176

Falsafa Anwacha

الفلسفة أنواعها ومشكلاتها

Genres

4

وهكذا فإن الدائرة التي سرنا فيها تكتمل : فهناك مخاطرة كلما قمنا باختيار على أساس أدلة غير كافية. ولكنا قد نضطر في كثير من الأحيان، أثناء حياتنا، إلى خوض هذه المخاطر، ومن المؤكد أن اتخاذ قرار بشأن الله والخلود، هو أكبر أمثلة هذا الاختيار الذي لا مفر منه. وليس هناك آخر الأمر سوى مزاجنا أو حاجتنا الشخصية لكي نقرر أي نوع من الخداع - خداع الأمل أم خداع الخوف - نفضل أن نخاطر به. وهكذا ينتهى المثالي أو المؤمن بالألوهية إلى التساؤل: لم لا نؤمن، ما دام الإيمان لن يكلف شيئا، وقد يجلب لنا منافع جمة من حيث طمأنينة النفس في هذه الحياة والسعادة بعد موتنا؟

دفاع المذهب الطبيعي : يبدو رد فيلسوف المذهب الطبيعي عادة، في نظر المثالي، مماثلا لموقفه الأصلي في بعده عن الفهم. فهو يجيب بقوله: «إنني لا أقبل الإيمان لأني لا أستطيع. فأنت على خطأ تماما عندما تقول إن مثل هذه الطمأنينة لا تكلف شيئا فهي قد تكلفني أعز ما أملك، وهو نزاهتي العقلية». وينبغي أن يلاحظ على الفور أن هذا الرد لا يقصد به أبدا أن يكون تلميحا متعلقا بأمانة المثالي العقلية، وإنما هو مجرد تعبير عن أن صاحب المذهب الطبيعي ذاته لا يستطيع أن يأخذ بهذا الاعتقاد إلا بثمن باهظ كهذا.

وقد يقال إن النظرتين إلى العالم قد تكونان معا - كما اتفقنا من قبل - متساويتين فيما يتعلق بمنطقهما. فإن كان هذا صحيحا، فكيف يكون الأخذ بالمذهب المثالي محتاجا إلى صرامة ذهنية أقل بأي مقدار؟ ويفسر صاحب المذهب الطبيعي موقفه بقوله : «إنني لا أشير إلى منطق خصمي عندما أتحدث عن النزاهة العقلية، وإنما أشير فقط إلى المصادرات التي يشيد عليها بناؤها المنطقي. فهذه المسلمات الأساسية هي التي لا يمكنني أن أقبلها؛ إذ لا يوجد لها مبرر في تجربتي ولا فيما أعتقد أنه إجماع الشواهد التجريبية في عمومها. أما إذا كان المثالي يرغب في قبول هذه المسلمات، أو يتعين عليه قبولها لكي يجد في العالم بيئة مريحة للحياة البشرية، فهذا شأنه. ولعله قد مر بتجارب شخصية أدت به إلى الاعتقاد بأن الحقيقة النهائية روحية، أو تبرر اتخاذه من هذا الاعتقاد مصادرة كبرى في مذهبه. فإن استطاع أن يفعل ذلك، فهنيئا له ما يفعل، أما أنا شخصيا فلا أستطيع.»

من أين تأتي هذه الفوارق؟

من الواضح أننا إذا سرنا في هذه المناقشة أية خطوة أبعد من ذلك، فسيؤدي بنا ذلك حتما إلى خوض غمار دراسة مفصلة في سيكولوجية الإيمان أو الاعتقاد. ومع ذلك فليس في وسعنا أن نختم هذه المناقشة دون أن نقول كلمة أخيرة. فهذه النقطة بالذات ترتبط بمشكلة من أكثر المشكلات المحيرة في التجربة البشرية، وأعني بها: كيف يمر شخصان بنفس التجربة وتكون لهما استجابتان متعارضتان عليها؟ لقد سبق أن أثرنا هذا السؤال عند نهاية الفصل الرابع، وها نحن أولاء نعود إليه. والرد المعتاد لهذا السؤال هو: «إن ذلك يرجع إلى الاختلاف في التكوين الذي ترتكز عليه التجربة المشتركة عند كل منهما». ولكننا لاحظنا وجود اختلافات شديدة التباين في استجابات أشخاص من نفس العمر، ولهم نفس التكوين العام، كما هي الحال مثلا في أفراد أسرة واحدة متماسكة أو بين «أصدقاء العمر». وهذا يؤدي بنا إلى الشعور بأن تلك الإجابة كانت مبسطة أكثر مما ينبغي. فعندما يلاحظ المرء مسلك شقيقين تكون له صلة وثيقة بهما، مثلا، ويرى إلى أي حد يجد أحدهما مضامين مثالية في كل ما يحدث، على حين أن استجابة الآخر تسير بنفس الضرورة المحتومة في اتجاه المذهب الطبيعي - فعندئذ يجد المرء نفسه مضطرا إلى البحث عن أغوار أعمق للمشكلة .

والرد الوحيد الذي يمكن أن يواجه أي اختبار علمي هو القائل إن هذا التباين يرجع جزئيا إلى فارق فردي في الوراثة والاستعداد؛ أعني فوارق في تركيب الأعصاب وحساسية الحواس ووظائف الغدد، بل والهضم ذاته. وتسمى الحصيلة النفسية لوظائفنا العصبية والغددية الأساسية عادة باسم «المزاج»، وهو لفظ يشيع استخدامه في وصف الاستعداد أو الميل الأصلي للفرد من الناحية النفسية والجسمية. ومن ثم ففي إمكاننا أن نعيد صياغة سؤالنا السابق من جديد، بحيث يصبح: إلى أي مدى تؤدي الفوارق المزاجية إلى اختلافات في وجهة النظر الفلسفية؟ وهل المعركة بين أنصار المذهبين المثالي والطبيعي «مسألة غدد فقط» كما يقول التعبير الشائع؟

مشكلة المزاج : ربما كان ويليم جيمس هو المسئول عن المحاولة الحديثة للربط بين المزاج والميتافيزيقا. ولقد سبق لنا أن أشرنا إلى التقابل المشهور الذي وضعه بين المثالي «الرقيق الذهن» وبين الطبيعي الصارم الذهن.

5

وقد أعرب الشاعر الإنجليزي «كولردج» منذ حوالي قرن ونصف، عن فكرة مشابهة لهذه إلى حد بعيد حين وصف الناس جميعا بأنهم إما أفلاطونيون وإما أرسططاليون. وفي أيامنا هذه أدى ظهور النظرية الغددية في الشخصية، إلى اتساع نطاق الرأي القائل إن نظرة المرء إلى العالم ترتبط بوظائفه العضوية ارتباطا وثيقا. ولما كان المذهب الطبيعي يؤكد أولوية العالم الفيزيائي، فإنه لا يجد في هذه النظرية - كما هو متوقع؛ أي شيء غير منطقي (وهو قطعا لا يجد فيها أي شيء يصدمه). فهو لا يشعر بأي حرج عندما يقول شخص عنه أنه يؤمن بمذهبه، وبالمصادرات الأصلية التي بنى عليها المذهب بوجه خاص، نتيجة لاتزان معين في الغدد - أو على الأرجح، لعدم اتزان فيها، بل إن القائل بالمذهب الطبيعي يرى أن أفضل تفسير لتحيزنا الأصلي لمصادرات معينة هو وجود تفضيل مزاجي متأصل فينا. وقد يذهب به الأمر إلى حد القول بأن هذا هو التفسير الوحيد الممكن.

Unknown page