وفضلا عن هذا نجد أن مصداق الخلل المنهجي قد أتى من الوقائع التاريخية التي حدثت فكذبت كل تنبؤات ماركس تقريبا، مما يعني أن النظرية ذاتها كاذبة؛ وبالتالي ليست الشيوعية حتما مقضيا كما وعدتنا: (أ)
تنبأ ماركس بأن طبقة البروليتاريا سوف تزداد زيادة غير محدودة، وتنكمش طبقة أصحاب رءوس المال انكماشا غير محدود، وهذا لم يحدث أبدا؛ فقد تعقد اتجاه الصناعة وتغير في حالات كثيرة، وأصبحت تعتمد على الثورة التكنولوجية، وثورة المعلومات والكومبيوتر أكثر من اعتمادها على العمال. زادت أهمية المهارة الكيفية للعامل عن أهمية العدد الكمي للعمال، وبدلا من أن تزداد البروليتاريا، ظهرت طبقة ثالثة لم يلتفت إليها ماركس بحكم طبيعة عصره، وهي طبقة المهندسين والعلميين والفنيين والمحاسبين والإداريين ... ودورها في عملية الإنتاج أهم من دور البرجوازية ومن دور البروليتاريا.
وبسبب من تطور المنتجات وتطور الاحتياجات لم تعد المؤسسات الكبرى تفلس أصحاب الصناعات الصغيرة فتضمهم للبروليتاريا، بل قد تعتمد عليها. المؤسسة الكبرى لصناعة السيارات - مثلا - تعتمد على صناعات صغيرة لإنتاج ما يلزمها من جلود المصانع وغيره. من الناحية الأخرى لم تنكمش طبقة أصحاب رءوس الأموال انكماشا غير محدود، بل على العكس، امتلك أسهم كثير من الشركات صغار المساهمين. (ب)
كذبت أيضا نبوءة ماركس القائلة إن الطبقات سوف تختصر إلى طبقتي البرجوازية والبروليتاريا؛ لم يحدث هذا وليس من المحتمل أن يحدث، ومهما تقدمت الصناعة لن تختفي طبقة المزارعين بالذات، ولن تنضم إلى البروليتاريا، وتظل الحياة الريفية متميزة بطابعها المعين. ويمكن القول إن تاريخ الاشتراكية في أواخر القرن العشرين هو في أحد جوانبه تاريخ الصراع بين الحركة البروليتارية وبين طبقة الفلاحين. لقد عالج ماركس الإنتاج الزراعي بسطحية بالغة، الأمر الذي كلف خمسة ملايين من الفلاحين الروس أن يموتوا أو يرحلوا حتى يتحقق نظامه.
على أية حال لم تسفر التطورات التي أعقبت ماركس عن طبقتين، بل عن الطبقات الآتية: (1) البرجوازية. (2) كبار ملاك الأراضي. (3) الملاك الآخرين. (4) العمال الزراعيين. (5) طبقة وسطى من الإداريين والفنيين. (6) طبقة العمال الصناعيين. هذا فضلا عن طبقة المثقفين التي عدها ماركس برجوازية، وهي ليست هكذا إذا تحرينا دقة في المصطلح. ومثل هذا التطور وهو الأمر الواقع في معظم البلدان، من شأنه أن يحطم اتحاد طبقة العمال الصناعيين أو وضعهم ككتلة متحدة، وذلك لتداخل علاقاتهم بالطبقات الأخرى. (ج)
تنبأ ماركس بأن انتصار البروليتاريا ومجيء الشيوعية سوف يتبعه حتما المجتمع اللاطبقي، وليس هذا محتوما، لا نظريا ولا تطبيقيا؛ نظريا، سوف يتحد البروليتاريون ليواجهوا البرجوازيين، ولنفترض أنهم انتصروا وابتلعت البروليتاريا البرجوازية، فلن يعود أمامها خطر تخشاه وتتحد لتواجهه، بل الأدنى إلى المعقول أن الصراعات والمشاكل الخاصة بالبروليتاريا ستنشأ داخلها فتقسمها إلى طبقات من جديد، ثم إنه في حالة انتصارها سوف يقفز إلى السلطة قادة الحركة الثورية ويشكلون طبقة الحكام الجدد في المجتمع الجديد. إنه مجرد نوع جديد من الأرستقراطية والبيروقراطية. هذا ما تحقق في المجتمعات الشيوعية، ولوحظ البون الشاسع بين طبقة الحكام وطبقة المحكومين. (د)
تنبأ ماركس بأن تراكم فائض القيمة سوف يؤدي إلى زيادة بؤس العمال، زيادة في شدته أي في شدة بؤس العامل الواحد، وزيادة في مداه أي بؤس عدد أكبر من العمال؛ وأكد ماركس أن البؤس مادي وأيضا معنوي، فاستغراق العامل في عمله الشاق الذي يغترب عنه من شأنه أن يزيد من بلاهة العامل ومن تشويه قواه العقلية.
فهل حدث هذا؟ وهل زادت بلاهة العمال؟ كلا بالطبع، بل العكس تماما هو الذي حدث؛ جزء من فائض القيمة الآن يستغل في إقامة مجتمعات سكنية ونواد اجتماعية ورياضية وأنشطة ترفيهية للعمال. تطورت النظم التربوية الحديثة، وأصبح التعليم حقا لكل مواطن، برجوازي أو بروليتاري. وتفجرت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية التي تشد الطبقات كلها في اللحظة نفسها للمادة الإعلامية الواحدة، ثم أتت ثورة المعلومات العظمى وثورة الإنترنت التي جعلتها متاحة للجميع بكبسة زر.
كل هذا فضلا عن الصورة التكنولوجية التي أدت إلى إنتاج بالجملة، فجعلت كماليات كثيرة - فضلا عن الأساسيات - في متناول كل الطبقات. والنتيجة هي نمو الوعي العمالي، وباتت طبقة العمال تسقط حكومات وترفع أخرى، وتطور التكوين الثقافي لطبقة البروليتاريا، ولدرجة لم يكن ماركس يحلم بها. (ه)
تنبأ ماركس بأن الشيوعية ستبدأ في أكبر الدول المتقدمة تكنولوجيا، وبالذات إنجلترا وألمانيا، والذي حدث هو عكس هذا تماما؛ فقد تحقق أول انقلاب شيوعي في دولة كانت متخلفة تكنولوجيا، هي روسيا التي استبعدها ماركس تماما على الرغم من علاقته بالمفكر باكونين (1814-1876م) ممثل الفكر الاشتراكي في البرجوازية الروسية، وأعقبت روسيا دولة أكثر تخلفا هي الصين. وفي الربع الثالث من القرن العشرين توالت انقلابات شيوعية في دولة متخلفة كاليمن الشمالية وأفغانستان. (و)
Unknown page