وهناك عدة أمثلة مشهورة لقيام الفلسفة بهذا الدور الملهم بالنسبة إلى العلم - منها مثلا تلك المفاهيم الرياضية الآلية التي وضعها الفلاسفة في القرن السابع عشر. والتي ساعدت على التمهيد لعمل رجال مثل جاليليو، ونيوتن، وفي مجال العلم البيولوجي، ظهرت فكرة التطور وطبقت على التاريخ قبل وقت طويل من تطبيقها على البيولوجيا والجيولوجيا، بل إن العامل الأكبر على إحياء فرض التطور على مر القرون كان هو الأجيال المتعاقبة من الفلاسفة، على حين أن معظم علماء البيولوجيا ظلوا يرفضون الفكرة رفضا باتا حتى الوقت الذي نشرت فيه بحوث دارون العظيمة.
ولا شك أنه لا يوجد فيلسوف يزعم أن كل هذه النظرية الفلسفية التأملية أو حتى نسبة كبيرة منها، كانت مفيدة علميا. وقد أحسن جون ديوي التعبير عن هذه الحقيقة عندما قال إنه كان هناك إنتاج فائض من الفروض الفلسفية على الحدود البعيدة للمعرفة العلمية.
9
غير أن هذا الفائض أو الإنتاج الزائد قد أتاح لتقدم العلم مزيدا من المرونة وحرية الحركة. فمن الثابت تاريخيا أن حصادا كبيرا من الأفكار التي أسهمت في هذا التقدم العلمي قد جنى من بين كثير من المناقشات الفلسفية الغثة، وهذه الحقيقة تفيد في ضمان تسامح العلماء إزاء تلك الطاحونة التأملية التي لا يكف الفلاسفة عن إدارتها.
إلى أي مدى ينبغي أن تمضي الفلسفة في تجاوزها للعلم؟ ما زال أمامنا أن نجيب عن السؤال عن المدى الذي يجوز للفيلسوف أن يمضي فيه متجاوزا حقائق البحث العلمي المقررة. حتى عندما يعترف صراحة بأنه يسير متخلفا عن المعطيات المتوافرة. وبعبارة أخرى، فإلى أي مدى ينبغي أن يظل الفيلسوف ملتزما دوره في الاقتصار على عملية التركيب، وإلى أي حد يحق له أن يجرؤ على تفسير هذه الوقائع؟ يقال أحيانا إن مهمة العلم هي الكشف، ومهمة الفلسفة هي التفسير. وهذا القول صحيح في عمومه، ومع ذلك يظل أمامنا أن نحدد إلى أي مدى يستطيع «التفسير» أن يمضي دون أن يصبح وجهة نظر مستقلة لا يعترف أي عالم (أو جماعة من العلماء) بأنها مستمدة بطريقة مشروعة من أدلة تجريبية.
إن العلماء أنفسهم يميلون إلى القول بأن أي مركب للمعرفة البشرية، حتى لو كان مركبا لا يتضمن أفكارا خارجة عن الموضوع أو نظريات مقحمة، هو ميتافيزيقي بطبيعته؛ وبالتالي ليس علميا بالمعنى الدقيق. وقد حدث في السنوات الأخيرة أن ترك عدة علماء مشهورين في مجال العلوم الفيزيائية تجاربهم مؤقتا، ليحاولوا القيام بمثل هذه الصياغات.
10
غير أن معظم زملائهم من العلماء لم يتأثروا بهذه الجهود، إلا ليعترفوا بأنه إذا لم يكن هناك بد من محاولة إجراء هذه العملية التركيبية، فالأضمن - على الأرجح - أن يقوم بهذه المهمة الخطرة عالم تحول إلى فيلسوف، بدلا من أن يقوم بها فيلسوف تحول إلى عالم. ومع ذلك فإن معظم الناس الذين دربوا على المناهج الصارمة في المعامل يشعرون، حتى في الظروف المثلى، بأنه سيظل هناك دائما خطر تسلل التأملات النظرية دون أن يشعر بها أحد، أو بأن الاستدلالات ستخلط عندئذ بالوقائع.
حذر العلم : لا شك أنه مما يسر الفلاسفة أن يجدوا عالما يخاطر بانتقاد زملاء له، ويحاول القيام بمركب كهذا، سواء أكانت الصورة التي جمعها في هذا المركب ترضي الفلاسفة أم لا ترضيهم. فالميتافيزيقيون لا يغارون على الإطلاق من العالم الذي يقوم بتلك المهمة التي كانت تعد جزءا تقليديا من عمل الفيلسوف وإنما هم يشجعون العاملين في ميادين العلم الأخرى المتعددة على أن يفعلوا نفس هذا الشيء. ومع ذلك فمن المشكوك فيه أن يلقى تشجيعهم هذا استجابة عامة من العلماء. ذلك لأن العالم العادي، كما قلنا من قبل، يفتقر إلى الوقت والطاقة والتكوين اللازم للقيام بهذا النشاط التركيبي. وحتى عندما تتوافر لديه الشروط الضرورية، فالأرجح أنه سيتفق مع زملائه من العلماء على أن من الأفضل ترك هذه المشروعات الطموحة للفلسفة. ذلك لأن نوع السمعة العقلية التي يدافع عنها الفيلسوف مختلف كل الاختلاف: فالناس ينتظرون منه أن يكون تأمليا جريئا، ولو تجاوز في تأملاته المعطيات الموجودة. فلن يقسو عليه أحد في النقد إلا العلماء بالطبع.
وهكذا يتضح أن العلاقات بين العلم وبين الفلسفة بوصفها مختصة بالتركيب هي علاقات غامضة متقلبة. ولكن يمكن القول بوجه عام أن العالم لا يعطف كثيرا على هذا القسم من أقسام النشاط الفلسفي، بل إن هذه لو كانت هي العلاقة الوحيدة بين الميدانين، لما كانت الصلات بين الفلسفة وبين العلم أفضل كثيرا مما كانت عليه الصلات بين الفلسفة وبين جارها الكبير الآخر؛ أي الدين في بعض الأحيان. ولكن من حسن حظ علاقات الجوار هذه أن هناك نشاطا آخر تقوم به الفلسفة، ولا يعده العلماء مشروعا فحسب، بل يرونه ضروريا لتقدم ميدانهم الخاص ذاته. فلننتقل إذن إلى بحث موجز للفلسفة بوصفها ناقدة محللة. (7) الوظيفة التحليلية للفلسفة
Unknown page