207

Al-falsafa al-Injlīziyya fī miʾat ʿām (al-juzʾ al-awwal)

الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)

Genres

intellect

والروح. فإذا طبقنا القانون السابق على العلاقة بين هذه المراحل؛ لوجدنا أن المادة لا تكشف عن طبيعتها الحقة إلا عندما تنتقل إلى الحياة، والعقل لا يحقق وظيفته الصحيحة إلا عندما يخضع لتوجيه الروح، التي هي أعلى مرحلة للحقيقة المعروفة لنا، وهنا يظهر بطبيعة الحال تأثير الاهتمام المتجدد بالتطور، الذي تبدى فيما بعد - على سبيل المثال - في النظريات القائلة بالطفرة عند لويد مورجان وألكسندر، والتي تتفق معها نظرية تمبل في خطوطها العامة اتفاقا شديدا.

وتثير فكرة المستويات الصاعدة مشكلة القيمة، ولا سيما علاقتها بالواقع، فهل تستنفد ماهية الأشياء في وجودها المحض، بحيث تكون القيم صفات لها فحسب؟ أم أن القيم هي التي لها الأولوية؟ يحاول تمبل أن يبين أن الفرض الثاني هو الصحيح، وسبيله إلى إثبات ذلك هو القول إن القيم وحدها هي التي لها حقيقة جوهرية، وهي تحقق صورها المختلفة بالتجسد في الأشياء، ويتلو من ذلك أن ما هو حقيقي لا يكون كذلك إلا بقدر ما تشكله القيمة، أو بتعبير آخر: بقدر ما يكون خيرا. على أن القيم أو الخير ليس إلا الطرف المتضايف مع إرادة، وهذه الإرادة هي الإرادة الخلاقة للروح الإلهية، التي هي وحدها الموجودة بذاتها، ومن ثم فإن العالم من خلق إرادة الله، وهو التعبير عنها، فالقول بهوية الجوهر والقيمة يؤدي حتما إلى مذهب الألوهية.

وقد عرض تمبل هذه الأفكار عرضا مذهبيا في كتابه «الذهن الخلاق»، فهو هنا يبحث في سعي الروح إلى تكوين نظرة ترضيها عن العالم، في ضوء الأشكال الثلاثة، العلم والفن والأخلاق، هذه الأشكال الثلاثة معا تستهدف توحيد الكثرة المختلطة للأشياء، ولكن ليس في وسع أحدها أن يحققها، وإنما في الدين وحده يمكن بلوغ نظرة موحدة إلى العالم، بحيث إن الدين هو اكتمال جميع الصور الأخرى للمعرفة، وهو حجر الرحى في أي مذهب فلسفي. وهكذا أضاف تمبل إلى كتاب «الذهن الخلاق» تكملة في كتاب «حقيقة المسيح»، الذي عرض فيه ما أسماه بحق ميتافيزيقا متركزة حول المسيحية.

وفيما عدا ذلك، فمن الممكن أن يوصف موقف تمبل الفلسفي بأنه مثالية مطلقة، فإذا ما جردنا هذه المثالية من قيودها اللاهوتية وتعلقها الشديد بالأفلاطونية؛ لوجدناها مدينة لبوزانكيت ولبرادلي من خلاله أكثر مما هي مدينة لأي شخص آخر. وتتضح أولوية هذا التأثير في قوله: إن أمام الفلسفة طريقين متشعبين يتعين على أية فلسفة أن تختار بينهما، إما أن تفترض المعقولية الكامنة للكون (أو على الأقل إمكان تحديده عقليا)، وإما أن ترتد إلى مذهب الشك الكامل. فالمعقولية الميتافيزيقية للعالم تتضمن معها مصادرة أخلاقية هي خيريته الكاملة، فيسفر ذلك عن نظرة متفائلة إلى العالم. على أن من واجبنا أن نعترض على ذلك قائلين إن هذا التفاؤل لا يتغلغل في قلب مشكلة الشخصية ولا مشكلة الشر، فليس فيه مكان للفرد واللامعقول وكل ما يقاوم القيمة والمعنى إلا بقدر ما يستطيع أن يجمعها كلها بوصفها عناصر مرتبطة بأضدادها أو مظاهر لها. والذي يقدمه إلينا حقيقة هو مطلق تختفي فيه كل هذه التمييزات والأضداد، دون أن تترك أثرا للعذاب الذي يبعثه اضطراب عالمنا الفعلي، أو للمواقف الأليمة التي تتعرض لها حياتنا، فالمذهب المطلق يدخل هنا في مرفأ آمن هو اللاهوت الحرفي المحافظ.

وتتضمن محاضرات جيفورد التي ألقاها تمبل بعنوان «الطبيعة والإنسان والله» أدق وأشمل محاولاته لإيجاد أساس لرأيه في الكون ولعرض هذا الرأي، غير أن ما يقدمه إلينا هنا أيضا هو محاولة إيجاد تبرير نظري لعقائد إيمانية سابقة، أكثر منه برهانا دقيقا مستقلا على وجهة نظره؛ فليس ثمة تغيير أساسي في موقفه. وتغدو نقطة بدايته هنا واقعية، فهو يرفض جميع الصور الذاتية الإبستمولوجية، التي يرى أن قضيته «أنا أفكر إذن أنا موجود» عند ديكارت هي المسئولة عنها أولا، ففي المعرفة لا يكون العقل معنيا بذاته - وبأحواله الخاصة بوصفها موضوعات حاضرة - وإنما بعالم يقف في مقابله بالفعل. وهو يصف هذه الواقعية أيضا بأنها «ديالكتيكية»، ويؤدي تطويره لعمليتها الديالكتيكية، والمكان البارز الذي يوليه للذهن، إلى إضفاء طابع هيجلي متزايد عليه، يعد أوضح مظاهره الخارجية تأكيد تمبل الدائم لصلته الوثيقة بأستاذه القديم إدوارد كيرد، الذي يهدي هذا المجلد إليه، وكذلك إشاراته المتعددة إلى بوزانكيت، الذي يتفق مع ميتافيزيقاه اتفاقا عاما، على الرغم مما بينهما من اختلافات في التفاصيل. وتبلغ العملية الديالكتيكية قمتها في مذهب ألوهي، وفي نظره إلى الكون على أن له «طابعا مقدسا». والواقع أن المذهب الذي يعرضه تمبل هنا آخر الأمر هو واحد من أروع ما أنتجه الفكر الإنجليزي الأخير من التعبيرات عن مذهب الألوهية المسيحي، معروضا من وجهة نظر مثالية قبل كل شيء. (8) القسم الثامن: مفكرون قريبون من المثالية

انبثقت فلسفة المفكر الاسكتلندي لوري من ذهنه الخاص كلها تقريبا، ومن ثم فلا يمكن أن يدرج تحت أية فئة عامة مألوفة إلا بشيء من التجاوز، وقد أسماها هو ذاته «عودا إلى الثنائية»، (وهو العنوان الفرعي لكتابه: الميتافيزيقا). غير أن غموض تفكيره وعدم إمكان النفاذ إليه، يجعل من العسير على المرء أن يقرر إن كان الاتجاه التوحيدي أو الاتجاه الثنائي (وهناك اتجاه تعددي أيضا) هو الأغلب لديه. كذلك أطلق على مذهبه اسم «الواقعية الطبيعية»، وهي تسمية تصدق على نقطة بدايته الإبستمولوجية، التي تقترب عن وعي من موقف ريد، غير أنها لا تنطبق بحال على بقية تفكيره، أو على تفكيره منظورا إليه في كليته. ومع ذلك ففي إمكاننا - دون إجحاف - أن ندرجه ضمن الحركة المثالية الجديدة، حتى لو لم يكن من الممكن القول إن لوري ذاته قد انجرف في هذا التيار، فهناك قطعا روابط تجمعه بكانت وشلنج، وقبل هؤلاء جميعا بهيجل، الذي كانت له بتفكيره معرفة مباشرة.

غير أن لوري يظل هو نفسه فحسب، ويتسم بصفة الاستقلال هذه أكثر من أي مفكر إنجليزي آخر في عصره؛ لذلك كان من الواجب فهم مذهبه في ضوئه الخاص. فهذا المذهب أشبه بمناجاة ذاتية، ومحادثة بينه وبين نفسه، بحيث لا يصغي إلى الآخرين ولا يسير بناء على أي اتصال سابق بالغير، ولهذا السبب لم يكن له صدى بين شعبه، وإنما تبدد صوته في الهواء.

ولقد حاول داعية وحيد متحمس له، هو ج. ريماكل، أن يذيع آراءه في فرنسا وبلجيكا عن طريق ترجمة مؤلفاته وعرضها، ولكنه لم يجد أية استجابة. وليس في هذا كله ما يدعو إلى الدهشة، نظرا إلى صفات الغموض والهوائية والغرابة والأصالة التي كان يتسم بها تفكيره وطريقة تعبيره معا، فقد استحدث لنفسه مصطلحا خاصا به، نحت فيه الألفاظ بجرأة، واستخدم الكلمات بصور غير مألوفة، لا تعين القارئ على الفهم بأية حال، وهو يذكرنا بهيجل في ثقل وطأة تركيباته وألفاظه معا. وهكذا كان تفكيره وعرا قاسيا تماما كتضاريس بلاده اسكتلندا. غير أننا لا نكاد نجد واحدا من معاصريه يفوقه أو حتى يدانيه في القوة أو الجرأة التأملية فيما وراء حدود التجربة، وفي الميل إلى بناء المذهب والقدرة عليه. وفي الوقت ذاته لا يصادف المرء إلا في أحوال نادرة، مثل حالة فوست

Fawcett (لكن على مستوى أدنى بكثير)، مثل هذا الخيال الحالم والإغراب المصحوب بعمق صوفي. والواقع أننا لو قسناه بالمعيار المألوف لدى الناس عن الفلاسفة الإنجليز، لما وجدنا سمة واحدة تجمع بينه وبينهم، ولأحسسنا بأنه مفكر ألماني هبط مصادفة في أرض إنجليزية.

Unknown page