Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genres
بطبيعة الحال رفض بوانكاريه تماما التفسير التجريبي لأصول الرياضيات مع جون ستيوارت مل، وجعل الرياضيات عقلية خالصة. أما في الفيزياء فيميز بوانكاريه بين عناصر التجربة والنتائج الاختبارية وبين عناصر التعقل الرياضي والاصطلاح والفرض، موضحا أننا نميل إلى الخلط بينهما، لكن لا بد من التمييز بين المبادئ والنظريات البحتة وبين القوانين الجزئية، ودور العناصر التجريبية في القوانين الجزئية فقط. صحيح أن التجربة تصدق على قوانين نيوتن الثلاثة، إلا أن التجربة لا يمكنها أبدا انتهاك هذه القوانين أو إثبات خطأها، وستظل إلى أبد الآبدين صحيحة، فهي مجرد اصطلاحات وتعريفات متفق عليها ونحن نقبلها؛ لأنها الأبسط، ونمارس البحث العلمي كما لو كانت هي أبسط نظرية، على الرغم من صعوبة إثبات هذا. وأخيرا انتهى بوانكاريه إلى أن هذه النظرة الاصطلاحية لا تنطبق على العلم التجريبي بأسره، بل فقط على المبادئ الأولية والنظريات البحتة والقوانين شديدة العمومية كقانون القصور الذاتي مثلا، أما القوانين التجريبية الجزئية فليست اصطلاحية.
كان بوانكاريه عالما ثوريا تقدميا مشهودا له بالنجاح، بينما هو فيلسوف علم محافظ، يتحفظ في تطبيق اصطلاحيته ذاتها. ثم يرى الإقليدية ستظل متربعة دائما على عرش العلم، ويصر على أن قوانين نيوتن فوق مطاول الاختبار التجريبي، وهذا ما نقضته تطورات العلم التالية في القرن العشرين.
أما بيير دوهيم (1861-1916م) فقد سحب التفسير الاصطلاحي على العلم بأسره، وذلك في كتابه «هدف وبنية النظرية الفيزيائية 1906م»، رأى أن النظرية العلمية تمدنا بنظام صوري عام لضم عدد كبير من القوانين الجزئية. وهي بهذا بنية من كيانات مجردة، ليست وصفا ولا تفسيرا لوقائع العالم التجريبي، بل هي مجرد أدوات اصطلحنا عليها للتنبؤ، صيغت بحيث تكون أكفأ وتنبؤاتها أدق. كل ما يبدو وصفا هو مجرد تعيين لعلاقات تجعل التنبؤ أسهل وأدق. أما التفسير فغير ذي قيمة ولا دور. مهمة العلم تنحصر في تحديد العلاقات بين الظواهر.
يتفق دوهيم مع بوانكاريه على دور الرياضيات الجوهري في أداء هذه المهمة. وأوضح دوهيم أننا حين نستخدم الرياضيات في العلم فإننا نعبر بها عن خصائص قابلة للقياس بطريقة اصطلاحية بحتة، وذلك عن طريق الرموز الرياضية التي تربط الظواهر بعلاقات فيما يسمى «بالفروض» وتترابط الفروض على أساس الطرق الرياضية، والنتائج تترجم إلى لغة الفيزياء لكي تصبح تنبؤات. وبشكل عام يلعب «الفرض» دورا بارزا في الفلسفة الاصطلاحية بأسرها.
لم يهتم بوانكاريه بتاريخ العلم، بينما كان دوهيم شديد الاهتمام به. وهذا الوعي التاريخي الفريد جعل دوهيم يرى النظريات العلمية في نشأتها ونموها ثم ذبولها لتحل محلها أخرى، ورفض تماما ما ذهب إليه بوانكاريه من أن قوانين نيوتن تظل دائما صحيحة ولا يمكن أن تنتهكها تجربة. كان دوهيم على عكس بوانكاريه الفيلسوف المحافظ والعالم الثوري التقدمي الناجح، أما دوهيم فهو فيلسوف ثوري تقدمي وعالم محافظ، بل رجعي وذو نجاح محدود، وعلى الرغم من قدراته المنطقية العالية، فإنه في كل قضية علمية تصدى لها اتخذ الجانب الخاطئ الخاسر، رفض معادلات ماكسويل الكهرومغناطيسية الفذة وانتصر لنظرية هلمهولتس التي راحت الآن في طي النسيان. لم يرحب بالفرض الذري في الفيزياء وهاجم النسبية بشراسة حين ظهورها، على الرغم من أن هذه الجوانب التي يرفضها هي الأكثر اتساقا مع فلسفته الاصطلاحية.
53
ويبدو أن ما دفع دوهيم وأقرانه إلى مثل هذه المواقف المناوئة لخطى التقدم العلمي هو المذهب الاصطلاحي ذاته حين ينفصل عن الدلالة الأنطولوجية للقانون العلمي، ويرفض المحك التجريبي ومفهوم التجربة الحاسمة، وتغدو النظريات المتعاقبة أوصافا متكافئة لنفس الظاهرة. ولن يعترف الاصطلاحيون والأداتيون عموما بتزايد المحتوى الإخباري أو عمق القوة التفسيرية للعالم الذي نحيا فيه. ولم يكن بوانكاريه موفقا في هجومه على المدرسة المنطقية في أصول الرياضيات، تماما كما لم يكن ماخ موفقا في رفضه للنظرية الذرية في الفيزياء، ولا كان دوهيم موفقا في هجومه على النسبية.
ثم شهدت فلسفة العلم في القرن العشرين فلاسفة آخرين قادرين على جعل الاصطلاحية مسايرة وموائمة أكثر لخطى التقدم العلمي الثورية، منهم آرثر إدنجتون نفسه الذي ربط منزلة القوانين العلمية بمناهجنا لاكتساب المعرفة، ولويس
C. I. Lewis
الذي بحث في عناصر أولانية سابقة على الخبرة التجريبية تتسلل إلى نسق العلم في شكل التعريفات والتصنيفات والمعيار المقبول ضمنا للحقيقة. ذهب لويس إلى أنه لا توجد معرفة بدون تأويل عقلي، والتأويل يعتمد على هذه العناصر الأولانية، وفي إطارها ينمو العلم ويتطور بحيث إن ما يبدو قانونا تجريبيا قد يصبح في مرحلة لاحقة مبدأ اصطلاحيا، وأخرج لويس عملية «العقل ونظام العالم 1929م»، و«المفهوم البرجماتي للأولانية 1932م»، وهما من العروض الهامة للمذهب الاصطلاحي. ثم عمل آرثر باب
Unknown page