ولعمر الحق إن هذا لا يحتاج إلى أي تعليق لبيان صحة ما فيه من آراء، فهناك كثير من المبادئ الأخلاقية مسلم بشهادة الواقع من الجميع لصدورها من معين واحد، قد يختلف قليلا أو كثيرا بعض الأحيان، لكنه واحد على كل حال.
ثم التاريخ يكشف لنا أمرا آخر لنا أن نعلق عليه أهمية لها خطرها، المثل الأعلى الأخلاقي يقاسي الكثير من التقاليد في بعض الأزمنة والبيئات، هذه التقاليد التي نراها حجر عثرة في وجه المصلحين دائما.
تصفح تاريخ أمة من الأمم تجد في فترات مختلفة بعض كبار الأحلام والفكر الراجح يعارضون التقاليد الضيقة التي تسيطر في أيامهم، بمثل عليا رحبة واسعة صالحة للجميع.
حقا إن الرأي العام كان يقف ضد هؤلاء العباقرة، إلا أن المستقبل كان يحكم بأنهم كانوا على حق فيما بشروا به، كما أن الإنسانية باركت هذه الثورات المدينة لها بخلقية أعلى وأفضل، وأذاعت في الخافقين أنهم النبلاء المحسنون للإنسانية عامة. ولعل من الطريف أن نلاحظ أن تلك التقاليد التي عارضها أولئك المصلحون كانت مختلفة أشد الاختلاف فيما بينها، وأن هذه الآراء الأخلاقية والمثل التي كانوا يدعون لها في الأزمنة المختلفة والبيئات المتعددة تعطينا مشابهة مدهشة عجيبة وانسجاما خارقا كأنها صادرة من معين واحد.
من الممكن أن يذكر في معرض التمثيل في الأزمنة العريقة في القدم «بوذا» الحكيم الهندي، و«كونفشيوس» الصيني، وسقراط الإغريقي، وأنبياء بني إسرائيل وفلاسفتهم وحكماؤهم، وأخيرا المسيح ومحمد خاتم الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.
يجد الباحث في تراث الهند الروحي وتعاليمها السامية تعاليم أخلاقية صالحة حقا، أو يجب أن تكون كذلك لكل الناس، منها: لا تقتل، لا تكذب، لا تشرب المسكرات، لا تأخذ مال غيرك ولا زوجته، هذه بعض التعاليم الأخلاقية السلبية، وفي التعاليم الإيجابية نجد الأمر بالصبر والرحمة والتسامح والإغضاء عن الأذى والتضحية ونكران الذات، «بوذا» نفسه يقول في بيان وجوب مقابلة السيئة بالحسنة: «إذا كان الحقد يرد على الحقد بالمثل كيف ينتهي إذن؟!» وللبوذيين مثل بديع في وجوب الإحسان، هو أن أرنبا لا يملك من حطام الدنيا شيئا عز عليه أن يرد سائلا طلب ما يمسك به رمقه، فشوى نفسه له حتى لا يرده خائبا! هذا المثل يبين بإعجاب وجوب أن يساعد المرء غيره بما يملك من وقت ومال، وبذات نفسه أيضا، ويحضرني بهذه المناسبة قول الشاعر العربي:
ولو لم يكن في كفه غير نفسه
لجاد بها فليتق الله سائله
وإذا تركنا الهند إلى الصين، نجد كونفشيوس الفيلسوف يبشر في القرن السادس قبل الميلاد كسابقه بأخلاق يحكم العقل السليم بصلاحيتها للجميع، كان يوصي بالاعتراف بالخير والجميل للأموات، وبالشفقة البنوية، وبالإخلاص الأخوي، وبالأدب الذي منبعه القلب، وبالمعاملة الحسنى لجميع الناس؛ ولهذا نجد بعض كلماته تمثل نمطا عاليا من التفكير، وأخلاقا تفرض نفسها فرضا على الجميع، ها هو ذا يقول: «من المعرفة الحقة أن يكون المرء عارفا ويعلم أنه عارف، أو جاهلا ويعلم أنه جاهل، العاقل لا يرفض كلمة طيبة لأنها جاءت من شرير، يجب مقابلة الشر بالخير والظلم بالعدل، أحبوا الآخرين كأنفسكم»، ولما حانت وفاته رفض أن يصلي تلاميذه لأجله، وقال في نبل وإيمان: «حياتي كانت عبادتي وصلاتي.»
وفي اليونان القديمة كان سقراط، مؤسس الأخلاق، يأمر ضمن ما يأمر بأن يكون المرء سيد نفسه، بالشجاعة، بالعدالة ... إلى غير ذلك من الصفات الأخلاقية العامة، وفي ساعة موته رفع شجاعته إلى البطولة قائلا لقضاته، وقد قدم للمحاكمة متهما بالسفسطة وإفساد الشباب والإلحاد: «لشد ما أنتم في الضلال إذا كنتم تعتقدون أن رجلا يعرف لنفسه بعض القيمة يفاضل بين حظوظ الحياة والموت وبين البحث دائما عما إذا كان ما يعمله عدلا أو غير عدل!» وفي قوله لتلميذه كريتون
Unknown page