165

Falsafat Cilm

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Genres

هكذا نجد أن تصور عالم من أحداث محايدة ، تكاتفت لتشييده أربعة علوم هي: المنطق الرياضي والفيزياء وعلم النفس والفيزيولوجيا. وكان انعكاسا لكشف العلم عن الطبيعة الذرية لكل شيء، وقد وجد صياغته الدقيقة عام 1918م في مذهب الذرية المنطقية

Logical Atomism

الذي يعتز به رسل كثيرا، فيؤكد دائما أنه لا يرتبط إلا ببطاقة فلسفية واحدة هي أنه ذري منطقي، عالم الأحداث المتكثر يتشكل في هيئة وقائع ترتبط بعلاقات، الواقعة هي شيء معين له كيفية معينة، أو أشياء معينة ترتبط بعلاقات معينة، الواقعة ترسمها القضية الذرية التي تعبر عن الشيء الواحد في نقطة معينة من المكان ولحظة معينة من الزمان. أما إذا ارتبطت واقعتان أو أكثر فإن القضية التي تسميهما هي القضية الجزيئية. ويعترف رسل بأنه يدين في هذا المذهب كثيرا لتلميذه وصديقه فتجنشتين، فهو مذهب مشترك بينهما، طوره كل منهما تطويرا خاصا به، بدا عند فتجنشتين أكثر تطرفا.

تلك هي أنطولوجية رسل أو تصوره للعالم، هيكل فلسفته العلمية التحليلية التي علمت القرن العشرين كيف تكون التجريبية منطقية. إنها تجريبية تختلف اختلافا كبيرا عن تجريبية القرن الأسبق الفجة التي راودت رسل أيام واقعيته الساذجة المفرطة، وقد كان إمامها جون ستيوارت مل صديقا لوالديه، وكان أباه في العماد، وبنفس القدر تختلف التجريبية المنطقية عن مثالية برادلي وسواه التي ترى العقل وحده بمنطقه كفيلا بإدراك العالم ولا حاجة لمعطيات الحواس، فتطيح بالتجريبية من أساسها.

كان رسل مثاليا، ثم انقلب إلى النقيض إلى الواقعية الساذجة، وفي مرحلة ثالثة افترق عن الواقعية؛ ليصل إلى مركب جدلي شامل يختلف عن المثالية وعن الواقعية يجمع خير ما فيهما ويتجاوزهما إلى الأفضل، مما يجعل تجريبية القرن العشرين تقدما فلسفيا ملحوظا. إنها تستبقي مساحة ما من المثالية، من حيث ترهن وجود العالم بقوى الإدراك، وترى المعرفة الأصل الذي ترتكز عليه نظرية الوجود، فترتد الأنطولوجيا إلى الإبستمولوجيا. إن أسبقية المعرفة على الوجود هي عنصر مثالي.

رأينا مع رسل أن نوع سلسلة الأحداث يتحدد تبعا للنظرية العلية للإدراك، فإذا كانت إحساسات أي مدركة عبر أعضاء الحس فالعلة مادية فيزيقية تجعل سلسلة الأحداث مادية منتمية لعلم الفيزياء، وإذا كانت صورا ذهنية، أي مدركة عبر علية مركزية في المخ والذاكرة فالسلسلة علية سيكولوجية منتمية لعلم النفس. إذا التمييز بين العقل والمادة ليس خاصة كامنة في أيهما، بل يتوقف على طريقة إدراكنا للشيء. ولما كان هذا الإدراك يحدث في ذهن الإنسان، فإن التمييز بين الحوادث التي تشكل العالم بأسره يكون في ذهن الإنسان، بل الحوادث ذاتها في ذهن الإنسان! فنحن لا نعلم شيئا عن العالم إلا استدلالا مما يقع في خبرتنا، فلا نستطيع القول: إن العالم المادي خارج رءوسنا يختلف أو لا يختلف عن العالم العقلي داخلها؛ لأنه لا عالمين أصلا، بل مجاميع أحداث ترتبط بروابط علية مختلفة. يعقب رسل على هذا وتأثيره على التجريبيين الخلص بقوله: «قد أفزعت الفلاسفة بقولي إن أفكارهم في رءوسهم، وراحوا يؤكدون في صوت واحد أن رءوسهم ليس فيها أفكار قط، لكن الأدب يمنعني من قبول هذه القضية.»

32

إننا إزاء ما يمكن وصفه بالتجريبية المثالية، وكان المنطق هو القادر على تطعيم التجريبية بعنصر مثالي، يحد من غلوائها الاستقرائي وتطرفها المغرور، ما دام المنطق في أصله علم قوانين الفكر. والرائع حقا أن تطورات العلم وفلسفته ونظريته المنهجية في القرن العشرين تبارك هذه التجريبية المثالية، من حيث نجعل الفرض قبل الملاحظة، والعقل قبل الواقع.

سوف تغمر مثل هذه التجريبية المنطقية المثالية فلسفة العلم في القرن العشرين، وكان رسل هو القادر على شق الطريق المنطقي للتجريبية. وكما يقول فيلسوف التحليل جيلبرت رايل

G. Ryle (1900-1976م) كان رسل دائما ذلك المخلوق النادر، الفيلسوف الموزع بين الترانسندنتالية المتعالية والنزعة الطبيعية. القمم المثالية لأفلاطون وليبنتز وفريجه تتنازعه، تماما كما تتنازعه وديان هيوم ومل وجيمس، أو أنه موزع بينهما. ومنذ يفاعة الصبا تشكلت عقليته بأصابع جون ستيوارت مل من ناحية وبصمات الرياضة البحتة من الناحية الأخرى. وفي سنوات إنتاجه المتميز لم يكن مستكنا على قمم المثالية، ولا كان هاجعا في وديان التجريبية، وأيضا لم يكن متأرجحا كالبندول بينهما، الحق الصراح أنه كان دائم البحث عن طريق آمن وممهد بينهما ، ربما كان أكثر ارتياحا للسفوح التجريبية، لكنه لم يهجر القمم المثالية أبدا. وكان منذ البداية يأمل في أن يجمع بين النزعة العقلية المثالية كما تتجسد في المنطق والرياضيات وبين النزعة الحسية كما تتمثل في التجريبية؛ ليصل إلى إطار تتلاءم داخله المكتشفات الثورية للعلم.

Unknown page