الاتجاه البراجماتي ومعالجته للبساطة في جملته غير دقيق ولا يمكن أن يقنعنا، فهناك أولا صعوبة في التسليم بأساس هذا الاتجاه الذي يحلون بناء عليه مشكلة البساطة وسائر المشكلات؛ أي اعتبار القوانين العلمية بناءات منطقية ومحض أدوات، وليس لها أي محتوى معرفي «ثم إن فكرة المواءمة تعتمد كثيرا على المكونات السيكولوجية وظروف الناس المختلفة، وعلى الأدوات المنطقية والمادية المتاحة لهم، وعلى وجهات النظر التي يشتركون فيها، والغايات التي يهدفونها، وعوامل أخرى عديدة، وأكثر من هذا فحتى لو تمكنا من إضفاء شيء من الموضوعية، فإن المواءمة ليس من الضروري أن تتصل بإمكانية قبول المفاهيم والنظريات العلمية، وكثيرا ما تكون النظريات الصادقة بل والمفيدة ليست موائمة بدرجة كبيرة.»
41
الاعتقاد بأن الطبيعة بسيطة:
لكن ليس هناك أي دليل على صدق هذا الاعتقاد، ثم إن تاريخ العلم يشهد بأحايين كثيرة تحطمت فيها الأنساق النظرية البسيطة وقبلت المعقدة، ثم إن هذا الاعتقاد يدل على مجرد فهم اعتباطي أو على أحسن الفروض حدسي «للطبيعة وللبساطة؛ لذلك فهو ميتافيزيقي؛ لذلك فمن الممكن أن يخدم كحافز للبحث لكن لا يقبل أي دحض أو تأييد بواسطة الدليل التجريبي.»
42
معيار الاختبار بين النظريات:
إذا ما تبينا أن الطبيعة بسيطة فإن هذا تبرير لاختبار النظريات البسيطة، وحتى ولو لم نتبين هذا فستبقى على أية حال أسباب أقوى من أن تكون مجرد مواءمة أو اتفاق،
43
والبحث عن هذه الأسباب هي الشغل الشاغل لفلسفة العلم تحت عنوان «مشكلة البساطة» لو لم نحلها سنجد العلماء يفضلون النظريات الأبسط حين تتساوى مع النظريات التي تنافسها في بقية المعايير الأخرى، لكنهم يقررون أن البساطة مرغوبة؛ لأننا نختار أبسط النظريات في الوقت الذي نختار أبسط النظريات لأن البساطة مرغوبة.
هذا الدوران المنطقي يوضح أن البساطة موضع إشكال، رغم أنها مطلب عزيز في العلم فمن الصعب تحديد معيار واضح يحددها بالمعنى الدقيق، ومن الصعب أيضا تبرير الأولوية الممنوحة للفروض والنظريات الأكثر بساطة، وبالطبع لا بد لأي معيار للبساطة من أن يكون موضوعا؛ لأنها ليست مجرد حدس أو سهولة حفظ أو تذكر للفرض أو النظرية
44
بل هي معيار للاختيار بين النظريات.
من هنا كان أفضل تناول لها هو تناول ر. س. رندر
R. S. Runder
إذ تناولها تحت مقولة البساطة الموضوعية المنطقية، مما يعني أنها لا ذاتية ولا سيكولوجية، وأنها تشير إلى البنية المنطقية لأوصافنا للعالم ولا نشير مباشرة إلى بساطة العالم نفسه.
45 (4) وتحت هذا المنظور للبساطة؛ أي البساطة الموضوعية المنطقية، يدخل اقتراح بوبر؛ فبوبر يستبعد تماما المفاهيم البراجماتية للبساطة وأيضا المفاهيم الاستطيقية التي ترى أن البحث عن البساطة في العلم راجع إلى النزوع نحو الانسجام والائتلاف الجمالي، فهذا منظور ذاتي،
46 ،
47 ⋆
وبالطبع يرفض بوبر اعتبار مبدأ البساطة راجع إلى الاعتقاد بأن الطبيعة بسيطة؛ لأن هذا اعتقاد دوجماطيقي.
يرفض بوبر كل هذا، ولا يسلم إلا بالمفهوم الإبستمولوجي للبساطة، وتبعا له يقدم اقتراحا لمعالجة المشكلة بأن يطابق بين درجة البساطة وبين درجة القابلية للتكذيب، وحين نختار النظرية الأكثر قابلية للتكذيب، فإننا نصل بهذا إلى النظرية الأبسط، مما يمكننا من وضع تنظيم للقوانين تبعا لدرجة بساطتها الأبسط ثم الأقل بساطة وهكذا،
48 ⋆
على أساس درجات قابليتها للتكذيب، بعبارة أخرى معيار التكذيب يحل مشكلة البساطة؛ لأنه يزودنا بمعيار واضح لها:
مثلا رأينا أن النظرية الأكثر قابلية للتكذيب، هي النظرية ذات الأبعاد الأقل، والنظرية ذات الأبعاد الأقل هي النظرية الأبسط؛ لتوضيح ذلك نعود إلى مثالنا السابق من القوانين الطبيعية الأربعة المعبرة عن تفاوت درجات تكذيب النظرية العلمية:
س:
كل مدارات الأجسام السماوية دوائر.
ص:
كل مدارات الكواكب دوائر.
م:
كل مدارات الأجسام السماوية إهليجية.
ن:
كل مدارات الكواكب إهليجية.
لقد أوضحت المناقشة السابقة أن «ص» أكثرها قابلية للتكذيب، وهو أيضا أبسطها إذ إنه قانون يرتد إلى أقل عدد من الأبعاد؛ لأن الفرض الدائري يكفي لتكذيبه أربعة مواضع، نجد أنها لا تقع على دائرة ، إذن يمكن وصل أية ثلاثة مواضع على - أي رسم مثلث منتظم داخل - أية دائرة هذا بينما تكذيب الفرض «م» الإهليجي يحتاج لستة مواضع على الأقل نجد أنها لا يمكن أن تتعين على الإهليج، من هنا نجد البساطة ترتبط ارتباطا مباشرا بدرجة إمكانية التكذيب.
وبالطبع القانون الذي له دالة من الدرجة الأولى أي بها متغير واحد قابليته للتكذيب أكثر من قابلية القانون الذي له دالة من الدرجة الثانية؛ أي بها متغيران رغم أن هذه الدالة قد تمثل قانونا علميا، أي قابلا للتكذيب، وإن شليك - مثلا - يقطع بضرورة اعتبار الدالة من النوع الأول أبسط من الدالة من النوع الثاني لكنه لم يوضح كيف يمكننا الحكم بهذا،
49
أما الآن فيمكننا عن طريق معيار التكذيب الحكم بهذا لأنه سيحكم على الدالة الأولى بأنها أكثر قابلية للتكذيب، وبالتالي أبسط خصوصا وأن درجة القابلية للتكذيب تعين درجة صرامة النظرية
strictness of the theory ؛ أي الدرجة التي تفرض بها النظرية قيودها على الطبيعة مما يؤكد أن التكذيب يفعل بالضبط ما يرومه شليك من البساطة؛ لأن النظرية ذات الدالة من الدرجة الأولى هي بالطبع أشد صرامة من النظرية ذات الدالة من الدرجة الثانية.
وبعد، نجد العبارة الأكثر عمومية تحل محل العديد من العبارات الأقل منها عمومية لذلك تكون أكثر بساطة، وهنري بوانكاريه خصوصا يبرر البساطة بالعمومية، وبالطبع العبارة الأكثر عمومية هي الأكثر قابلية للتكذيب، فلنخترها إذن في البحث عن البساطة، دون الاحتياج لمبدأ الاقتصاد في التفكير ولا أي شيء من هذا القبيل،
50
لم يدخل في منطق التكذيب، فإن معيار التكذيب كما هو واضح يكفينا تماما كمعيار للعلم؛ وبالتالي كأساس لمنطقه.
وعلى كل هذا يتمكن بوبر من إقرار «أننا إذا وضعنا نصب أعيننا المعرفة فلا بد وأن نختار أبسط العبارات أي أكثرها قابلية للتكذيب؛ لأنها تخبرنا بالأكثر ومحتواها التجريبي أعظم، ولأنها يمكن أن تختبر بصورة أفضل.»
51 (5) هكذا نجد معيار التكذيب يطوق النظرية تماما لدرجة أنه يتمكن من الإحاطة بمفهوم البساطة بسائر أبعاده، وهو من أشد المفاهيم الميثودولوجية غموضا وإبهاما رغم أنه من أهمها .
لكن بالنسبة لبوبر بالذات فقد أصبح في إمكانه الآن أن يؤكد بمنتهى الثقة على أهمية البساطة كمسلمة للبحث وأن يرى موضوعات دراساتنا، سواء كانت بجعا أو نجوما في السماء أو فلسفات معقدة بغير حدود، وأن كل ما يمكن أن نقوله في حيواتنا المحدودة وبكلماتنا المحدودة أشياء بسيطة، لكن يمكنها أن تلقي الضوء على العالم من حولنا، وكلما كان الضوء أقوى كانت البساطة أكثر كلما كان ذلك أفضل، وأن بعض التبسيطات الشديدة أفضل من غيرها، وأن الغموض يرجع إما إلى عدم الصلاحية والكفاءة، وإما إلى محاولة التأثير الجوفاء على الناس بالكلمات،
52
وأن النظريات العلمية العظيمة لا تعدو أن تكون تبسيطات شديدة للواقع.
في إمكان بوبر الآن أن يطرح هذه المسلمات للبحث، بل وأن يتمادى أكثر من ذلك حتى أعماق فلسفته فيقول: «بصميم طبيعة منهج التبسيط الشديد يجب أن نتناول المشكلة على مراحل، وكل حل تقريبا يثير مشاكل جديدة، وفي الأعم الأغلب تقضي المشاكل الجديدة إلى تبسيطاتها الخاصة بها والتي غالبا ما تكون بدورها مثمرة جدا.»
53
وقد كان الطابع المرحلي لكل بناء، وإن كل مشكلة تثمر مشاكل أخرى من ضمن النتائج التي لزمت عن صياغته «م1
ح ح
أ أ
م2».
54 ⋆
باختصار، أصبح من حق بوبر الآن أن يستخدم مفهوم البساطة كيفما شاء، ومن حق برونوفسكي أيضا أن يؤكد على إعجابه بفكرة بوبر الميثودولوجية الرائعة من استبعاد النظريات التي تم تكذيبها والبحث عن أكثر النظريات المتبقية قابلية للتكذيب مما يجعلنا نتوصل إلى أبسطها.
55 (6) لكن هناك اعتراضات كثيرة واجهت تناول بوبر للبساطة منها أنه إذا كان عدد النقاط المطلوبة لتكذيب القانون؛ أي إبعاده، هو الذي يحدد البساطة فقد يحدث أن نجد أمامنا مثالا معارضا؛ لأن إبعاد النظريات ليست دائما مرتبطة ببعضها حتى يمكن مقارنتها،
56
ولكن يمكن رد هذا الاعتراض بأن مقارنة درجات القابلية للتكذيب - وبالتالي البساطة - ممكن بواسطة وسائل أخرى غير أبعاد النظرية مثل علاقات الفئة الفرعية والقابلية للاشتقاق ودرجة تأليف العبارات الأساسية.
لكن النقد قد يستمر قائلا: إن قياس بساطة القانون بدرجة عموميته غير سليم، ويمكن أن ينهار بمنتهى السهولة، مثلا لدينا الدليل على أن «كل حالات «س» الملاحظة هي «ز».» فإن التعميم «كل «س» وكل «ي» هي «ز».» قابل للتكذيب في أكثر من «كل «س» هي «ز»» في حين أن «كل «س» هي «ز»» أكبر بساطة، وهو أفضل فرض يمكن الوصول إليه على أساس ذلك الدليل،
57
وليس من العسير رد ذلك النقد، فأولا: نحن لا نتوصل إلى النظرية على أساس الدليل، وإلا كنا نردد الخرافة الاستقرائية، وثانيا: بوبر لا يروم البساطة في حد ذاتها بل يرومها مرتبطة بالمحتوى المعرفي، وإلا توصلنا إلى أتفه النظريات؛ لأنها الأبسط، ومعيار القابلية للتكذيب هو الذي يخول الربط بين الأبسط والأغزر في المحتوى المعرفي.
لكن الوضعي المنطقي كارل همبل ينقد بوبر على هذا الأساس، أي على أساس أن النظرية الأبسط الأغزر في المحتوى المعرفي، بالمعنى الاستنباطي أي إمكانية اشتقاق النظرية الأقل بساطة منها، لكن همبل يرى أن المحتوى الأكبر ليس بالضرورة مرتبطا بالبساطة الأكثر، فأحيانا نعتبر نظرية من النظريات قوية كنظرية نيوتن عن الجاذبية والحركة؛ لكونها أبسط من الكثير من النظريات التي لا علاقة لها بالنطاق المحدود الذي تتضمنه النظرية، على أن النوع المرغوب فيه من التبسيط الذي تبلغه نظرية من النظريات ليس على هذا النحو مجرد محتوى زائد؛ لأنه إذا كان ثمة فرضان لا علاقة بينهما (على سبيل المثال قوانين هوك وسيل والارتباط الناتج عنهما يخبرنا بما هو أكثر وإن لم يكن أبسط من مكونات أيهما).
58
على هذا النحو تسير انتقادات نظرية بوبر، فيزعم البعض أن محتوى النظرية يشير إلى قوة
النظرية أكثر مما يشير إلى بساطتها، ومن الناحية الحدسية لا ترتبط القوة بالبساطة دائما، بل إنهما ليستا مرتبطتين، وليست النظرية ذات المحتوى الأعلى هي دائما الأكثر قبولا في الممارسات العلمية.
59
في الرد على هذه الانتقادات يمكن أن نذكر قاعدة بوبر المنهجية التي توضح أن الأمر دائما نسبي نحن نحكم على الفرض بالنسبة لما لدينا من نظريات وبالنسبة للفروض الأخرى التي تنافسه، وليس حكما جامعا مانعا، وإلا وقعنا في متاهات الميتافيزيقا، ونسينا طبيعة العلم المتغير المتطور دوما؛ لذلك نحكم على النظرية بأنها الأبسط وبالنسبة للنظريات التي تتنافس معها على حل نفس المشكلة أنها أبسطها وليست أبسط النظريات مطلقا.
على العموم يبدو أن نظرية بوبر في البساطة لم تقنع همبل كثيرا؛ لأنه يقول: «ما زالت مشكلات إيجاد صيغة دقيقة وتبرير موجز لها - أي للبساطة - بغير حل حتى الآن.»
60 (7) لم يصب همبل فإن معالجة بوبر للبساطة دقيقة ومحكمة وعلى تمام الاتساق مع نظرية في منطق العلم، وانتقاداتها
61 ⋆
دوما تنصب على جانب دون الآخر، وتحاول أن تبرز قصور معالجة بوبر بأسرها على أساس قصور ذلك الجانب، والحق أن معالجة بوبر للبساطة لا يمكن رفضها إلا إذا رفضنا منطق التكذيب بأسره، وليس هذا بالأمر اليسير.
الفصل الرابع
تطبيقات المعيار
(1) في النظريات الفيزيائية (1) لم تكن كل المناقشة السالفة في هذا الباب إلا تبيانا لقابلية القوانين الفيزيائية للتكذيب، بحيث تمثل هذه القابلية معلمها المميز ومعيار علميتها؛ لذلك لن تكلفنا النظريات الفيزيائية الآن كبير عناء، وتكفي الإشارة السريعة إلى أن معيار القابلية للتكذيب ينطبق أول ما ينطبق عليها، خصوصا على تلك التي تعتبر أفكارا رائدة مبسطة، ولما كانت الجرأة هي روح دعوة بوبر المنهجية التكذيبية، فإن النظريات العظمى الأكثر جرأة، ستكون ذات قابلية للتكذيب أوضح أي ينطبق عليها المعيار بصورة أبسط، وذلك كلما كانت قد دخلت في مخاطرة أكبر مخافة أن تكون خاطئة كلما كان الأمر يبدو بخلاف ما تقول.
1 (2) مثلا: فرض أرسطارخوس وكوبرنيقوس بأن الشمس وليست الأرض هي القابعة في مركز الكون، أنموذج أمثل على هذا؛ فقد كان فرضا جريئا، بل ولا يمكن تصديقه في عهودهما، وصحيح أنه فرض كاذب فقد توصلنا الآن إلى أن الشمس ليست هي مركز الكون بمفهوم أرسطارخوس وكوبرنيقوس، وأن حركة الأفلاك حولها ليست دائرية كما تصورا، لكن بوبر يقول صحيح أنه فرض كاذب، لكن هذا لا يؤثر على جرأة الحدس الافتراضي ولا على خصوبته، فواحدة من أهم نتائجه أن الأرض لا تقبع في مركز الكون، وأن لها على الأقل حركة يومية وحركة سنوية، ولا يزال هذا مقبولا حتى اليوم، ولكن ليس هذا هو ما يعنينا الآن، وإلا كنا نبحث عن تحقيقها إن ما يعنينا هو جرأة الفرض، وقد كان جريئا؛ لأنه صادم كل النظريات التي كانت مقبولة في وقته، وصادم الدليل الحسي التجريبي الذي يبدو للوهلة الأولى، وكان جريئا أيضا؛ لأنه أخذ بوجود حقيقة كانت مجهولة حتى وقت ظهوره، أو حاول الكشف عنها، وقد وضع كوبرنيقوس عددا صغيرا من التنبؤات البسيطة، وفرضه لذلك علمي وقابل للتكذيب.
لكن هذا الفرض لم يكن جريئا بمعنى آخر هام جدا، وهو أنه لا أرسطارخوس ولا كوبرنيقوس اقترحا تجربة نقدية؛ أي اختبارا مفندا، بل إنهما لم يقترحا أبدا أن أي شيء حظي فيما يتعلق بالمظهر البادي، والموقف التقليدي المقبول؛ فقد تركا المظاهر المقبولة كما هي، فقط حاولا أن يعيدا تفسيرها، فلم يبلغا المنزلة العلمية الملائمة لأنهما لم يتنبآ بوقائع جديدة قابلة لملاحظة ذات شأن كبير؛ لذلك فنظريتهما من هذه الناحية لا علمية، مما يعني أنها في جملتها ذات قابلية للتكذيب - وبالتالي ذات قيمة علمية - منخفضة؛ لأنهما لم يأخذا بالبعد المنهجي للقابلية للتكذيب مأخذا جديا،
2
وبالطبع لو أدخلنا هذه النظرية في عملية مقارنة درجة قابليتها للتكذيب بالنسبة للنظريات العلمية الفلكية التي توصلنا إليها الآن؛ أي لو قارناها على أساس علاقات القابلية للاشتقاق والفئة الفرعية وأبعاد النظرية والبساطة، لكانت درجة قابليتها للتكذيب منخفضة للغاية.
ولكنها على أية حال نظرية قابلة للتكذيب أصلا فهي علمية، إنها اقتراح وجهة نظر إلى الكون جريئة وجديدة أسهمت إسهاما عظيما في تقدم العلم الحديث.
3 (3) أما مع كبلر، فنجد نظرية ذات قابلية للتكذيب أعلى، فقد مضى إلى ما هو أبعد، كان لكبلر نظرية ميتافيزيقية قائمة إلى حد كبير على نظرية كوبرنيقوس بأن الأرض وجميع الكواكب تدور حول الشمس في مدارات دائرية، غير أن وجهة نظره تأدت به إلى عديد من التنبؤات التفصيلية الجديدة عن المظاهر البادية، وفي البداية لم تنطبق تنبؤات على الملاحظات، فحاول أن يعيد تأويل الملاحظات ودفعه تحمسه في البحث عن الحقيقة إلى ترك بعض نظرياتها المفضلة، أي التصور الدائري لمسار الأفلاك، فقد كان الرأي السائد - بتأثير أرسطو - هو أن الحركة الدائرية أكمل الأشكال؛ وبالتالي لا بد وأن تكون حركة الأجسام العلوية دائرية،
4
ترك كبلر هذا الفرض وتوصل إلى فرضه الرائع، فرض المدار البيضاوي أو الإهليجي لمسار الأفلاك، وفي النهاية خرج بقوانينه الثلاثة العظيمة، التي حلت إلى حد ما مشكلة الحركة في نطاق علم الأفلاك، وهي: (1)
كل كوكب يدور حول الشمس في فلك بيضاوي تقع الشمس في إحدى بؤرتيه. (2)
نصف قطر الموجة
Radius vector
بين الشمس والكوكب، يقطع مساحات متساوية في الأزمنة المتساوية. (3)
يتناسب مربع سنة أي كوكب تناسبا طرديا مع مكعب متوسط المسافة بينه وبين الشمس.
5
هذه القوانين تمثل اقترابا تقديريا
approximation
جيدا من الصدق، وإن كانت ليست صادقة تماما كأية قوانين علمية، بل وإننا توصلنا إلى مواطن الكذب فيها، غير أنها قابلة للاختبار والتكذيب، وقد اختبرت في ضوء نظريات نيوتن وآينشتين التي تنبأت بانحرافات بسيطة عنها، وقوانين كبلر تبعا لنظرية نيوتن صحيحة فقط بالنسبة لحركة جسمين، وتفشل في بعض المواضع بصورة طفيفة لو أخذناها كقوانين لحركة مجموعة من الأفلاك وهذه هي التجربة الفاصلة ضد كبلر ، بسيطة وطفيفة لكنها واضحة بما يكفي،
6
لإثبات أن نظريته علمية بلا جدال. (4) وبالطبع نظرية نيوتن بقوانينها الثلاث تمثل نظرية علمية على الأصالة وبما لا يدع مجالا للشرح، فيمكن منها أن تستنبط القوانين التي تحكم حركة أية أجسام طالما لها سرعات معينة، وإذا لم تتحرك الأجسام على النحو الذي تنبأت به النظرية فإن هذا سيمثل تفنيدا لها، وحقا أن جميع الأجسام في الماكروكوزم - حتى الآن - تتحرك تبعا لها، غير أن إمكانية التكذيب المنطقية قائمة فيها على أية حال، خصوصا أننا نسلم في فلسفة العلم المحدثة بأنه ليس ثمة ما يمنع الأجسام من أن تغير قوانين حركتها، ثم إن النظرية قد تعرضت لتجربة فاصلة واجتازتها، بل لتجارب كثيرة فاصلة واجتازتها؛ فقد وضعت أكثر التنبؤات تفصيلا لأنواع جديدة من المؤثرات كالانحرافات عن قوانين كبلر، وكانت هذه التنبؤات تقف في وجه أقسى الاختبارات وكان أعظم نجاح للنظرية هو اكتشاف كوكب نبتون؛ فقد حول تهديدا بالهزيمة إلى انتصار، وتنبأت النظرية بضرورة وجود جسم آخر، وبعد هذا التنبؤ بسنوات، تم اكتشاف كوكب نبتون بالفعل.
7
ورغم هذا فقد أثارت قابلية نظرية نيوتن للتكذيب جدلا، خصوصا فيما يتعلق باكتشاف كوكب نبتون، ربما لأن الاستقرائيين يصورون فيها حصنا منيعا لهم، ولما كان معيار القابلية للتكذيب أساس نظرية بوبر المقوضة لاستقرائهم، فقد حاولوا تقويض المعيار عن طريق نفي انطباقه على واحدة من أهم النظريات العلمية، إن لم تكن أهمها.
وقد فعل ذلك هيلاري باتنام؛ فقد أوضح أن نظرية نيوتن تتكون من القانون القائل: إن كل جسم «وليكن «أ»» يؤثر على كل جسم «وليكن «ب»» بقوة «ق»؛ أي «ق أ ب» تتجه نحو «أ» وشدتها معامل ثابت عام هو «ج»، هذا مع قوانين نيوتن الثلاثة للحركة، وهي القوانين الأساسية التي تقوم عليها الفيزياء الكلاسيكية، أي: (1)
يظل كل جسم على حالته من الحركة أو السكون، ما لم يؤثر عليه مؤثر خارجي. (2)
تتعادل قوة الدفع (أو كمية الحركة
momentum ) التي تلزم لتحريك أي جسم مع القوة الواقعة عليه، وتكون في نفس اتجاه هذه القوة . (3)
لكل فعل رد فعل معاكس له في الاتجاه ومساو له في المقدار.
8
والآن فإن هذه النظرية لا تتضمن أية عبارات أساسية مفردة، وأية حركة مهما كانت لا بد وأن تكون متوافقة مع النظرية، طالما أنها لا تقول شيئا عن أية قوى بخلاف الجاذبية، وهذه القوة «ق أ ب» لا يمكن قياسها هي ذاتها؛ وبالتالي لا يمكن استنباط تنبؤات مفردة من النظرية، وكل ما نفعله حين نطبق النظرية على موقف فلكي هو أن نقوم ببعض الافتراضات المبسطة، هي تقديرات أولية تخدمنا كعبارات مساعدة، مثلا لو حاولنا استنباط مدار الأرض فإننا نضع الافتراضات الآتية: (1)
لا توجد أية أجسام بخلاف الأرض والشمس. (2)
الأرض والشمس موجودتان في فراغ صارم. (3)
لا تتعرض الأرض والشمس لأية قوى بخلاف قوة الجاذبية المتبادلة بينهما.
9
ومن ربط نظرية الجاذبية العامة مع هذه العبارات المساعدة، يمكن بالفعل أن نستنبط تنبؤات معينة، على سبيل المثال نستنبط قوانين كبلر، ولو حاولنا جعل العبارات المساعدة 1، 2، 3 أكثر واقعية، مثلا بأن تدخل فيها بقية أجزاء النظام الشمس، يمكن أن نحصل على تنبؤات أدق والعبارات المساعدة يمكن أن توضع بصورة أكثر حذرا لتتفادى أي اعتراض بأنها كاذبة، غير أننا لا نستعملها إلا ضمنا ولا ننص عليها إطلاقا، وحساب نيوتن لقوانين كبلر لا تجعل من تلك العبارات المساعدة أكثر من مجرد إشارة سببية إلى ما يحدث، والعلماء بصفة عامة لا يهتمون كثيرا بهذه العبارات المساعدة، والاهتمام العظيم الذي يوليه العالم لبناء النظرية، يناقض اللامبالاة التي يقدم بها العبارات المساعدة، هذا على الرغم من أن العبارات المساعدة قابلة هي الأخرى للمراجعة ربما أكثر من النظرية، وبعد هذا لا يفوت باتنام التنويه إلى أن التنبؤات لا يمكن أن تأتي من النظرية بمفردها، ولكن من الضروري جدا مساعدة تلك العبارات المساعدة وأيضا العبارات الأساسية.
10
وينتهي باتنام إلى أن نظرية الجاذبية العامة ظلت لأكثر من قرنين من الزمان مقبولة كحقيقة قاطعة لا تقبل شكا ولا جدلا، وإذا ناقضت عبارات أساسية النظرية، فإننا نرفض أو نعدل العبارات المساعدة وليس أبدا النظرية، والمثال الواضح على هذا أن العلماء حين تنبئوا بمدار كوكب أورانوس على أساس نظرية الجاذبية العامة، وافتراض أن جميع الكواكب هي تلك التي كانت معروفة آنذاك، كعبارة مساعدة، حدث بعض الانحرافات البسيطة في مدار أورانوس عما تنبأ به العلماء، على هذا تنبأ لافيري
Leverrier
في فرنسا آدم
Adam
في إنجلترا بضرورة وجود كوكب آخر كي يفسر هذه الانحرافات البسيطة، وبعد سنوات عديدة تم اكتشاف هذا الكوكب بالفعل، إنه كوكب نبتون، واكتشاف هذا الكوكب يمثل تفنيدا لنظرية نيوتن التي لا تتضمنه، لكن العلماء لم يتفادوا هذا التفنيد بأن غيروا النظرية، بل بتغيير الفروض المساعدة، وقد يقال: إن الأمر الحاسم هو أن نبتون قابل للملاحظة، غير أن باتنام يجيب على هذا بأن الأمر ليس كذلك فهناك نجوم معينة تعرض لسلوك غير منتظم، ويحل العلماء هذا اللغز عن طريق طرح مصادرة وجود تابع، فإذا لم يروا هذه التوابع في التلسكوب يحلون الأمر بمصادرة وجود تابع مظلم لا يمكن رؤيته، والواقع أن معظم فروض العلم لا يمكن اختبارها مباشرة وهناك توابع كثيرة مظلمة في نظريات العلم.
11
وينتهي باتنام من هذا إلى أن طرح السؤال التالي: لا يمكن أن تشرح نظرية نيوتن تماما مدار المريخ، فهل هذا يكذب النظرية أو يجعلها خاطئة؟ ويقول باتنام: إن الإجابة على هذا السؤال لا تكون بالإيجاب إلا بالنسبة لنظرية أخرى، مثلا بالنسبة لنظرية النسبية العامة لآينشتين، نقول: نعم نظرية الجاذبية لنيوتن تكون كاذبة ولكن بدون هذه النظرية لا نكذب نظرية نيوتن أو نرفضها أو نفندها، لكن فقط نقول: إن مدار المريخ شارد، والسبب غير معلوم.
12
والنتيجة التي يريد باتنام أن ينتهي إليها من كل هذا هي أن نظرية نيوتن غير قابلة للتكذيب وبالمثل سائر نظريات الفيزياء البحتة، وأن العلماء لا يستنبطون التنبؤات منها ليكذبوها، ولكن ليفهموا الكون، وأنهم حين يكتشفون خطأ يرفضون العبارات المساعدة ولا يرفضون النظرية، ويحاول باتنام أن يبالغ في الإحاطة بنظرية بوبر فيقول: «وقد يقول بوبر إنه لا يصف ما يفعله العلماء، وإنما ما ينبغي أن يفعلوه، فهل ينبغي عليهم تكذيب نظرية الجاذبية العامة؟ إنهم لا يفعلون هذا، ولا يستطيعون فعله، ولا ينبغي أن يفعلوه، وإلا فهل كان نيوتن عالما سيئا.»
13
نلاحظ أولا أن فكرة العبارات المساعدة لا تخل إطلاقا بمعيار القابلية للتكذيب؛ لأن بوبر قد أوضح في كل المواضيع أن النظريات البحتة، التي هي أنساق كلية عمومية، تحتاج دائما إلى تعريفات وفروض مساعدة، أما حين ينبهنا باتنام إلى أننا لا يمكن أن نستنبط التنبؤات من النظرية بمفردها بل نحتاج إلى عبارات أساسية، فإنه لا يفعل أكثر من ترديد إجراءات المعيار، ثم إنه انتهى في النهاية إلى أن النظرية لا يمكن أن تكذب إلا بالنسبة لنظرية أخرى، وكان مثاله على هذا النظرية التي تعنينا الآن، أي نظرية نيوتن في الجاذبية العامة، وقال: إنها في حد ذاتها لا تقبل التكذيب ولكن تكذب فقط بالنسبة لنظرية آينشتين، ولنلاحظ أن البحث في رجحان صدق النظرية وفي درجة تعزيزها يكون دائما بالنسبة لنظرية أخرى، على هذا النحو:
د «ف أ، م ت» >
د «ف2، م ت»
فبوبر لن يدعو إلى تكذيب النظريات كي يظل العلم سابحا في الهواء ولكن لكي نتوصل إلى نظريات أفضل، وإذا لم نتوصل إلى نظرية أفضل فإننا لا نملك إلا أن نبقي على النظرية، رغم علمنا بمواطن كذب فيها، أما عن قول باتنام بأن كل نظرية لها توابع مظلمة؛ أي بها مواطن غموض قد تكون مواطن كذب، فهو تأكيد لقابليتها للتكذيب فمعيار القابلية للتكذيب قائم أساسا على أنه ليس ثمة أية نظرية كاملة تماما أو صحيحة أو صادقة فمثل هذه النظرية - المستحيلة - لن تكون قابلة للتكذيب، إذن كل هذه الاعتراضات - أو ما تصور باتنام أنه اعتراضات - لا تمس معيار القابلية للتكذيب البتة، والغريب حقا أن يتصور باتنام أنه بهذا ينقد المعيار فضلا عن أن يثبت فشله.
المهم حقا في هذا النقد هو قوله إن اكتشاف كوكب نبتون يمثل تكذيبا للنظرية لكن العلماء أبقوا على النظرية من بعده ولم يفندوها أو يرفضوها، وقد ذهب إلى هذا أيضا الباحث إيمر لاكاتوس، فقد رأى هو الآخر أن قوانين نيوتن في الحركة والجاذبية غير قابلة للتكذيب، وأشار أيضا إلى كوكب نبتون، وقال: إن العلماء اضطروا إلى إدخاله في النظرية؛ لأنه يستحيل أن يكذبها فالنظرية غير قابلة للتكذيب أصلا، وتبعا لهذا، فإن أي تفنيد مزعوم لنظرية نيوتن يمكن إدخاله في نطاق النظرية، تماما كما افترضنا في اضطرابات مدار كوكب أورانوس تفنيدا لها، ثم استطعنا إدخال هذه الاضطرابات في النظرية.
وفي رد بوبر على باتنام ولاكاتوس أكد أن نظرية نيوتن قابلة للتكذيب تماما كما أن أبسط نظرية، مثل: كل البجع أبيض، قابلة له، إنها قابلة للتكذيب بنفس المعنى البسيط، أي لمجرد كونها قابلة لعدم التوافق منطقيا مع بعض العبارات الأساسية؛ أي لأن لها فئة مكذبات محتملة،
14
وبالنسبة لما أورده من مكذبات للنظرية لا تكذبها أي اكتشاف كوكب نبتون ، فإننا يجب أن ننتبه إلى أن معيار القابلية للتكذيب هو الذي يجعل النظرية قابلة للتطوير والتعديل، وأهم أساليب تطوير النظرية وتعديلها هو طرح الفروض المساعدة، وقد سبق أن أوضحنا الفارق بين الفروض المساعدة والفروض العينية، وأكدنا على الأخذ بالأولى ورفض الثانية، وبالنسبة لافتراض وجود كوكب نبتون لكي يعلل انحرافات مدار كوكب أورانوس البسيطة عما تنبأت به نظرية نيوتن، فهو أنموذج أمثل على الفرض المساعد فهو قابل للاختبار بصورة مستقلة، كما أن قابلية نظرية نيوتن للتكذيب زادت به، فكان لا بد وأن نختبر النظرية اختبارا جديدا يتمثل في الكشف عن هذا الكوكب، وقد اكتشف الكوكب بالفعل، وهذا الاكتشاف يعد تجربة فاصلة أخرى اجتازتها نظرية نيوتن بنجاح.
إن افتراض كوكب نيوتن كان هو القادر على تعليل انحرافات كوكب أورانوس عن القوانين السابقة، وبفضل هذا الفرض المساعد انقلب التكذيب الخطير إلى نجاح باهر،
15
وكون نظرية نيوتن قد تخلصت من تكذيب معين عن طريق فرض مساعد، فإن هذا لا يعني أنها غير قابلة للتكذيب، فمنطق التكذيب نفسه هو أول من يرحب بالفروض المساعدة خصوصا إذا كانت مثمرة وعظيمة كفرض كوكب نبتون. (5) أما عن نظرية آينشتين، فقد كانت هي نفسها التي جعلت بوبر يتوصل إلى فكرة معيار القابلية للتكذيب أصلا، فقد كانت نظرية جريئة جدا تختلف في خطوطها العامة اختلافا كبيرا عن نظرية نيوتن أو التي كانت في وقتها صادقة صدقا مطلقا ولا يفكر أحد في الخروج عنها.
لكن من وجهة نظر آينشتين نجد أن نظرية نيوتن اقتراب بارع من الصدق على الرغم من أنها كاذبة، كما أن نظرية كبلر هي من وجهة نظر نظرية نيوتن اقتراب بارع من الصدق على الرغم من أنها كاذبة، لكن الصدق ليس هو الذي يقرر الخاصة العلمية للنظرية.
فالمهم الآن أن نظرية آينشتين أنموذج أمثل على قابلية النظرية العلمية للتكذيب، وعلى أن هذه القابلة هي أساس منطقها وأيضا أساس منهجها، فقد اشتق آينشتين من نظريته ثلاثة تنبؤات هامة حول ثلاثة مؤثرات قابلة للملاحظة، وها هنا تجسيد القابلية للتكذيب، واثنان منها لم يكن أحد أبدا يفكر فيهما قبل آينشتين، وهي كلها تناقض، تنبؤات نظرية نيوتن على قدر ما يمكن أن نقول: إنها تقع في مجال تطبيق هذه النظرية بصورة عامة، وها هنا تجسيد الجرأة التي هي روح القابلية للتكذيب، وقد أعلن آينشتين أن هذه التنبؤات حاسمة، وأن الملاحظات إذا لم تتفق مع نتائج حساباته النظرية الدقيقة فسوف يعتبر نظريته مفندة.
16
وعلى هذا فقد تعرضت نظرية آينشتين لاختبار دقيق، وفي وقت لم يكن الرأي العام العلمي قد تقبلها تماما، وكان الرأي الأرجح أنها لن تجتازه وقد كانت هذه التنبؤات تبعا لنظرية آينشتين في الجاذبية، وأيضا نظريته في طبيعة الضوء، فقد أنكر النظرية الموجية ودحض معها افتراض الأثير، وأخذ بالنظرية الجسيمية وتبعا لها يكون الضوء مكونا من سيال من الجسميات، وتبعا لنظرية الجاذبية يكون كل جسمين بينهما قوة تجاذب تتناسب تناسبا طرديا مع كتلتيهما وتناسبا عكسيا مع مربع المسافة بينهما.
ولما كانت النظرة إلى الضوء جسيمية فيجب إذن أن تجذبه الأجسام الثقيلة مثل الشمس، تماما كما تجذب الأجسام المادية، جذبا يحرفه عن مساره الذي كان سيسير فيه لو لم تكن هذه الشمس موجودة، ونتيجة لهذا يمكن أن نحسب أن الضوء المنبعث من نجم مثبت في وضع ظاهري قريب من الشمس يصل إلى الأرض من الاتجاه الذي يجعل النجم يبدو كما لو كان ماثلا قليلا عن الشمس، وبعبارة أخرى: إن النجوم القريبة من الشمس تبدو كما لو كانت قد حركت قليلا بعيدا عن الشمس، وبعيدا عن بعضها البعض، وهذا شيء لا يمكن ملاحظته في الأحوال الطبيعية، طالما أن هذه النجوم تبدو في النهار غير مرئية بفضل اللمعان الشديد للشمس، لكن يمكن تصويرها فوتوغرافيا إبان كسوف الشمس، ولو صورت هذه المجموعة من النجوم أثناء الليل - أي أثناء غياب الشمس - يمكن قياس المسافات على الصورتين، وحساب الأثر المتوقع، فكانت حملة آدنجتون إلى جنوب أفريقيا عام 1919م لتصوير النجوم أثناء كسوف الشمس، ولمقارنتها بصور النجوم أثناء الليل، وتمت المقارنة وحسابات الأثر المتوقع، وكانت تماما كما تنبأت نظرية آينشتين.
17
إذن فهناك مخاطرة كبيرة انطوى عليها هذا التنبؤ، فلو كان الأثر المتوقع غائبا، فالنظرية ببساطة مرفوضة أي مكذبة أو مفندة؛ لأن التنبؤات المستنبطة منها غير متوائمة مع نتائج معينة للملاحظات التجريبية، وهي في الواقع غير متوائمة مع النتائج التي كان يمكن أن يتوقعها أي شخص قبل آينشتين لولا جرأة آينشتين العلمية الكبيرة.
لقد كانت النظرية النسبية على هذا النحو قابلة بشدة للتكذيب، وقد اجتازت تلك التجربة الفاصلة أو الحاسمة، ومنذ ذلك الوقت مرت النظرية بسلسلة من الاختبارات الأقسى، وقد اجتازتها كلها بنجاح تام؛ ومن ثم أثبتت مادتها وجدارتها بالصمود أمام الاختبارات القاسية، أي حصلت على درجة تكذيب عالية وأصبح صدقها مرجحا عن صدق نظرية نيوتن.
ولكن لما كان آينشتين عالما أصيلا وحتى النخاع، فقد تبين أن القابلية للتكذيب قائمة في كل نظرية حتى في نظريته هو العظيمة، فقد أعلن أن نظريته ليست صادقة وأنها مجرد اقتراب من الصدق أكثر من نظرية نيوتن، وقد بلغت النزاهة العلمية إلى حد أنه أعطى مبررات هذا فقد وضع رسما تخطيطيا لعدد من المطالب، التي تحققها النظرية الصادقة فيما أراد أن يتوصل إليه: نظرية المجال الموحد
Unified Field Theory .
18 (6) وقد فشل آينشتين، مثل كبلر، في التحقيق الكامل لحلمه العلمي أو الميتافيزيقي، وفي هذا السياق - سياق الحلم - لا يعنينا أية بطاقة نلصقها، إننا نلصق البطاقة بعد إنجاز الحلم لنعطي جواز المرور إلى عالم العلم إذا كان الإنجاز قابلا للاختبار والتكذيب، فقوانين كبلر ونظرية آينشتين في الجاذبية هي نتائج لم ترض أبدا خالقيها اللذين ظلا يعملان لإنجاز حلمهما حتى آخر يوم من حياتهما، ويمكن أن نقول المثل بالنسبة لنظرية نيوتن أيضا، فهو لم يعتقد أبدا أن نظرية الحركة في الامتداد التي وضعها يمكن أن تكون شرحا نهائيا مقبولا للجاذبية.
19
وبالمثل أيضا كل عالم أصيل وضع نظرية، لا بد وأن يكون قد تبين أنها ليست كاملة، وأن بها مواطن نقص وخطأ، وفقط لأنها علمية لا بد وأن تكون قابلة للتكذيب فيكذبها العلماء يوما ما، ويتوصلون إلى الأفضل منها وفي هذا قال آينشتين: ليس ثمة قدر عادل لأية نظرية أكثر من أن تكون فاتحة طريق لنظرية أشمل منها وأوسع، فتكون بالنسبة لها مجرد حالة محددة.
20 (2) في العلوم الزائفة (1) وبالطبع يعطي علم التنجيم
Astrology
أنموذجا أمثل على العلم الزائف الذي لا يقبل التكذيب، ولا يقوم أي بعد من أبعاد التكذيب في أية زاوية من زواياه، إنه علم يبدأ من الافتراض الزائف الذي هاجمه كل العقلانيين - ابتداء من أرسطو حتى نيوتن - افتراض أن حركة الكواكب لها تأثير على الأحداث الأرضية،
21
وكما أوضحت مناقشة بوبر لمناهج التحقق والتأييد فإن العثور على ملايين الأمثلة المؤيدة لأية نظرية لا تمثل خلفا مجالا
absurd
أمر هين للغاية، وقد عثر المنجمون على ملايين الأمثلة المؤيدة لنظرياتهم، فلو قلنا: إن مواليد برج القوس سعداء فمن السهل الإتيان بألف شخص آخر ليسوا سعداء ومن مواليد برج القوس، ولكن لطالما أخذ المنجمون وضللوا بما اعتقدوا أنه أدلة مؤكدة لنظرياتهم أي تحقيق لها ونظرا لغياب البعد المنهجي للتكذيب غيابا كاملا من علوم التنجيم؛ لأنها ليست علوما، فإن المنجمين لا يتأثرون بأي دليل غير مرغوب فيه ولا يلتفتون إليه، إنهم لا يبحثون إلا عن الوقائع المؤيدة لهم، وما أسهل أن يجدوها ومن أجل مزيد من السهولة جعلوا نظرياتهم غامضة ومبهمة بما يكفي لتشويه أو تمويه أو تحطيم كل ما يفندها،
22
إنهم لا يستطيعون ويخافون الجرأة والتحديد وتعيين فئة مكذبات محتملة لنظرياتهم؛ لأنهم ليسوا علماء بل دجالين.
وللأسف فإن التنجيم لا يزال قائما حتى الآن، بل ويستهوي البعض ولا تكاد جريدة يومية واحدة تخلو منه على الرغم من أنها قد تحوي في ذات الصفحة أحدث الإنجازات العقلية والمكتشفات العلمية، إنه إحدى الأمزجة المريضة للإنسان التي لا يستطيع التخلص منها مهما تقدم. (2) المثل تماما؛ أي حكم معيار القابلية للتكذيب، ينطبق على علوم الفراسة
التي تحاول وضع قوانين تربط بين شكل الجمجمة وخصائص الشخصية كنظريات جال
Gall . (3) وثمة علم ثالث يدخل في زمرة هذه العلوم الزائفة، وهو السيمياء أو كيمياء العصور الوسطى، حقا هذا العلم قد انتهى تماما لكن من المفيد ملاحظة أنه يقوم على أساس قضية وجودية، لكن غير محددة، وهي: يوجد حجر الفلاسفة القادر على تحويل جميع المعادن إلى ذهب، أو يوجد سائل قادر على إعادة الشباب، أو يوجد سائل يشفي من جميع الأمراض،
23
وقد سبقت الإشارة إلى أن منطق التكذيب يشترط أن تكون القضية الوجودية محددة وأن القضايا الوجودية غير المحددة ليست علما ولا يمكنها أن تقوم بأي دور في العلم
24 ⋆
ومنطقه. (3) في الميتافيزيقا (1) وبالطبع نظريات الفلسفة الخالصة والميتافيزيقا غير قابلة للتكذيب، ولا هي مطالبة بأن تكون قابلة له لا منطقيا ولا منهجيا؛ لذلك يرى بوبر أن عدم القابلية للتفنيد تدخل في صميم تعريف الميتافيزيقا والنظريات الفلسفية، فهي نشاط محدد بأنه ليس علما وأنه متميز عن العلم، ولا يحاول أن يعطينا محتوى إخباريا أو قوة تنبؤية عن وقائع العالم التجريبي، إنها تصورات عامة للكون تعين على فهمه أو على فهم جانب منه بغير تحديد ولا تعيين، فتتخذ صورة القضايا الوجودية غير المحددة، أو صورة القضايا اللاوجودية أصلا إذا كانت ميتافيزيقية أو مثالية متطرفة.
ويضرب بوبر مثالا على الصورة الأولى - الوجودية غير المحددة - بحتمية كانط الميتافيزيقية
25 ⋆
التي ترى أننا لو عرفنا كل مقتضيات الحياة السيكولوجية والحياة الفسيولوجية، وأيضا كل متغيرات البيئة، فسنستطيع التنبؤ بكل تفصيلات السلوك الإنساني، وبنفس الدقة التي نتنبأ بها بخسوف القمر أو كسوف الشمس، ونحن لا نستطيع هذا التنبؤ بمستقبل السلوك حتى الآن، فقط لأننا لم نعرف بعد كل مقتضيات وعوامل الحاضر، ويمكن أن نضع منطوق هذه النظرية على الصورة الآتية: «يوجد وصف صادق لحالة هذا الإنسان الحاضر، يكفي تماما - في حالة ارتباطه بالقوانين الطبيعية الصادقة - للتنبؤ بكل تصرفاته المستقبلة.»
26
وكما هو واضح، فالنظرية تتخذ شكل القضية الوجودية غير المحددة، وبالتالي غير القابلة للتكذيب في حد ذاتها، أي بما هي غير محددة.
وثمة قضايا فلسفية أكثر تطرفا، ليست وجودية أصلا، على رأسها النظرية المثالية
Idealism
التي ترى العالم التجريبي بأسره مجرد فكرة في الذهن أو حلم أو تصور.
وأيضا الإبستمولوجيا اللاعقلانية، التي انتشرت في الفلسفة الحديثة، خصوصا في القرن الثامن عشر، فمنذ أن أوضح كانط أن العقل الإنساني غير قادر على استكناه الأشياء في ذواتها
things-in themselves ، والفلاسفة لا يرون أمامهم إلا طريقين: إما أن نتخلى تماما عن حلم استكناه الأشياء في ذواتها، وإما أن نحاول معرفتها عن طريق آخر غير طريق العقل، وطالما أننا لا نستطيع التخلي عن هذا الحلم، فلا يبقى أمامنا إلا اتباع الوسائل اللاعقلية، مثل الغريزة أو العاطفة أو إلهام الشعراء،
27
لكن نحن أنفسنا أشياء في ذواتها، فإذا استطعنا التوصل إلى معرفة أنفسنا معرفة داخلية فورية بواسطة تلك الوسائل، استطعنا بالتالي التوصل إلى معرفة الأشياء في ذواتها وكيف تكون، وعلى هذا استشرت الوسائل اللاعقلانية في المعرفة.
ويضرب بوبر المثال على هذا بفلسفة آرثر شوبنهور
Arthur Schopenhour (1788-1860م) فقد سارت على هذه الحجة: نحن إرادة، لكننا أشياء في ذواتها، إذن فالإرادة بدورها يجب أن تكون هي الشيء في ذاته،
28
وشوبنهور مثالي هاجم المذهب المادي وأكد أنه من المستحيل حل اللغز الميتافيزيقي وكشف سر الحقيقة بفحص المادة أولا ثم فحص الفكر ثانيا، بل يجب أن نبدأ بما نعرفه مباشرة وعن كثب، أي يجب أن نبدأ بأنفسنا، وعلى نهج الميتافيزيقيين في اعتبار العقل صورة الواقع، انتقل شوبنهور من القضية: نحن بوصفنا أشياء في ذواتها إرادة، إلى القضية: العالم بوصفه شيئا في ذاته هو إرادة، أما بوصفه ظاهرة
phenomena
فهو فكرة، إذا كان الفلاسفة قد اتفقوا على أن جوهر العقل هو الإدراك والفكر، فإن شوبنهور يؤكد على أن جوهر العقل هو الإرادة، الشعورية واللاشعورية، وإذا كان العقل يبدو أحيانا موجها للإرادة، فإنه في هذه الحالة دليل يقود سيده، فنحن لا نريد شيئا لأننا وجدنا أسبابا تستدعي ذلك، بل إننا نوجد أسبابا له لأننا نريد، إن الإرادة هي علة كل شيء، علة الرغبات والأهداف والطموح والصراعات، وهي - لا العقل - التي تشكل الشخصية، بل وأيضا الجسد؛ لأن الحياة ذاتها ليست إلا اسما مبهما غامضا للإرادة،
29
إذن: «العالم إرادة» ومثل هذه القضية لا يمكن اختبارها ولا تكذيبها ولا تفنيدها بأية صورة من الصور، فمن أين السبيل إلى استنباط أية تنبؤات منها أو أي أخبار عن وقائع العلم التجريبي؟
المثل تماما هو حال كل النظريات الفلسفية، وثمة أمثلة أخرى واضحة يمكن أن ترد في هذا السياق؛ لأنها لا تعدو أن تكون صورا أخرى لمذهب الإرادة
Voluntarism
هذا عند شوبنهور، فليس صحيحا - في رأي بوبر - أنه مذهب متروك أو قابع في تاريخ الفلسفة كما يبدو، بل الصحيح هو أنه متخف تحت أسماء عدة هي موضات الفلسفة المعاصرة، مثل فلسفة نيتشه والفلسفة العدمية عموما والفلسفة الوجودية على وجه الخصوص، وهي تقوم على أساس أننا بالملل والسأم نعرف أنفسنا بوصفنا لا شيء، فالأشياء في ذواتها هي اللاشيئية أو العدمية
Nothingness ، هذا المنطوق تماما كمنطوق مذهب الإرادة: بالإرادة نعرف أنفسنا كإرادة، فالأشياء في ذواتها هي الإرادة، وهي الأخرى تماما منطوق اللاعقلانية، لنا خبرات لا عقلية، أو فوق عقلية
super-rational
نخبر بها أنفسنا بوصفنا أشياء في ذواتها، وبهذا فنحن لدينا معرفة بالأشياء في ذواتها، أو كمنطوق المثالية: العالم هو حلمي، أو الحتمية الميتافيزيقية: الحاضر يحوي المستقبل، فهو يحدده تماما، كلها - كما هو واضح - نماذج مثلى على النظريات غير القابلة إطلاقا للاختبار ولا التكذيب ولا التفنيد. (2) القضايا التحليلية، قضايا العلوم الرياضية والمنطقية ، غير قابلة للتكذيب، أي التفنيد
30 ⋆
التجريبي، ولكنها قابلة للتفنيد المنطقي ففي اتساقها مبرر كاف لقبولها، وفي تناقضها الذاتي مبرر كاف لرفضها، وقضايا العلوم الزائفة يجب أن ننحيها جانبا ولا نفكر إطلاقا في أي رفض أو قبول لها أو مفاضلة بينها، غير أن الأمر مختلف بالنسبة للميتافيزيقيا فلا الاتساق يكفيها؛ لأنها ليست تحصيلات حاصل، ولا من الممكن تنحيتها جانبا، وبوبر بالذات فيلسوف يؤكد على أن الفلسفة الخالصة والميتافيزيقا من أهم مناشط العقل، فمن أين لنا بالمعيار الذي يحكم هذا المنشط الهام، وهو لا يقبل تعزيزا أو تكذيبا أو تفاوتا في درجات القابلية للتكذيب توضح النظريات التي ينبغي أن نفضلها على غيرها والنظريات التي نأخذ بها أو نتركها!
بعض الفلاسفة يعتبرون النظرية غير القابلة للتفنيد، هي هكذا لأنها صحيحة وصادقة وبالطبع هذا خطأ، ليس فقط لأنه يتناقض مع منطق معيار القابلية للتكذيب، ولكن لأنه يتناقض مع أي منطق، فالنظرية ونقيضها يمكن أن يكونا كلاهما غير قابلين للتفنيد، وبالطبع يستحيل أن يكونا كلاهما صحيحين، مثلا الحتمية واللاحتمية، المثالية والواقعية، العقلانية واللاعقلانية، كلها نظريات غير قابلة للتفنيد، وتبعا لقاعدة: المنطق الصوري، قاعدة عدم التناقض لا يمكن أن تكون النظرية ونقيضها صحيحتين؛ وبالتالي لا بد من قبول قاعدة منطق التكذيب، بأن القضية غير القابلة للتفنيد ليست بالضرورة صادقة، بل قد تكون صادقة وقد لا تكون، وهذا يبرز أكثر أهمية التساؤل المطروح: كيف يمكن المفاضلة بين النظريات الميتافيزيقية والفلسفية وهي غير قابلة للتفنيد؟ فبوبر فيلسوف وله موقف محدد، فعلى أي أساس يأخذ ببعض النظريات الفلسفية ويترك الأخرى؟
وبوبر يجيب على هذا التساؤل بإجابته المعهودة: النقد، المناقشة النقدية والاختبارات النقدية للنظرية الفلسفية، هي الفيصل بين النظريات الفلسفية تماما كما هي الفيصل بين كل النظريات، ولكن في العلم الطبيعي يكون النقد بالنسبة لوقائع العالم التجريبي، أما في الفلسفة والميتافيزيقا فالنقد يكون بالنسبة للمشكلة التي تحاول النظرية حلها، وفي ضوء موقفها
problem - situation
وعلاقات النظرية بهذا الموقف. (3) لقد ورد في الفقرة الأولى خمسة أمثلة للنظريات الفلسفية: الحتمية الميتافيزيقية والمثالية واللاعقلانية ومذهب الإرادة والعدمية، وقد تم اختيار هذه الأمثلة بالذات؛ لأن بوبر تماما يناقضها ويأخذ بأضدادها، مما يعني أنه قد توصل إلى الحكم بخطأ هذه النظريات أو على الأقل بضرورة رفضها، وإلا لما أخذ بأضدادها.
فهو لاحتمي واقعي عقلاني، وبخصوص مذهب الإرادة فهو يؤمن باستحالة التوصل إلى معرفة كاملة بالعالم بكل خصوبته وثرائه، فلا الفيزياء ولا أي علم آخر يمكنه أن يصل بالمعرفة إلى آخر المدى، حتى يصل إلى الأشياء في ذواتها؛ لذلك لا يمكن أن تكون صياغة المذهب: «العالم إرادة» محققة لهذا الهدف؛ لأنه هدف مستحيل، أما بالنسبة للعدميين الوجوديين الذين يركزون على ضيقهم وسأمهم وضجرهم (وأيضا ضيق الآخرين وسأمهم) فبوبر يتعاطف معهم؛ لأنهم لا بد أن يكونوا صما وعميانا وأيضا أشياء بائسة فقيرة، وإلا لما تحدثوا عن العالم كما يتحدث الأعمى عن روائع الفنون التشكيلية والأصم عن موسيقى موزارت،
31 ،
32 ⋆
والآن على أي أساس رفض بوبر هذه النظريات، وهي غير قابلة للتفنيد؟ رفضها على أساس المعيار الذي طرحه لحل المشكلة، أي على أساس نقدها في ضوء موقفها وفي ضوء المشاكل التي حاولت حلها، على أساس البحث فيما إذا كانت قد حلت هذه المشاكل أصلا أم فشلت، وهل حلتها حلا أفضل من حلول النظريات الأخرى؟ وهل حلتها فعلا أم فقط أبدلت المشاكل بمشاكل أخرى؟ وهل الحل بسيط وهل هو مثمر؟ وهل ناقضت نظريات فلسفية أخرى، تحتاجها لحل المشاكل الأخرى؟
33
إن النظرية سواء علمية أو لا علمية فلسفية أو لا فلسفية، طالما تكفلت بحل مشكلة مطروحة، فإنها تضع نفسها هدفا لمثل هذه التساؤلات النقدية، أي للمناقشة العقلانية.
ولنبدأ بالمثالية، مذهب باركلي على الخصوص، والمآل الذي آلت إليه فلسفة هيوم، إذا نظرنا إليها على ضوء موقفها وموقف المشكلة التي تصدت لحلها؛ لوجدناها مغالية ومتطرفة كثيرا عما أراده باركلي أو هيوم، كما يوضح تأكيد باركلي المستمر على أن نظريته في الواقع على تمام الاتفاق مع الحس المشترك السليم، فهل صحيح أن الحس المشترك السليم يرى أن العالم التجريبي مجرد فكرة أو حلم؟ وإذا حاولنا فهم موقف المشكلة التي دفعتهما إلى هذه النظرية لوجدنا أن باركلي وهيوم قد اعتقدا أن كل معارفنا ترجع إلى الانطباعات الحسية وإلى ارتباطاتها بواسطة صور الذاكرة، وقد قادهما هذا إلى اتخاذ المثالية وهيوم بالذات اضطر إلى الأخذ بها على مضض فهو لم يصبح مثاليا إلا لأنه فشل في محاولته رد الواقعية إلى معيطات الحس، وعلى هذا يكون معقولا تماما أن ننقد مثالية هيوم بأن نظريته الحسية
sensualistic
في المعرفة والتعلم خاطئة وغير ملائمة، وأن ثمة نظريات أخرى في المعرفة والتعلم أكثر ملاءمة؛ لأنها لن تؤدي إلى نتائج مثالية غير مرغوب فيها،
34
وبوبر يأخذ بإحدى هذه النظريات تلك التي تجعل الحس الخالص مستحيلا أصلا، ثم تجعل للتجربة دورا متواضعا، فهي لا تؤدي إلى النظرية العلمية، ولكن فقط تساعد في اختبارها ومحاولات تكذيبها، إنها تجريبية متبصرة، مثمرة حقا ولا تؤدي إلى أية نتائج غير مرغوب فيها.
ومع هيوم يمكن أن نجد نقد اللاعقلانية أيضا، فقد تسللت اللاعقلانية إلى الفلسفة مع هيوم حين رأى أننا نتعلم في الواقع بواسطة استقراء بيكون، ورأى أيضا أن هذا الاستقراء يستحيل تبريره عقلانيا، ولكنه تصور استحالة تجنبه فلم يملك إلا الإبقاء عليه، فكان بهذا لاعقلانيا،
35
غير أن النقد العقلاني يحتم رفض كل ما لا يمكن تبريره تبريرا عقلانيا، كما يحتم رفض موقف هيوم المتناقض؛ وبالتالي الأخذ بالعقلانية كما أخذ بها بوبر.
ويمكن أن نوجه مثل هذا النقد لحتمية كانط الميتافيزيقية، فهي الأخرى تناقضت مع نظريات فلسفية أخرى أخذ بها كانط لحل مشاكل فلسفية أخرى، مما يجعل علاقات النظرية بموقف المشكلة في جملتها غير مرضية؛ لأن اقتناع كانط الجوهري والحقيقي كان باللاحتمية، فقد افترض أن الحرية - أي اللاحتمية - خاصية تتميز بها إرادة جميع الكائنات العاقلة، وإلا لما استقامت نظريته الأخلاقية وأخذه بمبدأ الواجب،
36
أكد كانط على حرية الإنسان، غير أنه تصور أن حتمية ظواهر الطبيعة هي نتيجة
consequence
لنظرية نيوتن لا يمكن تجنبها فاضطر إلى الأخذ بالحتمية الميتافيزيقية، وهذا التناقض يمثل نزاعا بين فلسفة كانط النظرية وفلسفته العملية، ولم ينجح أبدا في حل هذا النزاع بصورة ترضيه،
37
على هذا النحو يكون نقد الحتمية الميتافيزيقية بوصفها نظرية فلسفية؛ إذ لا يصح مثلا نقدها بأنها غير محددة فنقول: إن كانط كان لا بد أن يحدد بدقة ما هو هذا الوصف الذي يمكننا من التنبؤ بالسلوك، ولا يقول: إن هذا الوصف يوجد أو يمكن أن يوجد فحسب؛ لأن هذا يعني أننا نريد من كانط أن يجعل نظريته في صورة عبارة وجودية محددة أي نظرية تجريبية علمية،
38
مثل هذا النقد خاطئ؛ لأننا يجب أن ننقد النظريات الفلسفية بوصفها فلسفية غير قابلة للتكذيب أو التفنيد، وننقد النظريات العلمية بوصفها علمية قابلة للتكذيب والتفنيد، فأسلوب النقد الفني المختص بالعلم، أي الاختبار ومحاولة التكذيب، لا يصلح مع الميتافيزيقا، لكن يصلح معها أسلوب النقد العقلاني كما يصلح مع أي نشاط معقول، ويستطيع أن يكفل لها معيارا للحكم على النظريات والمفاضلة بينها، ويكفل لها أيضا التقدم بمعنى السير من حلول إلى حلول أفضل وأصوب، لكن لن يكفل لها أي تفنيد ولا هي تقبل أي تفنيد، وهذا هو ما يميزها ويحفظها حية متجددة على الدوام قابلة للبحث في كل لحظة، وقابلة أيضا للإضافة والتعديل والتطوير وإعادة الصياغة بحيث لا تصل إلى نهاية، فاكتشاف مشكلة فلسفية يمكن أن يكون شيئا نهائيا يحدث مرة واحدة ويظل إلى الأبد مقبولا لكل العصور، ولكن حل المشكلة الفلسفية لا يمكن أن يكون نهائيا، ولا يمكن أن يقام على دليل نهائي ولا على تفنيد نهائي، فقط يمكن أن يقام - ويجب أن يقام - على الاختبارات النقدية لموقف المشكلة وللافتراضات التي سلم الحل بها، ولمختلف الطرق التي يمكن بها أن نعيد الحل من جديد.
39 (4) نعم، يعرف بوبر النظريات الفلسفية بأنها غير قابلة للتفنيد، وهو يعاملها ويتفلسف على هذا الأساس ولكن في بعض الأحيان يسيطر عليه نزوع الفلاسفة إلى التعميم والنظرة الكلية فيؤكد أن معيار القابلية للتكذيب يميز العلم ويحكمه في كل أطواره حتى في الأطوار البدائية الأولى، حيث نجد النظريات الفلسفية التي مهدت للنظريات العلمية، على سبيل المثال نظرية بارمنيدس، فهو لم يكن فيزيائيا كأسلافه الأيونيين على الأقل، غير أن بوبر يراه أبا الفيزياء النظرية البحتة؛ فقد وضع أول نظرية مضادة للطبيعة
Anti-Physicat
كما تبدو للحس المشترك ومعارضة للخبرة الحسية، ويمكن أن نصفها بأنها آخر الأنساق الاستنباطية القبل فيزيائية
Last pre-physical deductive system ، وقد مهد تكذيبها من ناحية إلى نظرية ديمقريطس الذرية؛ إذ وجد ديمقريطس نفسه ملزما بتلافي نقص بارمنيدس بإنكار الحركة، فأبقى على نظرية بارمنيدس فيما يتعلق بالذرات نفسها، فهي لا يطرأ عليها أي تغيير، ولكن فسر الحركة البادية بأنها إعادة ترتيب للذرات، أيضا نظرية فيثاغورث أدت إلى مثل هذا، فهو ارتفع عن المادة بأسرها ووضع نسقا فرضيا استنباطيا يحاول تفسير كل شيء على أساس القوانين الرياضية، وعبر سلسلة من التطورات أصبحت نظرية بارمنيدس نفسها أساس تصور آينشتين للكون حيث لا نجد أي تغير يحدث في كتلة الكون
block-universe
ثلاثي الأبعاد الذي أضاف إليه البعد الرابع: الزمن، أما نظرية ديمقريطس فهي بداية لأعظم إنجازات العلم: فرض الذرة، وكان نسق فيثاغورث أول من علم علماء الطبيعة التعبير باللغة الرياضية وأنها كافية تماما، ولا شك أن استخدام اللغة الرياضية الدقيقة أهم أسباب تقدم الفيزياء
40 ... المهم أن بداية العلم كانت نسقا فلسفيا يمثل أولى حلقات سلسلة طويلة من الأنساق، كل حلقة منها كانت تحسينا لسابقتها، وعلى أساس قاعدة معيار القابلية للتكذيب، نجد أن السبب الأساسي في هذه التحسينات هو وقائع معينة من الخبرة كذبت النسق السابق أو السلسلة السابقة، ومثل هذا التفنيد التجريبي للنسق الاستنباطي أو لمعقباته يحث على بذل الجهد في إعادة بنائه، وبالتالي يفضي إلى نظرية جديدة مطورة، تحمل كل دلائل سابقتها، بالإضافة إلى التحرر مما فندته الخبرة، وصحيح أن هذه الخبرات أو الملاحظات اتخذت في البداية صورة فجة للغاية، لكنها خطوة خطوة أصبحت حاذقة بارعة، تماما كما أصبحت النظريات بدورها - خطوة خطوة - أكثر حذقا وبراعة، وأقدر على تعليل تلك الملاحظات الفجة القديمة.
41
والآن يمكن بشيء من التجاوز أن نقبل من بوبر رأيه بأن قواعد المعيار تحكم مسار التطور العلمي في كل مراحله، ولكن لا يمكن أن نقبل ولا أن نفكر في أن المراحل الأولى، هي نفسها قابلة للمعيار، حتى ولو كانت تمهيدا للعلم؛ لأن هويتها الفلسفية تمنع ذلك وإلا تناقض بوبر مع نفسه، لعل نظريات بارمنيدس وديمقريطس وفيثاغورث تطورت إلى نظريات قابلة للتكذيب - وعبر طريق التكذيب - لكن هي نفسها غير قابلة له، وإلا فلماذا هي حية باقية حتى الآن وموضوع دراسة يهتم به بوبر أكثر من غيره، تمهيدها للعلم - القابل للتكذيب - أحد إشعاعاتها الكثيرة، ولا يعني أنها هي ذاتها قابلة له، وبوبر بلا شك أول من يوافقنا على هذا. (4) في التحليل النفسي (1) ومن وجهة نظر معيار القابلية للتكذيب لا يختلف التحليل النفسي من الناحية المنطقية العلمية عن التنجيم أو السيمياء أو أي علم آخر زائف. (2) والتحليل النفسي
هو مصطلح يطلق على نسق من النظريات السيكولوجية، ومنهج لعلاج الاضطرابات العقلية العصبية، وهو يتميز بنظرة ديناميكية لجميع أوجه الحياة العقلية: الشعور واللاشعور، مع تأكيد خاص على ظاهرة اللاشعور، وبواسطة أسلوب فني للفحص والعلاج، منقح ومطور وقائم على استخدام التداعي الحر المستمر.
42
ويرتبط التحليل النفسي باسم الطبيب النمساوي سيجموند فرويد
Sigmund Freud (1856-1939م) فهو مؤسسة، وإن أعقبه علماء آخرون أضافوا الكثير مما لم يقله فرويد، وأيضا رفضوا الكثير مما قاله، أهمهم كارل يونج وألفرد أدلر، وكارين هورني، وأوتورانك، وهاري ستاك سوليفان، وأريك فروم.
أما عن نظرية فرويد فتقوم على أن الشخصية تتكون من ثلاثة نظم أصلية:
الهو
ID :
وهو نظام الشخصية الأصلية، ويتكون من كل ما هو موجود وموروث سيكولوجيا ومنذ الولادة: كالغرائز ويسميه فرويد الواقع النفسي الحقيقي؛ لأنه لا يتأثر بالدوافع المكتسبة.
الأنا
Ego :
يقوم بالتعاملات المناسبة مع العالم الموضوعي الخارجي، متميزا عن الهو بأنه يفرق بينها وبين الأشياء التي توجد في العالم الداخلي، فهو الجهاز الإداري للشخصية الذي يسيطر على منافذ الفعل والسلوك، ويختار من البيئة الجوانب التي يستجيب لها، ويقرر الغرائز التي سوف تشبع والكيفية التي يتم بها ذلك الإشباع، وهو يحقق أهداف الهو ولا يحبطها لأنه يستمد قوته منها.
الأنا الأعلى
Super-ego :
الممثل الداخلي للقيم التقليدية للمجتمع والأخلاق والمثل العليا، ما يمثلها للطفل والده ثم مدرسوه ثم الشخصيات الاجتماعية والتاريخية العظمى، وكما تفرض عليه بواسطة الثواب والعقاب، وهو مثالي ينزع إلى الكمال، ووظائفه الأساسية هي:
كف دفعات الهو، وبخاصة ذات الطابع الجنسي والعدواني.
إقناع الأنا بإحلال الأهداف الأخلاقية محل الأهداف الواقعية.
العمل على بلوغ الكمال فيعارض الهو الأنا معا؛ إذ لا يحاول إرجاء إشباع الغريزة فحسب كالأنا، بل يحاول الحيلولة دون الإشباع على الدوام.
وهذه النظم الثلاثة ليست دمى تحرك الشخصية، بل مجرد أسماء لعمليات سيكولوجية مختلفة لا تتعارض بل تعمل متآزرة تحت قيادة الأنا.
43
وقد شبه فرويد العقل بجبل من الجليد يمثل الجزء الصغير الطافي منه على سطح الماء منطقة الشعور، والجزء الأضخم الباقي هو اللاشعور، حيث توجد الدوافع الحقيقية للسلوك، وما يهم علم النفس حقيقة.
44 ⋆ (3) واتخذ التحليل النفسي مع ألفرد أدلر اتجاها جديدا مستقلا، يرتبط بالحركة الاجتماعية التي عظمت في أواخر القرن الماضي، رافضة للتصور الفيزيقي الحيوي الخالص للإنسان، ومؤكدة أنه أساسا نتاج المجتمع الذي يعيش فيه، فالإنسان شخصية اجتماعية أكثر منها بيولوجية، فانشق أدلر عن فرويد لقصوره عن تصوير المؤثرات الاجتماعية وأسس علم النفس الفردي
Individual Psychology
وهو علم نفس الفروق الفردية، أي علم البحوث النسقية لهذه الفروق ومقاييسها،
45
وقد عمل أدلر في الحرب العالمية الأولى كطبيب في الجيش النمساوي، وبدأ يهتم بعد الحرب بإرشاد الأطفال وتوجيههم، وأنشأ أول عيادة للتوجيه في مدارس فيينا، كما كان له الفضل في إنشاء أول مدرسة تجريبية في فيينا تطبق نظرياته في التربية.
وقد ناقض اتجاه فرويد بتأكيد الجنس، وأيضا اتجاه يونج القائل بالأنماط، وقال هو بالحوافز الاجتماعية كمحرك أول لسلوك الإنسان، وأكد اهتمامات الإنسان الاجتماعية وأهمية المتغيرات الاجتماعية، وساعد على تنمية مجال علم النفس الاجتماعي، فالإنسان في نظره كائن اجتماعي أولا وقبل كل شيء، ولكنه يتفق مع فرويد ويونج في افتراض طبيعة فطرية تشكل الشخصية.
ومن أعظم إسهامات أدلر فكرة الذات الخلاقة؛ إذ تمثل الذات عنده نظاما شخصيا وذاتيا للغاية يفسر خبرات الكائن العضوي ويعطيها معناها، فالذات تبحث عن الخبرات التي تساعد على تحقيق أسلوب الشخص الفريد في الحياة، وإذا لم توجد هذه الخبرات في العالم فإن الذات تحاول خلقها، والسمة الثالثة التي تميزه عن التحليل النفسي التقليدي هي تأكيده لتفرد الشخصية، فقد اعتبر كل شخص صياغة فريدة، وكل فعل يصدر عن الشخص يحمل طابعه وأسلوبه الخاص.
46
ونظريته في الشخصية اقتصادية تقوم على مفاهيم أساسية قليلة هي: (1)
الأهداف النهائية الوهمية: وهي القيم والمثل العليا والطموح، وهي تجعل توقعات المستقبل تحرك الإنسان أكثر من خبرات الماضي. (2)
الكفاح في سبيل التفوق: وهو الغاية النهائية. (3)
مشاعر النقص والتعويض: وهي أساسا النقص الجسدي، لكن أدلر طورها لتشمل مشاعر النقص بصفة عامة، الفيزيقي والسيكولوجي، وقد بالغ فيها مبالغة تجافي الواقع وافترضها قائمة في كل شخصية، وأنها ليست علامة على الشذوذ بل سبب كل ما يحققه الإنسان من تحسين، أما إذا تطرفت فإنها تصبح عقدة نقص، أو عقدة تفوق تعويضية إذا تطرفت في الاتجاه المضاد. (4)
الاهتمام الاجتماعي. (5)
أسلوب الحياة أي مبدأ النظام الذي تمارس بمقتضاه شخصية الفرد وظائفها. (6)
الذات الخلاقة.
كما عني أدلر بالوراثة والخبرة وأثر الذكريات المبكرة على تكوين شخصية الإنسان.
47
ونلاحظ أن نظرية أدلر ذات طابع مثالي مسرف في تصور الإنسان؛ لذلك فهي أفضل النظريات التحليلية نسبيا. (4) وبوبر حين ينقد يبذل قصارى جهده، ويتحامل بكل ثقله وبكل الأثقال الممكنة على موضوع النقد وعلى الرغم من سيطرة التحليل النفسي على المناخ العلمي في فيينا إبان نشأة بوبر، فإنه خالف تلك العادة، ولم يبذل جهدا كبيرا في نقد نظريتي فرويد وأدلر، واكتفى بالإشارة إلى أن المعيار لا ينطبق عليهما، وأنهما ليسا علما، ربما لأنهما أضعف وأقل من أن يستحقا أي نقد أكثر.
فليس التحليل النفسي ولا علم النفس الفردي علوما على وجه الإطلاق، وليس لهما من السمة العلمية أي نصيب؛ لأنهما ببساطة نظريات غير قابلة للتكذيب إطلاقا، وليس لها أية فئة مكذبات محتملة، فليس ثمة أي سلوك إنساني يمكن أن يعارضهما؛ وبالتالي ليس ثمة أي سلوك إلا ويمكن تفسيره وفقا لمصطلحات هاتين النظريتين، والمثال الذي يضربه بوبر على هذا هو رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه، ثم رجل آخر يضحي بحياته محاولا إنقاذ الطفل، كل من هذين السلوكين المتناقضين يمكن تفسيره بنفس السهولة وفقا لمصطلحات نظرية فرويد، وأيضا وفقا لمصطلحات نظرية أدلر، فتبعا لفرويد يمكن أن نفسر موقف الرجل الأول بأنه يعاني من الدوافع المكبوتة، مثلا بإحدى مركبات عقدته الأوديبية أو النزوعات العدوانية، أما الرجل الثاني فنفسر سلوكه بنفس الدوافع المكبوتة ولكنها في حالة إعلاء وتسام، وطبقا لنظرية أدلر نجد الرجل الأول يعاني من شعور بالنقص سبب له الرغبة في إثبات جرأته على ارتكاب جريمة ما، ونفس الشعور بالنقص سبب للرجل الثاني الرغبة في إثبات جرأته على إنقاذ الطفل،
48
على هذا النحو نجد النظريات التحليلية دائما يمكن تطبيقها، دائما يمكن تأكيدها، تفسر كل شيء وتشرح كل شيء، ولو جاء رجل ليؤكد أنه لم يشعر إطلاقا بعقدة أوديب ولم يصدر عنه أي سلوك ينم عنها - وهذا ما لا بد أن يؤكده أكثر من 99٪ من الأسوياء - فلن يعتبر التحليليون هذا تفنيدا لنظرياتهم، بل على الفور سيتملصون من هذا التكذيب بأن عقدة أوديب مكبوتة في اللاشعور، والنظرية بهذا غير قابلة للاختبار، وبالتالي غير قابلة للتكذيب؛ إذ يمكن على هذا النحو إدخال كل الأحداث الممكنة وكل الوقائع الممكنة وكل النماذج السيكولوجية الممكنة في نطاق هذه النظريات، بل وكتأكيدات لها، وعلى حد تعبير بوبر: «فور أن تفتح عينيك ترى حوادث مؤكدة في كل مكان.» وامتلأت الدنيا بإثباتات وسيل لا ينقطع من تحقيقات النظرية، وأيا كان ما يحدث فهو دائما يؤكدها، وبهذا ظهر صدقها جليا واتضح أن المنكرين قوم لا يريدون أن يروا الصدق الجلي أو رفضوا أن يروه بسبب عقد مكبوتة لديهم، لم تحلل بعد، لكنها تصرخ طلبا للعلاج،
49
وهذه القدرة الظاهرية على تفسير كل شيء وأي شيء بدت في نظر العوام معلما على قوة النظرية الفائقة، لكنها من وجهة نظر معيار القابلية للتكذيب تبدو نفس سبب ضعفها الحقيقي الشديد وخوائها التام، فالنظرية تشرح كل شيء وتفسر كل شيء؛ لذلك تعجز عن التنبؤ بأي شيء، ولا يترتب عليها - أو على الغالبية العظمى من أجزائها - نتائج تجريبية، كما يستحيل أن نجعل مثل هذه النتائج تترتب عليها، فعلى سبيل المثال يستحيل اشتقاق أية فروض تجريبية من غريزة الموت؛ لذلك تظل باقية في غياهب الظلام الميتافيزيقي ولا يكون لها أي معنى بالنسبة للعم، والتنبؤ مقدما بما سوف يحدث هو مهمة النظرية العلمية، غير أن قصور نظرية فرويد عن تقديم قواعد علاقية يمكن بها الوصول إلى أي توقعات محددة لما سوف يحدث - أي تنبؤات - هو أوضح من أن يناقش،
50
ولو كانت قادرة على التنبؤ بحدوث أحداث معينة، لأصبحت الأحداث الممكنة خارج التنبؤ مكذبات محتملة للنظرية، ولكانت بهذا علمية، لكن النظرية التحليلية عاجزة عن التحديد والتعيين والتنبؤ؛ لأنها محضر أفكار فضفاضة أقرب شبها بالأساطير البدائية ، وملاحم فرويد الحماسية عن الهو والأنا والأنا أعلى لا يمكنها أن تدعي السمة العلمية أكثر مما تدعيها الأساطير التي جمعها هوميروس خلال تجواله فوق الأولمب،
51
فقد تجنب أية معالجة كمية لمواده التجريبية المتهافتة، ولم يصل إلى النتائج بواسطة استدلال منطقي واضح، وما نجده في كتاباته هو النتيجة النهائية لتفكيره بدون المادة الأصلية التي يعتمد عليها؛ لذلك يستحيل تكرار أي من بحوثه بأي من الثقة الثقة
52
وإمكانية الإعادة، إعادة الاختبار واسترجاع الوقائع التجريبية المعززة أو المكذبة شرط أساسي في منطق التكذيب.
وبعد لا ينكر بوبر أن فرويد وأدلر رأيا أشياء معينة صحيحة، وأن بعضا مما يقولانه له أهمية ويمكن أن يطور بحيث يلعب يوما ما دوره في علم نفس قابل للاختبار والتكذيب، كما تطورت بعض من نظريات الميتافيزيقا البارعة ولعبت دورها في الفيزياء القابلة للتكذيب،
53
وأيضا ينوه بوبر إلى أن اختلاف أدلر عن فرويد هو في صالح الأدلرية؛ إذ تلافى موطن نقص خطير لفرويد حين أكد على أهمية النظر إلى الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا، على الرغم من أن فرويد لم ينظر إلى هذا أبدا كتفنيد لنظريته أو كتحد لها؛ لأن الأبعاد المنطقية والمنهجية للعلم - أي الأبعاد التكذيبية - لا وجود لها البتة في نظرياتهم لأنها ليست علما. (5) ونفس مناهج التحليليين وأساليبهم في ممارسة عملهم، لم تكن هي الأخرى من العلم في شيء، وكما هو معروف، فإن فرويد على الرغم من دراسته لمناهج العلم الدقيقة لم يستخدم الأساليب التجريبية أو الملاحظة المضبوطة في دراسته للعقل الإنساني، ولم يقم بأية تجارب سيكولوجية مضبوطة ولم يجمع الوقائع ويحللها كميا كما كان يفعل علماء النفس الآخرون في القرن التاسع عشر، وكتاباته الكثيرة لا تحوي أي جدول مخطط أو اختبار تشخيصي أو صورة من صور التقييم الموضوعي للشخصية، وكل نظرياته قائمة على الوقائع والخيالات التي كانت ترويها له شخصياته المريضة،
54
وبصفة عامة نجد كل اللاتحليليين يجمعون على أن التحليل النفسي علم زائف بسبب القصور الشديد في إجراءاته المنهجية، وأن التحليليين لا يعنيهم الأمر حين يصاب الباحث بخيبة أمل،
55
أي إن البعد المنهجي للتكذيب لا أثر له عندهم البتة!
ويضرب بوبر مثالا على قصور إجراءاتهم المنهجية بواقعة خبرها هو نفسه، فقد اتصل بوبر بألفرد أدلر وتعاون معه في عمله الاجتماعي بين الأطفال والشباب في مناطق الطبقة العاملة بفيينا، حيث أقام أدلر عيادات الإرشاد الاجتماعي، وحدث أن قدم بوبر لأدلر تقريرا عن حالة لم تبد له أدلرية بالذات؛ أي لعله لم يجد فيها مركبات نقص، لكن أدلر لم يجد صعوبة في تحليلها على ضوء نظريته عن مشاعر النقص، وبمنتهى الثقة رغم أنه لم ير حتى الطفل، فأبدى بوبر اندهاشه، فكيف يثق أدلر من هذا وهو لم ير الطفل؟ فأجاب أدلر أنه فعل ذلك نتيجة آلاف التجارب السابقة التي اكتسبها، فلم يملك بوبر إلا أن قال وبهذه الحالة تصبح تجاربك آلافا وواحدة،
56
فلعل تجارب أدلر السابقة كانت كلها على هذا النمط وعدها جميعا إثباتات لنظريته، فكل حالة يدركها المحلل سيفسرها على ضوء نظريته، بدلا من أن يعتبرها اختبارا لها، وتفكير التحليليين بهذا أقرب شبها بالتفكير الدوجماطيقي المناقض للتفكير النقدي، فقد اتخذوا نظرياتهم بدجماطيقية، وراحوا يؤولون كل الأحداث أيا كانت كي تتفق معها، ولا يمكن أن نجد عندهم ما نجده عند العلماء الحقيقيين ذوي الاتجاه العلمي الأصيل؛ أي النقدي، من اختبار النظريات ومحاولات تكذيبها، ومن الناحية الأخرى فقد أوضح بوبر أن الاتجاه الدوجماطيقي وثيق الاتصال بالرغبة في تحقيق القوانين والبحث عن تطبيقاتها وتأكيداتها، وأنه اتجاه العلوم الزائفة،
57
إن التحليل النفسي - بصورته التي طرحها مؤسسوه - هو من رأسه حتى أخمص قدميه علم زائف، ببساطة ليس ينطبق عليه معيار القابلية للتكذيب. (6) ويؤكد بوبر على هذه السمة اللاعلمية من إقرار لفرويد بأنه إذا أقر أي شخص بأن معظم أحلامه التي تفيد في التحليل ترجع بأصولها إلى افتراضات النظرية التحليلية، فليس ثمة أي اعتراض يمكن أن يثار في وجه النظرية التحليلية، ومن أن فرويد عقب ببساطة على هذا بأنه ليس ثمة أي شيء يمكن أن ينتقص من قدر النظرية التحليلية.
58
غير أن كل أقوال فرويد وكل وقائعه وكل خصائص أبحاثه تبرهن على أنه ليس من طبيعة العلماء في شيء، فها هو ذا يصدر حكما قاطعا يصدر به أحد كتبه بأن نظريته قائمة على عدد لا يحصى من الملاحظات، وأن أحدا لا يستطيع أن يكرر هذه الملاحظات على نفسه أو على الآخرين، ويصل إلى حكم مستقل عن التحليل النفساني!
59
وما هكذا تكون أحكام العلماء على نظرياتهم.
وثمة واقعة يرويها بوستمان
في كتاب له عن سيرة فرويد (1962م)، خلاصتها أن روزنتسفايج
Rosenzweig
قد أرسل له عام 1934م رسالة عن نتيجة محاولته لدراسة الكتب دراسة تجريبية أيدت نظرية فرويد، فرد فرويد عليه بأنه لا يستطيع أن يعطي قيمة كبيرة لهذه التأييدات؛ لأنها تقريرات قائمة على ثروة من الملاحظات الموثوق بها، غير أن الملاحظات تجعلها معتمدة على التحقق التجريبي، وأضاف فرويد قائلا: لتهدأ بالا فإنها لا تضر!
60
إذن فهو يرى أن نظريته أعلى من التحقق التجريبي، وليست في حاجة إلى تجارب تؤيدها فضلا عن أن تختبرها وتكذبها، ويعلق إيزنك على هذا بأننا لا يمكن أن نجد نظرية تكون محطا للانتباه العلمي، وفي الوقت ذاته تقطع بحسم وإمعان كل صلة بينها وبين الاختبارات التجريبية على هذا النحو، ولا حتى علوم التنجيم والفراسة.
61
وبقي أن نعرف أن هذه النظرية التي يراها واضعها قاطعة قطعا لا ترقى إليه إلا تحصيلات الحاصل، ليست لها أية صلة بأية معطيات تجريبية إلا التعبيرات اللفظية والسلوكية الصادرة عن المرضى أثناء علاجهم مجرد أقوال عصابيين، يسجلها فرويد بعد ساعات من سماعها مما يجعلها هي نفسها ليست دقيقة، ثم إنه لم يحاول التيقن من أقوال مرضاه بأي شكل من الأشكال، ولا حتى عن طريق معارف المريض، وكان يعتمد فقط على ثقته في التداعي الطليق،
62
والكارثة أنه خرج من أقوال المرضى بنظريات يعممها تعميما لتوضيح طبيعة الشخصية السوية قبل المريضة! وهذا هو السبب في أن نظريته أظهرت الطبيعة الإنسانية وكأنها مرادفة لأبشع صور الانحراف والجنوح والعصاب بل والذهان، بحيث إن نظرية فرويد إذا صحت فلا بد أن يكون الإنسان السوي شاذا، وكما هو معروف فإن نسبة فرويد رغبات شهوانية شبقية تدميرية للطفل الصغير، وتأكيده الرغبة في المحارم والجنسية المثلية للجميع، وعموما تفسيره لسلوك الإنسان على أساس الجنس فقط، كل هذا روع ذوي الحس المرهف، وجعل نظريته تلقى النقد المرير بل والاحتقار والازدراء كما لم يحدث لأية نظرية أخرى باستثناء دارون، لكن فرويد تحدى المجتمع والرأي العام تحديا لا يقوى عليه إلا الأبطال الصناديد، وإذا كان دارون قد وجد هكسلي وآخرين ليقفوا بجواره، فإن أحدا البتة لم يقف بجوار فرويد، بل انصرف عنه أخلص أصدقائه وزملائه، والمرء لا يملك إلا الإجلال والإكبار لهذا الرجل الذي تحمل الأمرين: ابتداء من احتقار المجتمع والحرمان من أي تشجيع أو تأييد علمي وإغلاق الأبواب في وجهه وانصراف الجميع عنه سواء الأصدقاء أو التلاميذ (خصوصا في الفترة ما بين عام 1896م وعام 1906م)، وانتهاء بالتضحية بفرض الكسب المادي، وكل ذلك لم يزده إلا إصرارا على مواصلة النظرية التي تراءت له وهو يحاول جاهدا مخلصا استكناه ذلك المجهول الكثيف: النفس، وليس ذنبه أنه لم يدرك أن عبقريته الخلاقة أحوج إلى الموهبة الفنية الأدبية، وليس إلى الاتشاح بوشاح العلم، فأين هو من رواد آخرين - كرينيه ديكارت مثلا - اتخذوا شعارا لهم «عاش سعيدا من أحسن التخفي.» أو «التقية ديني ودين آبائي.» ولكن على الرغم من أن كل هذا حقائق تاريخية مسلم بها، فإن المحلل النفسي أريك فروم ينتقده قائلا: «كان فرويد مشبعا بروح حضارته لدرجة لم يتمكن بها أن يتجاوز حدودا معينة أقامتها هذه الحضارة، ولقد أصبحت هذه الحدود نفسها حدودا لفهمه حتى للإنسان المريض؛ فقد أعجزته عن فهم الفرد السوي والظواهر اللاعقلانية التي تعمل في الحياة الاجتماعية.»
63
لكن لم يصب فرويد تماما، فليست الحدود الحضارية هي التي أعجزت فرويد عن فهم الإنسان السوي، بل قصور إجراءاته المنهجية هي التي أعجزته، واعتماده فقط على أقوال المرضى، ثم إنه صاحب أول نظرية في تطور الشخصية، ومع ذلك نادرا ما درس الأطفال،
64
ولعله اقتصر على ملاحظة أطفاله الستة!
ولنلاحظ أن الخطأ الكبير في الاقتصار على فحص المرضى يشمل كل التحليليين، فسيكولوجية يونج تقوم هي الأخرى على النتائج الإكلينيكية أكثر منها على البحث التجريبي؛ لذلك رفضها التجريبيون الصارمون كما رفضوا نظرية فرويد.
65
وحتى أدلر - مؤسس الاتجاه الاجتماعي الذي ينتصر له فروم - قد أجرى هو الآخر معظم ملاحظاته التجريبية في المجال العلاجي، وكان معظمها يقوم على إعادة بناء الماضي كما يتذكر المريض، وتقدير السلوك الراهن والحكم عليه على أساس التقريرات اللفظية للمريض،
66
وهذا هو السبب في نقد باتريك ملاهي له من أنه سطحي، وافترض أن مشاعر الضعة والعجز هي ذات أهمية أساسية في جميع الأطفال بدون أن يرى أن الأطفال الذين يربون في محيط صحي لا تثقلهم مشاعر كهذه،
67
فلو كان أدلر درس الأسوياء كما درس المرضى لما افترض أن مشاعر النقص والتعويض أساسية في بناء الشخصية الإنسانية، وأيضا نجد المرضى وعلاجهم هم اهتمام كارين هورني الأول، واهتمام هاري ستاك سوليفان الوحيد، ومن هذا الاهتمام يتطرقون إلى نظريات عن الشخصية بما هي شخصية. (7) وفي هذا الصدد - صدد التأكيد على اهتمام المحللين بالمرضى فقط، وبطريقة تمثل قصورا في إجراءاتهم المنهجية - يبرز تساؤل هام: ماذا عن الوقائع الإكلينيكية؟ المحللون لهم عيادات يستقبلون المرضى فيها، ويعالجونهم بواسطة نظريات التحليل، بل ويشفونهم في بعض الأحيان، وهاري ستاك سوليفان - على وجه الخصوص - حقق نجاحا عظيما في هذا الصدد، أليست الحالات الإكلينيكية تمثل وقائع تجريبية تربط النظرية بالعالم الإخباري ربطا اختباريا، فتمنحها السمة العلمية؟
في الرد على هذا اعترض بوبر بشدة على جدوى أسلوب الملاحظات الإكلينيكية وقال: إن هذه الملاحظات التي يعتقد التحليليون ببدائية وسذاجة أنها تؤكد نظرياتهم، لا تفعل ذلك أفضل من التأكيدات اليومية التي يقابلها المنجمون في ممارساتهم.
فالملاحظات الإكلينيكية، شأنها شأن الملاحظات الأخرى، هي وقائع تفسر في ضوء النظريات وليس أسهل من أن نفسرها بطريقة تجعلها تؤيد النظريات، وأيضا ليس أسهل من أن تقتصر فقط على جميع الملاحظات التي تؤيد النظريات، وقد سبق أن أوضح بوبر كل هذا أثناء مناقشة الاستقراء والتحقق، وثمة افتراض عام - من الناحية الأخرى - يوجه لمحاولة التحليل النفسي تأكيد نظرياته بهذا الأسلوب الإكلينيكي، وهو أن المعالج الذي تدرب في إطار النظرية يجد نفسه متحيزا أثناء ملاحظاته، فيجمع فقط ما يعتقد أنه مرتبط بالنظرية ولا يلتفت إلى غيره، وهذا الاعتراض ليس إلا تأكيدا لنظرية بوبر الميثودولوجية العامة، بالنسبة للتحليل النفسي.
لقد أصبح من الواضح الآن - من منطق التكذيب - أن السند الحقيقي يكون فقط من تلك الملاحظات التي تشكل اختبارات قد تجتازها النظرية وقد لا تجتازها؛ أي محاولات تفنيد، ويجب أن نتفق أولا على الملاحظات التي إذا لوحظت ستشكل تفنيدا للنظرية، وكما فعل آينشتين على سبيل المثال الواضح، ولم يحدث أبدا أن اتفق التحليليون على معايير محددة تعين بعض الاستجابات الإكلينيكية التي إذا حدثت يمكنها أن تفند تشخيصا محددا لهم، فضلا عن أن تفند النظرية التحليلية بأكملها، بل وإن نظرية التناقض الوجداني عندهم، وأيضا اللاشعور، تجعل مثل هذه المعايير مستحيلة.
68
من الناحية الأخرى، هل بحث التحليليون مدى تأثير نظرياتهم ذاتها على الاستجابات الإكلينيكية للمرضى، فضلا عن محاولة التأثير الواعية على المريض، باقتراح تأويلات معينة لحالته،
69
إن الأثر الأوديبي لأشد ما يكون فعالية في حالة العلاج بواسطة التحليل النفسي، والأثر الأوديبي
Oedipus Effect
هذا مصطلح قدمه بوبر في «عقم المذهب التاريخي» ليشير به إلى تأثير النظرية أو التنبؤ على الحدث الذي تشرحه النظرية أو تتنبأ به، أو إلى تأثير المعرفة عامة على الموقف المتصل بها، سواء كان هذا التأثير من شأنه أن يساعد على وقوع الحادث أو على منعه،
70
والأثر الأوديبي بهذا يشير إلى صعوبة تنفرد بها العلوم الإنسانية دون العلوم الطبيعية، حيث لا نجد مثل هذا التأثير، فلنفترض مثلا أن علماء الاقتصاد أعلنوا تنبؤا بأن سعر أسهم معينة سوف يأخذ في الارتفاع على مدى ثلاثة أيام، ويبلغ ذروته في اليوم الثالث، ثم يهبط بعدها، فمن الواضح أن كل من له صلة بالسوق سيبيع أسهمه في اليوم الثالث، فتهبط أسعارها في هذا اليوم ويكذب التنبؤ، وقد أوضح بوبر أن أثر التنبؤ قد يتطرف إلى حد خلق الحادث الذي يتنبأ به خلقا، ويتسبب في منع وقوع حادث قد يكون آتيا لا محالة لولا هذا التنبؤ،
71
ولنلاحظ أن استخدام بوبر لهذا المصطلح مشروع؛ لأن أسطورة أوديب تشير إلى الرجل الذي نبذ ابنه بسبب نبوءة بأنه سيقتله، فنشأ أوديب لا يعرف والده، لكن قتله في النهاية، ولعله لولا النبوءة لما نبذ الرجل ابنه ولتربى في كنفه ولما كان ليقتله، فلعل واقعة القتل النهائية بسبب النبوءة أصلا، فلماذا أغفل التحليليون أن فروضهم قد تؤثر على مرضاهم، وهذا التأثير يمثل دورانا يوضح هو الآخر أن ممارساتهم الإكلينيكية لا تؤيدهم بحال؟
على كل هذا لا ينبغي أن نعتد بالنتائج الإكلينيكية للتحليل، لا سيما وأن الأمراض السيكولوجية التي لا تعود إلى أية أصول عضوية، مجرد أوهام تسيطر على المريض، ولنلاحظ أن التحليليين - وعلى رأسهم بالطبع فرويد - رجال ذوو شخصيات قوية وقدرات خلاقة - وإن كان خلقا غير علمي - لذلك يمكن أن نرجع شفاءهم لمرضاهم إلى جاذبيتهم الشخصية ومواهبهم الذاتية وليس بالطبع إلى قواعد علمية ثابتة متواترة، ومن أين القواعد أو القوانين العلمية، والتحليل النفسي ليس من العلم في شيء، كما أثبت معيار القابلية للتكذيب.
72 ⋆ (5) في النظرية الماركسية (1) ومن أبرز حصائل المعيار حصيلة تطبيقه على النظرية الماركسية، فهي أقوى وأهم النظريات الفلسفية التي وضعت من أجل الاشتراكية، أي من أجل تحقيق نظام اقتصادي اجتماعي عادل يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، منعا من استغلال أقلية من الملاك لأكثرية عاملة.
ولعل أهمية النظرية الماركسية - دونا عن سائر النظريات الاشتراكية والتي سميت بالاشتراكيات الطوباوية - إنما تأتي مما تدعيه الماركسية من خاصية علمية، فقد أراد كارل ماركس
K. Marx (1818-1883م) أن يكون عالم التاريخ الذي يدرسه ويفهمه ويحلله، فيستطيع التوصل إلى القانون الحتمي الذي يحكمه، والذي يمكننا بالتالي من التنبؤ بما سيكون تبعا لطبيعة العلم ووظيفته، وكما هو معروف اصطنع ماركس المادية الجدلية
Dialictic Materialism ، ليصل إلى القانون الحتمي الذي ارتآه يحكم التاريخ، وهو قانون: صراع الطبقات الذي يتطور تطورا جدليا من مرحلة إلى أخرى، مثلما تطور من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة البرجوازية ، وعلى أساس هذا القانون تنبأ ماركس بأن التطور التالي والمحتوم سيكون انقلاب التاريخ من البرجوازية إلى المرحلة الاشتراكية، ولكن البرجوازية ستحاول عرقلة وتعويق مسار التاريخ في تقدمه المحتوم نحو الاشتراكية؛ لذلك فمن الضروري أن يتحد العمال لإقامة ثورة دموية عنيفة، تقهر البرجوازية وتحقق الاشتراكية بقوة السلاح، فقط كي تخفف آلام الوضع وتقصرها، وتختصر الفترة التاريخية المطلوبة للوصول إلى المرحلة الاشتراكية، وإن كانت هذه المرحلة هي النهاية المحتومة على أية حال لمراحل التطور الاقتصادي.
73 ⋆ (2) ولا ينكر بوبر أن ماركس واحد من أعظم أقطاب الفكر البشري، وأنه حاول مخلصا أن يطبق المنهج العلمي العقلاني على أكثر مشاكل الحياة العملية إلحاحا، وكونه لم ينجح إلى حد كبير، فإن ذلك لا يلغي قيمة محاولته، ويؤكد بوبر أننا لا يمكن أن نجد أي علم اجتماعي قبل ماركس، وأن جميع الكتاب المعاصرين - وهو منهم - يدينون لماركس، حتى وإن لم يشعروا بذلك، وأن ماركس قد تميز بعقل مفتوح وإخلاص نادر، وأن رغبته كانت متأججة لمساعدة المقهورين، فبذل خلاصة حياته قولا وفعلا من أجل تحسين أحوالهم، وأن اهتمامه كان عظيما بالفلسفة والعلم الاجتماعيين.
إلا أن بوبر مع تسليمه بهذا انهال بنقد قاس عنيف على النظرية الماركسية من كل صوب وحدب، فلم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وفندها بالبراهين المنطقية المسهبة، والمناقشات الفلسفية المطولة الدقيقة المتأنية، وقد يبدو غريبا أن نعرف أن نقد بوبر للماركسية يتضاءل بجواره، نقده للاستقراء أو حتى للوضعية المنطقية والفلسفة التحليلية اللغوية، فقد رأى فيها أنموذجا للمنهج التاريخي
historicism
أي الذي يرى أن التاريخ يسير في مسار محتوم، يمكن قولبته في مراحل أو أنماط أو إيقاعات؛ ومن ثم يمكن التنبؤ به، وقد راح بوبر في مناقشات مستفيضة يثبت أن هذا المنهج عقيم لا يؤتي ثمرا، وأن الخطأ سمة كل حججه بلا استثناء، سواء كانت مؤيدة للتشبه بالعلم الطبيعي أو معارضة لهذا؛ لأن التاريخ محكوم في تطوره بنمو المعرفة العلمية، ومن المستحيل منطقيا أن نتنبأ بهذا النمو؛ ومن ثم يستحيل التنبؤ بمسار التاريخ، وحقا أن المذهب التاريخي معروف منذ أفلاطون وهيراقليطس وهيزيود، وفكرة اليهود عن مآل شعب الله المختار، وفيكو وبوسويه وكوندرسيه وهيجل وغيرهم، غير أن ماركس بالذات - نظرا لأثره العظيم - قد ضلل معظم ذوي العقول النيرة حين جعلهم يعتقدون أن الأسلوب العلمي لتناول المشاكل الاجتماعية هو النبوءة التاريخية، فماركس هو المسئول عن الأثر المدمر للمنهج التاريخي،
74
وانتقد بوبر أيضا تبعية ماركس لأفلاطون وأرسطو وهيجل، دعاة المجتمع المغلق بأيديولوجية محددة لا تقبل ليبرالية ولا ديمقراطية ولا تبادل آراء ولا حتى محاولة التوصل إلى حل أصيل مرن لمشكلة ملحة، فالمفروض أن الأيديولوجية التي حددوها سلفا هي أسلوب حل كل المشاكل، وانتقد أيضا ما تنطوي عليه الماركسية من نزعة يوتوبية غير مشروعة؛ لأنها نظرية كلية
hilism
تفترض أنها بضربة واحدة - هي الثورة الدموية - ستقلب التطور التاريخي إلى المرحلة اليوتوبية، ويرى بوبر أن الإصلاح مثل النقد يجب أن يكون جزئيا مراحليا قائما على أساس هندسة اجتماعية جزئية تتعامل مع المؤسسات الاجتماعية كل على حدة، بل وكل من مشكلات المؤسسة الواحدة على حدة، بالأسلوب الذي يناسبها هي وليس بأسلوب كلي محدد سلفا، فمثل تلك الاتجاهات الكلية التي تريد الإصلاح بضربة واحدة قاصمة فاصلة، يستحيل أن تصلح شيئا أو أن تؤدي إلى شيء، وقد تؤدي إلى دمار وخراب شامل ، ثم إن النزعة الكلية الاجتماعية مستحيلة منطقيا؛ لأن التحكم الكلي مستحيل منطقيا، فكل تحكم جديد في العلاقات الاجتماعية من شأنه أن يخلق مجموعة جديدة من العلاقات الاجتماعية التي تحتاج هي بالأخرى إلى التحكم فيها، وهكذا في سلسلة بغير نهاية،
75
ولما كان ماركس مجرد مفكر تاريخي فلم تتضمن نظريته أية تكنولوجية اجتماعية، ولينين نفسه أعلن أن الحزب الشيوعي بمجرد أن تولى السلطة لم يجد في النظرية الماركسية أية تكنولوجية أو خطط للإصلاح الاجتماعي، فكل بحوث ماركس الاقتصادية كانت مكرسة لخدمة نبوءته التاريخية، بل وأكثر من هذا فإن ماركس نفسه قد أكد تأكيدا على التعارض بين منهجه وبين أية محاولة لإقامة تحليل اقتصادي يهدف إلى التخطيط العقلاني
76
لحل المشاكل الجزئية، كما راح بوبر في مناقشات مطولة ينقد الفكر اليوتوبي الذي يعني تصور نهاية العالم وخاتمة تطوره، ويوضح ما يقف أمامه من استحالة منطقية، ونقد أيضا الدعوة إلى العنف الدموي التي مجدتها الماركسية ويوضح استحالة التقاء العقلانية التي تعني الاعتراف بأني قد أقطع في الخطأ مع الدعوة إلى العنف، والتضحية بجيل الثورة من أجل أجيال لم تأت بعد وقد لا تأتي،
77
كما نقد بوبر أيضا نظرية فائض القيمة، وأوضح أنها خاطئة تماما تغفل عوامل أساسية في الإنتاج وفي قوانين البيع والشراء، وعلى الرغم من الرأي الشائع بأنها أهم نظريات ماركس، فإن بوبر حللها تحليلا يوضح أنها لا ضرورة لها إطلاقا، وأن الماركسية تصبح أقوى وأفضل لو حذفنا نظرية فائض القيمة منها، وأساس كل هذا نقده للقيمة العلمية الماركسية ومنطقها المادي الجدلي، باختصار نقد بوبر الماركسية نقدا مدمرا من كل موضع وكل زاوية يمكن منها النقد، «وليس من السهل أن يدرس أحد نقد بوبر للماركسية ويظل على اقتناع بمبادئها أو حتى على تعاطف معها؛ لذلك يرى الماركسيون فيه أبرز وأهم نقادهم المعاصرين، وأن حججه أقدر الحجج وأقواها، وأنها تضم كل ما يمكن أن يقال في نقد الماركسية.»
78 (3) ولكن هذا البحث معني بزاوية واحدة من نقد بوبر للماركسية، وإن كانت أساس كل الزوايا الأخرى، وهي الخاصية العلمية للنظرية، وذلك على ضوء الحل المطروح لمشكلة تمييز المعرفة العلمية، بعبارة أخرى: هل ينطبق معيار القابلية للتكذيب على النظرية الماركسية فتكون بهذا علما، أم لا ينطبق فتكون «لا علم»، أم أن الأمر بخلاف هذا وذاك؟
إن النظرية كما وضعها ماركس، هي نظرية علمية لأنها قابلة للتكذيب، فقد كانت محاولة جريئة وضعت في صورة مقدمات يمكن أن نشتق منها نتائج هي تنبؤات، تمثل عبارات أساسية جديدة، يمكن مقارنتها بالعبارات الأساسية التي تنقل متغيرات الواقع التاريخي الخارجي، غير أن الوقائع كذبت كل تنبؤاتها فلا بد من الاعتراف إذن بأنها كاذبة وتركها إلا أن أتباعها لم يعترفوا بهذا، وظلوا على تمسك بها، فحطموا بذلك القاعدة المنهجية بضرورة قبول التكذيب، واتخذوا خططا تحصينية
immunizing Strategy
تحمي نظريتهم من أقوى التفنيدات؛ لذلك أصبحت بصورتها الراهنة «لا-علم»، أو كما يسميها بوبر: عقيدة دوجماطيقية مقواة
Reinforced dogmatism : أو حلما ميتافيزيقيا اقترن بواقع قاس.
وقبل أن نناقش التنبؤات التي كذبت، نلاحظ أن هذا ليس كل ما في الأمر، فلو واجهنا مجمل النظرية بمجمل منطق المعيار لوصلنا إلى نتائج في غاية الخطورة، ولكننا لا نستطيع الآن التصدي لهذه المواجهة ودفاع الماركسيين ورد بوبر لدفاعهم ... إلخ، فالحيز المتاح للماركسية ها هنا لا يسمح بهذا،
79 ⋆
ويكفينا أن المعيار أصدر الحكم بأنها كاذبة. (4) والآن كيف أصدر المعيار هذا الحكم؟ فعل هذا على أساس ما طرحه من قاعدة منطقية دقيقة تقول: إن أي تناقض بين التنبؤات التي نشتقها من النظرية، أي بين ما تخبر به، وبين الوقائع التجريبية للعالم الواقعي، يعني أن النظرية كاذبة، وسيوضح بوبر كيف تناقضت الوقائع التاريخية مع كل ما أنبأت به النظرية الماركسية: (أ)
تنبأ ماركس بأن الطبقات ستختصر إلى طبقتين: البرجوازية والبروليتاريا؛ لأن البروليتاريا ستبتلع الحرفيين والصناع والفلاحين والتجار، وتنكمش البرجوازية، مما يزيد من التناقض وحدة الصراع الطبقي، فينهار النظام البرجوازي وتجيء الاشتراكية.
غير أن هذا لم يحدث وليس من المحتمل أن يحدث، ومهما تقدمت الصناعة لن تختفي طبقة المزارعين بالذات، وقد أوضح بوبر أن التطورات التاريخية بعد ماركس لم تسفر عن طبقتين، بل عن الطبقات الست الآتية: البرجوازية - كبار ملاك الأراضي - الملاك الآخرين - العمال الزراعيين - الإداريين والفنيين - العمال الصناعيين. (ب)
تنبأ ماركس بأن انتصار البروليتاريا ومجيء الاشتراكية، سيتبعه حتما المجتمع اللاطبقي، وليس هذا ضروريا، فقد تنشأ الصراعات داخل البروليتاريا وتقسمها إلى طبقات، فسوف يقفز إلى السلطة قادة الحركة الثورية، ويشكلون طبقة الحكام الجديدة، وهذا نوع جديد من الأرستقراطية، أو على الأقل البيروقراطية. (ج)
تنبأ ماركس بأن الشيوعية ستبدأ في أكثر الدول المتقدمة تكنولوجيا، وبالذات إنجلترا وألمانيا، وحدث عكس هذا، فقد بدأت في روسيا المتخلفة، والتي استبعدها ماركس. (د)
قام ماركس بتحليل دقيق للأنظمة الاقتصادية عبر التاريخ، وتوصل إلى تناقضات في صميم كل نظام اقتصادي، تحمل عوامل فنائه، فانتهى إلى حتمية فناء البرجوازية أو الرأسمالية ومجيء الاشتراكية.
ولكن الرأسمالية التي عرفها وحللها ماركس هي رأسمالية عدم التدخل
Lassez faire
دعه يعمل؛ أي الرأسمالية الحرة حرية مطلقة ولا تسمح بأي تدخل أو فرض قيود، ومثل هذه الرأسمالية قد اختفت فعلا، ولكن لم تكن الاشتراكية هي البديل الوحيد الذي حل محلها كما تنبأ ماركس، ففي معظم البلدان حل نظام الرأسمالية الخاصة المقيدة، والتي يسميها بوبر بالديمقراطية التدخلية
Democratic Interventionism
والتي يفضلها ويحبذها كثيرا، ولم تتحقق نبوءة ماركس بصورة تقريبية إلا في روسيا فقط،
80 ⋆
حيث نجد الدولة هي فعلا التي تملك كل وسائل الإنتاج، غير أن روسيا لا تعدو أن تكون سدس الكرة الأرضية، وهذا يعني أن انهيار رأسمالية عدم التدخل لم يؤد إلى الاشتراكية بل إلى فترات تاريخية أخرى يتداخل فيها النظام السياسي مع النظام الاقتصادي للدولة، وتتدخل الحكومة القائمة في الصناعات الخاصة بالتوجيه والإرشاد وإصدار القوانين والمنع والتحريم ومنح التسهيلات وحماية حقوق العمال وشملهم بالضمانات والتأمينات الاجتماعية، والتأمين ضد البطالة، بل وأصبح للعمال في إنجلترا بالذات وفي بلاد أخرى كثيرة، حق الإضراب وإجبار أصحاب رءوس الأموال على رفع أجورهم، والسويد أبرز الأمثلة على هذا، فهي التي قامت بأولى الخطوات الحاسمة في هذا الطريق، حيث حددت عدد ساعات العمل بثمان وأربعين ساعة في الأسبوع.
81
لقد تنبأ ماركس بأن التناقض سيتزايد بين مصالح العامل ومصالح الرأسمالي وسيستحيل تماما التوفيق بينهما، مما سيعجل بانهيار الرأسمالية؛ لأنها لا يمكن أن تتحسن أو تتطور، بل لا بد أن تنهار، لكن ماركس عاش حتى رأى بعض الإصلاحات في أحوال العمال والتوفيق بين مصالح البروليتاريا ومصالح البرجوازية، ولم ير في هذا تفنيدا لنبوءته أو نظريته، بل رأى فيها إيذانا بانهيار الرأسمالية، وليس هناك مبرر عقلي لهذا، وليس هناك ضرورة منطقية تجعل انهيار الرأسمالية يعقب التعديل التدريجي والحلول التوفيقية،
82
والمهم أن تزايد تدخل الدولة، وتزايد نطاق احتمالية الحل السلمي - وهو الأمر الواقع الآن - يكذب نبوءة ماركس بأن الاشتراكية هي البديل الحتمي والوحيد والذي لا بديل سواه لانهيار الرأسمالية التي عرفها، رأسمالية عدم التدخل.
ويكذب أيضا نبوءته بأن البؤس سيتزايد.
نبوءة ماركس التي تحققت فعلا هي اختفاء رأسمالية عدم التدخل، ولنلاحظ أن تدخل الدولة قد يؤدي إلى البيروقراطية، ومن إنجازات ماركس أنه حذر من هذا، وأيضا تنبأ بأن اتحاد العمال لإقامة الثورة سيؤدي إلى الاشتراكية، وهذا ما حدث في روسيا ولكن بصورة تقريبية جدا؛ لأن طبقة المثقفين التي اعتبرها ماركس بورجوازية، كانت من أهم عوامل نجاح الثورة.
83
لكن منطق التكذيب يعلمنا أن مثالا واحدا نافيا أهم من ملايين الأمثلة المؤيدة، فما بالنا لو كان الأمر مثالا واحدا مؤيدا في مقابل العديد من الأمثلة المكذبة؟ أي إن النتيجة المنطقية التي يجب أن ننتهي إليها هي أن تنبؤات ماركس كاذبة؛ وبالتالي تكون نظريته خاطئة، ومحاولته العبقرية لأن يستخلص النبوءات المستقبلة من الوقائع المعاصرة له قد فشلت،
84
ويقول بوبر: إن السبب الأساسي في هذا هو عقم المذهب التاريخي الذي اتبعه ماركس؛ لذلك يمكن أن نقول: إن معيار القابلية للتكذيب، ها هو ذا يقدم حجة جديدة تضاف إلى حجج بوبر الكثيرة على عقم المذهب التاريخي، وقبل هذا يقدم أقوى وأهم نقد للماركسية قدم حتى الآن، كما يعترف الماركسيون المتطرفون أنفسهم، فقد أصبح من الواضح الآن أن بوبر على حق تماما حين يسم النظرية الماركسية بأنها عقيدة دوجماطيقية مقواة
Reinforced Dogmatism ؛ فقد كانت علمية غير أن كذبها قد ثبت، والتكذيب يرمي إلى استئصال النظريات الكاذبة ونبذها باكتشاف مواضع الخطأ والضعف فيها،
85
غير أن المأخوذين بها لم يستأصلوها أو ينبذوها، بل أبوا الاعتراف بكذبها المبرهن بمنطق العلم، وصمموا على استمرار الأخذ بها، مخالفين بذلك منطق العلم وأيضا منهجه؛ إذ أعادوا شرح كل من النظرية والدليل ليجعلوهما متوافقين معا، بحيث تصبح النظرية غير قابلة للتكذيب - أي لا علمية - والماركسي الآن لا يمكنه أن يفتح جريدة دون أن يجد في كل صفحة منها دلائل تؤكد تفسيره للتاريخ ليس في الأخبار فحسب، بل وفي أسلوب عرض الأخبار الذي يكشف عن التحامل الطبقي للمحررين، ويبدو هذا فيما لم تقله الجريدة بالطبع، والنظرية بهذا ينهال عليها سيل لا ينقطع من التأكيدات، ومن يرفضها فهو يفعل ذلك لأنه ضد مصالح طبقية، والنظرية الماركسية بكل هذا فقدت سمتها العلمية،
86
وأصبحت دوجماطيقية تماثل التفكير العصابي.
إن الماركسية - بما هي علمية - نظرية كاذبة، وإذا شاء أنصارها فيمكنهم الانصراف عن العلم وعن السمة العلمية، وحينئذ لن يستطيع معيار القابلية للتكذيب التطاول على نظريتهم، وسيسقط كل النقد السابق، وسنعتبرها نظرية فلسفية، مجرد تأويل للتاريخ وتصور يوتوبي لمستقبل البشرية، ولا تنطوي على علاقة ضرورية منطقية بالواقع؛ وبالتالي لا تنطوي على أي إلزام بالأخذ بها كي نفهم هذا الواقع، وتصبح فقط محلا للنقاش الفلسفي النقدي، غير أن أتباع الماركسية لا يصممون على الأخذ بها فحسب، بل وعلى الأخذ بها بوصفها نظرية علمية وصادقة، بل وإنها النظرية العلمية التاريخية الوحيدة - والتي تحوي جماع التناول العلمي للتاريخ - إنها بحق أصبحت عقيدة دوجماطيقية مقواة. (6) في التاريخ والعلوم الاجتماعية (1) والآن، لقد كانت النظرية الماركسية محاولة لعلمنة التاريخ ولم تنجح، لعلها نجحت في أن تكون أقدر نظرية فلسفية طرحت حتى الآن؛ لوضع أيديولوجية عامة للنظام الاشتراكي، ولعلها النظرية الفلسفية الوحيدة التي خرجت إلى عالم التطبيق الفعلي، ولعلها قادرة على تزكية الأمل في اليوتوبيا الموعودة للكادحين؛ حيث لا يقدم البروليتاري إلا ما يستطيعه في الوقت الذي يجد فيه كل ما يريده، ولكنها لم تنجح في وضع نظرية علمية للتاريخ كما أثبت معيار القابلية للتكذيب، فهل هذا المعيار يعني استحالة وضع نظرية علمية في التاريخ أصلا؟ الواقع أن بوبر يجيب على هذا التساؤل بالإيجاب، ويصر أن مبحث التاريخ لا يمكن إطلاقا أن يكون علما. (2) فحقا أن المعيار قد أوضح أن عالم العلوم الطبيعية يضع الفرض من عنده، ثم يحاول أن يفسر في ضوئه الوقائع، وحقا أيضا أن بوبر يصر على أن الأمر هكذا تماما في العلوم التاريخية، فالمؤرخ يضع الفرض من عنده ليؤول في ضوئه الأحداث التاريخية، غير أن هناك اختلافا كبيرا بين طبيعة العلمين؛ وبالتالي بين طبيعة الفرضين.
87
فموضوع علم التاريخ أحداث منفردة نهتم بأسبابها وبتفسيرها وبنتائجها، وهي بهذا تناقض العلوم الطبيعية والبيولوجية، فهي علوم تعميمية لا تهتم بأية أحداث مفردة، بل بالقوانين العامة الكلية التي تحكمها، وكلما تقدمت هذه العلوم سارت أكثر نحو السمة العمومية، حتى تجد نظريات العلوم البحتة التي تهدف إلى توحيد العلوم نفسها وليس فقط الوقائع، والتاريخ يماثل هذه العلوم في أنه يفترض ضمنا قانونا عاما، ولكنه يختلف عنها في أنه يحاول أن يفسر في ضوئه الحدث المنفرد المطروح للدراسة، فإذا فسرنا مثلا أول انقسام لبولندا عام 1772م؛ لأنها لم تكن لتستطيع أن تقاوم قوة اتحاد روسيا وبروسيا والنمسا، فإننا في هذا نفترض ضمنا القانون العام في جيشين متساويين تماما في جودة التسليح والقيادة، إذا امتاز أحدهما في عدد الرجال، فلن يفوز الآخر، وهو قانون يمكن أن نصفه بأنه قانون في سوسيولوجية القوة الحربية، وإن كان غير ذي أهمية كبيرة لعلم الاجتماع،
88
لكن الذي يهمنا الآن أنه قانون عام، لكن وضع أصلا لتفسير حدث واحد منفرد هو انقسام بولندا عام 1772م، والقوانين العمومية المستخدمة في مختلف التفسيرات التاريخية لا ترتكن في مجموعها إلى مبدأ موحد، فليس هناك وجهة للنظر في علم التاريخ، وفي أحوال محددة جدا نتوصل إلى مثل هذه الوجهة بتحديد معنى للتاريخ وقصره على جانب واحد، كأن نقول التاريخ العسكري أو تاريخ التكنولوجيا أو تاريخ الرياضيات ، وبعض وجهات النظر نتوصل إليها بأفكار عمومية مسبقة تماثل القوانين الكلية، لكنها تفتقر إلى المبررات والأسانيد العقلية الكافية، كأن نقول: إن المهم في التاريخ هو «الرجل العظيم» أو «المبدأ الأخلاقي» أو «الظروف الدينية».
89
ومثل هذه النظريات التاريخية - ويفضل بوبر أن يسميها أشباه نظريات
quasi theories
90 ⋆ - تختلف في خصائصها تماما عن النظريات العلمية القابلة للتكذيب؛ لأن وقائع التاريخ الموجودة لدينا محدودة لا يمكن أن تعاد أو أن ننجزها كما نشاء؛ أي لا يمكن اختبار النظرية التاريخية، خصوصا وأن هذه الوقائع نفسها قد جمعت تبعا لوجهة نظر سالفة، فمصادر التاريخ لا تحتوي إلا على الوقائع الملائمة لنظرية سالفة، هي نظرية المؤرخ الذي أرخها، وطالما أنه ليس هناك أية وقائع أكثر متاحة لنا، فيستحيل إذن أن نختبر تلك النظرية السالفة أو أن نحاول تكذيبها.
91
على هذا يستحيل أن يكون التاريخ علما؛ لأنه يستحيل أن يضع نظريات قابلة للاختبار والتكذيب؛ لذلك فبوبر يطلق على النظريات التاريخية، كمقابل متميز للنظريات العلمية اسم تأويلات
Interpretations ، فالقاعدة هي أنه لا يمكن التوصل إلى نظرية قابلة للتكذيب، ويمكن لوقائع تاريخية معينة أن تلائم تأويلات عدة، لكن من المستحيل الحصول على وقائع ومعطيات أكثر تمثل تجربة فاصلة كتلك التي تكذب النظريات الفيزيائية مثل نظريات كبلر أو نيوتن، فالمؤرخ يرى أن الوقائع تناسب تأويله هو فقط؛ لذلك لا يمكن أن نقول إن الوقائع التاريخية التي أوردها المؤرخ هي دليل يؤيد نظريته، حتى ولو كنا لا نملك أية وقائع سواها؛ لأن هذا دوران منطقي، فهو لم يجمع إلا الوقائع التي تكون جديرة بالجمع تبعا لنظرياته، وقد يتبنى مفكر تأويلا يقول: إن التاريخ يسير نحو مزيد من الحرية ويتخذ من تحرير العبيد تأييدا لنظريته، وقد يتبنى مفكر آخر تأويلا آخر يقول: إن التاريخ يسير نحو مزيد من العبودية، ويتخذ من التفرقة العنصرية تأييدا لنظريته، وهذان التاريخان لا يتنازعان بل هما مكملان لبعضهما، فهما تاريخ منطقة واحدة هي الولايات المتحدة الأمريكية، فقط منظورا إليه من زاويتين مختلفتين،
92 ⋆
وليس هناك أي تأويل حاسم ونهائي؛ لأن التاريخ ليس له أي معنى محدد، ويؤكد بوبر بشدة على أن التاريخ ليس له أي معنى محدد.
93
وهذا لا يضرنا، بل إنه يفيدنا كثيرا؛ لأن كل جيل له مشاكله واهتماماته وطموحاته الخاصة؛ وبالتالي يجب أن يكون له الحق في أن ينظر إلى التاريخ ويعيد تأويله بأسلوبه الخاص، المكمل لأساليب الأجيال السابقة، فالتاريخ ليس له معنى، لكن يمكن أن نجعل له معنى، مثلا معنى يمثل القيم العليا والدروس المستفادة وهو ليس له نهاية، ولكن يمكن أن نفرض عليه نهايات وغايات هي الطموح والأهداف المنشودة، فمثلا يمكن أن نؤول تاريخ القوة العسكرية على أنه الحرب من أجل المجتمع المفتوح ومن أجل تحرير العقل ومن أجل الحرية والعدالة والمساواة، ومن أجل التحكم في الجرائم الدولية،
94
أي الحروب .
ويؤكد بوبر أننا ندرس التاريخ أصلا؛ لأننا نهتم به ونريد أن نتعلم منه شيئا عن مشاكلنا، والتاريخ لا يمكن أن يؤدي هذين الغرضين إلا إذا كان محكوما بتأويل موضوعي نعرض في ضوئه المشاكل التاريخية من منظورنا الخاص، فنحن ملزمون بمثل هذا العرض لنرى اتصال مشاكلنا بالماضي ومسارها عبر التاريخ، لنرى إمكان تسييرها نحو التقدم، والتأويل هو الذي يتحدث عن نفسه، ويوضح مميزاته ومدى خصوبته وقدرته على توضيح وقائع التاريخ، وتوضيح المواضع التي يهتم بها؛ وبالتالي قدرته على توضيح مشاكلنا اليوم، ولما كنا حتى في الفيزياء، بكل رصيدها الضخم المتنوع من الوقائع، نحتاج مرة ثانية لوقائع جديدة كي نختبر نظرية قديمة، أصبح من الواضح استحالة التوصل إلى تأويل واحد لوقائع تاريخية معينة ومحددة سلفا، لكن ليست كل التأويلات التاريخية على قدم المساواة، فهناك تأويلات لا تتفق مع السجلات المقبولة، وهناك تأويلات تحتاج إلى كثير من الفروض المساعدة كي تتفادى التكذيب بواسطة السجلات الموجودة، كما أن هناك تأويلات تكون قادرة على ربط وشرح عدد أكبر من الوقائع التاريخية، وهي بذلك تكون تأويلات أفضل، وعلى هذه الأسس - التي تكون الصورة العامة المبهمة لقواعد معيار القابلية للتكذيب الدقيقة الحاسمة - يمكن أن نحقق تقدما في ميدان التأويل التاريخي وإن كان لا يمكن أن نجعله علما قابلا للتكذيب.
95 (3) ولنلاحظ أن بوبر لم يتحدث إلا عن تأويلات الوقائع، أو وجهة النظر التي يؤرخ في ضوئها المؤرخ أحداث التاريخ ذاتها، ولم يتحدث عن الأحداث والوقائع ذاتها، في حين أن مسارها هو علم التاريخ ذاته تبعا للرأي الشائع.
والواقع أن بوبر يرى أن علم التاريخ بهذا المنظور الشائع هو خرافة، فليس هناك أي عرض موضوعي للتاريخ يروي أحداثه كما وقعت بالفعل،
96
فالتاريخ كما يتحدث عنه الناس ببساطة ليس له وجود، فهم يظنون؛ لأنهم يتعلمون في المدارس أن تاريخ الجنس البشري ليس تاريخ الفن ولا تاريخ الشعر ولا تاريخ حمى التيفوس ولا تاريخ العادات والتقاليد الاجتماعية، بل هو تاريخ القوة العسكرية، تاريخ الحروب والغزو وقيام الإمبراطوريات وسقوطها، ليس هذا هو تاريخ البشر، بل فقط تاريخ جانب واحد منه هو القتل الجماعي والجرائم المروعة والسفاحين الذين يقدمون كأبطال عظام، ويبرر بوبر وضع مصطلح التاريخ على القوة العسكرية بالذات بالمبررات الآتية: (1)
لأنها تؤثر على كيان أكبر عدد من الناس أكثر من أي جانب آخر. (2)
الإنسان يعبد القوة، وهذه أقبح صفة فيه. (3)
القوة السياسية العسكرية هي التي تملك زمام كل نواحي الحياة؛ وبالتالي تملك تسجيل التاريخ، ومؤرخون كثيرون كتبوا، فقط خضوعا لأوامر الحكام.
97
فلماذا نتصور إذن أن علم التاريخ شامل لتطور الكائن العضوي الاجتماعي كله، ويؤكد بوبر أن هذه الفكرة أصلا صادرة عن نظرة حدسية إلى تاريخ البشرية باعتباره تيارا هائلا يشمل التطور الإنساني كله، «ولكن مثل هذا التاريخ لا يمكن كتابته، فكل تاريخ مكتوب هو تاريخ لجانب ضيق من جوانب هذا التطور الكلي، وهو على أية حال تاريخ ناقص جدا حتى فيما يتصل بالجانب الجزئي الناقص الذي اختير موضوعا للوصف.»
98
وبصرف النظر عن أن التاريخ - كما سلف - مقصور أساسا على الجانب السياسي العسكري، فإنه ليس هناك أي إنسان أكثر أهمية من الآخر، ولا أي جانب في الحياة أكثر أهمية من الآخر، فالتاريخ الحقيقي للبشر ليس تاريخ القوة السياسية العسكرية ولا تاريخ الفن، ولا تاريخ العلم، بل تاريخ حياة البشر بكل طموحاتهم وكل آلامهم ومعاناتهم ومشاكلهم وأحلامهم، وبالطبع مثل هذا التاريخ لم يكتب ويستحيل أن يكتب،
99
فضلا عن أن يمثل علما. (4) إذن التاريخ لا يمكن أن يكون علما قابلا للاختبار والتكذيب، غير أن العلوم الاجتماعية أمرها جد مختلف؛ إذ يؤكد بوبر تأكيدا على إمكانية دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية قابلة للاختبار والتكذيب؛ ومن ثم قابلة للتقدم، وذلك على أساس نظرية بوبر بوحدة المناهج، فالعلوم الاجتماعية - تماما مثل العلوم الطبيعية - يمكنها أن تستخدم منهج طرح الحدوس الافتراضية ومحاولة تكذيبها عن طريق إخضاعها للاختبارات العملية العلمية القاسية، أي منهج المحاولة الخطأ، أي المنهج النقدي الأساسي لكل العلوم، ويؤكد بوبر أن ظواهر الحياة الاجتماعية تعطي الوقائع التجريبية التي تمثل مادة التكذيب التجريبي لتلك الفروض أو المحاولات ؛ ومن ثم يمكن أن تصبح علما.
غير أن الأمر الواقع هو ما يسمى بمشكلة العلوم الإنسانية؛ أي عجزها عن استخدام منهج مشترك، وعن التوصل إلى نظريات قابلة فعلا للتكذيب بدرجة عالية؛ ومن ثم عجزها عن أن تكون ذات طبيعة تقدمية تماثل طبيعة العلوم الفيزيائية.
وإذا سألنا بوبر عن سبب مشكلة العلوم الاجتماعية وكيف السبيل إلى حلها؛ لوجدناه يؤكد أن العلوم الاجتماعية لم تتوصل حتى الآن إلى منهج عام مشترك بسبب الآثار المدمرة لأرسطو وهيجل وسائر أنصار المذهب التاريخي من ناحية، ومن الناحية الأخرى بسبب فشل هذه العلوم في إخضاع النواحي الاجتماعية للموضوعية العلمية بسبب الأيديولوجيات الكلية العقيمة، فبعض علماء العلوم الاجتماعية غير قادرين بل ولا يرحبون بالحديث بلغة مشتركة.
100
والطريق الوحيد المفتوح أمام العلوم الاجتماعية هو أن تنسى كل شيء عن النزعات الكلية والنبوءات التاريخية واسعة النطاق، وأن تحيط بالمشاكل المطروحة فعلا وكل واحدة على حدة، وبواسطة المنهج النقدي التكذيبي، ووظيفة العلوم الاجتماعية بهذه النظرة ستكون دراسة النتائج غير المقصودة بل وغير المرغوبة للسلوك، بدلا من التنبؤ بما سيجيء حتما، وهذه الوظيفة ستجعلها تضع التنبؤات المشروطة القابلة للتكذيب بدلا من التنبؤات الواسعة النطاق غير القابلة له،
101
وقد سبق أن أوضح بوبر أن الطبيعة التكذيبية للنظرية تعني الطبيعة المانعة ، التي تنفي حدوث حوادث ممكنة مما يعني إمكانية وضع القانون العلمي في صورة نافية، وهو هنا يوضح أن العلوم الاجتماعية بهذه الوظيفة ستستطيع التوصل إلى مثل هذه القوانين أو الفروض النافية، ويعطي أمثلة على هذا: ألا يمكنك فرض الرسوم الجمركية على المنتجات الزراعية وتقلل في الوقت نفسه من تكاليف المعيشة? «ألا يمكن تحقيق العمالة الكاملة دون أن يتسبب ذلك في حدوث التضخيم؟» لا يمكن في المجتمع ذي التخطيط المركزي أن يؤدي نظام الأثمان فيه نفس الوظائف الرئيسية التي تؤديها الأثمان القائمة على المنافسة، «أو مثلا» لا يمكنك أن تستجد إصلاحا سياسيا دون أن تزيد بذلك من شدة القوى المعارضة، إلى درجة تتناسب تقريبا مع مدى هذا الإصلاح، أو «لا يمكن أن تقوم بثورة دون أن ينشأ عنها اتجاه رجعي»،
102
وهذه الوظيفة أيضا ستجعل التطبيق - أي التكنولوجيا - يعقب المعرفة الاجتماعية كما يعقب المعرفة الطبيعية، ويلخص بوبر رأيه بأن التكنولوجيا الاجتماعية المطلوبة هي التكنولوجيا التي لها نتائج يمكن اختبارها بواسطة الهندسة الاجتماعية
103
الجزئية، المناهضة للتغيير الكلي، كالتغيير الماركسي مثلا.
وإذا اعترض أنصار سوسيولوجية المعرفة
Sociology of Knowledge
بأن مشكلة العلوم الاجتماعية ليست في أنها لا تتوصل إلى نتائج تطبيقية عملية، وإنما في أنها تتعامل مع مشاكل معقدة متداخلة في الميادين الاجتماعية والنفسية والسياسية، فإن بوبر يرد عليهم بأن كل المشاكل والوقائع المعرفية معقدة ومتداخلة، والمهم أن الباحث يبحث من وجهة نظر معينة مبتدئا بفرض قد توصل إليه، فعليه أن يختار الفرض القابل للتكذيب كي يضمن استمرارية التقدم، أما التطبيق العملي فهو لا يعادي المعرفة النظرية بل هو حافز لها.
104
الفصل الخامس
تعقيب
(1) تعقيب على فلسفة بوبر التكذيبية (1) الجرأة هي الدافع الأعظم لتقدم العلم، فالعلم - كما وصفه بوبر في «عقم المذهب التاريخي» - متفرد بوصفه واحدا من أعظم المغامرات الروحية التي عرفها الإنسان، فليستخدم العالم جماع عبقريته ليحاول اختراق المجهول بجرأة، هذه هي دعوة بوبر للعلماء المحصنة والمعززة بإثباته المنطقي أن النظرية العلمية - بما هي علمية - قابلة للتكذيب، وبوبر بدعواه التكذيبية هذه، أقدر الفلاسفة طرا على التعبير عن روح العلم، بما هي كائنة وبما ينبغي أن تكون عليه، في النصف الأخير من القرن العشرين.
إذ كان معيار القابلية للتكذيب سيبدو فكرة بلهاء حمقاء، لو أنه قدم في مرحلة عصر النهضة، والقرون التي تلته، واستمرت حتى نهايات القرن الماضي، أعني مرحلة استبدال النظرية اليونانية للطبيعة على أنها كيان عضوي يدخل العقل في نسيجه بالنظرة الآلية، التي تعتبر العالم آلة
1 ⋆
بالمعنى الحرفي والصحيح للكلمة،
2
حيث يقول هلمهولتز (1821-1894م) معبرا عن روح عصره: إن الغرض النهائي الذي ترمي إليه كل علوم الطبيعة هو أنه تحيل نفسها قواعد ميكانيكية، ويصرح كلفن
Kelvin
بأنه لا يستطيع أن يفهم شيئا بغير أن يصطنع له نموذجا آليا،
3
وقويت هذه النزعة بعد أن نجح وترزتون
J. J. Witerston
وجيمس كلارك ماكسويل
Clark Maswell
وغيرهما في تفسير خواص الغازات على أنها شبيهة بخواص الآلة،
4 «وبذلك جهود مماثلة في الضوء والجاذبية، ورغم أنها فشلت فإن هذا لم يزعزع إطلاقا الاعتقاد بأن الكون في نهاية الأمر يمكن تفسيره تفسيرا آليا محضا، وكأن العلماء يشعرون بأن كل ما يحتاجون إليه هو أن يبذلوا مجهودات أعظم مما بذلوا، عندئذ تظهر الطبيعة غير الحية في نهاية الأمر سافرة عن آلة كاملة دقيقة في عملها.»
5
وهذا التصور الآلي يعني أننا سائرون صوب حقيقة نهائية، مما أدى إلى الحتمية واليقين، واعتبار كل إنجاز علمي ناجح حقيقة قاطعة، أو توصل إلى حقيقة قاطعة.
غير أن التطورات الفيزيائية في القرن العشرين حطمت كل هذا، وأصبح الإجماع الآن على أن نهر المعرفة يتجه نحو حقيقة غير آلية، وقد بدا الكون يلوح أكثر شبها بفكر عظيم منه بآلة عظيمة،
6
ونتيجة لهذا التصور الجديد وسببا له، ألف العلم التقدم الثوري المستمر، والانتقال من نصر عظيم إلى نصر أعظم، فأدرك أنه لن يبلغ ذروة المنتهى أبدا، ولم يعد يتحرج من التعثر في موضع أو آخر، فسلم بحساب الاحتمال، وأحله محله اليقين الساذج، وإن كان بوبر قد عمق الموقف أكثر، وأصله تأصيلا؛ إذ لم يقنع فقط بالاحتمال بل جعل القابلية للتكذيب معيار العلم، المهم في هذا أن فكرة الحقيقة النهائية القاطعة قد ذوت تماما، وسلم العلماء بأن التكذيب قدر لا يشين العلم بل يشرفه، ثم إنه محتوم، فهذا ماكس فيبر
Max Weber (1864-1920م) الفيلسوف والعالم الاقتصادي السياسي، يوضح أن الإنجاز في الفن وفي العلم على السواء، يحتاج إلى تكريس الجهد والحياة، غير أن الإنجاز الفني يظل محتفظا بجديته على الدوام، أما الإنجاز في العلم فسوف يتخطاه الزمن خلال عشر أو عشرين أو خمسين من السنين، فهذا هو مصير العلم وهو مغزاه،
7
وإن مآل كل تحقق علمي يعني أسئلة جديدة تريد أن تتجاوزه وتتقدم عليه، فعلى كل من ينشد خدمة العلم أن يوطد نفسه على ذلك، وأن يتخطانا القادمون علميا، ليس قدرنا المشترك وحسب، بل هو هدفنا أيضا، ونحن لا نستطيع العمل دون أن نأمل في أن الآخرين سوف يتقدمون إلى أبعد مما وصلنا إليه، وهذا التقدم يستمر من حيث المبدأ إلى غير نهاية،
8
هذا هو التصور المأخوذ به حاليا، والذي استطاع منطق التكذيب أن يعالجه معالجة منطقية دقيقة، والذي على أساسه قال سير جيمس جينز
Sir James Jeans (1873-1946م): ليس أهم ما أنتجه علم الطبيعة في القرن العشرين هو نظرية النسبية وما أدت إليه من إدماج الفضاء والزمن معا، ولا هو نظرية الكم وما يبدو منها في الوقت الحاضر من إنكار القوانين السببية، ولا هو تمزيق الذرة وما كشف عنه هذا التمزيق من أن الأشياء ليست كما تبدو في ظاهرها، بل أهم من هذا كله إقرارنا العام بأننا لم نلمس بعد الحقيقة النهائية، فكأننا كما قال أفلاطون في تشبيهه الشهير لا نزال محبوسين في كهفنا، مستديرين للضوء ولا نستطيع أن نشاهد غير الظلال على الجدار.
9
وقد كانت فلسفة بوبر التكذيبية للعلم، محصلة منطقية لهذا التطور الخطير في بنية التفكير العلمي، فهو أولا يؤمن فعلا بالحقيقة المطلقة أو الصدق الموضوعي فقد جعله مبدأ تنظيميا لشتى الجهود المعرفية، ولكنه يرى - هو أيضا مثل جينز - أننا في أية لحظة سجناء محبوسون في إطار نظرياتنا وآمالنا وتجاربنا الماضية ولغتنا، ولكننا سجناء بالمعنى المجازي، وفي وسعنا إذا بذلنا الجهد أن نتخلص من هذا الإطار في أي وقت، ولكن مما لا شك فيه أننا سوف نجد أنفسنا مرة أخرى في إطار آخر، ولكن أفضل وأرحب، وفي وسعنا أن نخرج من هذا الإطار مرة أخرى،
10
إننا بحاجة دوما إلى تحطيم الإطار كي نتقدم، هذا ما ينبغي أن يكون، ثم إنه قابل للتحطيم؛ لأنه قابل للتكذيب، هذا ما هو كائن، وتلك هي خلاصة فلسفة بوبر للعلم التي هي تكذيبية.
إذن قد عرفت الفلسفة التكذيبية كيف تستغل هذا التطور في بنية التفكير العلمي لتضاعف شحنات الطاقة التقدمية للعلم، وتؤكد أننا بلغنا من العمر رشدا ولا ينبغي أن نخشى الخطأ، ولم نخشاه؟ ونحن قادرون بحكم طبائع الأشياء على تجاوزه لما هو أفضل، فقد أصبح واضحا الآن أن القابلية للتكذيب هي عماد تقدم العلم واقترابه الأكثر من الصدق؛ أي إنها عماد خصوبته، لقد اعتبر برتراند رسل الاستدلال القياسي تحفة من التحف القديمة، لا تدل إلا على الجبن العلمي «إذ كان الرأي عند أصحابه هو أن الاستدلال لو تعرض لأيسر احتمال للخطأ، كان من الخطأ أن ننتزع منه نتيجة نركن إليها، وهكذا كان طابع التفكير عند قساوسة العصور الوسطى، بل هكذا كان طابع حياتهم نفسها، فهم ينشدون السلامة على حساب الخصوبة.»
11
أما فلسفة بوبر التكذيبية، فهي تنشد الخصوبة على حساب القابلية للتكذيب.
وقد كان العالم البيولوجي سيرجون إكسلس أبرز من عنوا بتأكيد أن القابلية للتكذيب هي أشد ما يفتح الطريق أمام التقدم العلمي ويفجر خصوبته؛ لأنها تحرر العلماء وتحرر عملهم، وفي هذا كتب يقول: «الاعتقاد الخاطئ بأن العلم يؤدي أخيرا إلى اليقين والشرح النهائي، ويحمل معه تضمنا بأن نشر فروض قد تكذب في النهاية هو إساءة علمية بالغة، ونجم عن ذلك أن العلماء قد يمتنعون عن الاعتراف بكذب مثل هذه الفروض، وقد يضيعون أعمارهم في الدفاع عما لم يعد قابلا للدفاع عنه، بينما نجد - تبعا لبوبر - أن التكذيب - كليا أو جزئيا - هو المصير المتوقع لكل الفروض، بل وأننا قد نبتهج بتكذيب فرض كنا ندلله كإحدى بنات أفكارنا، والعالم لهذا يتخلص من الخوف والندم، ويصبح العلم مغامرة شيقة، يؤدي فيها الخيال والرؤية إلى تطورات تصورية تعلو في عموميتها ومداها عن الدليل التجريبي، والصياغة الدقيقة لهذه الرؤية الخيالية العميقة الداخلة في صميم الفرض، تفتح الطريق أمام أقسى الاختبارات التجريبية، ونظل على الدوام نتوقع أن الفرض قد يكذب، ويحل محله، كله أو بعضه، فرض آخر ذو قوة شارحة أعظم.»
12
أما إذا أخذنا في الاعتبار أن الإنسان - خصوصا أو فقط الغربي - في الحضارة المعاصرة لم يعد يخشى الخطأ، على الأقل كما كان أسلافه ونحن، وأصبح يهتم أكثر بتأكيد حريته وفردانية تجربته الوجودية وتعميق أبعادها، وأصبح يحترم كل عناصرها وأوضاعها وممارساتها، حتى وإن تعثرت في الخطأ، كان بوبر بفلسفته التكذيبية شاهدا على حضارة القرن العشرين الغربية، وليس فقط على علمه الغربي. (2) ولعل ذلك الارتباط بين القابلية للتكذيب، وبين التحرر من وهم اليقين وقيود الحتمية، هو الذي دفع واتكينز تلميذ بوبر وصديقه إلى أن يرد مبدأ التكذيب إلى إيمان بوبر باللاحتمية، بل وأكثر من هذا ذهب إلى أن الإيمان باللاحتمية هو الاتجاه العام الأساسي لبوبر، الذي يحكم سائر اتجاهاته الفلسفية، والذي يربط أشتات تفلسفه يجعله وحدة واحدة تمثل اتجاها متسقا.
13
وهذا تأويل غير مقبول لفلسفة بوبر، حقا أننا من الناحية الموضوعية، أي من ناحية تطور الفكر العلمي المعاصر بصفة عامة سنجد اللاحتمية أسبق من التكذيب بلا جدال، بل وإنها هي التي مهدت له؛ لأنها أدت إلى انهيار مطلب اليقين في العلم، وهي التي أدت بكثير من العلماء إلى أفكار تماثل منطق التكذيب، فجعلت الكيميائي دوكلوس على سبيل المثال يربط بين تقدم العلم وبين قابليته للتكذيب - باصطلاح بوبر - مؤكدا فكرة التكذيب الأساسية بإطلاقه الحكم التالي: إن العلم يتقدم دائما لأنه ليس أكيدا من أي شيء؛ لأن العالم يفترض تقدما لا متناهيا، ولا يفترض معرفة لا تمس، فهو يفترض إذن جهادا دائما،
14
وبالمثل الفيزيائي بارزان؛ إذ يقول: «ليس هناك حكم علمي يجعلنا متأكدين من أنه لن يصحح يوما ما.»
15
وحقا أيضا أن بوبر لاحتمي أصيل، ولعل اللاحتمية هي التي ألهمته سيكولوجيا بفكرة معيار التكذيب، ولكن من ناحية بنية تفكير بوبر بالذات واتجاه فلسفته، سنجد أن اللاحتمية هي التي تسير في اتجاه التكذيب وتتخذ منه معوانا لها، فلم تكن اللاحتمية - في حد ذاتها - هي الاتجاه العام الذي يحكم فلسفة بوبر، إنما هذا الاتجاه هو النقد واكتشاف الخطأ، فهو بمثابة العمود الفقري لفلسفة بوبر، أو هيكلها الذي تملؤه بقية نظرياته الفلسفية حسب موضوع التفلسف، من نظرية المعرفة «العقلانية النقدية» إلى منهج العلم ومنهج الفلسفة والأيدلوجية السياسية ... وبصفة أكثر شمولا، نجد بوبر يرى في النقد العمود الفقري لشتى المحاولات على وجه الأرض، أولم يكن البحث عن الخطأ واستبعاده «أ أ» أحد العناصر الأساسية في الصياغة التي تصفها «م1
ح ح
أ أ
م2»؟
والقابلية للاختبار والتكذيب - أي لاكتشاف الخطأ - لا تعدو أن تكون أسلوب النقد الفني المختص بالعلم، وهي في الآن نفسه معيار العلم؛ لأن التناول النقدي هو ما يميز العلم،
16
ثم إن هذه الفكرة أولى أفكار بوبر زمانيا، فلعله تطرق بها من أهمية النقد بالنسبة للعلم إلى أهميته بالنسبة لكل نشاط، فهي إذن - وليست اللاحتمية - التي تحكم اتجاه بوبر العام، وتعضد اللاحتمية كما تعضد سائر أفكاره. (3) غير أن ثمة تأويلا طريفا بالفعل لارتباط معيار القابلية للتكذيب بفلسفة بوبر العامة، يمكن أن نستخلصه من مناقشة لبيتر مونز، إذ جعل للمعيار مهمة أخرى غير تمييز المعرفة العلمية ومعالجة منطقها، وهي حماية بوبر من المثالية، ذلك أننا إذا نظرنا إلى العلاقة بين معرفتنا وبين العالم الخارجي الذي تصفه، وجدنا أن إبستمولوجيا بوبر تجعل المعرفة سابقة على الخبرة وهابطة إليها مما يعطي انطباعا بأنها نوع جديد من المثالية، بل والمثالية بمعناها المتطرف الأفلاطوني، غير أن معيار القابلية للتكذيب القائم على أسس تجريبية والذي يمثل العمود الفقري لفلسفة بوبر بأسرها ويمثل أيضا فيصلا حاسما بين العلوم الحقيقية والعلوم الزائفة، يجعل بوبر فيلسوفا ذا أصالة معرفية تماثل أصالة أفلاطون، غير أنه أصوب مرارا؛ لأن معياره يكفل أخبار المعرفة التجريبية عن العالم التجريبي،
17
وهذا ما لم يستطعه أفلاطون، ولا أي فيلسوف آخر قبل بوبر. (4) ومن الناحية فقد ذكرنا آنفا أن رفض بوبر للاستقراء، يعني رفضه اعتبار التقدم العلمي نموا للوقائع المتراكمة كمكتبة متزايدة باستمرار، وأخذه بمنطق التكذيب يعني أن العلم ينمو عن طريق الثورات، البحث العلمي سلسلة مستمرة من الثورات اليومية الدائمة، تهدم وتغير وتعيد البناء، عن طريق خلق فروض جديدة دائما، ترفض الفروض القديمة وتحل محلها لا تتراكم فوقها.
وبنظرة شاملة، يعطينا بوليكاروف أربعة آراء تحصر تصورات تقدم العلم أو نموه هي: (أ)
تبعا لتتالي الأحداث الذي لا يحكمه أي اطراد عام، فإنه لا يمكن تفسير تقدم العلم، يمكن فقط وصفه، هذا هو تصور الوضعيين المعاصرين. (ب)
تقدم العلم يتم كسلسلة من التحولات أو الثورات التي تحدث بغير رابطة داخلية
internal link
وبوبر هو الممثل المثالي لهذا الرأي. (ج)
وكنقيض للرأي السابق، نجد الرأي التراكمي الذي يؤكد على استمرارية المعرفة العلمية وهو رأي شائع الانتشار بين مؤرخي العلم والعلماء الكلاسيكيين، مثال وليام ويول وبير دوهيم وجورج سارتون ونيلس بور وسائر الاستقرائيين. (د)
التصور الديالكتيكي لهيجل وماركس وإنجلز، وتبعا له يؤدي التقدم التدريجي إلى قفزات كيفية، تصبح بدورها نقطة البدء لتراكم كمي جديد،
18
تبعا لقانون الكم والكيف الجدلي.
ولقد انفرد بوبر بتأكيد النظرية الثورية، تماما كما انفرد بالمواجهة الساحقة الماحقة للاستقرائيين؛ لذلك اعترض عليه الاستقرائي هيلاري باتنام، مؤكدا أن التراكم له أهمية ميثودولوجية كبيرة تتلخص فيما يلي: (أ)
نقص الخبرة بالظواهر وبالمعرفة السابقة عن الظواهر، يقلل احتمالية صواب الفكرة. (ب)
زيادة الخبرة يزيد من احتمالية الصواب.
19
وهذا نقد لا يقدم ولا يؤخر؛ لأنه لا يعدو أن يكون لفا في دائرة الاستقراء المفرغة، وهكذا كانت مناقشة باتنام لبوبر بأسرها، فقد قامت على أساس أن لدينا - رغم مشكلة الاستقراء - نزوعا إلى التفكير استقرائيا، ونجاح الاستقراء يقوي هذا النزوع، وأن منهج الاستقراء ليس له تبرير لكن تماما كما أن أي منهج آخر ليس له تبرير، لا منهج بوبر، ولا حتى منهج الرياضة.
20
ولسنا في حاجة إلى إعادة القول بأن الاستقراء ليس له تبرير، لكن هناك استحالة في الأخذ به.
إن النظرية الثورية من إنجازات بوبر الثاقبة بحق، التي تزيد من دفع فلسفته التكذيبية للتقدم العلمي إذ تجعله ثوريا، وإن كان قد سبق أن بشر بها باترفيلد
Butterfield
عام 1947م، وهو مؤرخ علم وليس عالما، وخلاصة نظريته المطروحة في كتابه «أصول العلم الحديث» كالآتي: «على قدر ما يمكننا اقتفاء أثر الثورات من العوامل الخارجية، فالوضع هو أن العلماء في مرحلة ما، يتعثرون في مشاكل، وأثناء كفاحهم مع هذه المشاكل يحدثون تغييرا في إعمال عقولهم ويرون الأشياء القديمة بطريقة جديدة، ويحاولون التوصل إلى فكرة تمثل (مفتاحا
Keyidea
وهو تعبير باترفيلد المفضل) يفض مغاليق التعثر الجديد، وحينما يتوصلون إلى فض هذه المغاليق تتدفق الاكتشافات بمنتهى السهولة.»
21
لكنه يشترك مع بوبر في رفض اعتبار تاريخ العلم تاريخا للأفراد العظام، أو سلسلة من قصص النجاح، أو تراكم الاكتشافات والمعرفة بالوقائع، ويقول: إن هذه النظريات لا تعبر عن التناول السليم لتاريخ العلم.
22
أما فيلسوف العلم الذي تتلاقى نظريته تماما مع بوبر، فهو الفرنسي جاستون بشلار
Gaston Beichelard (1844-1962م) فهو أولا - مثل بوبر - يؤكد كثيرا على أهمية النقد، أو حسب تعبيره: هذا الشك المسبق المنقوش على عتبة كل بحث علمي يتصف بأنه متجدد، وهو سمة أساسية لا موقوتة في بنية التفكير العلمي،
23
وهو أيضا يرى ضرورة الربط الوثيق بين الفلسفة والعلم،
24
وأن العلم لا يخرج من الجهل، كما يخرج الظلام من النور؛ لأن الجهل ليس له بنية، بل يخرج - كما أكد بوبر - من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق، حتى إن بنية العلم هي إدراك أخطائه، والحقيقة العلمية هي تصحيح تاريخي لخطأ طويل، والاختبار هو تصحيح الوهم الأولي المشترك، المهم الآن أن بشلار يرفض النظرة التراكمية ويؤكد على النظرية الثورية؛ إذ يرى التقدم العلمي مرهونا بحدوسات جريئة، تمثل قفزات ثورية، تعقبها أفكار تصحح أفكارا وتجارب، فروح العلم هي تصحيح المعرفة وتوسيع نطاقها، ما أسماه بوبر منهج التصحيح الذاتي، وكل هذا يعني أن الفكر العلمي فكر قلق، فكر يترقب الشيء، يبحث عن فرص جدلية ليخرج من ذاته، وليكسر أطره الخاصة، إنه الفكر الذي يسير على درب الموضوعية، ومثل هذا الفكر لهو الفكر المبدع.
25
ليس فحسب، بل ويؤكد بشلار على عمومية الثورية وعمقها، وأنها تؤثر تأثيرا عميقا على بنية العقل المتجددة دوما، وحتى الثورات المتصلة بمفهوم واحد تواكب في الزمان ثورات عامة ذات تأثير عميق في تاريخ الفكر العلمي،
26
وكل شيء يمضي جنبا إلى جنب، المفاهيم وإنشاء المفاهيم «فليس الأمر مجرد كلمات يتبدل معناها بينما يظل الترابط ثابتا، كما أنه ليس أمر ترابط متحرك حر قد يفوز دائما بالكلمات ذاتها التي يترتب عليه أن ينظمها، إن العلاقات النظرية بين المفاهيم تبدل تعريفها كما يبدل تغيير المفاهيم علاقاتها المتبادلة،
27
وبالتعبير الفلسفي عن هذا نجد الفكر لا بد حتما أن تتبدل صورته إذا ما تبدل موضوعه، وينفي بشلار أية سكونية تراكمية عن نمو المعارف العلمية، فالمعارف التي تبدو ثابتة تجعلنا نحسب أن سكون المحتوى ناجم عن استقرار الحاوي، تجعلنا نؤمن باستمرار الأشكال العقلية وثباتها واستحالة قيام أية طريقة جديدة للفكر، في حين أن قوام البنية العلمية ليس بالتراكم، وليس لكتلة المعارف الثابتة تلك الأهمية الوظيفية المفترضة، فإذا قبلنا حقا أن الفكر العلمي في جوهره يعني إنشاء الموضوعية، وجب أن نستخلص أن مستنداته الحقيقية هي التصحيحات وتوسيعات الشمولية، وعلى هذا النحو كتابة التاريخ الحركي للفكر، فالمفهوم يحظى بمعنى أكبر، في تلك اللحظة بالذات التي يتغير فيها معناه، وإذ ذاك يصبح حدثا من أحداث إنشاء المفاهيم.»
28
ومن المهم أيضا أن نقارن بين نظرية بوبر وبين نظرية توماس كون
Thomas Kuhn
فهو فيلسوف العلم الثاني المعاصر بعد بوبر، وهو من أهم من عنوا بتفسير التقدم العلمي وقد طرح نظريته في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية»، «وهي نظرية تتضمن عناصر من كل النظريتين الثورية والجدلية.»
29
وتقوم أساسا على التمييز في تقدم العلم بين: تقدم العلم العادي
normal Science ، وبين المراحل الثورية في هذا التقدم،
30
تقدم العلم العادي يحدث داخل إطار النموذج القياسي للعلم
Scientific Paradigm ، الذي يقبله المجتمع العلمي، كبناء علمنا اليوم، فهو الإنجازات العلمية المقبولة عالميا، والتي تعطي أنماط المشاكل وحلولها لجمهرة المشتغلين بالعلم، وتقدم العلم العادي يسير داخل إطار هذا النموذج،
31
فالعالم العادي لا يبدأ عمله بالبحث في النظرية الأساسية للنسق العلمي، أو محاولة الثورة عليها، كما أنه لا يهتم باختبارها، وظهور مثال معارض للنظرية لا يعامل مباشرة كتفنيد للنسق، فربما عالجناه بفرض مساعد،
32
فنمو العلم العادي يسير من خلال عملية التلقيح المعرفي لمحتوى هذا الأنموذج، أي النظريات سواء كوقائع أو كعلاقات بين النظريات أو كحسابات دقيقة وتنبؤات، وتنقيح الإضافات التي تلحق بالنسق وتنقيح تطبيقاته، وعملية التنقيح هذه تأخذ طابع حل المتاهات
، وخلال حلها تثار مشاكل جديدة في حاجة إلى الحل، بعبارة أخرى: العلم العادي هو حل المتاهات من خلال تنقيح النظريات الموجودة بالفعل،
33
وكل هذا داخل إطار النموذج القياسي للبناء العلمي، وقد استعمل كون مفهوم المستويات المختلفة للعمومية، وقد ميز على وجه الخصوص بين النماذج القياسية الميتافيزيقية (وهي النظرة العامة
Outlook )، وبين النماذج القياسية السوسيولوجية كمجموعة العادات العلمية، وبين النموذج القياسي المصنوع أو المبني لحل المشاكل العلمية،
34
والمهم أن العلم العادي ينمو داخل إطار النموذج القياسي، بمعنى أن الفرض المتطور فيه يتحول من ، أما في مرحلة العلم الثوري، فإن الإطار نفسه يتحطم ويحل محله نموذج ذو أطر مختلفة، فيتحول الفرض من .
35
إذن ما يميز العلم الثوري، هو أن الأول يتحرك داخل النموذج القياسي، بينما الثاني يحطمه ويحل محله نموذجا آخر، وهو علائم بارزة في تاريخ العلم، من هنا يكون الخلاف بين بوبر وكون، هو أن بوبر يجعل الثورة يومية دائمة، وليس هناك علم عادي في نظرية بوبر، ولم ير بريان ماجي تعارضا ملحوظا بينهما وقال: إن كل ما في الأمر هو أن بوبر لا يعالج إلا منطق العلم، بينما يدخل كون في اعتباره سوسيولوجية العلم وسيكولوجيته وعوامل أخرى،
36
غير أن هذا التأويل تزكية لرأي بوبر، أما بوليكاروف فإنه يوضح ببساطة أن أهم نقد لرأي كون هو أن كل تقدم علمي له طابع ثوري، وأننا نستطيع أن نؤكد على الحالات التي لا نجد فيها شيئا مشتركا ولا خط استمرارية بين النماذج القياسية المختلفة،
37
أي فقط يعترض بوليكاروف على رأي كون بتأكيد رأي بوبر.
ومن ناحية أخرى لاقت نظرية بوبر الثورية استصوابا كبيرا من ناليموف، والجدير بالذكر أنه ربطها بما يدعو إليه التكذيب من البحث عن النظرية ذات أقل درجة من الاحتمالية؛ فقد رأى بوبر أن «النظرية الثورية الجديدة، تظهر عادة في الميدان الفكري الذي نشأت فيه النظرية السابقة التي تختلف اختلافا جوهريا عن النظرية الجديدة، وإذا قدرنا احتمال النظرية الجديدة في مكان القضايا التي تضمنها النظرية السابقة، وجدنا أن احتمالها يكون ضئيلا جدا، ويزداد هذا الاحتمال ضآلة كلما ازداد الطابع الثوري للنظرية الجديدة، وإذا تتبعنا مصير التطور العلمي وجدنا أن الفرضيات العلمية المثمرة، وأرجاها للقبول تثير وقت ظهورها معارضة جنونية في الدوائر العلمية مما يعني أن احتمالها ضئيل في نظر المفكرين.»
38
وإن كان ناليموف قد وجه إلى نظرية بوبر الاحتمالية نقدا قويا مؤداه أن بوبر يعبر عن فكرة خطيرة جدا بدون قدر كاف من الدقة، ومن هنا يأتي احتمال فهمها الخاطئ، والمسألة الأساسية هي أنه لا يجوز التحدث عن احتمال حادث إلا عندما نبين مكان حدوث الحوادث الأولية بدون غموض.
39
غير أن الربط السليم لنظرية بوبر الثورية لا يكون بنظريته الاحتمالية، بل بنظريته التطورية - أي داروينيته المنهجية - فبوبر يجعل الفروض تتنازع من أجل البقاء، ويرفض أن يعطي العالم الدور السلبي اللاماركي، الذي يجعله فقط يتلقى مؤثرات البيئة عليه، بل يعطيه دورا داروينيا إيجابيا، فهو يتحدى البيئة ويفرض عليها تصوراته، إنه يغير ويبدل، كما يفعل الكائن الحي في نظرية دارون؛
40 ⋆
لذلك كانت هذه النظرية الداروينية هي التي تبرز طابع العلم الثوري، ويمكن أن نجد تأكيدا لارتباط التطورية بالثورية في بعد آخر هو مجال الفكر السوسيولوجي وتطور الأيديولوجية السياسية، مع و. ف. ورثيم
W. F. Wertheism (1907م-؟)، فهو في كتابه (التطور والثورة
Evolution and Revolution ) يرفض الاتجاه الذي يقبل الثبات والتوازن كقواعد
norms
للمجتمع، ويرى أن التغيرات التطورية التدريجية، هي قواعد العمليات الاجتماعية، والثورات هي ببساطة إسراع للخطا التطورية؛ فالتطورية الثورية هي المفجرة للموجات التحررية الاجتماعية،
41
وأيضا التطورية البوبرية التكذيبية هي المفجرة لتقدم العلم، إذ تجعله ثوريا. (5) وبعد، فإذا نظرنا إلى العلوم في سلم تقدمها الشائع حسب درجة عموميتها، فبصرف النظر عن العلوم الصورية وقصره على العلوم الإخبارية، نجد الفيزياء البحتة على رأس سلم التقدم ومن بعدها تأتي الكيمياء ثم علوم الحياة، وبعد نهاية سلم العلوم الطبيعية تأتي العلوم الإنسانية، وفي مقدمتها الاقتصاد وفي مؤخرتها علم النفس ثم علم الاجتماع، وجدنا أن أكثر العلوم تقدما هي أكثرها قابلية للتكذيب؛ لأنها أكثرها عمومية ودقة وأبسطها، ونظرياتها هي النظريات الأقل أبعادا، وأقلها تقدما هو أقلها قابلية للتكذيب،
42 ⋆
معيار القابلية للتكذيب يميز العلم؛ لأنه معيار تقدم العلم، والعلم هو النشاط الإنساني الوحيد ذو الطبيعة التقدمية التي لا تخطئها أية عين، ولا يختلف عليها اثنان،
43 ⋆
وذلك تبعا للمعايير الموضوعية المنطقية، وعلى رأسها معيار القابلية للتكذيب. (2) مناقشة انتقادات معيار القابلية للتكذيب (1) معيار القابلية للتكذيب، شأنه شأن أية فكرة فلسفية، لا بد له من اجتياز مواجهات عسيرة، حقا ليست بالوقائع التجريبية التي ينفرد بمواجهتها العلم، لكن بما هو أقسى: اعتراضات دارسي الفلسفة القوية، وانتقادات الفلاسفة الدقيقة، في هذا القسم من الفصل سنناقش النقد الذي أثير في وجه المعيار، ومن الأفضل أن نخص الفقرة الثانية لمناقشة النقد المتعلق ببنية المعيار ذاته، أما بقية الفقرات فستنفرد كل منها بعرض نقد أثاره باحث معين.
44 ⋆ (2): (أ) من أهم الاعتراضات التي قابلت المعيار - خصوصا بعد ازدهار الميكانيكا الإحصائية - اعتراض يتعلق بالقضايا التي تدور حول الاحتمالية بمعنى التكرار
Frequency
وهو كالآتي: على الرغم من أن عبارات الاحتمالية تلعب الآن دورا هاما في العلم، فإنها تبدو غير قابلة للتفنيد،
45
فليست هناك متتالية محددة أو متناهية
finite Sequence
46
من «أ»، ولا تنشأ «ب» عن أي منها، ويمكن أن تفند بصورة منطقية حاسمة القضية الاحتمالية القائلة لو معظم حالات «أ» ينشأ عنها «ب»، مثلا ليست هناك أية قضية محددة مثل القضية «السماء لم تمطر في بورسعيد مساء السبت.» يمكن أن تفند بصورة منطقية الفرض العلمي القائل: إن احتمال أن تمطر السماء في بورسعيد مساء السبت له القيمة «ن».
وقد أولى بوبر هذه الصعوبة عناية خاصة، وفي الرد عليها قال: أولا على الرغم من أن قوانين ميكانيكا الكوانتم النماذج المثلى للقوانين الاحتمالية تختبر بواسطة الملاحظات الإحصائية، فإنها هي نفسها ليست إحصائية، وثانيا الفروض الاحتمالية قابلة للتفنيد من حيث المبدأ، طالما أنها تقريرات عن تكرارات تحدث في طبقات متناهية
Finite
أي محددة.
47
ولقد أخذ بوبر برأي ريتشارد فون ميسيز
Richard von Mises
بصورة معدلة، خلاصتها أن احتمالية حدوث خاصة
في طبقة مفتوحة بصورة غير محددة
Unristrictedly open class
هي التي تحدد تكرار حدوثها في حلقات متناهية
Finite Segments
من التتالي المفتوح
Open Sequence ، وفي الآونة الأخيرة أكد بوبر أن عبارات الاحتمالية، على الرغم من أنها قد تعتمد على دليل إحصائي، إلا أنها نفسها لا ينبغي أن تفسر إحصائيا، فالأحرى هو إرجاع القابليات والاستعدادات الموضوعية إلى أهداف طبيعية.
48
وقد رأى جون باسمور أن هذا الرد ليس مقنعا تماما،
49
لكنه سيبدو مقنعا إذا أخذنا في الاعتبار حقيقة غاية في الأهمية، وهي أن النظرية الاحتمالية التي يعتبر بوبر مجددا عظيما فيها، أو بالأصح يعتبر بوبر وريتشارد فون ميسيز مجددين فيها؛ لأنهما يناديان بنظرية احتمالية متماثلة ذات نسق بدهيات واحد لحساب الاحتمال، هي نظرية تحسب احتمالية الأحداث
events ، وليس احتمالية الفروض العلمية، وهي لذلك نظرية رياضية فيزيائية، وليست منطقية إبستمولوجية،
50
غير أنها أساس موضوعية بوبر، خصوصا التي حارب من أجلها نظريات الاحتمالية الذاتية.
51 ⋆ (ب) المفروض في العلم أنه يعطينا معلومات إيجابية، فكيف نميزه باستيفاء خاصة سلبية مثل إمكانية التكذيب أو التفنيد.
في الرد على هذا، أوضح بوبر أن كمية المعلومات الإيجابية المشتقة من العبارة العلمية، أي محتواها التجريبي، تزيد كلما زادت إمكانية تصادم هذه العبارات، بسبب خاصيتها المنطقية مع عبارات أساسية، كما أوضح الفصل الأول في القسم الثاني الذي أوضح ارتباط القابلية للتكذيب بالمحتوى المعرفي، فهذه هي جوهر فكرة التكذيب.
وربما كنا لا نقول عن قوانين الطبيعة قوانين، إلا أنها تمنع أكثر مما تقول،
52
ومن الناحية الأخرى فقد أوضح بوبر أن كل قانون من القوانين الطبيعية يمكن وضعه في عبارة تشبه في صورتها المثل القائل: «لا يمكنك حمل الماء في مصفاة.» وقانون الإنتروبي يمكن التعبير عنه كالآتي: «لا يمكنك أن تبني آلة كفايتها مائة في المائة.» وإن هذا النمو في صياغة القوانين الطبيعية لمن شأنه أن يبرز ما لهذه القوانين من دلالة تكنولوجية،
53
إن قوة العبارة الإخبارية في أن تحدد حالة معينة، وتنفي كل ما هو خارجها، بحيث يكذبها إذا حدث، بعكس تحصيلات الحاصل التي تسمح بكل ما هو ممكن، ولا تمنع أي شيء، فلا تخبر بشيء، ولا تتنبأ بشيء. (ج) يمكن قلب كل ما قاله بوبر في نقد الاستقراء والتحقق، ليصبح نقدا للتكذيب على أساس أن إمكانية التكذيب مماثلة تماما لإمكانية التحقق.
54
يقول بوبر: إن هذا النقد ضعيف جدا، ولا ينبغي أن نلتفت إليه؛ لأن اللاتماثل المنطقي التكذيب والتحقيق، هو الأساس المنطقي للتكذيب، هذا اللاتماثل هو الذي يكفل الصحة المنطقية للتكذيب، بينما تستحيل تماما على التحقيق بسبب مشكلة الاستقراء.
55 (د) إذا أمكن تطبيق المعيار على نسق من العبارات، فقد تمكنا من تبين الخاصة العلمية للنسق ككل، لكننا نظل متشككين من عملية أو تجريبية أجزائه المكونة كنسق فرعي أو عبارة معينة فيه، والمثال على هذا من نظرية نيوتن للجاذبية، فقد يثار التساؤل حول ما إذا كانت قوانين نيوتن للحركة - أو أي منها - هي تعريفات أم هي تقريرات.
56
في الرد على هذا يقول بوبر: إن نظرية نيوتن هي نسق، ولو كذبناها فإننا نكذب النسق بأسره، وقد نكتشف الخطأ في أحد قوانينها أو في الآخر، واكتشاف هذا الخطأ يعني أننا أدركنا (أو افترضنا حدسيا
Conjecture
بتعبير بوبر) ضرورة تغير معين في النسق سيحرره من التكذيب، فيخرج النسق في صورة جديدة متضمنة هذا التغيير أو التعديل، أو هذه الإضافة، وهذا يعني نسقا جديدا أكثر اقترابا من الصدق.
لكن تكذيب النسق هو أيضا فرض، وإذا لم نقدم بديلا محددا للفرض الذي كذبناه، فإنه سيكون محض إثارة للشك، والعكس أيضا صحيح: لو قررنا أن نسقا آخر لم يتم تكذيبه فهذا القرار أيضا فرض، فكل شيء في العلم مجرد فرض ، والمهم دائما أن تتحدى النسق بتقديم نسق آخر أقوى منه، ينافسه فيتغلب عليه ويستطيع اجتياز الاختبارات التي لم يستطعها.
57
غير أن هذا الرد قد يثير اعتراضا مؤداه: ماذا يحدث إذا لم نستطع إيجاد خلف ناجح للسالف الذي تم تفنيده،
58
وهذا اعتراض أثاره بريان ماجي في مناقشته مع بوبر، وفي الرد عليه قال بوبر: إننا سنستمر في استعمال النظرية القديمة المفندة، لكننا سوف نستعملها ونحن نعلم أن شيئا ما خاطئ فيها، وسوف تكون هناك مشكلة مفتوحة تمثل تقدما في المعرفة أو إمكانية تقدم؛ إذ سندرك الحد الأدنى من الشروط التي يجب أن تتحقق في النظرية الجديدة التي سنقدمها يوما ما كحل لتلك المشكلة المفتوحة،
59
إن التكذيب - كما أوضح القسم السابق - هو دوما مثير لتقدم المعرفة. (ه) لو وضع عالم بيولوجي القانون: كل البجع أبيض، ثم وجدنا بجعة سوداء في أستراليا مثلا، يمكن أن نرفض اعتبارها بجعة، وبهذا يصبح القانون أو النظرية غير قابلة للتفنيد.
ورد بوبر هذا النقد بأن وضع قاعدة ميثودولوجية هي: كل من يقبل وجود بجعة واحدة على الأقل، ليست بيضاء، لا بد أن يقبل تفنيد النظرية،
60
والعالم هو الذي يحدد مسألة القبول أو الرفض شريطة أن يكون متسلحا بالنقد الذاتي الذي يجعله يرفض الفروض العينية، ويقبل فقط الفروض المساعدة. (و) بعض النظريات العلمية غير قابلة للتكذيب، مثلا «الماء يتجمد في درجة الصفر.» لا يحتمل إطلاقا أن نجد واقعة تكذبه، ولو وجدنا ماء لا يتجمد في درجة الصفر، فلن يكون ماء؛ ولهذا لا نجد إلا احتمالين:
هذا القانون ليس علميا، أو هو تحصيل حاصل.
نتمسك بافتراض وجود ماء لا يتجمد في هذه الدرجة.
61
ولعل هذا هو أساس رفض وليام نيل اعتبار كل قضايا العلم فروضا،
62
والحق أن هذه صعوبة خطيرة أمام المعيار، فهي تعني أنه لا يميز عبارات العلم الراسخة، وفي رد بوبر عليه يتمسك بالاحتمال الثاني، ومن خلال الدفاع سنجد المعيار وقد تطور.
فلنفترض أننا اكتشفنا ماء له درجة تجمد مختلفة، فهل سنظل نسميه ماء؟
بوبر يقول: إن هذا السؤال أصلا غير ملائم؛ فالتسمية لا تهم، وموضوع البحث سائل له خصائص كيميائية وفيزيائية معينة، ويتجمد في درجة الصفر، إذا لم ترتبط هذه الخصائص التي افترضناها في السائل فنحن مخطئون، وبهذا تنشأ مشاكل جديدة ومثيرة، منها مشكلة ما إذا كنا سنظل نسمي هذا السائل ماء أم لا، وهذه مسألة تعسفية اصطلاحية، تتوقف على القرار الذي نتخذه، إذن فهذه الصعوبة لا تفند معيار التكذيب، وليس فحسب بل وإنها توضح كيف يساعدنا المعيار على اكتشاف ما هو هام ومميز في العلم، وما هو عشوائي أو اصطلاحي.
63 (3) ولقد تعرض الباحث السوفيتي ف. ف. ناليموف بالدراسة النقدية لمعيار القابلية للتكذيب، واعترض عليه قائلا: إن هناك «أمثلة مضادة توضح أن الظواهر التي لا يمكن تفنيدها تعد غالبا ظواهر علمية، ومن هذه الأمثلة نظرية التطور، وفرضية تكوين القانون البيولوجي والأيديولوجية السيكولوجية (وهي نظرية تستخدم المفاهيم السيكولوجية في تفسيرات أحداث التاريخ)، وأخيرا نظرية بوبر أيضا، فكل هذه نظريات لا يمكن تفنيدها بالتجربة، ولكنها تعد علمية وإن أثارت اعتراض بعض العلماء، ومن ناحية أخرى فإن أيديولوجية اليوجا، أو بعبارة أصح: التوجيهات العلمية الصادرة عنها قد تفندها التجربة، لكن العلم الحديث بنموذجه المعروف لا يسلم بها كنظرية علمية.»
64
وواضح أن الأمثلة التي أوردها ناليموف هي الكفيلة تماما برد نقده، فأما عن نظرية التطور فهي ليست إلا تحصيل حاصل، وأنها لا تبلغ من المنزلة العلمية ما تبلغه النظريات ذات المحتوى المعرفي القابلة للتكذيب كنظرية نيوتن أو آينشتين.
65 ⋆
وأما عن فرضية تكوين القانون البيولوجي، فهي في نطاق علم مناهج البحث وليس العلم التجريبي، وبالمثل الأيديولوجية السيكولوجية فهي محض أسلوب للبحث أو للفكر، ولا علاقة لها بالعلم الطبيعي الإخباري، وأخيرا نجد نظرية بوبر أهم ما يشهر في وجه نقد ناليموف؛ لأن بوبر بمنتهى القطع الجازم لم يقدم نظريته بوصفها علمية قابلة للتكذيب، بل قدم فقط اقتراحا بمبدأ منطقي، قادر على تمييز العلم.
الخطأ إذن ليس من معيار القابلية للتكذيب الذي يفشل في تمييز تلك النظريات، بل من ناليموف الذي قال: «ولكنها تعد علمية.»
66
وهي ليست هكذا.
أما ما قاله عن اليوجا أو أيديولوجيتها، فإنه ينطبق على نصائح سيدة عجوز حكيمة، وعلى الوصايا التي تقال في تربية الأطفال، فهي قابلة للتفنيد؛ إذ يمكن فعلا أن نختبرها بأن نستنبط التنبؤات التي تلزم عن هذه التوجيهات ونقابلها بنتائج الممارسة العلمية لها التي قد تكذبها، غير أنها قابلة للتفنيد بمنظور مبهم فضفاض، غير قابلة له بالمنظور المنطقي الدقيق الذي طرحه بوبر لتمييز العلم، فلا هي ذات محتوى معرفي، تجريبي أو منطقي، قابل للدخول في نسق استنباطي، أو في منافسة مع الفرضيات الأخرى، أو مقارنة سعة فئات المكذبات المحتملة، وعلاقات القابلية للاشتقاق والفئة الفرعية، ودرجة تأليف العبارات الأساسية والبساطة والاحتمالية ... ثم إن الوجه المنهجي لمعيار القابلية للتكذيب غير قائم فيها على الإطلاق، كل هذا لأنها ليست علما.
ويبدو أن معرفة ناليموف - وهو عالم في ذلك العلم الدقيق: الإحصاء - بمعيار القابلية للتكذيب ليست دقيقة؛ لأنه عاد ليقول: «الفيصل الصحيح للتمييز بين النظريات العلمية وغير العلمية يجب أن يكون قابليتها للتطور الذاتي؛ أي للفناء الذاتي.»
67
ولو كان يدري ما هو التكذيب تماما، لكان قد عرف أنه قابلية العبارات العلمية الشديدة لأن تكذب يوما ما، فتترك لتفنى، ويحل محلها عبارات أفضل وأكثر تطورا.
المهم أن ناليموف عاد ليقول: إن ذلك الفيصل الذي وضعه بوبر ضروري فقط، ولكنه ليس كافيا ولا جواب كاف على مشكلة التمييز؛ لأنه من المستحيل تمييز النشاط العلمي عن النشاط الإنساني،
68
في حين أن بوبر كان أكثر الفلاسفة - ربما على وجه الإطلاق - عناية بتوضيح أنه لا فارق البتة بين النشاط العلمي وبين أي نشاط على وجه الأرض، ووضع صياغته الشهيرة: «م1
ح ح
أ أ
م2» ليؤكد ذلك؛ لذلك فهو لم يهدف البتة إلى تمييز النشاط الإنساني، بل هدف إلى تمييز النظريات أو أنساق العبارات.
69 ⋆
وشبيه باعتراض ناليموف على استحالة التمييز، اعتراض دكتور ياسين خليل؛ إذ يقول: «ولا أقول هنا كما يقول فلاسفة التجريبية المنطقية في استبعاد الأفكار الميتافيزيقية؛ لأني أعتقد بعدم إمكانية التوصل إلى معيار للتمييز بين الأفكار العلمية والميتافيزيقية.»
70
فهل يا ترى لو اطلع دكتور ياسين خليل على العرض الوافي لمعيار القابلية للتكذيب، سيظل على اعتقاده هذا؟ تبدو الإجابة بالنفي أقرب إلى المعقول. (4) وقد تعرض عالم النفس أيزنك أيضا بالنقد للمعيار، وذلك في سياق معالجته لعدم انطباقه على نظرية فرويد، مما عنى أنها ليست علمية، وفحوى نقد أيزنك أنه ليس صحيحا أن الحكم بالكذب فيصل حاسم في العلم، وكل ما في الأمر أن هذا المعيار يفتح الطريق أمام صعوبات كثيرة في تطبيقه، ذلك أن كل النظريات لها عدد كبير جدا من المخالفات التي تبدو على أنها تكذب النظرية، غير أن النظرية تستمر وتنتعش على الرغم من مخالفاتها، فقد تنبأ كوبرنيقوس باختلاف موقع النجوم بالنسبة للرائي، كنتيجة لنظريته بمركزية الشمس، يبدو أن معاصريه لم يلاحظوا شيئا من هذا، ولا حتى لاحظ خلفاؤه، لوحظ هذا فقط عام 1838م، ورغم هذه المخالفة كانت مركزية الشمس مقبولة في كل مكان، وقد وضع وليام هارفي نظريته في الدورة الدموية ولم يكن فيها أي وسيط
intermediaries
بين الشرايين والأوردة، ولم تكتشف الشعيرات الدموية إلا بعد وفاته بخمسين عاما، على الرغم من هذا التكذيب الواضح فإن مبدأه كان مقبولا في ذلك الوقت.
71
بل وحتى نظرية نيوتن العظيم، لا يمكنها أن تلائم حركات القمر تماما، ولا يزال الفشل يتعقب خطا كل من يحاول تعليل انحرافات عطارد عن نسقه، فأقرب نقطة من الشمس في فلك عطارد لا يمكن أن تتلاءم مع نظرية نيوتن، على الرغم من محاولات لافرير
Laverrier
بتعليل هذا بافتراض وجود كوكب أدنى، بل وإننا نجد هذا حتى في نظرية آينشتين العامة للنسبية؛ ففي حلها هي الأخرى لمشكلة عطارد، قد تنبأت بملاحظات للاستقبال الفلكي
تحوي خطأ قدره 1٪، ومع ذلك، فإن هذه الملاحظات أعطتنا أدق التأييدات التجريبية للنظرية ثم إن تنبؤات آينشتين تفترض أن الشمس دائرية، وحتى الآن لم نجدها هكذا، بل نجدها مفرطحة ومنبعجة بنسبة 1 إلى 2000، وكل هذا يؤدي إلى أخطاء في الملاحظة تكاد تجعلها غير مقبولة بنسبة 8٪، وأفضل النظريات العلمية المطروحة حتى الآن هي نظرية ديك وبرانز
Dicke and Brans
إلا أن الفلكيين ما زالوا يعتبرون المشكلة بغير حل، إذ إن الاستقبال الفلكي
لعطارد ما زال يتحدى كل الشروح.
72
وعلى الرغم من كل هذا ما زلنا نعتبر نسق نيوتن من أعظم إنجازات العلم، يمكن أن نمد القائمة بغير حدود، لننتهي إلى أن القابلية للتكذيب في صورتها البسيطة ليست معيارا مقبولا لتمييز العلم، وأنها لكي تكون هكذا تحتاج إلى سفسطة أكثر مما قد نتخيل!
73
وأبسط ما يقال في الرد على هذا النقد من أيزنك، أننا لا ندري ما إذا كان ينقد القابلية للتكذيب - أي معيار العلم - أم هو ينقد التكذيب - أي الحكم على النسق - بعبارة أخرى: يبدو أن أيزنك لم يدرك تماما الفارق الكبير بين القابلية للتكذيب وبين التكذيب، بل وحتى الأمثلة التي أوردها كمكذبات لنظريتي كوبرنيقوس ووليام هارفي، ليست إطلاقا مكذبات منطقية، بل مجرد أوجه نقص اكتملت مع نمو العلم، وإذا كانت النظريات العلمية تتطور أو تتدارك أخطاءها أو تأتي بالأدلة والشواهد بعد ولادتها، فهل هذا خلل في معيار القابلية للتكذيب؟ كلا؛ لأنه أقدر النظريات المنطقية على معالجة تطور العلم، وقد أوضح تماما ماذا نفعل بالنظرية العلمية بعد أن نكتشف الخطأ فيها، حتى ولو لم نجد سلفا ناجحا لها، ويبدو أن هذا قد فات أيزنك كما فاته أن السمة العلمية التي يميزها المعيار، هي الإخبار عن الواقع بدرجة معينة من الصدق، وليست الصورة النهائية مطلقة الكمال التي لا يأتيها الباطل من بين أيديها أو خلفها، مثل هذه النظرية مستحيلة، ولسنا في حاجة إلى معيار يميزها.
ثم يحاول أيزنك الإحاطة أكثر بإثبات فشل معيار القابلية للتكذيب، فيوضح أنه من الناحية الأخرى ينطبق أيضا على العلوم الزائفة فيقول: إن قابلية علوم التنجيم والفراسة للتكذيب واضحة؛ إذ يمكن استنباط وقائع تجريبية كاذبة من نظرياتها،
74
وأبسط ما يقال لدحض هذا النقد هو الشق المنهجي للتكذيب، والذي يؤكد عليه بوبر تأكيدا ربما أكثر من الشق المنطقي؛ ولذلك يمكن أن نقول لأيزنك: إن هذه العلوم لا يقوم منهجها على التكذيب، ولا يحاول العالم البحث عن الاختبارات والتفنيدات، ولو فعل لتبخرت هذه العلوم. (5) أما النقد المنطقي الدقيق للمعيار فيمكن أن نجده مع عالم المنطق الكبير وليام نيل، وقد تركز اعتراضه على أن منطق التكذيب يحكم على العبارات الوجودية غير المحددة
unristrictedly existential
بأنها ليست علما، واضطرم أوار النقد حين اعتبر بوبر إياها - في أحد المواضع - ميتافيزيقية، ورأى نيل أن بوبر في هذا لم يستطع أن ينفصل عن الوضعيين وقلقهم الشديد من الميتافيزيقا، وهو بذلك يناقض نفسه؛ إذ يأخذ بمصطلحات وضعية تماما، في حين أن الحاجة لا تدعو إلى هذا، ثم يأتي بعد هذا ليدعي أن اقتراحه بالتكذيب يدخل في نطاق الأحاديث اللاتحليلية المناهضة للوضعية.
75
والحق أن نيل مصيب في هذا الاعتراض، فكيف يسمي بوبر هذه العبارات ميتافيزيقا، «وهي قد تكون لا تقول أي شيء عن الميتافيزيقا كما يفهمها أي فيلسوف جاء قبل الوضعيين المناطقة؛ فهم فقط الذين استعملوا اصطلاح الميتافيزيقا استعمالا مبهما فضفاضا ليشير إلى كل قول يرونه سخيفا منافيا لما يرومون.»
76
فلنفترض مثلا أن مؤمنا بالقوى الغيبية قال: «السحرة يوجدون بالفعل.» فإن هذا القول ثرثرة، وبالطبع ليس علما، ولكنه أيضا ليس ميتافيزيقا لمجرد أن له صورة العبارة الوجودية غير المحددة،
77
وإذا أضفنا إلى ذلك موقف بوبر من الميتافيزيقا وإجلاله إياها، بدا بوبر بالفعل متناقضا مع نفسه، فما كان ينبغي له أبدا استعمال مصطلح ميتافيزيقا في هذا الصدد، ومثل هذا الاستعمال المبهم العام.
غير أن نقد نيل لا يقتصر على هذه الهفوة الفيلولوجية الترمينولوجية لبوبر، بل إنه ينصب أساسا على اعتبار القضايا الوجودية غير المحددة ليست علما، يقول نيل: لنفترض أن معلوماتي عن الأسماك بسيطة وسطحية، ثم جاء عالم بيولوجي وقال في عبارة وجودية غير محددة: «توجد أسماك ذات رئة تستطيع التنفس على الأرض.» فلن أعتبر هذا القول ميتافيزيقا بل معلومة تجريبية لا بأس بها، ثم إن بوبر يرى القضايا العمومية التجريبية علما؛ لأنها قابلة للتفنيد بواسطة الخبرة، بينما القضايا الوجودية غير المحددة ليست علما، في حين أنها أيضا قابلة للتفنيد، ومن ناحية أخرى فإن تفنيد أي قانون أو فرض هو بدوره تأسيس لقضية وجودية غير محددة.
78
ولقد استشهد نيل باكتشاف البروفسور أندرسون
Anderson
للبوزيترون
إذ اتخذت دعواه في البداية صورة اعتبارات لشكل مسار الجسيم على لوحة فوتوغرافية معينة، إلا أن ما قرره أندرسون هو القضية الوجودية غير المحددة بأن هناك مع كتلة الإلكترونات جسيمات موجبة الشحنة، وهذا هو ما اعتبره زملاؤه بحق أهم إسهاماته في الفيزياء،
79
فلقد قرر وجود جسيم لم يكن معروفا إلا تبعا لمعادلات ديراك التي كان أندرسون يجهلها، فإذا كان لأية فلسفة في العلم أن تستبعد هذا الإنجاز العظيم، فإن ذلك يضرها هي.
80
وفي رد بوبر على نيل، قال: إنه أخطأ لأنه تصور أن القابلية للتكذيب، وبالتالي السمة العلمية، مقصورة على القضايا العمومية،
81
ونيل فعلا بدأ نقده بمسلمة هي أن هدف بوبر الأساسي هو تمييز القضايا العمومية للعلوم الحقيقية،
82
في حين أن بوبر ناقض أيضا العبارات الأساسية وجعلها موضعا للبحث والاختبار.
ويبدو أن نيل لم يأخذ في اعتباره الصورة المنطقية لمختلف العبارات العلمية في تسلسل الاستنباط التكذيبي، وأيضا في تسلسل نسق العلم، فهو يقول: إن العبارات الوجودية غير المحددة قابلة للتفنيد، لكنها تقبله بالمعنى المبهم الذي لا علاقة له بفلسفة العلم كما تقبله نصائح السيدة العجوز أو أيديولوجية اليوجا، لا بالصورة النسقية المنطقية التي طرحها بوبر لتمييز العلم، ففي هذه الصورة لا بد أن تكون المقدمة الكبرى عمومية كلية والمقدمات الصغرى وجودية محددة، وإلا انتفى الانضباط المنطقي، ثم إن نيل اقتطع عبارات معينة من تسلسلها لتعبر بصورة خاطئة عن نقده، فتقرير أندرسون عن البوزيترون يدخل في نسق العلم التركيبي لبنية الذرة، وأصبح لهذا الفرض تحديد معين في هذه البنية، بحيث يمكن تعيين العبارات الأساسية التي تحدد هذه العبارة.
أما ما أورده على لسان عالم بيولوجي فقد يصلح لتزجية أوقات وليام نيل مع صديقه البيولوجي، لكن لن يدخل في نسق العلم إلا إذا أتانا العالم بالشواهد التجريبية البينة التي تعزز القول بوجود أسماك ذات رئة؛ أي لا بد من عبارات أساسية تحدد هذه العبارة الوجودية ، فتتمكن من دخول نسق العلم، ونتمكن نحن من رد نقد وليام نيل، إذ إن العبارة الوجودية لن تدخل نسق العلم إلا إذا كانت محددة. (6) وفي زمرة المناطقة المعترضين، يدخل التجريبي المنطقي والاستقرائي المتعصب هانز رايشنباخ، وينصب اعتراض رايشنباخ على الجانب الاستنباطي للتكذيب، ويتلخص نقده في أن بوبر قد أغفل جوانب هامة تميز بين الاستدلال الاستنباطي وبين الاستدلال الاستقرائي، فبينما نجد النتيجة في الاستنباط متضمنة منطقيا في المقدمات، نجد الأمر بخلاف هذا في العلوم الطبيعية، ثم إننا قد نصل إلى نتيجة كاذبة على الرغم من صدق المقدمات؛ لذلك لا يمكن موافقة بوبر على وضع النظريات في نسق استنباطي؛ لأن الأساس الذي يتوقف عليه قبول النظرية ليس الاستدلال من النظرية إلى الوقائع، إنما هو العكس، الاستدلال من الوقائع المعطاة إلى النظرية، وقد اعترض رايشنباخ أيضا على اعتبار النظريات العلمية افتراضات حدسية
Conjectures ، وقال: إن بوبر قد أساء فهم سيكولوجية العالم؛ لأنه لن يقدم افتراضه الحدسي إلا إذا أيده بالوقائع التجريبية، ثم إن تبرير بوبر للنظرية على أساس الوقائع - فيما أسماه بالتعزيز - لهو الاستقراء الحقيقي.
83
أولا رايشنباخ لا يهدف إلا إلى الانتهاء إلى أن الاستقراء هو منهج العلم الذي لا منهج سواه فإذا كان لا يريد بعد كل هذا الاقتناع بأن الاستقراء خرافة، فهذا شأنه، وعلينا الآن أن نناقش أوجه القصور التي ألحقها بالمعيار.
أما عن موازنته بين الاستدلال الاستنباطي والاستدلال الاستقرائي، وحكمه بأن الأول غير صالح للعلم، فقد قال أحد الباحثين ردا عليه: «إن رايشنباخ في نقده لبوبر، لم يتبين المعنى الذي قصد إليه من الاستنباط؛ لأن بوبر لم يكن بصدد الحديث عن الاستنباط الصوري
Formal Deduction
الذي يضمر في مقدماته النتائج؛ وبالتالي لا تفيد النتيجة شيئا جديدا، أكثر مما تفيده المقدمات، بل إن بوبر يقصد إلى نوع آخر من الاستنباط الذي يكشف عن حقائق جديدة حين ننتقل من مقدمات معلومة إلى نتائج لم تكن معلومة، وهذه النتائج تفيد علما جديدا.»
84
هو تنبؤات النظرية.
وأما عن اعتراضه الواهي بأن هذا النوع من الاستنباط يمكن أن يؤدي إلى نتائج كاذبة رغم صدق المقدمات، فإننا نحيله إلى مقال بوبر «أسس جديدة للمنطق»؛ حيث بدأ بطرح المشكلة الأساسية في المنطق وهي: كيف يمكن تمييز الاستدلال الصحيح
Valid inference
عن الاستدلال غير الصحيح؟ وفي الإجابة على هذا، عرف بوبر الاستدلال الصحيح نفس تعريف تارسكي، وهو: الاستدلال الذي - في أية صورة من الصور نبنيه، وفي أي تأويل له - لا بد أن يفضي بنا إلى استنتاجات صادقة إذا كانت المقدمات صادقة، فمثلا إذا سلمنا ب: «ق» و«ك» لتوصلنا إلى «ك»، هذا استدلال صحيح؛ لأننا لو أحللنا أية قضايا صادقة محل «ق» و«ك»، فإن نتائج الاستدلال لا بد أن تكون صادقة، حتى ولو غيرنا صورة الاستدلال فقلنا مثلا: إذا كان لدينا «ك» و«ق» لتوصلنا إلى «ق».
85
وواضح أن بوبر يعطينا أنموذجا لاستدلال تافه جدا
trivial
وبوبر أعطانا إياه عامدا متعمدا؛ لأنه لا يحتاج إلى أية افتراضات أو تسليمات مسبقة، وبوبر يريد أن ينتهي في النهاية إلى منطق يبدأ من مثل هذه الاستدلالات سائرا بالتدريج إلى أعقدها وأكثرها تركيبا، حتى ينتهي إلى منطق بلا أية افتراضات،
86
والمثل تماما فعله بوبر بنسق الرياضيات البحتة.
87 ⋆
وبعد كل هذا، وما سلف في سياق البحث، لا غبار على اعتبار الاستنباط هو منهج العلم بدلا من الاستقراء رايشنباخ، وأما عن اعتبار العلم افتراضات حدسية، فالأمر لا علاقة له بسيكولوجية العالم، بل بطبيعة النظرية العلمية المستحيلة اليقين، القابلة دوما للتكذيب أي المؤقتة، وهي لهذا افتراضية، ثم إن بوبر لم يبرر النظرية بالوقائع، بل استهجن بشدة مطلب التبرير، وقال: إنه لا محل له إطلاقا في منطق العلم الحديث، إن ما يطلبه بوبر من النظرية هو التعزيز، وقد أوضحنا في موضعه، أن التعزيز لا علاقة له البتة، لا بالتبرير ولا بالاستقراء. (7) وثمة نقد دقيق أيضا للباحث ب. بيرنايز، فقد اعترض على المعيار اعتراضا مؤداه أن القابلية للتكذيب ليست هي أساس منهج العلم، ولا هي معيار العلم المميز، فعلى الرغم من التطورات العظمى التي أحدثتها تطورات العلوم التجريبية على نظرتنا لمكونات المادة وطبيعة الضوء، وطبيعة القوانين الفيزيائية، ومبدأ السببية، بل وحتى الزمان والمكان؛ على الرغم من هذا فهناك قوانين عديدة من مستوى عمومية منخفض، تظل دائما على قوتها منذ لحظة اكتشافها، وإن كانت تأويلاتها تختلف من نظرية عمومية
universal
لأخرى، من أمثال هذه القوانين، قوانين كسر الأشعة الضوئية وانعكاسها، وقوانين الديناميكيا الحرارية، وقوانين التحليل الطيفي.
ثم إن الاختبار ليس له دائما سمة البحث عن التفنيد، وليس كل من يضع نظرية جديدة يعارض النظرية الشائعة ويحاول أن يوضح كذبها، وحقا تفنيد نظرية قد يكون انتصارا لنظرية جديدة، لكن الاختبارات التجريبية للنتائج المنطقية التي تلزم عن النظرية، لا تجري دائما بتلك الروح العدائية المتشائمة التي يصفها بوبر بقوله: «نحاول على قدر المستطاع التخلص منها»، وليست التطورات الهامة هي فقط بالتعرف على خطأ النظريات، ولكن أيضا بالثقة في نظريات كنا نأخذ بها بتهيب، والنظرية ليست بالضرورة ستتصادم مع الواقع، بل يمكن أن تدهشنا بتوافقها معه، كتوافق جميع الظواهر التي تحدث على الأرض وفي الفلك مع تقديرنا لسرعة الضوء مثلا، ثم إن المناقشة العقلانية ليست بأسرها النقد فقط، وبوبر نفسه قد أوضح أن الإلمام بموقف المشكلة من أهم عناصر هذه المناقشة.
88
إن خلاصة اعتراض بيرنايز على منطق التكذيب هو أنه يرسم للتقدم العلمي صورة عدوانية متشائمة، ولكل ينزع إلى تكذيب الآخرين، وكأنه حرب ضروس، كل كشف علمي جديد لا يأتي إلا على أشلاء الكشوف الأخرى، وبوبر بهذا يسحب عن العلم طابعه التعاوني الجمعي الذي يميزه عن الفن مثلا، والذي يؤكد عليه بيرنايز، كما يؤكد على أن بعض الكشوف العلمية ذات مستوى العمومية المنخفض تبقى ثابتة، وأن النظرية الجديدة تأتي على أكتاف النظريات الأخرى وليس على أنقاضها، أما عن أنها قد تتوافق مع الواقع، فيمكن أن نقول لبيرنايز: إنها قد تعزز؛ وبالتالي لا يكون هنا اختلاف بينه وبين بوبر.
لكن المهم أن نناقش الآن: أي الصورتين هي الأصوب: صورة بيرنايز التعاونية أم صورة بوبر التكذيبية؟ لكي نفصل القول يجمل بنا اقتطاع قطاع موجز يوضح كيفية التواتر العلمي بين النظريات، ليرينا أي النظريتين هي الأصوب، وليكن قطاعا من أكثر العلوم تقدما أي الفيزياء النووية.
بدأ هذا العلم بالافتراض الديمقريطي الدالتوني المندليفي، الذي يدعم نظرية نيوتن والقائل: إن المادة مكونة من ذرات غير قابلة للانقسام، وأول خطوة حاسمة تمت على يد جوزيف جون طومسون، فبدراسته لأشعة الكاثود، أظهر أنها تدفق الإلكترونات حاملة الشحنات الأحادية السالبة، وبعد ذلك قاس علاقة الشحنة بالكتلة، وأخيرا كتلة الإلكترونات، فكان هو الذي اكتشف أول ما عرف من جسيمات الذرة: الإلكترون، فحطم القاعدة القائلة: إن الذرة غير قابلة للانشطار، وأثبت وجود جسيمات أخرى أصغر منها وتدخل في تكوينها، ثم تعاون معه «روزفورد»، وعكفا على دراسة طبيعة الإشعاع الذي اكتشف حديثا، فتمكن «روزفورد» من إثبات أن الإشعاع الذري غير متجانس ويتكون على أقل الفروض من مكونين هما جسيمات بيتا الخفيفة، وجسيمات ألفا الثقيلة ذات الشحنة الموجبة،
89 ⋆
وبتعاون روزفورد مع مارسدين - حفيد تشارلز دارون - توصلا إلى أن مركز الذرة شبه الخالي تربض فيه النواة ذات الشحنة الموجبة وهي أصغر من الذرة نفسها بمائة ألف مرة، ومحاطة بحاجز كهربي منيع، ولما كان القانون القائل: إن إكساب البروتون طاقة مقدارها ميجا إلكترون - فولت واحد فقط، يمكنه من اجتياز الحاجز الكهربي، غير معروف في وقت روزفورد ولا كان المعجل معروفا، فقد كانت هذه مشكلة كبيرة: كيف يمكن اجتياز الحاجز الكهربي للنواة، وتمكن مارسدين من حلها باقتراح الابتداء من نويات
90 ⋆
أخف العناصر، أي الأيدروجين؛ لأن شحنتها أخف وبالتالي حمايتها أضعف؛ لذلك أطلق جسيمات ألفا على مستودع خاص مملوء بالأيدروجين، وتوصل إلى أنها تعطي طاقة لنويات الأيدروجين؛ إذ إن وميضها يظهر أمامه على الشاشة، ولكن كلما ملأ مارسدين المستودع بمادة أخرى - الأزوت مثلا - ظهرت نويات الأيدروجين على الشاشة أيضا، فلماذا؟ هل المستودع لم ينظف جيدا؟ أخذ روزفورد هذا التساؤل وراح يبحث فيه، ولما تأكد من نظافة المستودع راحت الومضات تظهر مرة أخرى على الشاشة، فأدرك أنه وجد الجسيم ذا الشحنة الموجبة، الذي يدخل في تركيب كل النويات الذرية، أي البروتون، فدخلت هذه اللبنة الجديدة في تركيب الذرة.
ثم لاحظ الفيزيائيان الألمانيان والتر بوتيه وبيكر، بواسطة عداد جيجر جسيمات جديدة غير معروفة انطلقت من نويات البيرليوم، فاهتم الفيزيائيان الفرنسيان، الزوجان: إيرين كوري، وفردريك جوليو بدراسة إشعاع البيرليوم، لكنهما لم ينتهيا سوى إلى تكرار استنتاج كان قد انتهى إليه زميلاهما الألمانيان، وهو: أشعة جاما تتغلغل بصورة خارقة للعادة، ولم يكن من الممكن الرضا بهذا؛ لأنه يخل بقانون بقاء الطاقة.
فكان تشيدويك هو الذي تمكن من تحديد جسيم جديد يحل المشكلة، وهو جسيم ثقيل متعادل: النيوترون، وبظهور النيوترونات التي يمكنها بشكل مضمون أن تقاوم قوى التنافر الكهروستاتيكية، طردت الإلكترونات من النواة إلى الأبد، وأصبحت النواة مكونة من البروتونات والنيوترونات، وأصبحا - البروتونات والنيوترونات - معا يسميان النيوكلونات، لكن ما الذي يثبتهما معا في النواة؟ كانت إجابة روزفورد على هذا السؤال قد مكنته من تحطيم النواة عام 1924م، باكتشاف قوى جديدة في الطبيعة هي القوى الكهرومغناطيسية، وكانت القوى النووية من أشد المواضيع تعقيدا وصعوبة وأكثرها بذلا للوقت والجهد في تاريخ العلم على وجه الإطلاق، وسار البحث فيها مع إيفانينكو، الذي راح يعمل بأفكاره الياباني هيديكي يوكاوا، فوجه الأنظار إلى أهمية الإشعاعات الكونية، فوجد العلماء جسيما جديدا أسماه يوكاوا: الميزون (من: الميزوس أي متوسط باللغة الإغريقية)؛ لأن كتلته متوسطة بين كتلة الإلكترون والبروتون، ثم أسموه فيما بعد ميو-ميزون، واكتشفوا له خصائص فيزيائية مدهشة، ثم اكتشف السويسري فولفجانج باولي جسيما جديدا هو النيوترنيو، ومعنى الاسم شيء صغير متعادل، ثم اكتشف أندرسون البوزتيرون، وهو يكاد يكون نسخة من الإلكترون، ولكنه ذو شحنة كهربية معكوسة الإشارة، وقد فتح اكتشاف البوزيترون الطريق أمام العالم النظري بول ديراك في كمبردج بالتنبؤ بضديدات الجسيمات، فظهرت خاصية جديدة للمادة هي إمكانية تحويلها من الشكل الوزني إلى شكل الطاقة، وبعد مرور ربع قرن من تنبؤ ديراك، اكتشف مجموعة من العلماء الأمريكيين برئاسة أمبيليو سيجريد وأوين تشمبرلين ضديد البروتون، ثم اكتشف العلماء أن الإلكترون والبوزيترون يقضي كل منهما على الآخر عند التقائهما، فكتلة كلا الجسمين قد تحولت إلى الطاقة التي وضع آينشتين معادلة تحسبها بأنها الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء، وتم بعد ذلك اكتشاف جسيمات أخرى مثل الكا-ميرون والهيبرون،
91
وقد يكتشف العلماء في الغد جسيمات أخرى.
والآن هل يبرهن هذا النموذج على نظرة بوبر التكذيبية، أم على نظرة بيرنايز التعاونية؟ لعل النظرة الأولى تؤيد بيرنايز، فيتعاون طومسون مع روزفورد، بدلا من أن يكذب أحدهما الآخر، وجاء مارسدين ليكمل ما أنجزاه، ثم أضاف تشدويك جديدا إلى البناء بدلا من أن يفند، وبالمثل فعل باولي وأندرسون ... وهكذا.
لكن النظرة الأعمق ترينا أن طومسون «هادئ لا يتمتع بروح النشاط والاندفاع اللازمة لمن يطيح بالأسس.»
92
أسس الفيزياء الكلاسيكية، ومع هذا كان هو الذي ضرب المعول الأول في هدم هذه الأسس؛ لأنه عالم أصيل، ثم أوضح روزفورد قصور نظريته، ثم جاء مارسدن ليثبت خطأ نظريتهما، وأن الذرة لها نواة لا بد من اختراق حاجزها الكهربي وبالمثل تماما كان كل عالم يكتشف جسيما جديدا، يعني كشفه خطأ البناء المعرفي السابق إذا كان ينقصه هذا الجسيم، إن التكذيب لا يعني إطلاقا الإطاحة بالبناء برمته، بل يعني التوصل إلى صورة جديدة أكمل، تبدو الصورة السابقة بجوارها قاصرة، أي مفندة لأن منطق التكذيب لا يعني الهدم، بل البناء على ما فات، وما فتئ بوبر يؤكد أن بناء هذه الصورة الجديدة لن يتأتى إلا بعد الإحاطة التامة بالبناء القائم «لكن لم يحدث أبدا أن أفضت خبرة قديمة إلى نتائج جديدة، كل ما يحدث هو أن خبرات جديدة تسقط نظرية قديمة، وهذه النظرية القديمة، حتى بعد أن تغلبت عليها نظرية أخرى، تظل محتفظة بصحتها، ولكن فقط كحالة محدودة للنظرية الجديدة، فالنظرية الجديدة تحكم هذه الحالة بجوار حالات أخرى.»
93
بتعبير آخر نقول بشيء من التجاوز: «ليس المطلوب التسليم بخطأ الحقيقة السالفة، بل الاعتراف بأنها حقيقة جزئية.»
94
في مثالنا المطروح، تكون النظرية الجديدة محتوية على الجسيم السالف، لكن بجوار جسيم أو جسيمات أخرى؛ لذلك تتميز برجحان الصدق عن سابقتها، فتتمكن إذن من تكذيبها، وهذا ما سبق أن عبر عنه جاستون بشلار؛ إذ قال: «إذا ألقينا نظرة عامة على العلاقات الإبستمولوجية بين علم الفيزياء المعاصرة وبين العلم النيوتني، رأينا أنه ليس ثمة نمو ينطلق من المذاهب القديمة شطر المذاهب الجديدة، بل وجدنا بالأحرى احتواء الأفكار الجديدة للأفكار القديمة، إن الأجيال الروحية تعمل وفق أسلوب قوامه ضم التجارب المتعاقبة بعضها إلى بعض وتداخلها، وبين الفكر اللانيوتني والفكر النيوتني لا يقوم تناقض بل تقلص وإرغام، وهذا التقلص هو الذي يتيح لنا أن نجد الظاهرة مقتضبة في قلب الوجود المطلق (النومن) الذي يغلفها، وأن نجد الحال الخاصة في الحال العامة، من غير أن يستطيع الخاص البتة أن يستدعي العام.»
95
وأساس كل هذا هو النظرية الثورية في التقدم العلمي، التي ترى في كل إنجاز ثورة تطيح بالقديم وتحل محله، ويبدو أن بيرنايز يأخذ بالنظرية التراكمية وإن لم يكن قد صرح بهذا، ولكنه صرح بأنه يصوب أنظاره شطر القوانين ذات مستوى العمومية المنخفض، وهي بطبيعتها لا تقبل التكذيب بدرجة عالية؛ لأنها ذات محتوى معرفي منخفض، ولأنها لا تتطلب الكثير من الجرأة، ولكن بيرنايز نفسه أوضح أن تأويلات هذه القوانين تختلف من نظرية كلية إلى أخرى، وهنا يتضح الفارق الكبير بينه وبين بوبر الذي لا يصوب أنظاره إلا شطر الفيزياء البحتة، وإلى النظريات العمومية الكلية، وحينما يفلسف بوبر العلم، لا يأخذ في اعتباره نتيجة جزئية أضيفت إلى الجزئيات الأخرى، بل ينظر إلى البناء الكلي بعد أن أضيفت إليه هذه النتيجة فيراه أشمل وأكمل من بناء الأمس، فيكون بناء الأمس مكذبا مفندا، بمعنى أننا توصلنا إلى ما هو أفضل منه وأكثر اقترابا من الصدق، وليس بمعنى أن كل ما فيه خطأ، وإلا كان هراء وليس علما، ولما كانت الفلسفة بطبيعتها، ينبغي أن تكون هي النظرة الكلية، كانت نظرة بوبر هي الأصوب من نظرية بيرنايز، وليس معيار القابلية للتكذيب قاصرا؛ لأنه عدواني كما تصور. (3) مقارنة معيار القابلية للتكذيب بمعايير الوضعية (1) أهم أوجه مناقشة معيار القابلية للتكذيب، هو المقارنة بينه وبين معايير الوضعية وعلى وجه الخصوص المعيار الأساسي؛ أي التحقق ؛ نظرا لشيوع الخطأ الكبير، خطأ اعتبار التكذيب مجرد وضع التحقق في صور نافية كي تتلافى أخطاءه، وتتجنب صعوباته، وهذا خطأ عظيم: تاريخيا ومنطقيا وفلسفيا، والقول السليم هو أن معيار القابلية للتكذيب لا علاقة له البتة بمعايير الوضعية، تماما كما أن فلسفة بوبر لا علاقة لها البتة بفلسفة الوضعية المنطقية؛ إذ إنها تقف تماما على الطرف المقابل لها، كما أثبت الباب السابق. (2) أما عن كونه خطأ تاريخيا، فذلك أن بوبر قد توصل إلى معيار القابلية للتكذيب، وهو في السابعة عشرة من عمره عام 1919م، أي قبل أن تتشكل فلسفة دائرة فيينا أصلا، وحتى بعد أن تشكلت، فإنها ظلت خافية على بوبر ، وهو يقول: إنها ظلت بالنسبة له كالجماعة السرية لا يدري عنها شيئا،
96
ويؤكد فيكتور كرافت هذا فيقول: إن بوبر حين بدأ اتصاله بأعضاء الدائرة في أواخر العشرينات من هذا القرن، كان اتجاهه المعادي لهم متشكلا بالفعل، فبدأ بتحديهم ومواجهتهم،
97
أي إن أفكاره - وأولها زمانيا معيار القابلية للتكذيب - كانت محددة سلفا.
إذن من الناحية الزمانية، يستحيل أن يكون التكذيب مجرد نفي للتحقق؛ لأن بوبر قد توصل إليه قبل أن يدري هو - وقبل أن يدري أحد - ما هو معيار التحقق الوضعي. (3) وأما عن كونه خطأ منطقيا؛ فذلك نظرا للحجة التي تكررت كثيرا في سياق البحث لأنها الأساس المنطقي لنظرية بوبر في العلم، ويجب أن تتكرر الآن مرة أخرى، وهي اللاتماثل المنطقي بين التحقيق والتكذيب، فملايين الوقائع المؤيدة لا يمكن منطقيا أن تحقق النظرية وإلا برزت مشكلة الاستقراء، في حين أن قبول واقعة نافية واحدة، تكذب النظرية بصفة منطقية حاسمة نهائية، إذن تكذيب النظرية سليم منطقيا، وليس التحقق هكذا؛ وبالتالي تكون القابلية للتكذيب معيارا سليما منطقيا، وليست القابلية للتحقق هكذا.
وهذا اللاتماثل المنطقي كان أساس تفوق القابلية للتكذيب ونجاحها، فبينما لا يستطيع معيار التحقق استبعاد تحصيلات الحاصل مثل «إما أن تمطر السماء أو لا تمطر.» في الوقت الذي يستبعد فيه قوانين العلم الكلية، مما جعل شليك يعتبرها على مضض مجرد أداة لاستنباط العبارات الجزئية والأساسية، مما جعلهم في النهاية يلقون بها في نفس الهوة السحيقة التي ألقوا فيها بالميتافيزيقا ... إلى آخر المشاكل التي رأيناها، بينما كان هذا مآل معايير الوضعية، نجد القابلية للتكذيب تستبعد تحصيلات الحاصل، وتنطبق أول ما تنطبق على قوانين العلم الطبيعي ونظرياته العمومية الكلية ... باختصار لأن التكذيب أسلم منطقيا كانت نتيجته عددا من الثمار الخصيبة
98
مثل حل مشكلة الاستقراء، ورسم الصورة السليمة لمنهج العلم على أساس القابلية للاختبار والمحتوى المعرفي، وطابعه النقدي، والنظرية الثورية التي تزيد من شحنات التقدم العلمي ... إلى آخر مضمون هذا البحث، بينما أنتج التحقق الدورانات المنطقية والمشاكل التي لا تجد حلا. (4) وأما عن كونه خطأ فلسفيا ؛ فذلك لأن التحقق مبدأ لفلسفة لغوية وهكذا سائر معايير الوضعية، أما التكذيب فهو مبدأ لفلسفة معرفية،
99
فالتحقق يبحث في الخاصة اللغوية للعبارات، خاصة اقتصارها على التعبير عن الواقع التجريبي، أما التكذيب فيبحث في المحتوى المعرفي للنظريات.
ذلك أن التحقق وسائر معايير الوضعية هي أساس نظريات في المعنى، تفصل فصلا قاطعا بين العبارات ذات المعنى والعبارات التي تخلو من المعنى، والوضعي المنطقي هربرت هيجل في مقال له عن فلسفتهم، التي هي لغوية، طرح معاييرهم «التحقق والاختبار والتأييد» تحت عنوان «معيار المعنى الدال على واقع»،
100 ⋆
أما التكذيب فلا يدعي على وجه الإطلاق أية سلطة على المعنى أو أدنى اهتمام به، ولقد انتقد بوبر بعنف فكرة المعنى كمعيار للتمييز واعتبرها خرافة،
101
واعتبر كل حديث عن المعنى لغوا يخلو من المعنى، وحقا أن فتجنشتين كان هو الذي أثار مشكلة المعيار
في الفلسفة الأنجلوسكسونية،
102
لكن بوبر بدوره يميز بين مشكلة المعيار الزائفة: معيار المعنى، وبين مشكلة المعيار الحقيقية الأصيلة: معيار العلم،
103
وقد وضع القابلية للتكذيب لتمييز العبارات العلمية، وقد تكون عبارة ما غير قابلة للتكذيب، أي لاعلمية، ولكنها ذات معنى مثلا «الله موجود.» هي بالتحقق غير علمية وغير ذات معنى، أما بالقابلية للتكذيب فهي غير علمية، ولكنها ذات معنى قد تكون كاذبة، لكنها أيضا قد تكون صادقة، بل وأقرب إلى الصدق من أية عبارة علمية أخرى قابلة للتكذيب،
104
والمثال الأوضح هو المثال القياسي الدارج في أحاديث الوضعية على خلو العبارة الميتافيزيقية من المعنى، وهو «المطلق كامل»
The absolute is Perfect ، يناقش بوبر هذه العبارة فيقول: إنها ليست خالية من المعنى، رغم أنها ليست قابلة للتكذيب؛ لأنهم يقصدون بها أن العالم إذا فهمناه فهما سليما هو الأفضل؛ لأن الأفضل هو الكامل، والكامل هو تصور عقلاني محض لا تحده حدود منطقية أو واقعية، وهذا في رأي بوبر خطأ؛ لأن العبارة «العالم الذي يحوي التكتلات السياسية والعذاب والحروب ليس كاملا» هي عبارة صادقة، ونفيها إذن كاذب، يمكن منطقيا أن يكون العالم الذي لا يحوي هذه الآلام كاملا، وليس المطلق إذن هو الكامل أو هو فقط الكامل؛ ومن ثم تكون هذه العبارة الميتافيزيقية خطأ، لكنها ليست بغير معنى.
105
إن التحقق يرسم خطا حول المعنى، أما القابلية للتكذيب فترسم خطا داخل نطاق المعنى،
106
خطا يميز بين نوعين من القضايا ذات المعنى: قضايا العلم وقضايا اللاعلم، ولأن بوبر كما ذكرنا لم يكن أبدا معنيا بمشكلة المعنى، والفارق الكبير بينهما - كما أوضحنا - هو أن مشكلة المعنى تهم فلسفة لغوية، أما مشكلة التمييز فتهم فلسفة معرفية،
107
وبناء على هذا وجدنا التحقق لا يدعي تمييز العبارات العلمية فحسب، بل وأيضا المفاهيم العلمية، أما القابلية للتكذيب فلا شأن لها إطلاقا بالمفاهيم والألفاظ؛ لأنها لا شأن لها بالمعنى وفلسفة اللغة التي حاربها بوبر بشدة في الباب السابق.
ورغم كل ذلك أقيمت كثير من الانتقادات التي وجهت لمعيار القابلية للتكذيب على أساس فكرة المعنى، بل وإن كارناب يقول عن المعيار: إنه مجرد صورة معكوسة لنظرية التحقق في المعنى؛
108
وذلك لأن الوضعيين قد استعملوا التحقق كمعيار للمعنى، وأيضا لتمييز العلم، وهذا جعلهم صما وعميانا عن أن بوبر قد استعمل القابلية للتكذيب كمعيار لتمييز العلم فقط، وليس أبدا كمعيار للمعنى.
109
وأخيرا نجد بيتر بيرنايز يؤكد أن السبب الأساسي الذي جعل القابلية للتكذيب متميزة ومتفوقة على التحقق ومتفادية أخطاءه ومحققة أهدافها، هو أنها مستقلة تماما عن أي سؤال له أية علاقة بالمعنى.
110 (5) ونظرا للفقرة السابقة من ناحية، ولطبيعة الفلسفة اللغوية التحليلية في وضع تعريفات من ناحية أخرى، يمكن القول: إن معايير الوضعية - التي هي كشف لصميم طبيعة العلم - هي محاولة وضع تعريف للعلم، أما بوبر فقد رأيناه ينتقد بشدة منزع الوضعيين إلى التعريف، فهو «يكره فكرة التعريف بشدة على حد تعبيره، ويرى بوبر أن محاولة حل مشاكل العلم أو الفلسفة أجدى كثيرا من محاولة وضع تعريف لهما؛ لذلك فهو لا يقدم معياره كتعريف للعلم؛ إذ من الممكن أن يقترح أحد تعريفا آخر كما يقول: إن العلم هو الخلاصة النهائية من العبارات.»
111
وهذا هو الرأي الذي يؤكده لندبيرج
LundBerg
مثلا، فيقول: إن محتوى العلم في شكله الناضج ليس إلا مجموعة القضايا التي تأكدت صحتها،
112
وأية مناقشة لمثل هذا التعريف أو لغيره، أو لمحاولة دحضه وتبيان تفرق القابلية للتكذيب عليه ستكون عقيمة بل ومضرة؛ إذ ستطوح بنا بعيدا عن المشكلة الأساسية؛ أي تمييز المعرفة العلمية؛ لذلك فإن بوبر يقدم بتواضع معياره فقط كاقتراح لتمييز العلم الطبيعي،
113
وصياغة تشخيص مناسب له، يحدد مفهوما مناسبا؛ كي نتمكن على أساسه من الحكم على نسق من العبارات، هل ندرسه كمنتم إلى العلم الطبيعي أم لا؟ إنه مجرد نظرية أو اقتراح لنقبله طالما لا نجد مبررا لرفضه، وقد نتوصل يوما إلى اقتراح أفضل منه، إن معيار القابلية للتكذيب لم يكن أبدا نظرية صادقة تنهي طريق النظريات التي تطرح لتمييز العلم، وذلك تبعا لاتجاه بوبر الإبستمولوجي العام، الذي يرى الطريق مفتوحا دوما أمام التقدم المعرفي، بحكم العنصر «م2» في الصياغة «م1
ح ح
أ أ
م2».
وقد كان هذا الفارق - في نظر بيتر مونز - أهم مواطن تفوق بوبر على الوضعيين وخصوصا على فتجنشتين وتداركه لأخطائهم،
114
فهم يفترضون صوابية آرائهم، بل وقطعيتها المأخوذة من قطعية قواعد المنطق. (6) ثم كان التحقق - وسائر معايير الوضعية - ضربة قاصمة فاصلة، تقسم الدنيا إلى قسمين: علم ولا علم؛ لأن العبارة إما أن تكون قابلة للتحقق أو غير قابلة له، وليس هناك أمر وسط، غير أن الأمر الواقع ليس هكذا؛ لأن ما كان بالأمس ميتافيزيقا قد يصبح في الغد علما، وليس هذا بنقلة حاسمة، بل بانتقالات مرحلية متموجة، ثم إن النظريات العلمية ليست كلها على قدم المساواة، وقد أخذت فلسفة بوبر كل هذا في الاعتبار، فرأينا النظريات تتفاوت في درجة قابليتها للتكذيب، مما يساعد العالم على المفاضلة بين مجموعة من الفروض كلها علمية مطروحة لحل نفس المشكلة، وهذا ما لا يستطيعه التحقق، أو بالأصح ما نجد التحقق فيه عديم الجدوى على الإطلاق؛ أي إنه لا يجدي في الممارسة العلمية شيئا، في حين أنه معيار لفلسفة تريد أن تجعل الدنيا المعرفية بأسرها خداما للعلم.
وحتى معيار القابلية للتأييد الذي وضع درجات له من أجل الممارسة العلمية، فإنه لا يجاري في هذا إطلاقا معيار القابلية للتكذيب الذي كان الحكم بتفاوت درجاته تقييما لمختلف الجوانب المنطقية للنظرية العلمية.
115 ⋆
وكل هذا أمر بدهي نتيجة لطبيعة الفلسفتين؛ إذ يقول بوبر: إنه حاول أن يرسم في ذهنه صورة عامة للعلم، ثم حاول البحث فيما يميزه، وهو عالم أن تمييزه سيكون بصورة عامة غير صارمة،
116
وهذا ما لا يمكن أن تقبله الفلسفة اللغوية، التي جعلت الوضعيين يظنون أنهم توصلوا إلى كشف في صميم طبائع الأشياء، وما فتئ بوبر يطور المعيار ويعدله ويكيفه ويستولد منه إمكانيات أكثر؛ لذلك جاء آير في مقاله «الفلسفة والمنهج العلمي» ليعيب على بوبر هذا، وينتقده لأنه لم يطرح معياره كضربة لازب، كما طرحوا هم معاييرهم، وبالطبع أبسط ما يقال في هذا: إنه نقطة لبوبر، وهو نقطة على الوضعيين. (7) وفضلا عن هذا لا نجد فارقا بين التحقق، وبين إمكانية التحقق، فهناك تكافؤ منطقي بين المتحقق والممكن التحقق، كلاهما علم وذو معنى، لا سيما وأنهم في الآونة الأخيرة استقروا على التحقق بالمعنى الضعيف، أي فقط إمكانية التحقق، وأيضا هناك تكافؤ بين الحكم على العبارة بأنها غير متحققة وغير قابلة للتحقق، هي في الحالتين لا علم وغير ذات معنى.
أما في معيار القابلية للتكذيب فالحال مختلف كثيرا:
عدم القابلية للتكذيب = لا علم.
عدم التكذيب = العلم الذي لم يثبت خطؤه بعد ؛ أي علمنا اليوم.
وبالتالي: القابلية للتكذيب = العلم.
والتكذيب = النظريات التي كانت وستزال علمية تجريبية، لكننا تبينا كذبها؛ أي خطأها، فتركناها ولجأنا إلى نظريات أخرى أفضل؛ أي أكثر اقترابا من الصدق.
من هذه الوجهة نلاحظ أن معيار القابلية للتكذيب، يتجنب خطأ التحقق العظيم في المطابقة بين التحقق من القضية وبين صدقها. (8) وأخيرا فإن معيار القابلية للتكذيب من ناحية، وسائر معايير الوضعية من ناحية أخرى يختلفان هدفا وغاية، وهذه هي أهم أوجه الخلاف قاطبة.
فالوضعيون لم يهدفوا لا بصدق ولا بنزاهة إلى تمييز العلم، بل إلى استبعاد الميتافيزيقا، ولم يعنوا بأن تميز معاييرهم العلوم الحقيقية عن العلوم الزائفة ، ولا حتى عن تحصيلات الحاصل بقدر ما عنوا بأن تستبعد الميتافيزيقا، فقد بدءوا عملهم بعقيدة قاطعة (دوجما) هي المحرك الأساسي لدائرة فيينا، وهي الاعتقاد بأن الميتافيزيقا ثرثرة فارغة، وأنها تقريرات لا هي بالصائبة ولا بالخاطئة، بل هي بلبلة بغير معنى، واعتقدوا أساسا أن القواعد النحوية الطبيعية للغة ذات المعنى تستبعد أي احتمال للحديث السليم نحويا عن أي شيء، بخلاف الوقائع التجريبية القابلة للملاحظة، فقد اعتقدوا أن الكلمة لا بد أن تشير إلى شيء مادي، وأن معنى الجملة واقعة تجريبية قابلة للتحقق؛
117
لذلك جعلوا هدفهم الأساسي بل والوحيد: استبعاد أي حديث يتجاوز هذا النطاق؛ لأنه سيكون في عرفهم ميتافيزيقا.
أما بوبر فقد رفض كل هذا بعنف وبتمكن، ولم ير هدف عمله أبدا كتحطيم للميتافيزيقا،
118
فهو شديد الإجلال لها، ولم يكن هدفه إلا تمييز العلم الحقيقي عن العلوم الزائفة، فاستنكار العلوم الزائفة، وليس استنكار الميتافيزيقا، هو دافع بوبر، وبعد أن وضع المعيار الذي يحقق هذه المهمة، قام بتوسيع نطاقه من مرحلة لاحقة ليشمل الميتافيزيقا أيضا.
119 (9) بقي موضع مقارنة يتعلق فقط بلغة العلم عند كارناب ونيوراث، على أساس أن جمل البروتوكول تلعب في هذه اللغة دورا مناظرا لدور العبارات الأساسية في منطق التكذيب، وقد شرح كارناب هذا التناظر بإسهاب في مقال له بمجلة المعرفة
Er Kenntis
عام 1933م.
وقد كانت جمل البروتوكول تجسيدا شديدا لتردي فلسفة العلم في مهاوي النزعة السيكولوجية، بحيث كانت سببا كافيا لرفض مشروع لغة العلم؛ لأنها لا تسمح فقط بالاتفاقات والاصطلاحات الذاتية، وإنما أيضا بالانحيازات الذاتية،
120
أما العبارات الأساسية، فقد كانت مصداقا لموضوعية المعرفة، فكان قرار قبولها قائما على مبادئ هي أصلا وفقط موضوعية؛ كي تؤدي إلى الاقتراب من الصدق بمفهومه الموضوعي، وأكد بوبر على أن معيارها الأخير هو إمكانية الاختبار بين الذوات، وأن مطلب الموضوعية يحتم أن تبقى كل عبارة علمية اختبارية إلى الأبد، وأنها قد تكون معززة، لكن التعزيز هو فقط بالنسبة لعبارات أساسية، هي مرة أخرى اختبارية وموضع بحث دائما،
121
هذا بينما ابتدع كارناب عددا من الحيل الفنية الفذة؛ ليوضح أن جمل البروتوكول فورية، وهي لذلك قطعية.
ثم إن بوبر قد عني باتخاذ القرار بشأن العبارات، الذي يوقف ارتدادها اللانهائي، «وكان لهذا أهمية كبرى في ترسيخ موقف بوبر، بينما ترك نيوراث هذا بطريقة تعسفية إذ يمكن حذف جمل البروتوكول المتناقضة أو تغيير النسق كي يتفق معها، وقد اضطر نيوراث نتيجة لهذا إلى التخلي عن تجريبيته على الرغم منه.»
122
بينما كانت العبارات الأساسية تأكيدا لتجريبية بوبر، كما كانت من قبل تأكيدا لموضوعيته. (10) يقول الدكتور ياسين خليل في أعقاب مناقشته لمعايير الوضعية لتمييز العلم: «إذا كانت مهمة الفلسفة إبعاد الميتافيزيقا عن المعرفة العلمية، فلا بد إذن من تثبيت معيار واضح نستطيع بواسطته أن نعرف أن هذه القضية علمية أو ميتافيزيقية، أما إذا بقيت المسألة معلقة، فإننا سنخاطر بكثير من القضايا المستخدمة في العلوم لاعتقادنا أنها ميتافيزيقية، بينما هي ليست كذلك فالمشكلة التي واجهت التجريبية المنطقية هي في إيجاد معيار للتمييز بين العلم والميتافيزيقا، ولم توفق في وضع معيار حتى الآن.»
123
لكن بوبر قد وفق في وضع معيار لا يستبعد الميتافيزيقا فحسب، بل وأيضا كل ما ليس علما إخباريا؛ لأنه بحق معيار للمعرفة العلمية.
وبعد كل هذا لا نحكم بأنه أفضل ألف ألف مرة من معايير الوضعية الفاشلة، ولا نأخذ في الاعتبار ما يتمتع به التحقق من شهرة، في حين أن الأغلبية لا تدري شيئا عن معيار القابلية للتكذيب القادر والراسخ والمكين، ولكن لعلها الآن - بعد رحلتنا الطويلة مع بوبر - قد أصبحت تدري.
الخاتمة
(1) بوبر كانط القرن العشرين
أول ما يقال في خاتمة الحديث عن بوبر: إنه بلا مراء كانط القرن العشرين؛ فقد سبق أن وضع كانط بذرة الموقف التجريبي النقدي في العصر الحديث،
1
وكانت فلسفته نقطة البداية لكل الفلسفات النقدية التجريبية،
2
وجاء بوبر ليسير على نهج السنن العظيمة التي اختطها كانط لفض النزاع الناشب أظفاره في بنية الإبستمولوجيا لدرجة تجعله يدخل في صميم تعريفها؛ أي النزاع بين المثالية والتجريبية، فالإبستمولوجيا منذ نشأتها مع الإغريق وحتى كانط تنقسم قسمين - كل قسم بالطبع داخله فروع - بينهما هوة عميقة لا سبيل إلى اجتيازها، أحدهما مثالي يقول: إن العقل هو المصدر الأوحد للمعرفة، والآخر مادي يقول: إن تجربة الحواس هي المصدر الأوحد للمعرفة، وليس هذا النزاع مقصورا على الإبستمولوجيا فحسب؛ إذ يمكن القول: إن المسألة الأساسية العظمى في كل فلسفة هي علاقة الفكر بالكائن، أو علاقة العقل بالطبيعة المادية، أيهما يسبق الآخر العقل أم الطبيعة، وطوال عهود الفلسفة كان يبدو أن الحل الوحيد المطروح هو أحد الجانبين دون الآخر، فإما الفكر لتكون المثالية، وإما الطبيعة لتكون المادية.
ولم يحاول أحد التوفيق بين الجانبين كما فعل كانط حين قال: إن العقل يساهم في المعرفة بالمقولات والمفاهيم، التي تملؤها تجربة الحواس بالحدوسات، فأدخل المثالية بهذا في صميم المعرفة بطريقة تجعلها تتفادى كل جنوحات المثالية؛ لأن المثالي ها هنا لم يعد له وجود أنطولوجي مستقل ولا كيان فردي قائم بذاته، بل هو مبدأ منظم ضروري لاستعمال التجربة، يكملها ويضفي عليها وحدة نسقية،
3
فلقد تبين كانط أن كل محاولة لإقامة حكم قبلي عن الأشياء لم تفز بطائل، مما دعا الفلاسفة خصوصا بعد ازدهار العلم الطبيعي، إلى تصور المعرفة وكأنها تقتفي أثر الأشياء، وأصبح التصور السائد هو أن الموضوع له كيان مستقل وهيكل ثابت يحاكيه الذهن في المعرفة محاكاة منفعلة سلبية، حتى جاء كانط ليؤكد أن الموضوعات لكي تعرف لنا لا بد أن تأتي موافقة للتصورات والمبادئ التي تملكها أذهاننا، والتي تضفي على الأشياء المشتتة وحدة ونظاما،
4
فأقام كانط بهذا الثورة الكوبرنيقية، حين تساءل: أترانا أسعد حظا لو أننا افترضنا أن الأشياء هي التي تقتفي أثر معرفتنا، شأننا في هذا شأن كوبرنيقوس حين تبين له عجزه عن تفسير حركات النجوم التي تدور حول المشاهد، فبحث: هل ترى يكون من الأفضل أن نفترض أن المشاهد هو الذي يدور وأن النجوم مستقرة، فقد نظر كانط إلى الطريقة التي نشأت بها الرياضة والفيزياء من حيث هما علمان على يد طاليس وجاليليو وتوريتشلي، فاستنتج أن الاتفاق بين الفكر والأشياء لا يفسر هكذا إذا اعتبرنا أن الأشياء هي التي يقتفي الفكر أثرها أو يرتب أمره بمقتضاها، بل على العكس من ذلك لا يمكن تصور هذا الاتفاق إلا إذا اعتبرنا أن الأشياء هي التي تقتفي أثر الفكر أو ترتب بمقتضاه، بحيث لا تكون الذات صورة مجردة أو قالبا محضا تكتسب الأشياء قسماته كي تندمج فيه، وتتخذ صورته، فالأمر لا يقف عند حد التسجيل والتقبل السلبي، وإنما هو في الحقيقة الاستجابة والرد والإنشاء الناشط البناء،
5
والنتيجة التي ننتهي إليها هي أن عقولنا لا تشتق القوانين من الطبيعة بل تفرضها عليها، فالعقل هو المشرع للأشياء، ولا ينبغي أن نلتمس في العالم الخارجي تفسيرا لقوانين الذهن، بل ينبغي العكس أن نلتمس في الذهن تفسيرا لقوانين العالم الخارجي؛ لأننا لا نستطيع أن نعرف الأشياء في ذاتها وبمعزل عن طرائقنا في المعرفة، وإنما الأشياء عندنا هي كما تتبدى لنا.
6
فكان كانط قد أوضح بهذا لبوبر أن المكونات العقلانية للتجربة تحدد حدود المذهب التجريبي،
7
مما جعله يقيم نظريته المنهجية على أساس أن العقل يقابل وقائع الطبيعة بفرض، كان قد توصل إليه سلفا، يحاول أن يفسرها، وإذا نجح - أي تم تعزيزه - فرض نفسه عليها مؤقتا، وكان بوبر بهذا مقوضا لخرافة الاستقراء، وقد سبق أن أشرنا إلى هذا الالتقاء بين بوبر وكانط،
8 ⋆
فبوبر نفسه يؤكد في كل موضع تأثره العميق بكانط واقتفائه لخطاه، ويمكن أن نجد بينهما نقاط التقاء أعمق، فكلاهما مادة دراسته المعرفة لا الوجود؛ أي إن كليهما إبستمولوجي لا أنطولوجي، وكلاهما خصم للأفكار الفطرية المجبولة في طبيعة العقل وداعية للحرية والسلام، لكن كل هذا لا ينفي وجود اختلافات جوهرية بينهما، أبرزها أن النقد عند بوبر هو النقد بمعناه الحرفي، أي الاختبار بهدف كشف الأخطاء، أما عند كانط فهو يعني سبر الإمكانيات والقدرات، فنقد العقل النظري هو امتحان لقيمة العقل نفسه من حيث استعماله النظري الذي يتوخى الحقيقة غاية له، ونقد العقل العملي هو امتحان لقيمة العقل من حيث إنه مدبر للعمل، وإن غايته ثبوت الأخلاقية،
9
كما أن التساؤلين اللذين قامت كل من الفلسفتين للإجابة عليهما مختلفان، فالعلم والأخلاق مشكلتان منفصلتان في فلسفة بوبر لا علاقة بينهما على وجه الإطلاق، اللهم إلا أن كليهما من مكونات العالم 3، بينما هما خطان متوازيان ومتجادلان في فكر كانط، فمنطوق المشكلة النقدية الكانطية هو: كيف كان العلم ممكنا؟ وكيف كانت الأخلاق ممكنة؟ وكيف كان الاتفاق بين العلم والأخلاق ممكنا؟ كيف، بمعنى على أي الأسس يقوم العلم والأخلاق بحيث يكونان مؤلفين من عناصر متناقضة في الظاهر، وقد قام كانط بتحليل عميق ليكشف المستور الذي يتم فيه الوفاق؛ إذ أراد أن يستخلص المطلق في العلم وفي الأخلاق من التجربة
10 (والمطلق هذا لا مكان له البتة في فلسفة بوبر التي هي علمية) فالتوفيق بين المثالية والمادية عند كانط يعني تفسير الجمع بين القطعية والتجريبية، كما جمعتهما نظرية نيوتن، فهكذا تصور كانط؛ مما جعل فكرة القانون الطبيعي التي أنشأها غير متفقة مع المعرفة في حالتها الراهنة، فقد جعلت للإجابة على هذا السؤال، كيف كان علم لطبيعة المطلق علما ممكنا؟ لكن هذا العلم المطلق لم نعد نعتقد أننا مالكوه،
11
بل أصبحنا على يقين بأننا لا يمكن أن نملكه، وهذا هو السبب الأساسي الذي جعل بناء كانط الشامخ محاولة قابعة في تاريخ الفلسفة، أما منهجه العظيم في التأليف التركيبي بين المثالية والتجريبية، فهو معجزته الفلسفية الباقية المتجددة دوما، والتي كان بوبر أقدر من استطاع تجديدها، بل وعلى أساس من استحالة قطعية قوانين الطبيعة، واعتبارها محض فروض يفترضها العقل، قد تكذبها وقائع التجريب لكن يستحيل أن تؤدي إليها استقرائيا، وتلغي عمل قوى العقل الخلاقة.
ثم إن الباحثة د. م. إميت
D. M. Emmet
قد أكدت على حاجتنا إلى كانط يحدد طبيعة التفكير الميتافيزيقي بالنسبة للتصورات العلمية الجديدة،
12
وبوبر قد استطاع هذا التحديد بأنه غير قابل للتكذيب الذي هو معيار العلم وتصوراته، أفلا يكون بوبر كانط العصر الحديث، مسارا ومنهجا وهدفا، وأيضا أملا منشودا، فقط كانط أكثر نجاحا. (2) تقييم الاتجاه العام لبوبر
وإذا كان بوبر قد سار على نهج كانط، ليحقق بنجاح الجمع بين المثالية والتجريبية الذي فشل فيه كانط بسبب تسليمه بقطعية الأحكام التجريبية وتأليفية الأحكام التحليلية، فإن هذا لا ينفي - بل يؤكد - أن بوبر عبقرية منطقية جبارة ذات أصالة، واستقالية نادرة الاستقالية هي أميز مميزات بوبر، إذا استثنينا من هذا التجاءه إلى تارسكي فيما يتعلق بالمفاهيم المنطقية ونظرية الصدق،
13
فقد أصبح من الواضح الآن أن فلسفة بوبر اتجاه عظيم أصيل مجدد متسق مترابط، يمثل إضافة حقيقية للفلسفة، وقبل أن يضيف ويبني يأخذ على عاتقه هدم الأوثان التي لا قبل لأحد بمعارضتها، وعلى رأس هاتيك الأوثان: الاستقراء، وقصر الفلسفة على التحليل اللغوي، ثم النظرة الذاتية للإبستمولوجيا والبحث عن احتمالية الصدق العالية، وتبرير النظريات العلمية بوصفها بناء قائما صادقا، ومتوصلا إلى ماهيات الأشياء وحقائقها ...
ثم كان الاتساق والترابط في فلسفته تأكيدا لدعواه إلى وحدة العلوم، وأن أية تجزئة من شأنها أن توقف تقدم العلم،
14
والتي أردفها بالدعوة إلى وحدة المناهج، فالنزاع بين المناهج، وتقسيم أرض العمل بينها بحيث يختص كل منهج بمباحث معينة يكون فيه الأكفأ يحتل شطرا عظيما من المناقشات الفلسفية، حتى في أخص خصائص الفلسفة كالأخلاق والجمال ما زال النقاش يدور حول منهجهما، أهو فلسفي تأملي أم علمي تجريبي؟ لم يعد أمامنا الآن منهج للعلوم وآخر للفلسفة، بل فقط منهج واحد ووحيد هو أسلوب لحل المشكلات، علينا فقط أن نتساءل: هل نتاج البحث إخبار عن الواقع، أم استكناه له أو تأويل أو وضع قيم عليا أو رسم غاية منشودة أو غير ذلك، والفيصل في هذا هو معيار القابلية للتكذيب الذي يكفل الإخبار عن الواقع، لقد كان فض النزاع بين المناهج محصلة منطقية لصياغة بوبر البارعة «م1
ح ح
أ أ
م2» والتي - بتعميمها على سائر الأنشطة - تجعل كل سلوكنا موجها لحل مشكلات بغير الوقوع في أسر البراجماتية التي تحيلنا إلى سماسرة تبحث فقط عن النافع والمفيد، وهذه الصياغة بدورها محصلة منطقية لاتساق بوبر وترابط فلسفته.
اتساق بوبر وترابطه، وهو عالم وفيلسوف ومفكر سياسي ومنطقي، هو الأنموذج الحي على دعواه بوحدة العلوم ووحدة المنهج، والتي أردفها بمحاربة التخصص.
وإذا كانت الاستقلالية أهم ما نسجله لبوبر، فإن أهم ما نسجله عليه هو جموده وثباته؛ إذ لا يمكن أن نجد تطورا له أو مراحل لتفكيره، فما يقوله الآن هو ما قاله منذ ثلاثين أو أربعين عاما، آراؤه الفلسفية واتجاهاته الفكرية في جوهرها ثابتة، لا تتغير إن قليلا وإن كثيرا، وكل ما يفعله في إخراج عمل جديد هو أن يضيف إثباتا جديدا أو برهانا جديدا لرأيه السابق، أو يستخرج منه نتيجة جديدة، أو يضيف معالجة جديدة لجانب آخر له، أو يعممه أكثر، أو يضيف تأريخا لفلسفة أو فيلسوف، تأريخا جديدا يثبت به وجهة نظره التي لا بد أن يكون قد قالها منذ عشرات السنين، ويقولها الآن، وسيظل يقولها إلى ما شاء الله؛ لذلك نجد أن «الملحق الكبير نسبيا، الذي ألحقه بالترجمة الإنجليزية «لمنطق الكشف العلمي» تحت عنوان: «بعد عشرين عاما» مجرد تراكم لحجج أكثر على دعاوى بوبر السابقة، وهو تراكم من شأنه أن يربك الباحث في فلسفته، إذن إنه محض تكرار وليس تبديلا أو تعديلا، فلم يختلف إطلاقا مع أي من دعاويه المطروحة من قبل في النسخة الألمانية».
15
بل وإن بوبر نفسه يخبرنا في سيرته الذاتية، أنه توصل إلى النظريات الأساسية المميزة لفلسفته، وهو دون العشرين من عمره، فأهمها وهو معيار القابلية للتكذيب توصل إليه وهو في السابعة عشرة، وعبثية الفلسفة اللغوية تراءت له وهو في الخامسة عشرة،
16
إننا لا نجد حتى المرحلتين اللتين رآهما هو في كل تفكير: أي إن التفكير الدوجماطيقي ثم التفكير النقدي، فقد بدأ بوبر نقديا عنيفا وهو لا يزال صبيا بلا بنية عقلية أو حصيلة معرفية، واستمر نقديا، وكل ما تفعله الأيام هو أن تزيد حدة نقده وحمية دعواه بضرورة النقد.
افتقادنا لأي تطور فكري لبوبر لا يعني أننا نريده كرسل مثلا، الذي قال عنه برود: «إننا نعلم جميعا كيف أن من عادة الأستاذ رسل أن يستحدث مذهبا فلسفيا جديدا كل بضع سنوات.»
17
فلا شك أن وحدة الاتجاه وثباته لها مميزاتها مثل قوة الرأي ، فشد ما يضعف الرأي هو التردد والتذبذب ووضوح الرؤية والتمكن والاقتناع الراسخ بما ينادي به، وهذا يدخل في نطاق الأمانة الفكرية، وأيضا يحمل آيات النبوغ المبكر، لكن لكل شيء حدودا معقولة، فكيف يبدو شيخ جاوز السبعين، وقضى كل هذا العمر الطويل في رحاب عالم العلم والفلسفة والمنطق، مناديا بنفس الآراء التي لاحت له وهو بعد صبي يافع، أفلا تغير خبرة السنين وتقدم العمر وتطور العلم وسعة البحث واتصال التفكير السنين الطوال شيئا من أفكار الصبا؟ (3) الفلسفة تسير في اتجاه الوضوح
وإذا كانت فلسفة بوبر أحد وأهم الاتجاهات المستقلة في الفلسفة المعاصرة، وليس فحسب بل والمناهضة للتيار التحليلي اللغوي المسيطر على القطاع الأكبر من هذه الفلسفة حتى إن بوبر - كما أوضح الباب الثاني - قسم الفلسفة المعاصرة إلى قسمين؛ قسم تحليلي يتبع فتجنشتين، والوضعيون أبرز أئمته، وقسم لاتحليلي من أتباع كانط، بوبر من أبرز أئمته، إذا كانت فلسفة بوبر بهذا الوضع، أمكن أن نستخلص أهم سمة تميز الفلسفة المعاصرة في تطورها الحالي؛ إذ إنها تنطبق على كلا القسمين، ألا وهي الوضوح والإيضاح.
فالاعتقاد الشائع هو أن الوضوح قصر على التحليليين - رغم أن رسالة فتجنشتين آية في الغموض - لأن فلسفتهم هدفها الأساسي، بل والوحيد في بعض الاتجاهات كمدرسة أكسفورد هو الإيضاح، ويكاد يكون هذا هو الشيء الوحيد الذي يسجل للتحليليين لكن فلسفة بوبر، رغم عمقها وثوريتها وخصوبتها، هي الأخرى آية في الوضوح والسلاسة، بل وقد طالب بأن يكون الوضوح وإيضاح موقف المشكلة من أهم أهداف الفيلسوف وأيضا العالم، وكل باحث شريطة ألا يوقعنا هذا الهدف في المتاهات اللغوية العقيمة.
والوضوح لا ينطبق على بوبر وخصومه الوضعيين فحسب، بل بصفة أشمل يمكن القول: إن عصور الفلسفة الملغزة والمفرطة في التعقيد، التي تظن أن التناسب عكسي بين القيمة المعرفة وبين الوضوح، هو عصر آخذ في الأفول، خصوصا بعد رحيل هيدجر، لم تعد الفلسفة تتلمس السمو المعرفي والرفعة العقلية في الصعوبة والتعقيد والعلو عن مستوى الفهم العادي، كما دأبت المثالية الألمانية على وجه الخصوص، فهذا هربرت ماركيوز ينزل بكتاباته النابضة إلى أي شاب مثقف، والبراجماتيون ابتداء من تشارلز بيرس وحتى وليم جيمس وجون ديوي كتاباتهم غاية في البساطة، ربما لأن الأقرب لي الفهم العام هو الأنفع، بل وهذا جان بول سارتر (1905-1980م) وسيمون دي بوفوار (1907-1985م) يخرجان الفلسفة الوجودية ليس بوضوح فحسب، بل وفي قالب مسرحي رائع ومشرق وجذاب ...
والفضل في هذا يعود - بلا جدال - أولا إلى برتراند راسل، فهو أول من علم الفلاسفة كيف تكون الفلسفة آية في العمق والثراء والخصوبة، وفي الوقت نفسه آية في الوضوح والسلاسة، بل والأسلوب الرائع البديع. (4) الدرس الحضاري المستفاد من صحبة الفيلسوف
وأخيرا، فقد عرض هذا البحث للخطوط الأساسية لفلسفة كارل بوبر للعلوم من خلال مناقشة مشكلة تمييز المعرفة العلمية وحلها بواسطة معيار القابلية للاختبار والتكذيب، وأوضح أن هذه الفلسفة - شبه الموضوعية - في جملتها تتلخص في كلمة واحدة هي: النقد، وإن عني هذا البحث - بحكم فرع تخصصه - بأسلوب النقد الفني المنطقي المختص بالعلوم الطبيعية الذي يميزها، فالعلم يضع فروضا جريئة تكاد تشبه خلق الأساطير والتصورات الدينية، غير أن الفارق الذي يميز العلم عن الأساطير والميتافيزيقا والدين، ويجعله دونا عنها دائم التقدم، هو قابليته للنقد والاختبار؛ أي التكذيب.
18
لكن بوبر لم يقصر أهمية النقد على العلم، فبينما يرى هنري بوانكاريه في النقد حياة العلم، يرى فيه بوبر حياة كل نشاط عقلي، سواء أكان معرفيا يهدف إلى الحقيقة أم سياسيا يهدف إلى العدل والمساواة والحرية والسلام، أو حتى مجرد نشاط حيوي يهدف إلى حل أية مشكلة،
19
ولكن لما كان بوبر فيلسوفا معرفيا على وجه الخصوص، فقد أكد أن التناول النقدي للمشاكل المطروحة ولحلولها ولمسار إجراءاتها ونتائجها، وفي كل ميدان من ميادين البحث المعرفي، هو السبيل الأوحد والذي لا سبيل سواه إلى أي تقدم، النقد هو شريطة التقدم؛ لأن التقدم لا يمكن أن يحدث بغير حذف الأخطاء، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أن المعرفة لا تنمو بمجرد التراكم الآلي بل بالتصويبات الجذرية الثورية والتكذيبات العنيفة؛ لذلك كله أكد بوبر - في كتابه: المعرفة الموضوعية تناول تطوري - على أن النقد هو أهم وظائف الملاحظة والتعقل بل وأيضا الحدس والخيال؛ إذ يجب أن نستخدم جماع ملكاتنا في الاختبارات النقدية لتلك الافتراضات الحدسية الجريئة التي بواسطتها نقتحم المجهول، وليس الفروض فقط، بل كل جزيء من معرفتنا يجب أن يعرض للنقد ...
لذلك كله لم يكن بوبر مجرد ناقد لا يعرف الرحمة لأنه مفكر خلاق، بل وكان أيضا فيلسوفا ذا منهج نقدي،
20
يوضح في كل مناسبة النقد الأمثل وكيف يكون، ويوضح شروطه من أنه يجب أن يكون موضوعيا وقاسيا قدر الإمكان، وأنه من الضروري الإحاطة بموقف المشكلة ودراسة ومقارنة جميع الحلول المطروحة حتى ننقد الحل المعنى، وأن نحاول أن ننقد أنفسنا خير من أن ينتقدنا الآخرون، وأن نقد النظرية يجب أن يكون وهي في أبهى صورها وأقواها، بل ويجب قبل أن ننقدها أن نرحم أخطاءها الصغيرة كي نركز فقط على الأخطاء الكبيرة الجوهرية، وهذا ما فعله بوبر نفسه في «عقم المذهب التاريخي»، فهو قبل أن ينقد المذهب عرضه بوضوح وأورد له من الحجج ما لم يورده التاريخيون أنفسهم، وهذا الشرط الأخير هدفه أن نركز فقط على الأفكار الرائدة العظيمة المبسطة، وألا ننشغل بالأفكار الفرعية فنقع في مستنقع المدرسيين، وكل ذلك لكي يكون النقد مثمرا.
21
وأخيرا فإن ما يزيد من أهمية النقد، هو أن نظرية بوبر المنهجية والمعرفية - كما أوضحنا آنفا - تؤكد أننا لا نبدأ أبدا من فراغ ، بل من تراث معرفي سابق لا بد أن نثريه ونضيف إليه، وليس ذلك إلا بمنهاج النقد، وحذف الخطأ منه تبعا للصياغة «م1
ح ح
أ أ
م2».
والخلاصة أن فلسفة بوبر مجرد دعوة مكثفة لتنصيب النقد سلطانا فوق كل سلطان أو بالأحرى جعله السلطان الوحيد.
والآن، هل من شك في أننا أحوج بقاع الدنيا لهذا الدرس؟ فلن نجانب الصواب لو قلنا: إن مثل هذا المنهاج النقدي - خصوصا في تناولنا لميراثنا المعرفي - لا يدخل إطلاقا في تكوين العقلية العربية، ويا ليت فحسب، بل ويكاد يدخل في نطاق ما لا ينبغي! فالأمر الواقع هو أن أحدا من أبناء الحضارة العربية لا يدرسها إلا ليؤكد أنها أنشأت كل العلوم وأبدعت كل الفنون، وأسست كل اتجاهات الفكر، فأقامت المعجزة المعرفية وأردفتها بالاجتماعية، فأكدت كل حقوق الإنسان والحيوان أيضا، وذلك بالطبع بعد المعجزة العسكرية وأيضا السياسية، باختصار جمعت فأوعت وفعلت كل ما يمكن، وأحيانا ما لا يمكن أن يفعل؛ إذ ليس في الإمكان أبدع مما كان!
والدراسات النقدية القليلة لا تلقى ترحيبا، بل تقابل بالاستنكار، ولا تسلط الأضواء إلا على البحوث التي تؤكد مواضع التمجيد، ولا مانع أن تضيف إليها مما لم يثبته التاريخ، أو حتى لا يقبله العقل.
وبالطبع في هذا شيء من الصواب، فلا شك أن الحضارة العربية إحدى الطفرات الحضارية المعجزة في التاريخ، وأنها احتلت قمة المد الحضاري طوال العصور الوسطى، لكن مثل هذا الأسلوب في تناولها يوقعنا - بتعبير فلسفة العلم - في مهاوي مطلب تحقق وتأييد النظريات العلمية العقيم، وهو لهذا تحصيل حاصل، فمع الافتراض الجدلي أن كل ما يثبته سليم تماما، فهو منهاج يبحث في منجزات قد أنجزت وانتهى الأمر، باقي أن نتحدث عن المنجزات التي لم نستطع أن ننجزها، أي عما ينقصنا وعن أخطائنا التي سببت هذا النقص أي عن نقد تراثنا الحضاري، يجب أن نفتح صدورنا لنقد الدوجماطيقية الكائنة في زاوية أو أخرى؛ لأنها هي التي تقف عقبة كئودا في سبيل النقد.
ولنتعلم من بوبر أنه من الأفضل أن ننقد أنفسنا بدلا من أن ينقدنا الآخرون، فلا نجعل مشروعية المنهاج النقدي للحضارة العربية تكاد تكون حكرا على المستشرقين، فمنهاجنا الشائع التأييدي على خط مستقيم، لن يفيدنا في حذف أي خطأ؛ وبالتالي في إحراز أي تقدم، لعله يفيد من الناحية السيكولوجية، فيقوي من الحمية القومية، ويؤكد الاعتزاز بالأصالة، وهي البعد الذاتي الأساسي لأية حضارة، لكن كل هذا أقرب إلى البعد السيكولوجي، وينقصه ما هو أهم البعد الموضوعي النقدي، وبالطبع لا يفوتنا أن حتى مثل هذا البعد السيكولوجي محل جدل وخلاف وفي حاجة إلى النقد؛ لأن ارتباط الحضارة العربية بالعامل الديني الذي يغرس القيم الخلقية الرفيعة في النفوس ويحدد الأنماط الكفيلة باستقرار المجتمع وانضباطه، هذا الارتباط بالعامل الديني - وهو أهم الأبعاد الحضارية في الشرق خصوصا - جعل الحضارة العربية تطغى تماما على عناصر الأصالة الحقيقية في الحضارات الكائنة خارج شبه الجزيرة العربية، فتريد أن تمد الوجدان المصري مثلا إلى جذور عمرها ألف وأربعمائة عام، وتغفل جذورا عمرها سبعة آلاف عام تمتد حتى أعظم المعجزات الحضارية قاطبة أي الحضارة الفرعونية.
المهم أن النقاش احتدم بين المفكرين - خصوصا بين الحربين العالميتين - حول مشكلة الأصالة والمعاصرة، فقد رأوها المشكلة الحضارية الأساسية، وهي: على أي الخامات تعتمد في نسج حضارتنا المعاصرة؟ وراح فريق السلفيين ينتصر للتراث - أي الأصالة - أما فريق التجديديين فقد انتصر للحضارة الأوروبية المعاصرة، ويكاد يكون النقاش قد انتهى إلى نسج نسيج لحمته التراث وسداه الحضارة الأوروبية المعاصرة، وكما هو معروف، الدكتور زكي نجيب محمود على رأس من طرحوا هذا الحل بصورة شاملة، كما تبرز على وجه الخصوص ثلاثيته: تجديد الفكر العربي - ثقافتنا في مواجهة العصر - المعقول واللامعقول في تراثنا، غير أن المواد الخام التي تنسج منها الحضارة هي أدوات العمل وثمة ما هو أهم، أسلوب العمل وأسلوب تسخير هذه الأدوات في بناء الحضارة، ولو يممنا أنظارنا شطر النقد وجعلناه الفيصل الوحيد في اعتبار أي عنصر حضاري؛ لألفينا أنفسنا نحذف مواطن الخطأ، وما لا يقبله العقل والمنطق ومقتضيات الصالح الحضاري، أي - بداهة - جعلنا حضارتنا تسير دوما نحو ما هو أفضل وأصوب فتمثل تقدما في متصل صاعد، أوليس العقل ها هنا هو راعيها؟
لقد قال بوبر: إن «النقد هو دماء الحياة لكل تفكير عقلاني.»
22
فيا ليتنا ثم يا ليتنا نجعله دماء تفكيرنا، كيما يكون عقلانيا.
ثبت المراجع
وكلها مذكورة آنفا في هوامش البحث.
1 ⋆ (1) كتابات كارل بوبر (أ) الكتب (1)
Karl R. Popper,
Logic of Scientific Discovery , eighth impression, Hutchinson, London, 1976 . (2)
Karl R. Popper,
The Open Society and its Enemies , Vol. I, The Spell of
. (3)
Vol. II,
The High Tide of
: Hègel, Marx and the Al-termath, George Routledge and Sons Ltd, London, 1945 . (4)
Karl, R. Popper,
Conjectures and Refutations : The Growth of Scientific Knowledge, Routledge and Kegan Paul, reprinted fourth edition, London, 1976 . (5)
Karl R. Popper,
Objective Knowledge : An Evolutionary Approach fourth impression, Clarendon Press, Oxford, 1976 . (6)
كارل بوبر،
عقم المذهب التاريخي : دراسة في مناهج العلوم الاجتماعية، ترجمة د. عبد الحميد صبرة، منشأة المعارف بالإسكندرية، سنة 1959م. (7)
Karl, R. Popper,
Un ended Quest : An Intellectual Authobiography, Willian Collins Sons and Co, Ltd. Glasgow 1976 . (8)
Karl R. Popper,
Replies to my Critics , in the Philosophy of Karl Popper, Volume II. pp. 961 to 1198 . (ب) المقالات التي لم تنشر في الكتب (9)
Karl R. Popper,
New Foundations for Logic , Mind, 56, 1947. pp. 103-235 . (10)
Karl. R. Popper,
Logic Without Assumptions , Proceeding of the Aristotelian Society, XL VII, 1947, pp. 251-292 . (11)
Karl, R. Popper,
Indeterminism in Quantum Physics and in Classical
, Part I, the British Journal for the
117-133 . (12)
Karl R. Popper,
Indeterminism in Quantum Physics and in Classical Physics , Part II, The British, Journal for the Philosophy of Science, I, 1950. pp. 173-195 . (13)
Karl R. Popper,
Time’s Arrow and Feeding On Negentrophy , Nature, 312, 1967. p. 320 . (14)
Karl, R. Popper.
Quantum Mechanism Without the Observer , in Quantum Theory and Reality, edited by Mario Bunge, Sringer Verlog, Berlin (Hied elberg), New York, 1967. pp. 7-44 . (2) كتابات عن كارل بوبر (15)
Mario Bunge (editor),
Critical Approach to Science and Philosophy , in Honour of K.
London , 1964 . (16)
The
, in The Library of Living Philosophers, Vol. 14/I Open Court Publishing Co., Illinois. 1974 . (17)
The
, Part II, in the Library of Living Philosophers, Vol. 14/II. Open Court Publishing Co., Illinois . (18)
Maurice Cornforth,
The Open
, A Reply to Dr. Karl
eddition, London 1972 . (19)
Bryan Magee,
Karl
, edited by frank kermod, Viking Press New York, seconé edition, 1973 . (20)
G. J. Warnock.,
Review of Logic of Scientific Discovery , Mind New Series, 69, 1960 . (21)
J. S. Kirk,
, Mind. New Series 69, 1969 . (22)
ف. ف. ناليموف، قبول الفرضيات العلمية، مجلة ديوجين، صادرة عن مجلة رسالة اليونيسكو مركز مطبوعات اليونيسكو، العدد السادس والأربعون، السنة الثالثة عشرة، أغسطس وأكتوبر سنة 1979م. (3) المراجع الأجنبية العامة (23)
A. J. Ayer, Russell and Moore:
The Analytical Heritage,
Macmillan and Co. Ltd., London, 1971 . (24)
A. J. Ayer,
Language, Truth and Logic , Penguin Books, London, 1974 . (25)
Alan Ryan,
J. S. Mill , Routledge and Kegan Paul, London 1974 . (26)
Alice Ambrose and Morris Lazerwitz (editor),
Ludwig, Wittgenstein: Philosophy and Language , George Allan and Unwin, London 1922 . (27)
Anthony Kenny,
Wittgenstein , Harvard University Press, 1973 . (28)
A. N. Whitehead,
An Inquiry Concerning The Principles of Natural Knowledge , Cambridge University Press, 1919 . (29)
A. N. Whitehead,
Science and Modern World , Williams Collins Sons and Co. Ltd., Galsgow, 1975 . (30)
A. Polikarov,
Science and Philosophy,
Academy of Science, Sofia, 1973 . (31)
Arthur Eddington,
The Nature of the Physical World , The University of Michigan Press, second Edition, 1963 . (32)
Bertrand Russell,
An Outline of
, George Allan and Unwin Books, London, 1972 . (33)
Bertrand Russell,
Logic and Knowledge,
George Allan and Unwin Boods, London, 1940 . (34)
Bertrand Russell,
History Of Western Philosophy , Brothers Libited Working, London, 1954 . (35)
Bertrand Russell,
My
, George Allan and Unwin, London, 1959 . (36)
Bertrand Russell,
Mysticism and Logic , Unwin Books, London. 1963 . (37)
Bertrand Russell,
, Oxford University Press, 1973 . (38)
Bryan Magee,
Modern British
, Secker and Warburg, London, 1971 . (39)
C. G. Jung,
Types , Harcourt, New York, 1933 . (40)
Donald. W. Livingston and James, T. King (editors),
Hume: A Re-evalualion , Fordham University Press, New York. 1976 . (41)
E. A. Burtt,
The Metaphisical Foundations of Modern Science , Kegan Paul and Trench Trubner and Co., Ltd., London, 1932 . (42)
Eugene August,
John Stuart Mill : A Mind of Large, Charles Scribner’s Sons, New York, 1975 . (43)
F. Engles.,
Dialectic of Nature
1966 . (44)
F. V. Konstantinov (chief of a team of
aut hors) ,
The Fundamentals of Marxist ... Leninist Philosopher,
1974 . (45)
Geoffrey Leech,
Semantics , Penguin Books, London, 1972 . (46)
G. E. Moore,
Studies , Kegan Paul Ltd., London, 1922 . (47)
G. N. Ridlev,
Man: The Verdict of Science , The Thinker Library. No. 114, Watts and Co., London, 1946 . (48)
H. J. Eysenck and G. D. Wilson (editors),
The Experimental Study of Freudian Theories , Methuen and Co. LTD, Londdon, 1973 . (49)
James Griffen,
Wittgenstein’s Logical Atomism , Oxford University Press, London, 1965 . (50)
Jerrold Katz,
The Problem of Induction and its Solutions , the University of Chicago Press, 1962 . (51)
John Maynard Smith,
The Theory of Evolution , Penguin Books, London, Third edition, 1975 . (52)
John Passmore,
A Hundred years of
, Penguin Books, London, 1966 . (53)
J. S. Mill,
System of Logic
Rationative and Induction, Book N-VI and Appendices, Editor of The Test: J. M. Robson, Routledge and Kegan
. (54)
J. S. Mill,
System of Logic , Books I. III, edited by J. N. Robson University of Tronto Press, Routledge and Kegan Paul, London. 1973 . (55)
Justus Hartnack,
Wittgenstein and Modern Philosophy , translated by: Maurice Cranston, New York University Press. 1965 . (56)
Ludwig Wittgenstein, Philosophical Investigation, translated. by: G. E. Anscombe, Busil Blackwell, Oxford, 1973 . (57)
Max Born,
Natural Philosophy of Cause and Chance , Oxford University Press, 1948 . (58)
Northon White, the Age of Analysis : 20th Century Philosophy A Minotor Book, New American Library, New York, 1957 . (59)
The
in The Library of Living
1952 . (60)
R. B. Braithwait,
Scientific Explanation : A Study for The Function of Theory,
1960 . (61)
Robert W., Marks (editor),
Great Ideas in Psychology, Beniam
Books, New York, London, 1966 . (62)
Rudolf Carnap,
The Logical Syntax of Language , The Humanties Press Inc. Routledge and Kegan Paul LTD., London 1951 . (63)
Rudolf Carnap,
The Nature and Application of Inductive Logic
constiuting of six sections from: Logical Foundations of Probability. The University of Chicago Press, Chicago and Illinois, 1951 . (64)
Rudolf Carnap,
The Logical Stracture of The World , and Pesudo Philosophy, translated by: Ralf, A. George, University of Cambridge Press, 1967 . (65)
S. Stebbing.,
A Modern Introduction to Logic , Asia Publishing House, London, 1960 . (66)
Timothy Binkley,
Wittgenstein’s Language , Nortinus Nijhoff, the Hague Netherlands, 1973 . (67)
V. Rydnik, ABC of Quantum Mechanism, Translated by George Yankovsky, Peace Pubilshers, Moscow, Without the year of
. (4) المراجع العربية العامة (أ) المراجع العربية المؤلفة
أبو حامد الغزالي،
منطق تهافت الفلاسفة المسمى معيار العلم ، تحقيق د. سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، 1969م.
توفيق الطويل،
أسس الفلسفة ، دار النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1976م.
د. زكريا إبراهيم،
مشكلة الإنسان ، مكتبة مصر، القاهرة، بدون تاريخ.
د. زكريا إبراهيم،
دراسات في الفلسفة المعاصرة ، مكتبة مصر، القاهرة، 1968م.
د. زكي نجيب محمود،
نحو فلسفة علمية ، مكتبة الأنجلو المصرية، سنة 1959م.
د. عائشة عبد الرحمن،
مقدمة في المنهج ، جامعة الدول العربية، القاهرة، 1971م.
عباس محمود العقاد،
فرنسيس بيكون: مجرب في العلم وفي الحياة ، دار المعارف، القاهرة، 1945م.
د. عبد الرحمن بدوي،
مدخل جديد إلى الفلسفة ، وكالة المطبوعات، الكويت، 1975م.
د. عبد الرحمن بدوي،
مناهج البحث العلمي ، وكالة المطبوعات، الكويت، 1977م.
د. عثمان أمين،
رواد المثالية في الفلسفة العربية ، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1975م.
د. عزمي إسلام،
لودفيج فتجنشتين ، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، دار المعارف، القاهرة، ب.ت.
د. عزمي إسلام،
مقدمة لفلسفة العلوم الفيزيائية والرياضية ، القاهرة، 1977م.
د. فؤاد زكريا،
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان ، النهضة المصرية، 1977م.
د. فؤاد زكريا،
التفكير العلمي ، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1979م.
د. ماهر عبد القادر،
فلسفة العلوم الطبيعية: المنطق الاستقرائي ، الإسكندرية، 1979م.
محمد باقر الصدر،
الأسس المنطقية للاستقراء ، دار الفكر، بيروت، 1972م.
د. محمد فتحي الشنيطي،
المنطق ومناهج البحث ، دار الطلبة العرب، بيروت، 1969م.
محمد فرحات عمر،
طبيعة القانون العلمي ، الدار القومية، القاهرة، 1966م.
د. محمد مهران ود. عبد الحميد حسن،
في فلسفة العلوم ومناهج البحث ، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1978م.
د. محمد مهران،
فلسفة برتراند رسل ، دار المعارف، القاهرة، 1977م.
محمود أمين العالم،
فلسفة المصادفة ، دار المعارف، القاهرة، 1970م.
د. محمود زيدان،
الاستقراء والمنهج العلمي ، الإسكندرية، 1980م.
د. مراد وهبة،
المذهب عند كانط ، ترجمة عن الفرنسية د. نظمي لوقا، الأنجلو، القاهرة، 1974م .
د. يحيى هويدي،
ما هو علم المنطق؟ ، النهضة المصرية، القاهرة، 1966م.
يوسف كرم
تاريخ الفلسفة الحديثة ، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1967م. (ب) المراجع العربية المترجمة
أدرين كوخ، آراء فلسفية في أزمة العصر، ترجمة محمود محمود، الأنجلو، القاهرة، 1963م.
أفلاطون، الجمهورية، ترجمة حنا خباز، المطبعة العصرية، القاهرة، 1948م.
ألفرد تارسكي، مقدمة للمنطق ولمنهج البحث في العلوم الاستدلالية، ترجمة د. عزمي إسلام، مراجعة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1970م.
إميل بوترو، فلسفة كانط، ترجمة د. عثمان أمين، الهيئة المصرية العامة للتأليف، 1972م.
إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة د. عبد الرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965م.
برتراند رسل، النظرة العلمية، ترجمة عثمان نويه، مراجعة إبراهيم حلمي عبد الرحمن، الأنجلو، القاهرة، 1956م.
بول موي، المنطق وفلسفة العلوم، ترجمة د. فؤاد زكريا، ج2، نهضة مصر، بغير سنة للنشر.
جاستون بشلار، الفكر العلمي الجديد، ترجمة د. عادل العوا، مراجعة د. عبد الله عبد الدايم، منشورات وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي، دمشق، 1969م.
جان فوراستيه، معايير الفكر العلمي، ترجمة فايزكم نقش، منشورات عويدات، بيروت، 1969م.
ج. برونوفسكي، وحدة الإنسان، ترجمة د. فؤاد زكريا، الأنجلو، القاهرة، 1975م.
جورج ديهاميل، دفاع عن الأدب، ترجمة د. محمد مندور، الدار القومية، القاهرة، بغير سنة للنشر.
جون كميني الفيلسوف والعلم، ترجمة د. أمين الشريف، المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر، بيروت، سنة 1969م.
جيمس أ. كولمان، النسبية في متناول الجميع، ترجمة د. رمسيس شحاتة، مراجعة د. فهمي إبراهيم ميخائيل، دار المعارف، القاهرة، 1969م.
جيمس جينز، الكون الغامض، ترجمة عبد الحميد حمدي مرسي، مراجعة د. علي مصطفى مشرفة، المطبعة الأميرية، القاهرة، 1942م.
جيمس كونانت، مواقف حاسمة في تاريخ العلم، ترجمة د. أحمد زكي، دار المعارف، القاهرة، 1963م.
داجوبرت د. روتز (معد)، فلسفة القرن العشرين، ترجمة عثمان نويه، مراجعة د. زكي نجيب محمود، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1963م.
ر. كولنجوود، فكرة الطبيعة، ترجمة د. أحمد حمدي محمود، مراجعة د. توفيق الطويل، مطبعة جامعة القاهرة بغير تاريخ.
روجيه جارودي، النظرية المادية في المعرفة، ترجمة إبراهيم قريط، دار دمشق للطباعة والنشر، بغير تاريخ.
ستانلي بيك، بساطة العلم، ترجمة زكريا فهمي، مراجعة د. عبد الفتاح إسماعيل، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1967م.
تشيرنوجروفا، أسرار عالم الجسيمات الدقيقة، ترجمة د. إبراهيم شوشة، دار مير، موسكو، 1978م.
ف. أ. لينين، المادية والمذهب التجريبي النقدي: تعليقات نقدية على فلسفة رجعية، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق للطباعة والنشر، 1975م.
فيرنر هيزنبرج، المشاكل الفلسفية للعلوم النووية، ترجمة د. أحمد مستجير، مراجعة د. محمد عبد المقصود النادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1972م.
كارل همبل، فلسفة العلوم الطبيعية، ترجمة د. محمد جلال موسى، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1976م.
كلود برنار، مدخل لدراسة الطب التجريبي، ترجمة يوسف مراد وحمد الله سلطان، المطبعة الأميرية، القاهرة، 1944م.
ك. هول، ج. لندزي، نظريات الشخصية، ترجمة د. فرج أحمد فرج - قدري محمود حفني - لطفي محمد فطيم - مراجعة د. لويس كامل مليكة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1971م.
لويس دي بروليه، الفيزياء والميكروفيزياء، ترجمة د. رمسيس شحاتة، مراجعة د. محمد مرسي أحمد، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1967م.
ماكس فيبر، صنعة العلم، ترجمة أسعد رزوق، الدار العلمية، بيروت، 1972م.
هانز رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1968م.
هنتر ميد، الفلسفة: أنواعها ومشكلاتها، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار نهضة مصر، 1969م.
ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة د. فتح الله المشعشع، دار المعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، 1979م.
و. أ. بفردج، فن البحث العلمي، ترجمة زكريا فهمي، مراجعة د. أحمد مصطفى أحمد، دار النهضة العربية، القاهرة، 1963م.
Unknown page