172

Falsafa Anwacha

الفلسفة أنواعها ومشكلاتها

Genres

ولا نكاد نجد أنفسنا بحاجة إلى القول بأن أية ميتافيزيقا تؤمن بالمذهب الطبيعي لا بد أن تقضي على مثل هذه الآراء من أساسها. فصاحب المذهب الطبيعي لا يحتاج إلى افتراض الخلود من أجل إكمال مذهبه منطقيا أو أخلاقيا. فلما كان يؤمن بأن الكون غير مكترث بالقيم البشرية، وبأنه لا توجد علاقة ضرورية بين الواقع والخير؛ أي بين ما يوجد وما نود أن يوجد - فإنه لا يستطيع الالتزام بتلك الشروط التي يقول المثالي إن الخلود يفي بها منطقيا. ولما كان الذهن البشري هو الشيء الوحيد الذي يعبأ بتحقيق القيم في العالم الذي يقول به المذهب الطبيعي، فكيف يمكن أن يقال إن النضال الأخلاقي لا تكون له قيمته إلا بالنسبة إلى البقاء بعد الموت؟ وبعبارة أخرى، فالمثالي يرى أنه إن لم يكن هناك وجود بعد الموت لإتمام المسعى الأخلاقي، فلن يمكن أن تكون للقيم الأخلاقية دلالة كونية. وهذا ما يرد عليه صاحب المذهب الطبيعي بقوله: «بالضبط! فكل هذا الحديث الطنان عن القيم الكونية إنما هو محاولة من الإنسان لإضفاء أهمية على رغباته وأمانيه الخاصة. إن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن الاعتقاد بأن الكون يرى الأشياء كما نراها، ويحلم كما نحلم، ويستهدف غايات كغاياتنا، ومثلا عليا هي مثلنا، وهو أمر يبعث الراحة في نفوسنا، بل يرضي غرورنا. ومن المؤكد أن الأمور لو كانت كذلك، لكان هذا شيئا رائعا بحق». غير أن صاحب المذهب الطبيعي يذكرنا، كما يفعل دائما بأن كون هذا الموقف أمرا مرغوبا فيه هو أمر لا صلة له على الإطلاق بحقيقته، وبأن منطقيته لا علاقة لها بواقعيته، وبالاختصار، فإن هذه المحاولة المثالية لإلحاق الأماني البشرية بقطار الكون ليست إلا تشبيها بالإنسان، ولكن بصورة مهذبة.

موقف المذهب الطبيعي : هل يعني ذلك كله أن المذهب الطبيعي لا يؤمن بالخلود؟ إننا إذا كنا نعني بهذا اللفظ أي شيء أكثر من استمرار النوع أو البقاء في المجتمع، فإنه يلزم منطقيا عن وقف المذهب الطبيعي استحالة أن يكون هناك خلود كهذا. أي إنه، مثلما أن منطق المذهب المثالي يرغم صاحبه على الاعتراف بأن هناك على الأرجح بقاء للشخص بعد الموت، فإن المنطق الذي ينطوي عليه موقف المذهب الطبيعي يدفعه إلى الشك في أي احتمال كهذا، وربما إلى إنكاره تماما. صحيح أن صاحب المذهب الطبيعي لا يملك ما يجزم به في هذه المسألة على نحو قاطع، وهو عادة يتخذ موقفا لاأدريا أكثر منه قطعيا توكيديا. ولكن من الواضح مع ذلك أنه، وإن لم يكن يستطيع إنكار البقاء بعد الموت بأي قدر من اليقين، فإن منطق مذهبه بأسره من شأنه أن يجعل الإيمان بالخلود غير ضروري وغير منطقي. والأمر هنا مماثل لما كنا عليه عند بحثنا في مشكلة وجود الله. ففي كلتا المسألتين لا يوجد دليل تجريبي أو برهان عقلي، بل إن الأساس الوحيد للإيمان هو نوع من المنطق الأخلاقي، كما اعترف «كانت» وكثير غيره من الفلاسفة المحدثين صراحة. فقد بدا لهم أن إنكار وجود الله وخلود النفس يؤدي إلى إنكار وجود نظام أخلاقي موضوعي أو مطلق في الكون. هذه النتيجة، التي اعترفت بها المدرستان الكبريان المتنافستان من مدارس الفكر الفلسفي، تلقى قبولا فوريا عند صاحب المذهب الطبيعي، وتدمج في نظرته إلى العالم. أما المثالي فلا يتصور هذه الفكرة. والواقع أن من العسير أن نرى كيف يستطيع المثالي أن يقبلها دون أن يعرض بناء الفكر المثالي بأسره للخطر. (4) الأمل الأكبر للمثالية

لما كان المثالي هو الذي يأخذ على عاتقه مهمة إثبات بقاء الشخصية بعد الموت، فإن من العدل أن نختم مناقشتنا للخلود بتلخيص لاستدلاله ينطوي على تعاطف معه. ولسنا بحاجة إلى ترديد الحجة الأخلاقية؛ إذ إننا انتهينا لتونا من عرضنا لها. ولكن ما نود أن نوجه إليه اهتمامنا هنا هو الحجة الميتافيزيقية الأنطولوجية؛ إذ يبدو أن كثيرا من المثاليين ينظرون إلى هذه الحجة، على أنها أقوى حتى من الدليل الأخلاقي. ولنذكر أن الفكرة الأساسية العامة للميتافيزيقا المثالية هي الاعتقاد بأن الواقع النهائي ذو طبيعة ذهنية أو روحية، وأن النظام الموضوعي للوجود المادي؛ أي العالم الطبيعي - له حقيقة ثانوية أو مشتقة. ولنعد مرة أخرى إلى اقتباس عبارة من هوكنج، هي التي يقول فيها إن المثالية ترى أن الاكتفاء الذاتي البادي للطبيعة إنما هو وهم، فالطبيعة تعتمد في وجودها على شيء أبعد منها، أو وراءها، أو فوقها. هذا الشيء هو «الذهن» بمعناه الشامل. وكما رأينا في الفصل الثالث، فإن المثالية الذاتية (عند باركلي) والمثالية الموضوعية (عند هيجل) لا تتفقان تماما في طريقتيهما في إرجاع الوجود إلى الذهن. غير أن جميع أنواع التفكير المثالي تتفق، على الأرجح، على أن المادة، وعالم الموضوعات الفيزيائية بأسره، يستمد معناه ووجوده آخر الأمر، من عالم فوق الحسي، هو عالم الذهن أو الأفكار (المثل) ومن ثم فإن جميع مدارس المثالية تنكر أولوية المادة، وإنما تعطي كل الأولوية؛ أعني الأولوية المنطقية والأنطولوجية والزمنية - لنظام مادي في الوجود.

والنتائج التي تترتب على هذا الرأي بالنسبة إلى موضوع الخلود واضحة. فإذا كانت الأولوية «للذهن»، أو «الفكر»، أو «الروح»، أو «العقل»، وإذا كان العالم يستمد معناه (ووجوده آخر الأمر) من هذا المصدر غير الفيزيائي، فمن الواضح أننا، بوصفنا أذهانا أو أرواحا أو شخصيات، يمكن أن نوجد بمعزل عن أجسامنا العضوية. ذلك لأن الذهن (في الأنطولوجيا المثالية) يمكن منطقيا أن يوجد بمعزل عن الجسم، ما دام ينتمي إلى نظام للوجود أكثر أولية وأكثر «حقيقة». أما العكس فليس ممكنا، فقد يستمر وجود الجسم مؤقتا بمعزل عن الذهن أو النفس التي كان الجسم يئويها حتى عهد قريب، ولكنه لا يمكن أن يوجد، ولو بصفة مؤقتة، مستقلا عن كل ذهن؛ أي مستقلا عن «الذهن الإلهي» أو «المطلق». وهكذا يرى المثالي أن بقاء الشخصية بعد الموت أو بعد زوال الجسم المادي ليس ممكنا فحسب، بل هو مرجح. والحق أن منطق المثالية يجعل هذا البقاء أمرا يكاد يكون مؤكدا . فإذا كان أساس وجود الأجسام، كما رأينا في الفصل الثالث، هو أن تكون جسرا تتصل بواسطته الأذهان فيما بينها، فمن الممكن أن نتصور أن توجد هذه الأذهان ذاتها مستقلة عن أي كائن عضوي مادي. أي إننا ما إن نفترض أولوية الذهن أو الروح فلن يعود هناك شيء يحول دون الخلود. فلو سلمنا بهذه المصادرة الأساسية للمثالية، فإن بقاء الشخصية الإنسانية بعد الموت يكون أكثر من مجرد فكرة معقولة؛ إذ يغدو احتمالا مرجحا رائعا. (5) مشكلة الإيمان النهائي

بأي شيء يمكننا أن نؤمن إذن؟

إن المسألة تبدو الآن واضحة: ففي إمكاننا أن نؤمن بأي شيء لا يوجد دليل تجريبي يؤدي إلى استبعاده، ويكون في الوقت ذاته متمشيا مع موقفنا الفلسفي الأساسي. ومن هنا فإنه لا توجد مشكلة أخرى من المشكلات التي تتناولها الفلسفة، يظهر فيها الشقاق بين المذهبين الطبيعي والمثالي بنفس القدر من الوضوح الذي يظهر به في موضوعي الله والخلود. ذلك لأننا لما كنا في حالة هذين الموضوعين نعالج مشكلات لا توجد بشأنها إلا أدلة تجريبية ضئيلة، أو لا توجد أدلة على الإطلاق، فليس هناك اعتقاد ينبغي استبعاده بصفة قاطعة لأسباب تجريبية. وبالطبع لا يوجد اعتقاد يقبل بوضوح بناء على هذه الأسباب؛ لذلك فإن نظرتنا الفلسفية العامة إلى العالم هي التي ستتحكم بالضرورة، آخر الأمر، فيما نؤمن به، ما لم نكن بالطبع غير متسقين في تفكيرنا بحيث نتمسك بمعتقدات متناقضة. أما إذا افترضنا أن معتقداتنا متسقة، فإن آرائنا في تلك المشكلات القصوى، كمشكلة وجود الله وبقاء الشخص بعد الموت، ستكون هي الآراء التي تنسجم مع مذهبنا الفلسفي في مجموعه. فنحن سنؤمن عندئذ بما يمكننا أن نؤمن به في إطار هذا المذهب. أو بعبارة أدق، فنحن سنأخذ بأية معتقدات تلزم لإتمام مذهبنا وجعله كله مذهبا تسوده وحدة جامعة. وهنا نجد المثالي والطبيعي يفترقان أشد ما يكون الافتراق - أعني افتراقا لا رجعة فيه. إذ يتعين على كل منهما، لكي يجعل نظرته إلى العالم متسقة وكاملة، أن يتابع نتائج مصادراته الأساسية حتى نهايتها المنطقية ، بحيث إن كل خطوة يخطوها تزيده ابتعادا عن خصمه الفلسفي. (1)

بالنسبة إلى المثالي : يرى المثالي، الذي يعطي الأولوية للجانب الفكري من الوجود، ويجعل عالم الروح هو الأساس النهائي، أنه «لا شيء مستحيل التحقيق من أماني الإنسان العليا».

1

وعلى حين أنه قد لا يكون هناك، على الأرجح، أفراد كثيرون في هذه المدرسة يؤمنون «ببعث الجسم ودوام الحياة أبدا» بالمعنى اللاهوتي التقليدي، فإن أغلبية منهم تقبل فكرة وجود نوع معين من البقاء بعد الموت، ولا سيما إذا كان ذلك بقاء للعناصر الأكثر معقولية وأخلاقية في طبيعة الإنسان. وهنا نجد، كما نجد في مسائل كثيرة أخرى، أن الموقف والاتجاه العام للمثالي متعاطف بقوة مع موقف الدين واتجاهه. وعلى الرغم من أن عقل المثالي قد يكون أقوى في نزعته النقدية من عقول معظم رجال الدين (وهو قطعا أقوى في نزعته التحليلية) فإنه يقبل لنفسه راضيا أن يقوم بدور التابع لهم. وكل ما في الأمر أن المثالي يتحدث عادة عن «المطلق» بدلا من «الله»، وعن «حفظ القيم» بدلا من «الجنة أو النعيم»، فيكون الفارق الرئيسي بين الفيلسوف المثالي وبين رجل الدين هو في تأكيد الأول للأوجه النظرية لهذه المشكلات القصوى، في مقابل تأكيد الثاني لأوجهها العملية. (2)

بالنسبة إلى فيلسوف المذهب الطبيعي : فما هو موقف فيلسوف المذهب الطبيعي إذن؟ لما كانت الإجابات التي يقدمها هذا الفيلسوف عن هذه المشكلات تتعارض بصورة مباشرة مع آمال الإنسان وأمانيه، فمن العسير عرض الردود التي يأتي بها بطريقة تروق لكثير من القراء. والحق أنه، أيا ما كان المصدر الذي تقع على عاتقه مهمة الإتيان ببراهين (أو بينات) منطقية أو تجريبي، فإن البينة الانفعالية تقع قطعا على صاحب المذهب الطبيعي؛ إذ يبدو رده في نظر معظم الناس أقسى وأصلب وأكثر «واقعية» من اللازم. ذلك لأن الموقف السائد بين الناس هو تقريبا الموقف الآتي: لما كنا لا نستطيع إثبات إجاباتنا على أي نحو، ولما كان لنا بالتالي الحق في الإيمان بأية وجهة نظر، فمن المؤكد أن الأفضل هو الأخذ بالرأي الذي يتيح لنا مزيدا من الطمأنينة ويجعل الحياة أجدر أن تعاش - ومن الواضح أن هذا هو الرأي المثالي.

Unknown page