وهناك خطر ثان يتمثل في الميل الطبيعي لدى كثير من العلماء إلى الاعتقاد بأن كل المشكلات الإنسانية يمكن أن تحل بنفس المناهج التي يجدونها مثمرة في ميادينهم. وليس معنى ذلك أن كل العلماء ماديون وآليون، يسعون إلى رد كل حادث في الكون (بما في ذلك أوجه نشاط الإنسان) إلى عوامل فيزيائية كيموية، بل إن المقصود، على الأصح، هو أن العالم المتخصص يميل في كثير من الأحيان إلى الاعتقاد بأن زيادة المعرفة تؤدي بطريقة آلية إلى حل الخلافات وتسوية المنازعات. وهذا يصدق إلى حد بعيد على العلوم المختلفة، ما دامت المنازعات في هذه الحالة تنشأ، في الأغلب، من عدم كفاية المعرفة، مما يتيح للفروض المتضادة والنظريات غير المحققة التصارع بعضها مع بعض فيما يعد في الواقع فراغا معرفيا. ومع ذلك، فإن تزايد المعرفة لا يسهم إلا بدور ضئيل جدا في تيسير اتخاذنا للقرارات في ذلك المجال الواسع الذي يعيش فيه معظم الناس أغلب الوقت؛ أعني في مجال التقويم واتخاذ القرارات، بل إن نمو المعرفة قد يؤدي في الواقع إلى زيادة صعوبة اتخاذ القرارات؛ إذ إننا نواجه في هذه الحالة عددا أكبر من الحلول التي يتعين علينا الاختيار بينها، أو نزداد شعورا بالتفريعات والتعقيدات التي ينطوي عليها كل قرار. وباختصار، فإن من الأخطار التي يولدها التخصص العلمي لدى المشتغلين بالعلم، سذاجة تفكيرهم في المجالات الأخرى غير العلمية، ولا سيما تلك المجالات التي تقتضي عملا اجتماعيا وقرارات أخلاقية سياسية.
وأخيرا هناك خطر آخر هو أن التخصص العلمي قد يخلق شخصيات لا تكترث أو لا تشعر بالبشر وأحاسيسهم. وكثيرا ما يوصف عدم الشعور هذا بعبارة «معاملة الناس وكأنهم آلات»، أو «النظر إلى الناس كما لو كانوا موضوعات فيزيائية فحسب». ولا جدال في أن الأنواع الأخرى من التخصص - بل التركيز المفرط على أي ميدان في الواقع - قد تؤدي إلى تبلد الشعور هذا إزاء البشر وحاجتهم الانفعالية. ولكنه عندما يحدث عند العالم يكون أمرا ملحوظا إلى أبعد حد؛ إذ إن المشتغلين بالعلم من حيث هم فئة، هم بالتأكيد أناس أذكياء ذوو نوايا طيبة. ولكن من سوء الحظ أن تدريبهم، مع استغلاله لذكائهم استغلالا كاملا، قد يبعث البلادة في حساسيتهم الاجتماعية الطبيعية. (5) الفلسفة بوصفها تعميما
إذا كانت العبارة القائلة إن العلم هو عملية تعلم الأكثر والأكثر عن الأقل والأقل هي عبارة تنطوي على قدر كبير من الصحة، فإن العبارة العكسية، القائلة إن الفلسفة هي عملية تعلم الأقل والأقل عن الأكثر والأكثر، هي من نواح متعددة أصح حتى من السابقة. فبينما العلم يسير في طريقه بالتحليل الذي تتزايد تفاصيله، فإن ماهية الفلسفة كانت تعد، تقليديا، مركبا يتزايد شموله على الدوام. والمثل الأعلى للفيلسوف هو شخص يتجنب التخصص في اهتماماته وتكوينه بقدر ما يحرص عليه العالم، فاتساع نطاق الاهتمام يكاد يكون مرادفا للموقف الفلسفي. ومن أهم الشروط الضرورية لكي يكون النظر الميتافيزيقي مثمرا، أن يكون نطاق النشاط العقلي للذهن غير محدود، ومجال معرفته شاملا بالقدر الذي تسمح به حدود الحياة البشرة. ومن جهة أخرى فإن مثل هذا الاتساع في نطاق الاهتمام يعد أمرا ضارا من وجهة نظر العلم؛ لأنه قد يصرف انتباه العالم عن التركيز في مشكلات محددة.
الفلسفة بوصفها مكملة للعلم : وهكذا يتضح أن العلاقة الأساسية بين العلم والفلسفة هي علاقة التكامل. ولو تحدثنا من وجهة نظر الفيلسوف، لقلنا إن من أهم الوظائف التي يؤديها في العالم العقلي، تعويض الاتجاه التخصصي للعالم بنوع من المعرفة يبلغ من الاتساع قدر ما تبلغه معرفة العالم من الضيق. وهكذا فإن كلا من الميدانين يقدم إلى العالم العقلي في عمومه عين ما يفتقر إليه الميدان الآخر. ولو شئنا المزيد من الدقة لقلنا إن الفيلسوف يشغل مركز جهاز الاستقبال العقلي لكل نتائج العلوم المتعددة . فمن أهم وظائفه في المجتمع الحديث، تجميع كل الوقائع والآراء التي يمكن أن يكتشفها العاملون في مختلف الميادين، دون أن يكون لديهم الوقت الكافي (وربما دون أن يكون لديهم الاهتمام اللازم) للجمع بينها في نسق منظم، بل إن الفيلسوف لا يقتصر على تجميع هذه المعرفة فحسب، وإنما نستطيع التعبير عن مهمته بمجاز آخر، فنقول إنه أشبه بمن يعشق لعبة القطع الخشبية إلى حد الإدمان، بمجاز آخر، فنقول إنه أشبه بمن يعشق لعبة القطع الخشبية إلى حد الإدمان، بحيث لا يكتفي أبدا بجمع قطع متعددة فحسب، وإنما يريد تركيبها معا، وذلك من جهة لإرضاء نزعته إلى تحقيق شيء ما، ومن جهة أخرى لكي يرى ما نوع النموذج أو الصورة التي ستكونها القطع، وهذا هو الأهم. فالعلم يكتفي بأن يقتطع أجزاء الصورة الكاملة (أو في حالات أكثر، يضطره ضيق الوقت وقلة الطاقة إلى ذلك)، وأقصى ما يفعله هو أن يجمع البعض القليل منها لكي يكون جزءا فحسب من الصورة في أحد الأركان الصغيرة داخل الكل. أما الفيلسوف فيهتم بالكل أكثر مما يهتم بالأجزاء. وهو يتوق إلى تكوين الصورة الكاملة، إلى حد أنه قد يعمل على سد الثغرات التي لم يتمكن العلم من ملئها بعد، وبذلك يحاول، عن طريق الافتراض والاستدلال والتضمين، أن يصوغ صورة أكمل «لطبيعة الأشياء».
موقف العالم من التعميمات النظرية : قد يبدي العالم الحذر أحيانا - كما هو متوقع - قلقه من هذا الميل الشديد إلى إكمال الأجزاء الناقصة، وهو الميل الذي يتميز به المتأمل الميتافيزيقي النظري؛ ذلك لأنه بينما العالم يعترف بحق الفلسفة في صياغة صورة كاملة مؤقتة، فإنه يخشى ألا يحدد لنا المتأمل النظري بوضوح - في غمرة حماسته - أين تنتهي الوقائع الصلبة، وأين تبدأ الأجزاء غير المؤكدة، المؤلفة من نظريات لم يتم تحقيقها. وهو ينبه إلى أن تاريخ الفكر يقدم إلينا أمثلة متعددة لفلاسفة ركبوا صورا كان معظمها مؤلفا من أجزاء نظرية خالصة، دون وقائع علمية صلبة إلا ما يكفي لجعل الصورة الكاملة تبدو جديرة بالتقدير والتصديق في نظر أولئك الذين لا تكفي حاستهم النقدية لإدراك الخدعة الذكية - والتي هي في الوقت ذاته خدعة صدرت بنية طيبة - المتضمنة في عمل الفيلسوف. ثم يشير العالم إلى ميل الأذهان غير النقدية إلى أن تصدق أن وجود بعض الأجزاء المستمدة من العلم في الصورة، معناه أن الصورة بأكملها تستند إلى تأييد السلطة العلمية. مثل هذا الخطأ يبعث القلق، بطبيعة الحال، في نفس المشتغل بالعلم. وهو قد أدى به عادة إلى تجنب كل المذاهب الميتافيزيقية؛ إذ إن تفنيد هذه المذاهب يؤدي إلى إلقاء ظل من الشك الذي لا مبرر له على جهوده العقلية الخاصة، وعلى نزاهته العلمية.
ولو كان الخطأ في هذه المسألة هو خطأ الجمهور وحده، حين يعجز عن التمييز بوضوح بين الواقع العلمي والتفسيرات الفلسفية، لكان العالم أكثر تعاطفا مع الفيلسوف التأملي. غير أن الذهن العلمي يشك في أن الخطأ ليس خطأ الجمهور بقدر ما هو خطأ الفيلسوف ذاته. ففي بعض الأحيان كان الفيلسوف هو الذي أخفق في الاحتفاظ بالتميز واضحا في ذهنه هو - لا لأنه يفتقر إلى الأمانة العقلية، بالطبع، وإنما نتيجة لشيء أصعب كشفا بكثير، وأخطر من الوجهة الفلسفية؛ ذلك لأن أفضل الفلاسفة يظل مع ذلك بشرا؛ وبالتالي يظل معرضا للميل البشري الطاغي إلى أن يضفي على كل شيء معاني تؤيد مذهبه. وحتى لو ظل يمارس التفكير الدقيق طوال حياته، لما استطاعت ممارسته هذه في كل الأحوال أن تمحو كل أثر للتفكير المغرض من التأمل الفلسفي النظري. (6) العلم يكتشف، والفلسفة تفسر
يوحي الكثير مما قلناه حتى هذه النقطة بأن المثل الأعلى للفيلسوف ينبغي أن يكون شخصا مزودا بمعرفة خبيرة في كل من العلوم. فتبعا لهذا الرأي يكون ذلك الفيلسوف، قبل كل شيء، عالما أعلى
Superscientist ، يحتاج إلى معرفة كل ما يعرفه العلماء جميعا، فضلا عن ضرورة وجود أساس متين من الفكر الفلسفي التقليدي لديه. ولكن من حسن الحظ أن مثل هذا التكوين الشامل ليس ضروريا للتفكير المثمر في هذا المجال الواقع على الحدود بين الميدانين؛ فمن الضروري أن يكون الفيلسوف ملما إلماما واسعا بمبادئ كل علم ونتائجه وأن تكون لديه معرفة جيدة بمنطق العلوم ومناهجها بوجه عام. ولكن ليس من الضروري أن يعرف الأساليب الفنية الخاصة المستخدمة في كل علم، أو أن يستوعب مجموعة المعلومات الهائلة التي تكدست لدى هذه العلوم. وباختصار فإن اهتمامه ينبغي أن ينصب على النتائج العامة، لا على المعلومات التفصيلية المؤدية إلى هذه النتائج، وعلى المبادئ الشاملة، لا على أساليب الاختبار المتخصصة. وبالإضافة إلى هذه المعلومات العامة، فإن مما يفيد الفيلسوف دائما أن يكون قد قام ببحوث في ظروف معملية في واحد من العلوم على الأقل، مثلما أن من المفيد (ولكن ليس من الضروري بصفة مطلقة) أن يكون الناقد الفني قد مارس عملا خلاقا في واحد من الفنون على الأقل. ومع ذلك فإن كل ما يستطيع المفكر النزيه أن يفعله إزاء العلوم في مجموعها هو، على أحسن الفروض، أن يجمع المزيد كلما قام الباحثون العلميون بحلب بقرة الطبيعة. ولكن، حتى على الرغم من هذا القيد، فليس من الأمور غير المألوفة أن نصادف فيلسوفا يتابع ما يحدث في فرع معين من فروع البحث العلمي على نحو أفضل مما يفعله كثير من المشتغلين في المعامل في ميادين قريبة من ذلك الفرع كل القرب أو وثيقة الصلة به.
ولا شك أن أية ادعاءات للفلسفة بأن لديها معرفة كاملة هي ادعاءات لم يعد لها مجال. فكل مفكر نظري تأملي قد أصبح يشعر شعورا كاملا بأنه، بالنسبة إلى العمل الفعلي للعلم، ليس إلا نحلة تمتص الرحيق. ومع ذلك فهناك مفكرون تقوم نظرياتهم وآراؤهم التعميمية الشاملة على معرفة بالبحث العلمي ومشكلاته ونتائجه تبلغ من العمق حدا يستحقون معه (وينالون في العادة) احترام نفس أولئك العلماء الذين هم الأكثر عداء للنشاط الفلسفي. ذلك لأن من الواضح أنه عندما يبنى رأي فلسفي على فهم دقيق لمعطيات العلوم المختلفة، وعندما يكون القائم بصياغة هذه النظرية قد ميز بوضوح تلك الوقائع وبين وسائله الخاصة التي يستخدمها ليجمع بينها في صورة محكمة (وهو أمر لا يقل أهمية عن الأول)، فإن النتيجة لا يمكن أن تكون شيئا يستطيع أن يعترض عليه أي عالم بطريقة مشروعة، مهما يكن من دقة حساسيته النقدية.
وهناك سبب آخر هام يؤدي عادة بالعالم إلى التردد في نقد عادة صياغة فروض تأملية شاملة: هو أن هذه الفروض العامة تقوم أحيانا بدور ملهم أو موجه في تطور أي علم، ولا سيما في مراحله الأولى. ولما كانت هذه الفروض تتجاوز عادة نطاق المعرفة الماضية والحاضرة، بل إنها قد تكون من النوع الذي يستحيل إجراء أية تجارب مباشرة عليه، فإن التأملات من هذا النوع عادة «فلسفية» لا «علمية»، حتى لو كان مضمونها قريبا كل القرب من مضمون علم معين.
Unknown page