Falsafa Ingliziyya Fi Miat Cam
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Genres
كذلك كان موقفه من كونت والوضعية الذي عرضه في بحث منفصل، كما عرضه في فصل خاص من كتابه «تطور الدين»، يتصف بنوع من العطف والإشفاق، فرغم أنه لم يستطع أن يقبل الوضعية بوصفها نظرة نهائية إلى الأشياء، فقد سلم بأنها خطوة نحو تكوين مثل هذه النظرة، أو جزء من الأساس اللازم لها. أما التجريبية الجديدة منها والقديمة، وفلسفة الموقف الطبيعي عند ريد وهاملتن، فلم يقبل منها شيئا.
ويستطيع المرء أن يجد لدى كيرد عنصرا هيجليا آخر، إلى جانب الديالكتيك وكثرة استخدام تنظيمه الثلاثي للأفكار، هو تفاؤل هيجل الظافر فيما يتعلق بقدرتنا على المعرفة، والجرأة المعرفية للتفكير الذي لا يمكن أن يوضع له حد، والذي يجرؤ حتى على انتزاع قناع الغموض عن «المطلق» ذاته. ففي كل تفلسف له تلمس دائما ثقته المطلقة في قدرات العقل، وهذه الثقة هي التي ألقت عليه نضارة وحيوية أدت به إلى احتقار روح العجز التي يتصف بها مذهب الشك، وروح الاستسلام التي تتصف بها اللاأدرية، كذلك كانت الصوفية، التي تختصر الطريق الموصل إلى المطلق، منفرة في نظره، فحيث يضيء نور العقل كل شيء، تتبدد سحب الصوفية المعتمة.
وتتناول كتابات كيرد، فيما عدا استثناءات قليلة، تاريخ الفلسفة فمنها كتابه الجبار عن كانت (وهو أدق وأشمل وأعمق ما كتب عنه في الإنجليزية)، وبحثه الصغير القيم عن هيجل، ونقده البارع لكونت، وكتاب كبير إلى حد ما عن تطور فكرة الله بين الفلاسفة اليونانيين، وبضعة مقالات قصيرة عن دانتي وجوته وروسو وورد سورث، جمعت كلها، بالإضافة إلى مقال عن المذهب الديكارتي،
46
في «المقالات» (1892)، ولم يكن أي مقال من هؤلاء مجرد تمرين في كتابة الأبحاث العلمية، وإنما كان الموضوع يقارن في كل الأحوال بمذهب هيجل، وكانت كتابته في هذه الموضوعات تحفل بالروح الهيجلية، أما مؤلفاته الأقرب إلى الصبغة المذهبية فلا تشمل إلا بحثا في الميتافيزيقا،
47
ومحاضرات جيفورد التي ألقاها في موضوع تطور الدين، وتعبر هذه الأخيرة عن فلسفته الدينية، التي ينبغي علينا إيضاح أفكارها الأساسية.
كان كيرد يهدف، كمعظم الهيجليين الأوائل، وكأخيه «جون» بوجه خاص، إلى صبغ الميتافيزيقا الهيجلية بصبغة مذهب الألوهية، واستخدامها في خدمة الإيمان الديني. ولقد كان بطبيعته عميق التدين، على خلاف الهيجليين المتأخرين مثل برادلي وبوزانكيت وماكتجارت، وكان يؤمن بأن المسيحية هي أعلى تحقق للوعي الديني. ومع ذلك فقد أبقى نفسه بمعزل عن الاتجاهات المحافظة المتعصبة الضيقة الأفق، واحتفظ، حتى في الأمور الدينية ذاتها، بحرية التفكير الجديرة بالفيلسوف الحق. ورغم أن فلسفته الدينية مبنية على الأفكار الهيجلية وتعبر عن نفسها من خلالها، فإن فكرة التطور عند سبنسر تلعب فيها دورا كبيرا ، بعد صبغها بصبغة هيجلية، وهو يعرف الدين بأنه وعي متفاوت الدرجات، بتلك الوحدة اللامتناهية التي تكمن من وراء كل انقسام للمتناهي، لا سيما انقسامه إلى ذات وموضوع. وهكذا يعرف الله بأنه مبدأ الوحدة في كل الأشياء، وبأنه كائن واع بذاته متحكم في ذاته، فهو «المطلق» واللامتناهي، ولكنه مع ذلك ليس علوا لا يعرف (وهنا يرفض كيرد فكرة «اللامتناهي» عند ماكس مولر، كما يرفض فكرة «اللامعروف» عند سبنسر في نفس الوقت)، وإنما هو يوجد تماما في حدود عالم المعرفة المعقولة؛ ذلك لأن اللامتناهي الذي هو خير ليس مجرد سلب للمتناهي، ولا يتحدد سلبيا فحسب، بوصفه ما يعلو على المتناهي، وإنما هو الشرط الإيجابي للمتناهي، وهو تحققه واكتماله، ومن هنا وجب أن يكون الفكر قادرا على الوصول إليه. ففي الموجود الإلهي وحده تصل الأشياء المتناهية إلى حقيقتها الحقة وتكتسب دلالتها بوصفها عناصر يتكشف بها المبدأ الأعلى ويحقق ذاته فيها. فالدين كالعلم والفلسفة، إنما هو سعي إلى الكلي الكامن من وراء الجزئي، أو الواحد من وراء الكثرة، غير أن الدين إنما يكون كذلك على مستوى أعلى، والعلم والفلسفة على مستوى أدنى. وعلى ذلك فإن الإنسان، بوصفه كائنا عاقلا، إنما هو كائن ديني. وفي كل وعي عاقل تكون فكرة الله، بوصفه الوحدة النهائية للوجود والمعرفة، ماثلة وفعالة، وللإنسان - إلى جانب قدرته على التأمل خارجه في الإدراك الحسي للعالم المحيط به، وداخله في معرفته بذاته - قدرة أخرى على النظر إلى أعلى، إلى الموجود الإلهي الذي يوحد العالمين الخارجي والباطن وينبئنا بوجوده في كليهما، وما الدين في أساسه إلا المعقول، وذلك في أعلى صوره على الأقل؛ إذ إن الدين الذي ينبثق عن الشعور أو عن الإيمان الأعمى فحسب، لا يكون قد حقق فكرته الكاملة، التي لا تكون ممكنة إلا على مستوى العقل. وما ذلك العقل إلا العقل الهيجلي، الذي يسود هذا المجال مثلما يسود غيره. فالدين عنده إذن هو بهذا الوصف مذهب في شمول الألوهية
pantheism ، مهما كان من رغبته في تجنيب هذه النتيجة، أي إن العالم هو الله، والله هو العالم، وليس الله هو القوة العالية التي قالت بها الأديان الوضعية، وليس كائنا خارجا عن العالم أو مغايرا له، ندركه بالإيمان، وإنما هو نقطة القمة في تأمل نظري للكون، وأعلى التصورات في الفلسفة النظرية التأملية. وإن المرء ليفتقد، في هذا الدين العقلي المحض، الشعور بالعلو وما يلازمه من خشوع، وهو العلو الذي لم يستطع كيرد أن يضفيه على فكرته عن الله، رغم إيمانه الصادق. وهكذا كانت هيجليته أقوى من تجربته ذاتها.
ولقد تحكمت الهيجلية أيضا في نظريته في تطور الدين، فالصور المتنوعة للحياة الدينية، كما تتكشف في التاريخ، إنما هي خطوات في تطور «الفكرة» الدينية، وهي مراحل تمر بها الفكرة في عملية الصيرورة التي تطرأ عليها عبر الأزمان، وبين الشعوب. وهو يميز بين ثلاث مراحل للوعي الديني: الموضوعية والذاتية والمطلقة. وهي تناظر المراحل الثلاث في تطور الإنسان، وهو التطور الذي تتحكم في الإنسان خلاله فكرة الموضوع أولا، ثم فكرة الذات، ثم فكرة الله بوصفه المبدأ الموحد لهذين. وتتمثل هذه المراحل الثلاث منظورا إليها من الوجهة التاريخية، في مذاهب تعدد الآلهة
Unknown page