56

Falsafat Cilm

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Genres

وكان هذا هو معتقد العقلانيين والتنويريين في القرن الثامن عشر، هولباخ ودولامبير ولامتري وكوندرسيه، إنهم أكدوا إمكانية الرياضة الإنسانية والفيزياء الاجتماعية وفيزيولوجيا كل شعور أو اتجاه أو نزوع، في نفس دقة وجدوى أصولها في العلوم الطبيعية، وأن الميتافيزيقيين ضحية الوهم والخداع، فلا شيء في الطبيعة غائي، وكل شيء خاضع للقياس والتكميم، وفي الإجابة على الأسئلة التي تؤرقنا سيشرق علينا الفجر بنور العلم،

35

بل إن أصحاب الدراسات الإنسانية خصوصا النفس والاجتماع، نازعهم الحلم الطوباوي بالظفر بمنزلة تساوي منزلة الفيزياء، بمناهجها الرياضية وتطبيقاتها القوية، وربما الظفر بمنزلة تفوق الفيزياء؛ وذلك عن طريق إعادة تشكيل البشر والمجتمعات.

36

كان هذا هو الحلم الذي أينع طوال القرن الثامن عشر، حتى عرف كيف يتلمس طريقه إلى أرض الواقع خلال القرن التاسع عشر . وأبرز من أسهموا في إنجاز هذا الفرنسي أوجست كونت

A. Comte (1798-1857م)، رأى نسق العلم يستوعب الظواهر الكونية جميعا ما عدا الإنسان، فبدا له العلم بالمجتمع ضروريا لكي يكتمل النسق العلمي، كان تلميذا للواحديين الماديين والتنويريين كوندرسيه وسان سيمون، فبدأ من قضيتهم القائلة: إن الإنسان ليس فريدا ولا يحتاج لمعالجة فريدة، بل هو قاطن في مملكة الحيوان والنبات، يخضع مثلها لقوانين عامة، حين نكتشفها ستقودنا إلى الهناء والتجانس، ومن أجل كشفها دعا كونت إلى إنشاء الفيزياء الاجتماعية التي تدرس المجتمع بمنهج العلم الحديث، فتقتصر على تفسير الظواهر بفضل ما بينها من علاقات ثابتة لتماثلها وتعاقبها، إنها الطريقة الوضعية، لا اللاهوتية ولا الميتافيزيقية، طريقة العصر الحديث الوضعي، إن الفيزياء الاجتماعية تدرس الظواهر الاجتماعية، تماما كما تدرس العلوم الأخرى الظواهر الفلكية أو الفيزيائية أو الكيميائية أو البيولوجية. وقسم كونت الفيزياء الاجتماعية إلى قسمين، هما: الديناميكيا الاجتماعية التي تدرس المجتمعات في حركيتها وتقدمها، والاستاتيكا الاجتماعية التي تدرس المجتمعات في حالة ثباتها واستقرارها خلال مرحلة معينة من تاريخها. ولنلاحظ أننا إزاء حدود الميكانيكا والفيزياء الرياضية، وكونت بطبيعة الحال يقر أن الرياضيات على رأس نسق العلم وأنها النموذج الأمثل الذي ينبغي أن تحتذيه كل دراسة لكي تصير علما. لكن كونت اعترف فيما بعد بأن الظواهر الاجتماعية أكثر تعقيدا؛ لذلك فإن تطبيق المنهج الرياضي في دراستها سيكون محدودا - في الوقت الراهن على الأقل، وقد يعطي فقط مظهرا أو وهما علميا، ولن يصل بالاجتماع إلى قوانين دقيقة وحتمية؛ لذلك نبذ كونت مصطلح «فيزياء اجتماعية» واستقر على مصطلح علم الاجتماع (سوسيولوجي

Sociology ). وجاء من بعده إميل دوركايم

E. Durkheim (1858-1917م) ليؤكد أن علم الاجتماع قائم بذاته ويدرس ظواهر لا يشاركه بها أي علم آخر، وعليه أن يبحث عن علل ظواهره، وراح يؤكد أن كل ظاهرة لها علة واحدة، وليس هناك غائية أو هدف، ولكي تكتمل الإحاطة بالظاهرة الاجتماعية علينا أن نحدد علتها وأيضا وظيفتها، فقد تمسك بأن كل ظاهرة اجتماعية لها وظيفة ما، تماما كالوظيفة الحيوية للعضو؛ لأنه كان مولعا بإدخال المماثلة البيولوجية في علم الاجتماع، بمعنى النظر إلى المجتمع كما لو كان كائنا عضويا مترابط الأعضاء في وحدة منسجمة.

وإذ نعود إلى التقدم الذي أحرزته علوم الحياة والدفعة التي أعطاها كلود برنار للفيزيولوجي، نجد أن ذلك القرن الخصيب - التاسع عشر - يشهد كشوفا في فيزيولوجيا الجهاز العصبي خصوصا مع دراسات الألماني يوهانس مولر

J. Muller (1801-1885م) ومبدئه القائل إن كل عصب ينتج نوعا واحدا فقط من الإحساسات بصرف النظر عن المؤثر الحسي ذاته. وبتطوير المناهج المعملية الملائمة، أرسى رجال جملتهم ألمان، أمثال فيبر

Unknown page