122

Falsafa Ingliziyya Fi Miat Cam

الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)

Genres

وهذا يؤدي إلى وضع حد فاصل قاطع بين مذهب مارتينو الأخلاقي وكل نوع من مذهب اللذة أو السعادة أو المنفعة، فالأخلاق عند مارتينو - كما هي عند كانت - أخلاق ضمير وواجب، ومسئولية وقانون أخلاقي ملزم. ولم يكن واحد من معاصريه الإنجليز يدانيه في قوة الاقتناع التي أعلن بها جدارة الإنسان الأخلاقية، وسمو الشخصية ونزاهتها، وحرية الإرادة، وسيادة القانون الأخلاقي. ولقد كان مذهبه من أقوى القلاع التي قاومت الاتجاهات الطبيعية

naturalistic

والمادية في عصره، وناضلت ضد طوفان المذاهب الداروينية والتطورية، وضد الاكتفاء بالوجه الدنيوي للحياة، وكثير من الاتجاهات الأخرى. ومما زاد في فعاليته أنه كان يجد دعما من شخصيته العظيمة الرفيعة وأن تلك الحياة الروحية الرفيعة التي جعل منها رسالة له، قد تحققت في شخصه على أكمل نحو.

ولقد كانت نفس الأهداف المثالية التي وضعها لمذهبه الأخلاقي، هي التي تكون أساس فلسفته الدينية، فعلى الرغم من أنه - حين جعل السلوك الأخلاقي أمرا باطنا تماما - قد حرره من الروابط الاجتماعية فضلا عن قيود الوجود الطبيعي، فإنه لم يفترض أن من الممكن تحديد هذا السلوك بطريقة مستقلة تماما، وإنما سعى إلى إيجاد أساس له في ذلك المبدأ الأعلى الذي يكون الدين مجاله. ولقد رأينا من قبل أن نقطة البداية في مذهب مارتينو هي الوعي الذاتي، ولكن هناك مع ذلك طريقتين تستطيع بهما الذات تجاوز حدودها الخاصة؛ هما فعل الإدراك، الذي تدرك به عالم الطبيعة الخارجي، وحقيقة الضمير الذي نشارك به في الموجود الإلهي. وهي في الحالتين تشعر بذاتها في «آخر»، وتشعر بهذا «الآخر» في ذاتها، وهي في الحالة الأخيرة تتجاوز ذاتها لتنتقل إلى ذات أعلى. وتزداد ضرورة الانتقال من المجال الديني في فكرة السلطة، فما هو أصل تلك السلطة التي تجعلنا نفضل الباعث الأعلى على الأدنى، ونرى أن هذا التفضيل هو الفعل الأخلاقي الصحيح؟ هل نحن نستمدها، على نحو ما، من وعينا الخاص الذي تبدت فيه لأول مرة؟ لو كان هذا صحيحا، ألن يكون صراع البواعث في هذه الحالة مجرد صراع بين حاجاتنا الشخصية؟ من المحال أن يكون هذا هو لب تجربة الإلزام، وإنما الأصح أن هذه التجربة تعني أننا نشعر بشيء أعلى منا، لا يمكن أن يكون جزءا من ذاتنا؛ لأنه يفرض علينا مطالب معينة. وهكذا فإن تجربة السلطة هذه، إذا ما فسرت على النحو الصحيح، تدفعنا إلى تجاوز حدودنا الخاصة لنعترف بكائن من مرتبة أعلى، يتجاوز ذاتنا، ولكنا لما كنا أشخاصا، ولما كانت الشخصية تنطوي على نوع من الوجود أعلى من مجرد الشيئية، فلا بد أن يكون هذا الكائن، الذي هو من مرتبة أعلى من مرتبتها ذاتها، مختلفا عنا، يتجاوزنا ويعلو علينا، أي ينبغي أن يكون هو الشخصية اللامتناهية أو الإلهية. وهكذا فالوعي الأخلاقي أكثر من مجرد جزء من ذاتنا، ففيه نعترف بسلطة موضوعية أو قانون موضوعي عال علينا، لا نصنعه بأنفسنا، وعن طريقه ندخل في اتصال مباشر مع الحياة الإلهية.

وعلى ذلك فمن الواجب تحديد العلاقة بين الأخلاق والدين على النحو الآتي: فالأولى سابقة على الثانية، وتقتضي بحثا سابقا؛ إذ إن القواعد الأخلاقية تكون في البداية مستقلة عن أي إيمان ديني، وهي تتحكم فيه من البداية ولا تفترضه مقدما، فكل دين علوي ترجع جذوره إلى الوعي الأخلاقي، وإلى المجال الأخلاقي يرجع أصل أعظم النتائج التي يحققها. ومن جهة أخرى فليس من الممكن إبقاء الأخلاق في حدود المجال البشري وحده، وإنما هي تشير إلى ما يتجاوز هذا المجال، وتتطلب اكتمالا في اتجاه الدين، وإلا عادت فانحدرت إلى مستوى مذهب اللذة.

وتزداد قوة الاتجاه الأخلاقي للدين ظهورا عند مارتينو عندما يبدأ في بحث براهين وجود الله، فهو يحرص قبل كل شيء على عرض حجتين: الأولى وهي الحجة الميتافيزيقية، التي عرضنا لها من قبل، تتلو نظرية العلية، فلما كانت العلية، كما رأينا، في هوية مع الإرادة، ولما كانت الإرادة البشرية ضيقة المجال بدرجات متفاوتة، ولما لم يكن من الممكن، فضلا عن ذلك، أن توجد في عالم الظواهر أية علة أصيلة بمعنى العلة القادرة على التوليد؛ فإنا نستدل من الإرادة البشرية على وجود الإرادة الإلهية، بوصفها الدعامة الأصلية لعالم الطبيعة بأسره. وهكذا تؤدي الحجة الميتافيزيقية مباشرة إلى الله، بوصفه العلة الأولى أو الإرادة العاقلة العليا. والأهم من ذلك، البرهان الأخلاقي على وجود الله، أو على الأصح، محاولة إظهار الله في مجال الأخلاق. فهنا تكون الأداة الوسيطة هي الضمير، الذي يتكشف به الموجود الإلهي بنفس اليقين الذي يتكشف به العالم الخارجي للإدراك الحسي. ففي الضمير ندرك كذلك العلة الأولى، بوصفها القانون الأسمى في الوقت ذاته، وندرك الله على أنه المشرع ذو الخير الكامل ومصدر كل القيم الأخلاقية، وأصل سلطة الالتزام التي لا نستطيع أن نستمدها من ذاتنا، وأخيرا بوصفه واهب إرادتنا الحرة ذاتها، والشرط الذي لا بد منه لكل سلوك أخلاقي. فالله، بوصفه دعامة قانون أخلاقي مطلق، لا يكون مجرد «مطلق» ميتافيزيقي، وإنما هو الشخصية الأخلاقية العليا، التي هي حية عنيفة، والتي يمكننا، بوصفنا أشخاصا، أن ندخل معها في اتصال مباشر.

غير أن هذا الاتصال بين الإنسان والله يمتد أبعد كثيرا من مجال الأخلاق، فعلى حين أننا في الوعي الأخلاقي نصل إلى تأكيد للوجود الإلهي، ونصبح على وعي مباشر بالله، ولا سيما في واقعة الضمير، فإن الألوهية تواجهنا أولا بوصفها قوة عالية مطلقة ترتفع «فوقنا» إلى أبعد حد، وندين لها بالطاعة والخضوع. غير أن هذا لا يستنفد جميع أطراف العلاقة بين المتناهي واللامتناهي، وهي علاقة تفوق ما يمكن أن يعرف في الوعي الأخلاقي بكثير من حيث طابعها الوثيق الشخصي المباشر. وهكذا يتضح أن من الضروري اقتراض حاسة أو ملكة دينية على التخصيص، تكون مختلفة لا عن الملكة العقلية أو الجمالية فحسب، بل مختلفة بوجه خاص عن الحاسة الأخلاقية. ويعترف مارتينو بوجود هذه الحاسة أولا في الشعور الأولي بالتبجيل، وهو الشعور الذي عزا إليه أرفع مكانة في سلمه الأخلاقي للقيم. فالتبجيل هو الذي يجذبنا إلى المجال الأرفع، ويتيح لنا أن نتطلع إلى أعلى، وأن نعير الحدود التي تفصل بين الحقيقة الظاهرية والحقيقة الحقة، وأن نصل إلى ما هو مثالي. وهكذا فإن ما كان خضوعا وطاعة للأمر الإلهي، في المستوى الأخلاقي، يغدو الآن شعورا واعيا بالتصديق العميق والحب المؤكد. ففي الشعور بالتبجيل نتخلص من تلك المعركة التي لا تتوقف بين البواعث المتصارعة وتصل إلى «المشاركة في الحياة والحب الإلهيين»، ويجد الأخلاقي تحققه واكتماله النهائي في المقدس، وتدخل النفس المتناهية في الوجود اللامتناهي وتستوعب فيه. وهكذا تتلاشى فلسفة الدين عند مارتينو في تيار فكري، إن لم يكن تيارا صوفيا خالصا، فهو على الأقل يقترب من ذلك اقترابا وثيقا، وهنا نجد أن ما كان يكون اللب الجوهري للأخلاق عنده - أي فكرته عن النفس الفردية المصونة المستقلة - قد أصبح مهددا بخطر عظيم في فلسفته الدينية، ولا يتم الوصول إلى الاتفاق التام بين المجالين، بل لا يمكن الوصول إليه، في ذلك المذهب الذي كان تبعا لغرضه الأصلي قائما على التوتر المستقطب للتقابل بين الإنسان والله، والذي لم يحاول أن يقضي على هذا التوتر ويقرب ما بين القطبين إلا فيما بعد.

وهناك مفكر كان يرتبط بمارتينو ارتباطا وثيقا، وإن كان قد أدخل تعديلات هامة على مذهبه، في اتجاه فلسفة لوتسه، ذلك هو تشارلس أبتن

Charles Barnes Upton (1831-1910)، وكان يشغل منذ 1875 منصب أستاذ الفلسفة في كلية مانشستر، وقد وضع «أبتن» مذهبا ألوهيا أخلاقيا ربط فيه بين الأخلاق والدين ربطا متبادلا وثيقا، فمعنى الأخلاق عنده لا ينحصر في تحقيق قانون أخلاقي مستقل بذاته، بقدر ما يكون في توجيه الإنسان قدما نحو الإيمان الديني؛ لذلك حارب أبتن «ذوى النزعة الأخلاقية

ethicists » الذين كانوا يهدفون إلى حرمان الأخلاق من كل ارتباطاتها «الأعلى» وإلى بنائها على الإرضاء الشخصي للحاجات والرغبات الفردية فحسب. ولقد كانت أفكاره في الميتافيزيقا وفلسفة الدين مستمدة كلها تقريبا من تعاليم مارتينو ولوتسه. وقد استمد من ثانيهما النظرية العامة في الكون كما عرضها في كتابه «العالم الأصغر

Unknown page