Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genres
Informative Sciences
وهي العلوم التجريبية التي تأتينا بالخبر عن الواقع. وقد رأينا كيف انتظمت في ثلاث مجموعات كبرى هي العلوم الفيزيوكيماوية، ثم الحيوية ، ثم الإنسانية. هذا التدرج المنطقي تبعا لدرجة عمومية موضوعها. المقصود بالعمومية
generality
سعة المجال الذي يحكمه العلم المعني، ودرجة العمومية تتناسب طرديا مع درجة البساطة، أي عكسيا مع درجة التعقيد. والمقصود بالتعقيد كثرة المتغيرات والعوامل الفاعلة؛ لهذا كانت الفيزياء في المقدمة، قمة العلوم الإخبارية. فموضوع الفيزياء الكلاسيكية المادة في الزمان والمكان، مجمل عالم الظواهر، مجال شتى العلوم الإخبارية، فبدت قوانين الفيزياء كإطار لهذا الكون، لعالم العلم، قوانين الفيزياء هي الأكثر عمومية، تنطبق على مجمل موضوعات العلم، فلا بد وأن تسلم بمسلماتها كل فروع العلم الأخرى، ما دامت تضطلع بالإخبار عن هذا العالم.
وينتقل العلم إلى المجموعة الثانية، مجموعة العلوم الحيوية التي تدرس موضوعا أعقد من مجرد المادة. إنها المادة التي أضيفت إليها القدرة على القيام بوظائف الحياة، فلا بد وأن نضيف القوانين والفروض العلمية المختصة بظاهرة الحياة ووظائفها. وكما أوضح داعية الفلسفة العلمية، العالم الفيزيائي هانز رايشنباخ
H. Reichenbach (1891-1953م) الفيزياء - كما نرى - ليست علما موازيا للبيولوجيا، بل علما أكثر أولية يحكم حركة المادة بأسرها، بينما لا تحكم البيولوجيا إلا قطاعا محددا من المادة هو المادة العضوية الحية فحسب، لكن قوانين الفيزياء تشمل المادة الحية وغير الحية على السواء، بينما تقتصر البيولوجيا على دراسة تلك القوانين التي تسري مع القوانين الفيزيائية على الكائنات الحية. وبالتالي ينبغي أن تلحق القوانين البيولوجية بالقوانين الفيزيائية حتى تكتسب دقتها وعموميتها. ويساعد البيولوجيا على هذا أنها لا تملك استثناء للقوانين الفيزيائية؛ فالجسم الحي يسقط كالحجر تماما ولا يمكنه أن ينتج طاقة من لا شيء،
39
والعمليات الكيميائية تجري داخله كما تجري خارجه. ما يحدث هو مزيد من التعقيد. هكذا تتكامل العلوم البيولوجية مع العلوم الفيزيوكيميائية، وهاتان المجموعتان الفيزيوكيماوية والبيولوجية يمكن أن يمثلا معا مجموعة علوم المادة، الجامدة والحية، التي تقابل المجموعة الثالثة وهي مجموعة العلوم الإنسانية، موضوعها أعقد وأعقد، فلن تكفي قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، وإن كانت بالطبع تنطبق على الإنسان حين يسقط من عل وفقا لقانون سقوط الأجسام الفيزيائي، وحين تؤدي أعضاؤه وظائفها وفقا لقوانين البيولوجيا. ومن أجل الإحاطة بالظواهر الإنسانية لا بد وأن ينضاف إلى هذا وذاك قوانين أو فروض أو نظريات تتناول ظواهر الوعي الفردي والجمعي بسائر تشكلاته وتمثلاته ونواتجه، وهذه هي العلوم الإنسانية.
ويمكن ملاحظة أن هذا التدرج المنطقي للعلوم تبعا لمستوى تعقيد موضوعها يوازيه تدرج عكسي في مستوى تقدمها، ولعله أيضا تبرير منطقي لتدرج مستوى التقدم - من منظور العلم الكلاسيكي على الأقل. فالفيزياء أكثر العلوم تقدما وموضوعها أبسط، وكانت درجة تقدم البيولوجيا آنذاك أقل كثيرا؛ لأن موضوعها أعقد. والعلوم الإنسانية درجة تقدمها أقل وأقل؛ لأن موضوعها أعقد وأعقد وأضيفت إليه كل تعقيدات ظواهر الوعي بعد تعقيدات ظواهر الحياة. والجدير بالذكر أن تشكل نسق العلم على هذا النحو، أدى إلى فكرة سادت آنذاك عن العلم الواحد الموحد، بمعنى رد كل العلوم إلى الفيزياء، ومعالجة سائر الظواهر حتى الظواهر النفسية في حدود ومصطلحات ولغة الفيزياء، في إطار من العلم الموحد الذي كان مشروعا لم يحرز نجاحا، على الرغم من أنه كسائر تصورات العلم الكلاسيكي، يحدوه النجاح الذي أحرزته الفيزياء، وعلى وجه التحديد نظرية نيوتن، المثل الأعلى المطروح والتي حددت إطار نسق العلم الحديث؛ ليكون بحق أنجح المشاريع التي أنجزها الإنسان.
وقد رأينا نسق العلم الحديث يترسم طريقه واضحا، ويقطعه بثقة وثبات من إنجاز إلى إنجاز ومن نصر إلى آخر؛ لأنه استند إلى تصور واضح لطبيعة المعرفة العلمية، وكان أخطر ما في هذا التصور أنه في الوقت نفسه انعكاس لطبيعة موضوع المعرفة، أي تصور لطبيعة الكون والعالم الفيزيقي. وهذا ما يبلوره مبدأ العلم الحديث الذي هيمن على العلم وحكمه من رأسه حتى أخمص قدميه، أي مبدأ الحتمية
Unknown page