Al-falsafa al-Injlīziyya fī miʾat ʿām (al-juzʾ al-awwal)
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Genres
كل هذا ينطوي على فكرة الكل العيني، وهي الفكرة التي تلعب لدى هولدين دورا يماثل في أهميته دورها لدى بقية الهيجليين. وهي تدل على ماهية الفكر، وتنطوي على العناصر المميزة لعامليه، وهما الكلي المحض والجزئي المحض، اللذان يكونان مجردين تماما، إذا ما أخذا على حدة، شأنهما شأن الذاتي والموضوعي مأخوذين على حدة. فعينية الفكر تعني إدماج أوجهه المنعزلة المجردة عمدا، بحيث يتم التغلب على الانعزالية عن طريق فاعلية الفكر الدينامية أو الديالكتيكية، التي تتقدم من وجه إلى وجه حتى تبلغ الحقيقة في كل عيني يجمع بين هذه الأوجه كلها.
هكذا كانت أفكار هولدين الأساسية هيجلية كلها، ومن الواضح أن رأيه القائل إن كل ما هو حقيقي محتشد بالمعنى منذ البداية، وإن المعنى هو ماهية الحقيقة الواقعة، هذا الرأي يعبر مرة أخرى عن قول هيجل بمعقولية الواقع، وهنا يصبح الواقع، مرة أخرى، مقيدا بعلاقته بالفكر، ولا يكون ممكنا إلا داخل المعرفة. وتلك، من الوجهة الإبستمولوجية، هي فكرة هيجل القائلة إن الفكر هو الذي يصنع لنفسه حدوده، وهو الذي يستطيع أن يتجاوزها. وأخيرا فإن هولدين - مثل هيجل - يرى أن الفلسفة، بوصفها وصول الروح المطلقة إلى الوعي الذاتي والتحقيق الذاتي، لا تكون ممكنة إلا من حيث هي مذهب، وهو يضع أسس هذا المذهب في المجلد الثاني من «المسلك إلى الحقيقة»، فيكشف عن الأوجه المتعددة للروح في المراحل المتناهية والمطلقة من تطورها.
ويمكن وصف موقف هولدين، منظورا إليه على نحو شامل، بأنه مزج بين الهيجلية وبين نظرية النسبية، أو بعبارة أصح: بأنه إثراء للأولى بالثانية. وهكذا كشفت الفلسفية الهيجلية عن خصبها الدائم في هذا التجديد المستقل لذاتها في ميدان خاص للمعرفة غريب عنها تماما، كالفيزياء النظرية الجديدة؛ إذ إن نظرية أينشتين لم تكن، في نظر هولدين، إلا اعترافا بأن مبدأ هيجل الأساسي هو المبدأ الصحيح لكل علم على الإطلاق، وبأن المعرفة التي كشف النقاب عنها حديثا إنما هي مثل جديد يوضح الإطار المذهبي الذي وضعه هيجل ويزيده ثراء.
تنتمي كتابات بيلي قبل الحرب العالمية الأولى إلى تراث الهيجلية الإنجليزية، بل لقد قيل عنه إنه كان «من نواح عديدة، أشد الهيجليين الحاليين تمسكا بأصول المذهب»،
63
غير أن كتاباته التالية، التي تأثرت بصدمة الحرب تسير في اتجاه مخالف تماما؛ لذلك فإن أعماله الفلسفية تنقسم قسمين متميزين، بل متعارضين إلى حد ما.
ولقد ربط بيلي اسمه باسم هيجل، لا بوصفه شارحا ومترجما له فحسب - وذلك في كتابين قيمين ساهم بهما بنصيب كبير في تشجيع الدراسات الهيجلية بإنجلترا - بل أيضا في كتابه المذهبي الأول «عرض عام للتركيب المثالي للتجربة». فهذا الكتاب، وإن يكن مستقلا فيما عرضه من التفاصيل، لا يعدو في أساسه أن يكون تلخيصا - بتصرف - للأفكار الرئيسية في كتاب «ظاهريات الروح» لهيجل، وهو الكتاب الذي عده بيلي «أعظم ما أنتجه الفكر المثالي في الفلسفة الحديثة». وهو يعرض - معتمدا على كتاب هيجل اعتمادا كبيرا - الطريقة التي ترتفع بها التجربة البشرية من مرحلة إلى أخرى، مكونة تركيبات جديدة أخصب في كل مرحلة أعلى، حتى تصل - في مستوى الوعي الذاتي - إلى وحدة الذات والموضوع، التي تعلو فيها المستويات الدنيا، من إدراك وفهم، على ذاتها وتصل إلى أعلى وحدة لها. وهنا يعطي بيلي للديالكتيك الهيجلي، الذي كان المذهب الهيجلي الإنجليزي يتجاهله عادة، حقه كاملا، وتظهر «الفكرة»، لا على أنها مبدأ متحجر ثابت، كما هي عند جرين وبرادلي وبوزانكيت وغيرهم، بل على أنها عملية حية تتقدم بطريقة ديالكتيكية. على أن هذا التجديد الذي اكتفى فيها بمحاكاة تفكير هيجل قد تأخر عن أوانه جيلا، بمعنى أنه أتى بعد أن كانت الحركة الهيجلية في إنجلترا قد تجاوزت بكثير مرحلة التقيد الحرفي بهيجل، وأصبح لها كيانها المستقل.
ولا يكاد يوجد أي ارتباط فكري بين المثالية المطلقة التي ظهرت في كتابات بيلي الأولى وبين الموقف المختلف تماما، الذي نصادفه في كتاب له ظهر بعد الحرب الأولى، هو «دراسات في الطبيعة البشرية». ولا شك أن السبب الرئيسي لهذا التغيير الملحوظ، هو تلك التجربة التي أحس فيها إحساسا عميقا بمأساة الحرب العالمية الأولى وعدم وجود داع لها، وهي المأساة التي أدت، بما ولدته من اضطراب شامل ودمار هائل في العلاقات البشرية، إلى زعزعة تامة لإيمانه بالعقل الهيجلي الذي يحكم العالم، بحيث لم يعد يقبل بعد ذلك أي تبرير؛ لذلك تحول بيلي إلى البحث في الطبيعة البشرية. ويمكننا أن نقول إنه انتقل رجوعا من هيجل إلى هيوم؛ إذ أصبح يجعل من الفردية العينية للإنسان موضوعا رئيسيا لاهتمامه الفلسفي. ولقد ظهرت بالفعل نقاط اتصال بينه وبين هيوم، من أمثلتها: الاهتمام البالغ بتأكيد العوامل غير العقلية في التفكير والمعرفة، والنظر إلى جميع المشكلات الفلسفية بطريقة كلها تركز حول الإنسان وتشبه به. ولم تعد الفلسفة عند بيلي - حينئذ - طلبا للحقيقة الكلية أو وصول العقل إلى الوعي بذاته، وإنما أصبحت مسألة شخصية محضة لكل مفكر، تتجه أساسا إلى إرضاء حاجاته النظرية الفردية، فهي السعي إلى بلوغ أقصى حد من الرضا يمكن أن يجلبه التفكير للفرد. والغاية الوحيدة للحقيقة هي الوصول بالذهن الإنساني إلى الانسجام والطمأنينة. مثل هذه التعاليم، التي يظهر فيها، بالإضافة إلى ما سبق، تيار برجماتي واضح، تستتبع صبغ الفكر بصبغة ذاتية فردية نفسانية، أي إنها تقلب تماما اتجاه المثالية المطلقة الذي دافع عنه بيلي من قبل عن اقتناع كامل. وبالمثل أصبح ينظر إلى العلم نظرة تشبيهية بالإنسان، بوصفه اختراعا بشريا يعبر عن نشاط بشري تدفعه حاجة ملحة. وهكذا فإن هذه المرحلة الأخيرة من مراحل تعليمه، التي أحرق فيها كل جسور ماضيه الفلسفي تقريبا، قد استقرت أخيرا في تراث الفكر القومي الإنجليزي. وتلك هي الحالة الوحيدة لمثل هذا التطور، وهي حالة لم تكن راجعة إلى اعتبارات باطنة، وإنما إلى ظروف خارجية.
لا يسعنا، إذا شئنا أن يكتمل العرض الذي نقدمه، أن نتجاهل ج. أ. سمث، الذي اختتم به فرع الهيجليين، ولقد تلقى سمث تعليمه، شأنه شأن الكثيرين من السابقين عليه، في أكسفورد، وفي الكلية التي ظهرت فيها الحركة، حيث اتصل شخصيا، منذ وقت مبكر، بممثليها البارزين مثل جويت وإدوارد كيرد ونتلشيب، الذي كان المشرف عليه في الكلية. كذلك استمد رصيدا من الأفكار الهيجلية من برادلي وبوزانكيت، وإن كان ذلك بصورة أقل تمسكا بالأصل، على أنه عكف في الوقت ذاته، اقتداء منه بالتراث السائد في أكسفورد، على دراسة الكتاب اليونانيين، فكرس أبحاثا طويلة عميقة لأرسطو، وظل سنوات متعددة يعد واحدا من أبرز الباحثين في أرسطو بإنجلترا، وشارك بهذه الصفة في نشر ترجمة أكسفورد الهامة لأرسطو، التي ختمت في عام 1931 بترجمته الخاصة لكتاب «النفس». ولقد كان إتمام هذا العمل، وكذلك تأثيره العميق بوصفه معلما، هما أهم ما ساهم به في ميدان البحث الفلسفي.
أما فلسفته الخاصة فليست لها أهمية كبيرة إذا ما قورنت بمساهماته السابقة، كما أن قلة كتاباته تجعل من الصعب تقديم صورة دقيقة لها. ولقد مرت هذه الفلسفة بتقلبات وتغيرات كانت أكثر من أن تتيح لنا إدراجها تحت أية تسمية واحدة، بل إن افتقارها إلى الثبات هو بالفعل أبرز سماتها، وقد ألقى سمث ذاته ضوءا واضحا على هذه المسألة في عرضه الشخصي لتطوره الفلسفي في كتاب «الفلسفة الإنجليزية المعاصرة»، فهو هنا يقدم اعترافا غريبا، في صراحة تصل إلى حد السذاجة، فيقول إنه لم يدرك بالضرورة التفكير في وضع مذهب فلسفي إلا عندما عين لشغل كرسي الأستاذية في الفلسفة، بل لشغل واحد من أهم كراسي الأستاذية في الجامعات الإنجليزية، ولقد أعانته على هذا التفكير المذهبي صدفة موفقة، هي عثوره على مؤلفات كروتشه
Unknown page