وعلى هذه الدرجات بعينها يرتقي ويمضي مصعدا في ارتقائه حتى يجرد الفكر من ملازمات الصور المألوفة، ويعلم الوهم الباطل في الملازمة بين الزمان والوجود، فقد يكون وجود ولا زمان ... وما استلزام وجود الزمان أبدا إلا من أباطيل الأوهام كما قال.
ولقد أحس أن قمعه لذاته خطوة لازمة - عقلا - لانتزاع الفكر من مألوفاته وتجريد المعاني من ظواهرها، والإفضاء من قرائن الأسباب إلى حقائق الأسباب.
وبهذا التجريد الصوفي - والفلسفي معا - انتهى من طريق العزلة إلى العمل، واستفاد غاية ما يستفاد من خلوص المعرفة وسداد الفكر والإعراض عن العرض طلبا للجوهر، أو كما قال مفرقا بين تعليمه الناس قبل العزلة وعودته إلى تعليمهم بعد رياضة قلبه وفكره ومغالبة أهوائه ومطامعه قال:
وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي يكسب الجاه وأدعو إليه بقولي وعملي وكان ذلك قصدي ونيتي، أما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يترك الجاه ويعرف به سقوط رتبة الجاه، وهذا هو الآن نيتي وقصدي وأمنيتي يعلم الله ذلك مني، وأنا أبغي أن أصلح نفسي وأصلح غيري.
فما كانت الرياضة إذن إلا تربية عقلية ودراسة علمية، تمت بما استفاده من التجرد عن ضلال (الأنانية) وأباطيل المألوف والمعهود، فذاك هو اقتداره الفلسفي على التفكير المجرد، وهو هو اقتداره الصوفي على التجرد من معرفة الجاه، خلوصا إلى معرفة الحقيقة، ومن شواغل الحياة إلى شواغل الخلود. •••
ونختتم هذه الكلمة سائلين: هل كان إمامنا رضي الله عنه فيلسوفا أو متصوفا؟
فلعلنا نستطيع أن نجيب قائلين: إنه كان قدوة للفلاسفة، ونموذجا من نماذج التفكير الرفيع، نتعلم منه أن للفلسفة أداة لا تتم بغير قسط من التصوف؛ لأن التصوف قدرة على انتزاع النفس من المألوف، وتلك قدرة لا يستغني عنها الفيلسوف المفكر ولا الفيلسوف الحكيم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
Unknown page