بل هو لا ينفي الوحي الإلهي كما تخيلوه، أو كما يمكن أن يتخيلوه، ولا يبطل ضرورة الاعتقاد بين الجماعات البشرية بحال من الأحوال.
إنهم يتخذون من عقائد بعض العامة، أو عقائد بعض الخاصة دليلا على أنها أمور لا تصدر من عند الله، الذي يصفه أصحاب الأديان بالعلم، والحكمة، والقدرة على هداية العقول إلى الصواب في الكبير والصغير.
فإذا كان هذا هو المبطل للوحي الإلهي؛ فكيف يثبت الوحي الإلهي في قياس أولئك الفلاسفة أو العلماء؟
أيثبت بعقيدة يدين بها العامة كما يدين بها الخاصة، وتطابق الدروس العلمية اليوم كما تطابقها عندما تنقض نفسها بكشف جديد؟!
أيثبت بعقيدة تدخل المعمل الصناعي - أو العلمي - كل سنة أو كل بضع سنوات للفحص والامتحان؟!
أيثبت بعقيدة ليست بعقيدة ولكنها مجموعة من الأزياء الموسمية التي يغيرها الإنسان تارة بعد تارة، ولا يمزجها ببواطن الضمير؟!
كلا؛ فإن الوحي الإلهي - متى ثبت - لا يثبت على النحو الذي تخيلوه، بل على النحو الذي عهدنا عليه الأديان، مع اختلاف العقول واختلاف الأجيال واختلاف المعلومات.
عقيدة هي عقيدة، وإيمان هو إيمان، وبعد ذلك موافقة لدواعي الحياة ومطالب الفكر، وخلجات الشعور، وهكذا تصح العقيدة، إن صحت على الإطلاق، وهكذا يكون الإيمان، إن كان إيمان.
وقد رأيت أناسا يبطلون الأديان في العصر الحديث باسم الفلسفة المادية، فإذا بهم يستعيرون من الدين كل خاصة من خواصه، وكل لازمة من لوازمه، ولا يستغنون عما فيه من عنصر الإيمان والاعتقاد، التي لا سند لها غير مجرد التصديق والشعور، ثم يجردونه من قوته التي يبثها في أعماق النفس؛ لأنهم اصطنعوه اصطناعا، ولم يرجعوا به إلى مصدره الأصيل.
فالمؤمنون بهذه الفلسفة المادية يطلبون من شيعتهم أن يكفروا بكل شيء غير المادة، وأن يعتقدوا أن الأكوان تنشأ من هذه المادة، في دورات متسلسلة، تنحل كل دورة منها في نهايتها؛ لتعود إلى التركيب في دورة جديدة، وهكذا دواليك، ثم دواليك إلى غير انتهاء.
Unknown page