Falsafa Ingliziyya Fi Miat Cam
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Genres
فوجود الله لا يمكن الاستيقان منه بعملية استدلال، ولا يمكن أن يتكشف بوصفه الحلقة الأخيرة في سلسلة قياسات منطقية، وإنما هو يقتضي ذلك النوع من «الإدراك الحقيقي» المباشر تماما، وذلك «الحس الاستدلالي» الحدسي، الذي تتفاعل فيه كل قوانا وتطلق فيه كل مقدراتنا الذهنية. ولسنا هنا إزاء ملكة ذهنية على التخصيص، بل ولا أي نوع من الملكة «الخاصة» التي تكون لها حرية العمل مستقلة عن الشخصية في مجموعها، وإنما هذا نشاط يتم فيه تنسيق الأجزاء المتعددة في هذا الكل على نحو يصل فيه وجود الإنسان بأكمله إلى أعلى قدرة ممكنة على الإدراك، ولا شك أن العوامل العقلية تشارك في هذا النشاط، وإن تكن القيمة التي تعزى إليها ضئيلة، كما يشارك فيه الشعور، وإن يكن نيومان ينظر بعين الارتياب الشديد إلى الشعور، عندما يتخذ أساسا للإيمان الديني «فالدين، من حيث هو مجرد شعور، هو بالنسبة إلي وهم ومهزلة .»
وهكذا فإن نيومان لا يعطي المكانة الأولى في مذهبه للذهن ولا الشعور وإنما للضمير، وعلى ذلك فمن الواضح أن البواعث الأخلاقية هي الأقوى تحكما في نظريته الدينية، ولقد كان يحرص بقوة على استقلال الحياة الأخلاقية، ولم يسمح بحاجته العميقة إلى الإيمان الديني بتعريض هذا الاستقلال للخطر، بل إنه - رغم نجاحه في التوفيق بين الأخلاق والدين - كان يركز جهده في ربط الأخير بالأولى لا العكس، وهذه هي أفضل وسيلة لتفسير الاتجاه التشاؤمي في طبيعة نيومان، فقد عانى، على نحو أعمق من معظم المفكرين الدينيين في عصره، من التقابل المستقطب الذي يميز الحقائق الأساسية للحياة الأخلاقية، والتعارض الصارخ بين الخير والشر والصواب والخطأ، وهو لم يشأ أن يعبر الهوة الفاصلة بين طرفي هذا التقابل بطريقة سطحية، وذلك بالالتجاء إلى الحب الإلهي والخيرية الإلهية، وإنما أحس بسطوة الشر والألم كاملة في العالم، وعانى من أجل ذلك كل ما يمكن أن تستشعره نفس شديدة الحساسية من ألم، ولقد كان يؤثر دائما رسم صورته للعالم بألوان قاتمة. غير أن تشاؤمه لم يكن منبعثا عن احتقار العالم بقدر ما كان مصدره العزوف عنه، وكان هروبه الزاهد من العالم تعبيرا عن التعاطف والاستسلام المعذب، أكثر مما كان تعبيرا عن التحقير والازدراء.
وهكذا فإن الأولوية المنسوبة إلى الضمير هي التي تكشف عن الاتجاه الأخلاقي في تعاليم نيومان الدينية، فالضمير هو - أولا وقبل وكل شيء - تلك الأداة التي تصل بها النفس الفردية إلى معرفة الطبيعة الإلهية وإدراكها، وهو المدخل الذي يوصل ما هو إلهي إلى الطبيعة البشرية، فذلك «الإله الذي هو في الضمير» هو بالنسبة إلى نيومان حقيقة لا تقل أهمية عن إله الوحي وإله الكنيسة. وللتجربة الدينية أهمية تعادل أهمية الدين الموضوعي، بل تزيد عليه، وعلينا أن نبحث عن الله في ذلك الطريق الذي يبدأ صعودا من النفس البشرية، وهنا أيضا تكون نقطة بداية نيومان - كما هي دائما - هي الفردي والشخصي والعيني. وهذا الطريق واحد من وجهة نظر الأخلاق، فالإلزام الخلقي لا يكون حقيقيا لأن هناك إلها، بل إن الأمر على العكس من ذلك، فنحن نعترف بوجود الله لأننا نشعر بوجود الإلزام الخلقي، فالضمير هو وسيط المبدأ الإلهي وجزاؤه؛ ولذا فإن نيومان يبدي اهتماما خاصا بتحليل وقائع الضمير بأكبر قدر من الدقة الفلسفية حتى يبرز طابعه الحقيقي المقابل لأوجه النشاط الأخرى للنفس البشرية. والضمير أداة موثوق منها تماما للمعرفة، ولها من الأهمية في الكشف عن الألوهية العالية ما للإدراك الحسي في معرفة العالم الخارجي، وهو إدراك يعادل الإدراك الحسي في حقيقته، غير أنه إدراك لموضوع آخر، أي لأعلى الحقائق وأكثرها عينية، وهي الحياة الإلهية؛ ولذا كانت جذوره متأصلة، لا في ظلام الشعور الدامس، أو في الأحوال الانفعالية المتقلبة، وإنما في ضوء الفكر الناصع. وكل ما في الأمر أن هذا التفكير ليس هو التفكير المجرد غير المباشر الذي هو غريب عن «الحقيقة العليا»، وإنما هو تفكير عيني حدسي وثيق الارتباط بالحياة، ويبلغ تحققه في «الحقيقة العليا».
وهكذا ينبغي أن نؤكد على الدوام هذه الحقيقة، وهي أن الإيمان الديني هو في نظر نيومان أمر شخصي وذاتي محض قبل كل شيء، تختص به كل نفس على حدة، وتتمكن بفضله من الوصول إلى الله بذاتها مباشرة، ومن أن يكون لها نصيب في نوع من المعرفة الطبيعية للألوهية. ولقد كان من الواجب أن تؤدي نقطة البداية هذه إلى البروتستانية المتطرفة، أو حتى إلى الصوفية، ولكنه في الواقع قد سار في الاتجاه المضاد الذي أدى به إلى الإيمان الكامل بالكنيسة الكاثوليكية. وربما بدا هذا غريبا للوهلة الأولى، وقد يؤدي بنا إلى الشك في وجود انفصام أساسي في تعاليم نيومان. غير أن ذلك التنافر المنطقي الذي يمكن كشفه في تفكير نيومان، وأعني به اقتران أشد أنواع الإيمان الديني شخصية بأقوى تمسك بالسلطة الخارجية، لا تكاد تكون له أهمية من وجهة نظره الخاصة. فالواقع هو أن نيومان قد تمكن من تحقيق الانتقال من الداخل إلى الخارج ، ومن الاستقلال الذاتي الفردي إلى السلطة الخارجية، ومن التجربة الشخصية إلى الكنيسة والعقيدة، دون أن يرتكب أية تضحية بالعقل أو يبخس أيا من الجانبين المتعارضين حقوقه. وهكذا اعترف بضرورة وجود مصدرين للإيمان الديني: إله الوحي فضلا عن «الإله الذي في الضمير»، وسلطة الكنيسة وتنظيمها فضلا عن تجربة النفس، والتمسك الموضوعي الملزم بالعقيدة فضلا عن الاقتناع الذاتي. وهكذا فإن الصفة الخاصة التي تتميز بها فلسفة نيومان الدينية هي أنها تعطي حقا متساويا لكلا العاملين، وتجمع بين الاثنين في مركب متآلف.
ففي كتاب «قواعد التصديق» يقتصر اهتمام نيومان على الجانب الذاتي للدين، بينما انصب هذا الاهتمام، في كتابه الأسبق من هذا بكثير، الخاص بتطور التعاليم المسيحية، على الجانب الموضوعي في المحل الأول، والفكرة الأساسية التي تبرز إلى الأمام ها هنا هي أن حقيقة الدين لا يمكن أن تفصل عن تاريخه. وهكذا تغدو فكرة التطور
development (
evolution ) هي اللحن المميز لهذه المناقشة لماهية الدين منظورا إليها من الوجهة الموضوعية، وهنا ينبغي أن نؤكد منذ البداية أن مفهوم التطور
development
عند نيومان ينتمي من الوجهة الزمنية إلى عصر سابق على نظرية التطور الداروينية، بل إن نقط التلاقي بينه وبين مبدأ التطور عند دارون وسبنسر تبلغ من القلة حدا يجعله يصل إلى التناقض مع هذا الأخير في المسألة ذات الأهمية الحاسمة. ومن واجبنا، إذا شئنا أن نربط مفهوم التطور (dev.)
عند نيومان بمفاهيم موازية له تاريخيا، أن نتأمل الصورة التي اتخذها هذا المفهوم في مذاهب أرسطو وليبنتسر وهيجل. غير أننا سنصرف النظر هنا عن العلاقات التاريخية للفكرة، وأطرفها في هذا الصدد هو البحث في مسألة التأثير الممكن (والذي ليس مع ذلك أمرا قريب الاحتمال) لنظرية هيجل؛ ذلك لأن أفكار نيومان هي كشوف أصيلة تنتمي إليه قبل غيره، ولا يحتاج إلى راع يتحدث مؤيدا لها.
Unknown page