Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genres
32
ولعل أشهر الآثار في هذا «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة، و«إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للقفطي، و«معجم الأدباء» لياقوت الحموي، الذي ضم بين دفتيه أعلام العرب في مجالات علمية خالصة.
ويلقى تاريخ العلوم عند العرب الآن ما يستحقه منا من اهتمام كبير، إنه يشغل مساحة تاريخية تمتد من القرن الثامن الميلادي إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، وهو في الواقع يملأ كل الفراغ الحضاري الممتد منذ انتهاء عصر العلم السكندري في مصر في العصر البطلمي، إبان القرن الأول الميلادي، حتى بزوغ الجمهوريات الإيطالية في عصر النهضة.
بيد أن القيمة الخطيرة والماثلة لتاريخ العلم عند العرب تتمثل في أنه - ببساطة المقدمة المفضية منطقيا وتاريخيا إلى مرحلة العلم الحديث، وتفصيل هذا أمر طويل عريض؛ لذلك نكتفي باللفتة النافذة التي أسرف توبي هف في التعويل عليها وتأكيدها وهو يحاول تفسير بزوغ فجر العلم الحديث، إنها اللفتة الخاصة بمرصد «مراغة» الواقعة الآن في حدود إيران، حيث استطاع العاملون فيه، خصوصا إبان القرنين الثالث عشر والرابع عشر ، التوصل إلى ابتكار أول نظام فلكي غير بطلمي، ومن هؤلاء العاملين في مراغة الأزدي المتوفى عام 1261م، والطوسي المتوفى عام 1279م، وقطب الدين الشيرازي المتوفى عام 1279م، وأهمهم جميعا ابن الشاطر المتوفى عام 1375م. ويؤكد توبي هف تأكيدا مشددا على أن ابن الشاطر بالذات هو الذي مهد لكوبرنيقوس، وعلى تفاصيل التناظر بين نماذج هذا الأخير ونماذج مرصد مراغة ، بحيث إن السؤال الذي بحثه نفر من مؤرخي العلم الحديث ليس عما إذا كان، وإنما متى وأين تعلم كوبرنيقوس نظرية مراغة؟ يقول توبي هف:
وشد ما هو ذو دلالة خطيرة فعلا، أن العلماء العرب المسلمين هم الذين مهدوا الطريق المفضي إلى الثورة العلمية في أوروبا، لقد عمل العرب على تطوير ومناقشة جوانب عديدة للمنهج التجريبي، وتخطيط كيفية التسلح بها، ليس هذا فحسب، بل أيضا طوروا الأدوات الضرورية للوصول إلى أرقى مستويات الفلك الرياضي، علاوة على هذا، فإن العمل الذي اضطلع به مرصد مراغة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، قد بلغ ذروته في عمل ابن الشاطر (المتوفى عام 1375م)، وتمخض عن تطوير نماذج كوكبية جديدة للكون، كثيرا ما توصف بأنها باكورة النماذج اللابطليمية على طول الطريق المفضي إلى العلم الحديث. وفضلا عن هذا، فإن تلك النماذج الكوكبية هي ما اتخذه كوبرنيقوس فيما بعد، لم يكن ينقصها العامل الرياضي، أو أية عوامل علمية أخرى، العامل الوحيد المفتقد في هذه النماذج هو أن ترسو على فرض مركزية الشمس، وكان الفشل في الإقدام على هذه الوثبة الميتافيزيقية من كون مركزه الأرض إلى كون مركزه الشمس هي التي حالت بين العرب وبين إحداث النقلة من العالم المغلق إلى الكون المفتوح.
33
وكان كوبرنيقوس هو الذي أقدم على هذه الوثبة، فكانت بداية حركة العلم الحديث بفضل يعود إلى تاريخ العلوم عند العرب على العموم، ومرصد مراغة على الخصوص.
بيد أن النقلة المحورية من العلم القديم إلى العلم الحديث، والتي قدر لها أن تتخذ من الحضارة الأوروبية مسرحا، إنما هي مسألة تحتاج - بلا شك - إلى مزيد من التوضيح والتفصيل .
خامسا: من العلم القديم إلى العلم الحديث
في ذلك الطريق الطويل العريض، والذي امتد حتى نهايات العصور الوسطى، قطع العلم القديم شوطا كبيرا لا يستهان به البتة، لا شك أنه كان الخلفية العريضة والمقدمة الضرورية لكي ينبثق عنها عملاق العلم الحديث في العصر الحديث؛ ليصنع العالم الحديث للإنسان الحديث. ومهما صادرنا على الأهمية الكبرى والمحورية للعلم القديم وأوليناه ما يستحقه من عناية، فلا بد من الاعتراف بأن العلم الحديث لم يكن مجرد بوابة كبرى انفتحت لتنطلق منها ظاهرة العلم انطلاقة عظمى ويتسارع تقدمها بمعدلات لا عهد للبشر بها من قبل، بل كان العلم الحديث أيضا، من زاوية العقل ومن زاوية الواقع على السواء، مستوى جديدا ومغايرا من مستويات وجود الإنسان في هذا الكون.
Unknown page