Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genres
اقترنت الأحداث المحايدة باسم رسل؛ لأنه هو الذي صاغها صياغة منطقية دقيقة بفضل أدواته المشار إليها آنفا، وهي نصل أوكام والأبنية المنطقية واللغة المثالية الرمزية. لكنها كانت شائعة من قبل بين فلاسفة الواقعية الجديدة في أمريكا وعلى رأسهم وليم جيمس، وأيضا تشونسي رايت
C. Wright (183-1875م) ورالف بارتون بيري
R. B. Perry (1876-1957م) فضلا عن نفر من فلاسفة القارة الأوروبية أهمهم إرنست ماخ. رسل نفسه يطلق على الواحدية المحايدة اسم «فرضية ماخ وجيمس». قام ماخ في كتابه «تحليل الإحساس 1886م» بتحليل الأشياء الفيزيقية إلى عناصر أسماها الإحساسات ما دمنا نكتشفها من الخبرة الحسية، وليست الإحساسات علامات على الأشياء، بل الشيء هو الذي يعد رمزا فكريا لإحساسات ذات ثبات نسبي. والإحساسات ليست ذهنية ولا هي فيزيقية، إنها محايدة وتشكل النسيج الذي يتألف منه العالم. وهذا الذي بلغه ماخ من خلال الفيزياء بلغة وليم جيمس من خلال علم النفس. فمن أجل تجريبيته الجذرية أراد جيمس الوصول إلى تصور للعالم لا يسمح بدخول أي عنصر غير تجريبي لا يقع في الخبرة، وبهذا تغدو الخبرة الخالصة هي الخامة الواحدة والوحيدة التي يتركب منها كل شيء في العالم، عقلي أو مادي، وهي مختلفة عن كليهما.
إحساسات ماخ أو خبرات جيمس أو أحداث رسل، خامة واحدة لا هي عقل ولا هي مادة، بل محايدة بينهما، ويتشكل كلاهما منها. تلك هي الواحدية المحايدة، فلسفة العالم التعددي تعددية أحداثه البالغة الكثرة، والتي تمثل أساسا أنطولوجيا ملائما للعلم التجريبي. وبعد أن كان رسل ينتقد جيمس ويرفض خبراته المحايدة، انقلب فجأة في عام 1919-1920م ليسلم بها ويثني على جيمس الثناء الجميل ويعتبره من أهم الأعلام المشكلين لفلسفة القرن العشرين.
لماذا كان هذا الانقلاب من رسل؟ الإجابة: لأن عام 1919م شهد نصرة النظرية النسبية لآينشتين التي أوضحها الفصل السابق، حين خضعت للاختبار التجريبي العسير واجتازته بفضل بعثة آرثر إدنجتون. كان شغف رسل بالغا بمتابعة أخبار وتفاصيل هذه البعثة، وانفعاله بنتائجها عميقا حتى مر عليه وقت - على حد تعبيره - رأى فيه أي شيء بخلاف النسبية لا يستحق اهتماما وندم على أعوام عمره السابقة، التي أنجزت ما أنجزت؛ لأنه أنفقها في غير مجالات النظرية النسبية! على العموم يسير رسل في الاتجاه العام لفلسفة العلم في القرن العشرين ويعتبر الفيزياء أخطر العلوم وأهمها والبوصلة الموجهة للعقل العلمي ومحور فلسفة العلم.
الواقع أن النظرية النسبية هي التي جعلت رسل يقلع تماما عن أية ثنائية للعقل والمادة ويأخذ بالتصور الواحدي المحايد للعالم؛ لأن النظرية النسبية تملي الأحداث المحايدة. لقد أطاحت بالانفصال التقليدي بين مفهومي الزمان والمكان، وأحلت بدلا منهما المتصل الزماني/المكاني الرباعي الأبعاد، وهو ليس كيانا واحدا يحل محل كيانين وليس شيئا وليس مسرحا جديدا للحدوثات، بل هو نظام من العلاقات بين الأحداث، يهدم تماما التصورات التقليدية عن التتابع الزماني والتجاور المكاني، وعن المادة بوصفها مكونة من جزئيات عبر آنات الزمان في نقطة من المكان. يبين رسل الواحدية المادية والواحدية المثالية كلتيهما ذات فكرة مرتبكة عن المادة، أصحابهما عاشوا عبيدا لتصور الزمان والمكان ككيانين منفصلين، فتصوروا المادة حدثا في المكان والعقل حدثا في الزمان،
30
تملي علينا النسبية الإطاحة بكل هذا، فلا يبقى إلا أحداث محايدة. الحادثة لا تبقى ولا تتحرك كقطعة المادة، إنها توجد ثم تنتهي، فتنحل قطعة المادة إلى سلسلة من الحوادث، والجسم سلاسل من هذه الحوادث، الجسم هو تاريخه وليس كيانا ميتافيزيقيا يحمل تلك الحوادث، تماما كما أن العقل هو تاريخ سلاسل أحداث وليس كيانا ميتافيزيقيا،
31
الكوانتم أيضا تملي علينا هذا، فقد ارتدت الذرة إلى إشعاعات، إلى سلاسل من الأحداث، ولا سكون البتة في قلب الذرة، ولا وجود للشيء أو الجوهر المادي. ولعل المخ أبعد منا عن المادة؛ لأننا أكثر جهلا به، وكل ما يعرفه عالم الفيزيولوجيا عن المخ ما هو إلا نتاج سلاسل أحداث واتصالات علية أعقد وأطول.
Unknown page