Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genres
24
وبينما بدت كتل المادة في الفيزياء الكلاسيكية كأنها تحمل سر الوجود، إن اكتشفناه فقد أحكمنا قبضة اليد على هذا الكون، فإن فيزياء الكوانتم والنسبية في القرن العشرين جعلت شعاع الضوء هو الحامل لأسرار الوجود.
والسؤال الآن: كيف حدثت كارثة الأثير التي أفضت إلى النظرية النسبية؟
على الرغم من اتساع عائلة الإشعاع، فإن الضوء خصوصا يحتل مكان الأولوية في الطبيعة؛ لأن له سرعة لا يمكن أن يبلغها أي شيء آخر يتحرك، وكان ثمة نظريتان متعارضتان لتفسير طبيعة الضوء - كما لاحظنا فيما سبق - النظرية الجسيمية والنظرية الموجية، الأولى تشبه الضوء بمجموعة من الجسيمات المنفصلة أو القذائف الصغيرة تسير في مسارات متقاربة جدا، فهي تتصور المصدر الضوئي كما لو كان يقذف جسيمات مضيئة في كل اتجاه، وكان هذا هو تصور فيلسوف الذرة الإغريقية الشاعر الروماني لوكريتوس
Lucretius (99-55ق.م) والحسن بن الهيثم وديكارت، وأيضا نيوتن ولابلاس، الجسم المتحرك - كالقذيفة مثلا - ينطلق في خط مستقيم، وحينما أثبت نيوتن أن الضوء ينطلق أيضا في خط مستقيم في الوسط المتجانس اعتبره سيالا من الجسيمات يقذف بها مصدر الضوء؛ لذا عرفت نظرية نيوتن في الضوء باسم النظرية الجسيمية
Corpuscular Theory of Light . ولما كان الضوء شكلا من أشكال الإشعاع، فإن أي إشعاع سيال من الجسيمات، على أساس النظرة النيوتنية.
ولكن هذه النظرية وصلت إلى طريق مسدود بسبب ظواهر ضوئية من قبيل الانعكاس والانكسار والتداخل والحيود، الانعكاس يحول مسار جزء من الضوء، والانكسار يقطع طريقه إذا دخل في الماء أو أي وسط سائل مسببا مظاهر للخداع البصري كأن يتغير مظهر المجداف المغموس في الماء أو يبدو النهر أكثر ضحالة. وقد توصل عصر نيوتن إلى القوانين التي تحكم هذه الظواهر، فكانوا يعرفون مثلا أن زاوية سقوط الضوء هي زاوية انعكاسه نفسها، وفي حالة الانكسار جيب زاوية السقوط ذو نسبة ثابتة إلى جيب زاوية الانكسار.
ولكن حين يسقط شعاع الضوء على سطح ينكسر جزء من الشعاع، وينعكس الجزء الآخر مسببا انعكاس صورة الأجسام أو انعكاس ضوء القمر على سطح البحيرة مثلا. ونظرية نيوتن الجسيمية تفشل في تفسير هذا، فلو كان الضوء مكونا من جسيمات لكائن أثر الماء واحدا فيها جميعا، وإذا انكسر مسار جسيم واحد وجب أن تنكسر جميع الجسيمات، وقد حاول نيوتن مواجهة هذا بأن يعزو إلى سطح الماء أدوارا متبادلة من النفاذ والانعكاس
Alternative fits of transmission and Reflection ، مما يجعل جسيما معينا ينفذ من سطح الماء، بينما يمتنع نفاذ الجسيم الآخر، فيحدث الضوء المنعكس، لكن النظرية الجسيمية واجهت صعوبة أخرى أخطر، تتلخص في أن الضوء لا يسير دائما في خطوط مستقيمة تماما، بحيث يمكن فعلا القول: إنه جسيمات تنطلق أو تتحرك، فالأجسام الضخمة تحجب الضوء وتلقي ظلا، أما الجسم الصغير - كالسلك الرفيع أو الخيط أو الشعرة - لا يلقي مثل هذا الظل، إنه لا يحجب الضوء فلا نرى ظلا، بل نرى ما يعرف بمناطق التداخل. وبالمثل ثمة حلقات الحيود في حالة تمرير الضوء من ثقب صغير جدا، وقد تصور نيوتن أن الضوء ينحني حول الأجسام الصغيرة الرفيعة، فلا تلقي ظلا، وبدا لعبقريته النافذة أن هذا دليل على أن الجسيمات الضوئية قد جذبتها الأجسام الصلبة، وقال إن أشعة الضوء تنحني حول هذه الأجسام كأنما هي منجذبة إليها، وأن أشد الأشعة انحناء هي الأقرب في أثناء سيرها إلى هذه الأجسام، كأنما هي الأكثر انجذابا إليها، ولعله بهذا كان يبشر بكشوف الفيزياء في القرن العشرين، لكنه فشل في إقناع معاصريه بهذا وإعطائهم تفسيرا مفصلا لظاهرة الحيود في الضوء، فلم تلق نظريته الجسيمية استحسانا.
25
Unknown page