Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genres
S. Hawking (1942-؟):
41 «لم أسمع عن أية نظرية كبرى قد طرحت على أساس من التجربة فحسب، فالنظرية هي التي تأتي دائما أولا، ويتم طرحها بسبب الرغبة في الحصول على نموذج رياضي رائع ومتسق. ثم تعطي النظرية تنبؤات، وهذه يمكن اختبارها بالملاحظة، وإذا اتفقت الملاحظات مع التنبؤات فإن هذا لا يبرهن على النظرية، وإنما تظل النظرية باقية لتصنع تنبؤات جديدة، يتم مرة أخرى اختبارها بالملاحظة. وإذا لم تتفق الملاحظات مع التنبؤات، نتخلى عن النظرية.»
42
وحين يعرض الفصل السادس لنظرية كارل بوبر المنهجية سوف نلاحظ أن قول هوكنج هذا بمثابة تلخيص لنظرية بوبر بأسرها، وليس فقط تأكيدا لأسبقية الفرض مع الملاحظة التي بات مسلما بها من قبل الأطراف المعنية. وهذا عالم الفيزياء الرياضية بولكين هورن، الذي ينعم بزمالة النابغة الفذ ستيفن هوكنج في قسم الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية بجامعة كمبردج، يقول إن الملاحظة لا تفضي إلى الفرض أبدا؛ لأن الفرض قراءة للوقائع التجريبية بواسطة فعل فردي خلاق، إبداع لعقلية علمية، ثم يمحص المجتمع العلمي تلك البصيرة الخلاقة جيدا قبل أن يصدق عليها. والواقع أنه لا كوبرنيقوس ولا جاليليو ولا نيوتن، ولا أي رائد من الرواد الذين شيدوا صرح العلم الحديث، ولا أي من العلماء الأقل حجما ولا من العلماء طرا، توصل إلى إنجازاته عن طريق الاستقراء، أي عن طريق البدء بالملاحظة ثم تعميمها لكي يصل إلى القانون العلمي، بل جميعهم يبدأ بفرض يستنبط نتائجه ثم يقوم باختبارها تجريبيا، ولكن بفعل العوامل الداخلية والخارجية لحركة العلم الحديث ران الوهم الاستقرائي على العقول، من حيث ران الوهم الحتمي الميكانيكي.
وقد تبددت هذه الأوهام في ضوء ثورة الكوانتم والنسبية، ثورة الفيزياء الكبرى في القرن العشرين، وسوف يتكرس لها الفصل التالي توا. وأصبح العلم الإخباري التجريبي يتعامل مع كيانات غير قابلة للملاحظة أصلا، فلا يمكن رصد الجسيمات الذرية، يمكن فقط رصد آثارها على الأجهزة المعملية، لقد انتهى القرن العشرون مهللا للإنجاز العبقري للعالم المصري أحمد زويل، وقد فاز عن جدارة بجائزة نوبل، فعن طريق أشعة الليزر استطاع لأول مرة في التاريخ تصوير ميلاد الجزيئات، أي رصده تجريبيا وهو يحدث في زمن يقدر بالفمتو ثانية؛ أي واحد على مليون بليون من الثانية، والجزيئات وحدة كبيرة نسبيا، على مدار القرن العشرين يتعامل العلماء مع ما هو أصغر كثيرا كثيرا، الذرة والإلكترون وسائر الجسيمات الذرية التي ارتدت إلى الكواركات، وأنجز علم القرن العشرين ما أنجزه وسائر هذه الكيانات غير قابلة للملاحظة والرصد، لكن يمكن الملاحظة التجريبية الدقيقة لتأثيراتها على الأجهزة المعملية، مما يعني أن التجريب يشترط قبلا فرضا نصمم التجربة والآثار المتوقعة على أساسه، وإلا سيدخل العالم معمله ولا يجد شيئا يفعله. تبعا لما ترسمه نظرية المنهج الفرضي الاستنباطي التي وضعت الإصبع على حقيقة المنهج التجريبي، لا بد من فرض يفترضه العقل، يخلقه خلقا ويبدعه إبداعا، ثم يستنبط نتائجه وهنا ينزل إلى الملاحظة التجريبية، بل وأحيانا كثيرة يصعب إجراء التجربة لأسباب فنية أو لأنها باهظة التكاليف فيحتكم العلماء إلى «التجارب العقلية»، أي تخيل التجربة وافتراض نتائجها المتوقعة، وعلماء الفيزياء النظرية في القرن العشرين مغرمون «بالتجارب العقلية» هذه.
وفي كل حال «العلم تجريبي» كما أن «أ هي أ»، ولكن في ضوء المنهج الفرضي الاستنباطي ليست الملاحظة التجريبية مصدرا للفرض العلمي، بل محكا له، فهو لا يحدد الطريق إلى الفرض، هذا الطريق لا يمكن أن يكون تحديده مسألة منطق أو قواعد منهجية؛ لأنه يعتمد على عنصر العبقرية والإبداع والذكاء الإنساني، فيمكن أن يترك مثلا للدراسة السيكولوجية للإبداع العلمي. معنى هذا ببساطة أن العلم صنيعة الإنسان، وقد تبدو هذه حقيقة أوضح من شمس النهار، لكنها غابت بفعل الغيوم الاستقرائية، ولم تتبلور إلا في القرن العشرين، الذي أدرك أن العلم ليس البتة نشاطا آليا متاحا لذوي العقول المتوسطة كما رأى بيكون، أو مجرد قراءة لكتاب الطبيعة المجيد كما قال جاليليو. وبغير حاجة لتفصيلات واستطرادات يمكن إدراك كيف أن كل المثالب المنطقية المحيقة بالاستقراء تنداح كما تنداح دوائر في لجة ماء ألقي فيه بالحجر، مع رؤية المنهج الفرضي الاستنباطي.
إن العلم صنيعة الإنسان أي فعالية نامية باستمرار، كل خطوة قابلة للتجاوز، للتقدم؛ لذلك يجعل المنهج الفرضي الاستنباطي كل قانون مجرد فرض ناجح، في حين أن المنهج الاستقرائي يجعل كل فرض ناجح قانونا، اكتشافا لحقيقة. إن الاستقراء - منهج البدء بالملاحظة الصلبة - هو منهج لتأسيس وتبرير العبارات العلمية على أساس مكين هو الوقائع التجريبية، في حين أن العلم التجريبي بناء صميم طبيعته الصيرورة والتقدم المستمر، وها هنا نجد المنهج الفرضي الاستنباطي نظرية في الإبداع والتقدم المستمر.
إن وضع الفرض قبل الملاحظة بمثابة ثورة منهجية، تكاد تشابه الثورة الكوبرنيقية التي وضعت الشمس بدلا من الأرض كمركز، فتغيرت منظومة الكون والنظرة إلى طبيعته وحلت إشكاليات فلكية جمة وارتسم طريق لتقدم متسارع للعلم. وبالمثل تغيرت منظومة المنهج والنظرة لطبيعة المعرفة العلية وحلت إشكاليات إبستمولوجية جمة وارتسم طريق لتطور متسارع في فلسفة العلم.
على أن النظرية الميثودولوجية (أي نظرية المنهج العلمي) التي تبدأ بالفرض لا يقتصر مردودها على عقر دارها - الإبستمولوجيا وفلسفة العلم - بل أيضا هي القادرة على صياغة المنهج التجريبي من حيث هو العقلانية التجريبية، وبوصفه قوة إيجابية امتلكها الإنسان وفعالية حضارية يمكن استغلالها وتسخيرها في كل تعامل مع الواقع المتعين.
وقبل أن نوضح هذه النقطة الهامة والمجدية كثيرا، نلاحظ قبلا أن المنهج العلمي واحد وهو كثير! واحد على مستوى النظر الفلسفي وكثير متعدد على مستوى التطبيقات العينية.
Unknown page