Falsafa Ingliziyya Fi Miat Cam
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Genres
فهو لم يفعل ذلك في ميدان «الأخلاق» التي عرضها بوجه خاص في كتابه: «مذهب المنفعة
Utilitarianism »، سنة 1863، والتي يتعين علينا أن نعرض لها هنا بإيجاز، فهنا يبدأ مل من المذهب النفعي الصريح عند بنتام وأبيه جيمس مل، ولكنه، على الرغم من عدم تخليه نهائيا عن مبدأ المنفعة، قد وصل خلال تطوره إلى نظرية أخلاقية تفوق النظرية التقليدية صقلا وجاذبية بكثير، حتى ليجوز للمرء أن يقول: إن مل قد حول الأنغام الخشنة المزعجة إلى سلم موسيقي أرق وأعذب، فحساسيته الأخلاقية الرفيعة المصحوبة بشعور مرهف في تقديره للقيم، لم تستطع أن تقنعه بمذهب يرد كل فعل بشرى إلى السعي إلى اللذة والسعادة، ويعبر عن جميع مشاعر اللذة والسعادة بطريقة كمية محضة. وصحيح أن مل يفاضل بين مشاعر اللذة وعدم اللذة، وأنه كان في ذلك نفعيا بحق، غير أنه يدرج في حسابه فروقا كيفية أيضا؛ إذ لا يقتصر في تقديره لمشاعر اللذة على كميتها، بل يقدرها أيضا تبعا لمدى علو قيمتها. وهكذا فإن القيمة الأرفع مرتبة يمكن أن ترجح كفتها على قيمة من مرتبة أدنى، ويمكن أن يعد المرء شخصية أخلاقية أرفع إذا كانت الأنواع العليا من القيم أوضح ظهورا لديه من الأنواع الدنيا. وهكذا فإن مل حين يؤثر الحديث عن صالح البشر على تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، وحين يتحدث في فلسفته الأخلاقية عن الواجب والشخصية أكثر مما يتحدث عن السعادة والمنفعة، وحين يجعل القيمة الأخلاقية للإنسان مرتبة أعلى من مجرد السعي إلى تحصيل اللذة، وحين يجعل المثل الأعلى للأخلاق مرتكزا، آخر الأمر، على النمو المتكامل المتناسق الشخصية، في كل ذلك كان مل يستحضر نتائج ذلك التصويب الهام الذي أدخله على الصيغة الأساسية لمذهب المنفعة. وبالمثل خفف مل من حدة النزعة الفردية للمدرسة بالتوفيق بينها وبين نوع معتدل من الاشتراكية، ومن السهل أن يرى المرء في ذلك مجرد نبيذ جديد يصب في زجاجات قديمة، والواقع أن الأسس المنهجية عند مل تماثل نظائرها لدى أسلافه، غير أن المحتوى قد طرأ عليه تغير غير قليل، فمل يقف على مشارف نظرة جديدة إلى الحياة، كان لديه عنها إحساس تنبئي واضح، وإن لم يكن التزامه قيود التراث قد حال دون تمكنه من إدراكها على نحو قاطع.
وسوف أضع اللمسات الأخيرة في الصورة التي أحاول رسمها لتفكير مل بلمحة عن موقفه من المسائل الميتافيزيقية والدينية، ففي ترجمته الذاتية لحياته نجد الفقرة المعبرة الآتية: «إنني في هذه البلاد واحد من الحالات القليلة جدا التي تمثل شخصا لم يتخل عن إيمانه الديني، وإنما لم يكن لديه مثل هذا الإيمان قط، فقد نشأت في حالة سلبية بالنسبة إليه.» وبعد مرور وقت كبير كتب مل «ثلاثة أبحاث في الدين
Three Essays on Religion » وهي أبحاث أثارت دهشة عامة عندما نشرت بعد وفاته، ففيها لم يعد يتمسك بموقف الشك غير المكترث من المسائل النهائية، وإنما يناقشها بطريقة تحفل بالنظر الفلسفي الدقيق، وإن يكن يتحسس طريقه بحذر نحو آراء إيجابية عن النظام الكوني، وعن معنى الألم في العالم، وطبيعة الله، ومسائل ميتافيزيقية أخرى. وهو يبدي في اختباره الدقيق للطريق الذي ينبغي أن يؤدي به من الأسس التجريبية لتفكيره إلى محاولة الإجابة عن المشكلات المتعالية؛ يبدي ميلا واضحا إلى فكرة وجود مبدأ إلهي للعالم، وهو يرى في هذا المبدأ كائنا له أعلى درجات الكمال الأخلاقي، ولكن ليست له قدرة لا متناهية، وهكذا يرى أن فكرة الإله المتناهي، الذي يسير بالكون، في صراعه الدائم ضد المبادئ السلبية للعالم، نحو تطور يزداد على الدوام ارتقاء، والذي يحتاج لذلك إلى التعاون الإيجابي من جانب الإنسان، يرى أن هذه الفكرة تنسجم على أفضل نحو مع التجربة الأخلاقية والدينية، وهي فكرة ثبت في كثير من الأحيان أن لها فائدتها في العصور التالية، وعلى الرغم من استحالة التوفيق بين هذه المرحلة الأخيرة في تفكير مل، وبين الآراء التي ورثها حول هذه المسائل، فإن هذه المرحلة لا تتناقض مع تطوره الفلسفي الخاص، وهي تكشف بوضوح عن أفكار كانت كامنة خلال المجرى العام لتفكيره، ولم تتكشف تماما لسبب واحد، هو أن المذنب الذي ورثه قد أدى إلى كبتها.
ولقد كان «ألكسندر بين
Alexander Bain » (1818-1903) أنبغ تلاميذ مل، كما كان من أصدقائه المقربين، وكان يدين له بالفضل فيما أحرزه من تقدم، وكان ينحدر - مثل مل وأبيه - من أصل اسكتلندي، كما شغل فيما بين عامي 1860 و1880 كرسي الأستاذية في المنطق بجامعة أبردين. ويرجع الفضل إليه وإلى نجاحه بوصفه أستاذا في احتلال المدرسة التجريبية الجديدة لأول مرة المكانة التي تستحقها في الأوساط الأكاديمية، وفي امتدادها إلى شمال المملكة؛ حيث كانت المدرسة الاسكتلندية تسيطر على الميدان حتى ذلك الحين، وحيث توطدت أيضا - منذ عهد قريب - دعائم المثالية، وهكذا فإن «بين» وفريزر الذي يمكننا أن نعده الحارس الذي كان يحمي مؤخرة المدرسة الاسكتلندية في تقهقرها، وكذلك أ. كيرد
Caird ، هؤلاء الثلاثة ظلوا في وقت واحد، وطوال سنوات عديدة، يمثلون في الجامعات الاسكتلندية المدارس الفلسفية الرئيسية الثلاث للفلسفة الإنجليزية في القرن التاسع عشر، وفي ذلك الوقت كانت المدرسة الاسكتلندية في تدهور، والتجريبية في أعلى قممها، والمثالية في طريقها إلى الصعود.
ولقد كان «بين» يتميز إلى جانب عمله في التدريس، بالنشاط وغزارة التأليف في ميدان علم النفس والمنطق والأخلاق والتربية والنحو والبلاغة، ولكن أهم ما اشتهر به هو إنتاجه في علم النفس، وأهم مؤلفاته كتابان عظيمان كان لهما تأثير واسع، هما «الحواس والعقل
The Senses and the Intellect » (1855) و«الانفعالات والإرادة
The Emotions & the Will » (1859)، وفيهما عالج ميدان الحياة الذهنية بأسره بصورة أدق وأشمل من أية محاولة سابقة، واستمر سائرا في الطريق المباشر لعلم النفس الإنجليزي عن طريق ربط آرائه بمل الأب أكثر من الابن، الذي لم يتعهد هذا الميدان من ميادين الدراسة بنظام، وإن لم يكن قد تجاهله تماما، ولقد استعان مل ذاته بتلميذه «بين» في إعداد كتابه «المنطق»، وتعاون معه هذا الأخير فيما بعد تعاونا مثمرا وتلقى منه مساعدة هامة؛ ولذلك نظر إليه على أنه خليفته الصحيح في عمله.
Unknown page