Al-falsafa al-Injlīziyya fī miʾat ʿām (al-juzʾ al-awwal)
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Genres
ذلك هو الموقف الذي استرشد به في تأملاته الميتافيزيقية، أعني الحاجة إلى الأمان والنظام، والسعي النظري إلى التغلب على كل ما هو مختلط متناقض، بغية الوصول إلى نظرة منسجمة إلى العالم يجد الذهن فيها طمأنينة. ويبدو لي أن هذا هو الأساس العاطفي لميتافيزيقا برادلي الرفيعة في «المطلق»، فهو يحاول بحماسة صوفية خالصة، أن يفهم المطلق ويتأمله بوصفه مستقر النفس، وذلك بخشوع فيه تقديس، وباستسلام خائر إلى حد ما، يقف على نقيض ذلك الشك الجريء المرن الذي بينا أنه يمثل الوجه الآخر من طبيعته.
وفي ضوء ما سبق ينبغي لنا أن نتأمل العداء المرير الذي حمل به البرجماتيون على مذهب برادلي وسخروا به منه سخرية لاذعة، فأصل النزاع إنما هو الاختلاف الكامل في المزاج والموقف الكامن من وراء كل من الفلسفتين، أعني التقابل بين العقلية المغامرة المناضلة التي تحب أن تجوس خلال العالم وتغيره، وبين العقلية الخائرة الحريصة على الطمأنينة والهدوء، والتي تغلق نفسها في مذهب وتلتزم الطريق الواسع المؤدي إلى الحقيقة المطلقة. ولا شك في أن الاختلاف أساسي، وأن الخلاف الطويل المرير بين برادلي وشيلر ينبغي أن يعد تعبيرا عن هذا الاختلاف.
وسوف نتناول أعمال برادلي الفلسفية حسب الترتيب الزمني لتطورها، فنتحدث أولا عن مذهبه الأخلاقي ثم منطقه، وأخيرا عن ميتافيزيقاه. ولقد كان كتابه في الأخلاق من أوائل مؤلفات المدرسة المثالية، فظهر بعد وقت قصير من نشر مقدمتي جرين إلى هيوم، وترجمة ولاس للمنطق الأصغر عند هيجل، وقبل وقت قصير من ظهور الكتاب الأول لإدوارد كيرد عن كانت. ولقد كان ذلك الكتاب الذي سبق «المقدمة
» لجرين بسبع سنوات، أول مؤلف يقوم بمهمة الواسطة لنقل أخلاق المثالية الألمانية إلى الإنجليز، وبذلك كان من المعالم الأساسية في المجرى التاريخي للفلسفة الأخلاقية الإنجليزية. وفي هذا كتب بوزانكيت، بعد سنوات متعددة، يقول: «لقد كان نشر ف. ه. برادلي لكتابه «دراسات أخلاقية» - في نظر الكثيرين منا - حادثا غير مجرى تاريخ ذلك العلم.»
70
ففي مذهب برادلي الأخلاقي تجد نزعته الهيجلية أوضح وأصدق تعبير عنها، وتتجلى بأوضح صورة تلك التجربة الشخصية العنيفة التي تعلق بها المذهب الهيجلي، وذلك على الرغم من قلة استخدامه لمصطلح هيجل. وهنا أيضا يشير في فقرة مأثورة إلى الفلسفة الألمانية على أنها الفلسفة الصحيحة، والوحيدة القادرة على إنقاذ الفكر الإنجليزي من عزلته الخطرة. وهنا كذلك نجد أول نقد هدام، بأسلحة هيجلية، للفلسفات الأخلاقية التقليدية البالية التي قالت بها مذاهب المنفعة واللذة والتجريبية بوجه عام. وأخيرا فعلى الرغم من كل اعتماده على هيجل وغيره من الألمان في هذا الكتاب المبكر في الأخلاق، فإنه يظهر فيه مفكرا مستقلا من الطراز الأول، قدر له أن يطور تلك القوة الدافعة الجديدة التي تلقاها من الآخرين ويسير بها إلى الأمام.
ويرد برادلي أن الغاية الأخلاقية هي قبل كل شيء اكتمال الذات وتحققها ، ولكن ما هي هذه الذات؟ إنها قطعا ليست هي الذات البشرية، التي هي مجرد مجموعة أو سلسلة من العواطف أو الإرادات أو الإحساسات الجزئية، وإنما هي تبتدئ منذ البداية بوصفها كلا واحدا أو منهجيا، وحقيقة كلية عينية، تعد أجزاؤها المتعددة أو المتلاحقة مجرد مراحل أو عوامل بالنسبة إليها. فالذات التي تعرفها الأخلاق ذات أعلى، ذات كلية تعلو على هذه الذات أو تلك، على ذاتي أو ذاتك أو أية ذات أخرى؛ ومن هنا فإن القاعدة الأخلاقية: «حقق ذاتك بوصفك كلا لا متناهيا» تعني «حقق ذاتك بوصفك عضوا واعيا بنفسه في كل لا متناه، عن طريق تحقيق هذا الكل في ذاتك.»
71
وباتخاذ هذا الموقف يبين برادلي كيف أن الغاية الأخلاقية لمذهب اللذة وهي تحصيل اللذة لذاتها، تعجز عن التعبير عن المعنى الحقيقي للأخلاقية، وأن موقفه ليمثل تخلصا كلاسيكيا من كل الأخلاق الضحلة التي تعبر عنها فكرة اللذة والسعادة والمنفعة، كما يمثلها مل وسبنسر وستيفن وسدجويك (وقد هاجم برادلي هذا الأخير في كتيب خاص نشر بعد عام من ظهور كتابه «دراسات أخلاقية») كذلك رفض برادلي الغاية الأخلاقية المقابلة، وهي أداء الواجب لذاته، على أساس أنها بدورها تنطوي على تحيز ضيق الأفق في الجانب المضاد؛ إذ إنها تكتفي بأن تستعيض عن الجزئي المحض بالكلي المحض، وتأتي بمبدأ مجرد شكلي تماما، لا يمكن أن يتخذ مرشدا في السلوك، فلا جدوى من أن يقال للمرء: إن عليه أن يفعل ما هو خير لأجل الخير، إذا لم يحدد له المضمون العيني للخير. وواضح أن برادلي هنا يهاجم النزعة الشكلية الصارمة في الأخلاق الكانتية، وإن يكن يعترف بأن النظرية التي ينتقدها ليست نظرية قيل بها فعلا، بقدر ما هي نظرية وضعت لغرض الجدل. ويكاد نقده لهذا المذهب الأخلاقي يماثل تماما نقد هيجل له .
هاتان النظريتان اللتان تتحيز كل منهما إلى جانب واحد، هو اللذة لذاتها أو الواجب لذاته، ينبغي تجاوزهما من وجهة نظر أعلى يسميها برادلي بوجهة نظر «مركزي
Unknown page