170

Falsafa Anwacha

الفلسفة أنواعها ومشكلاتها

Genres

الخلود: في أي شيء آمل؟

الحق أن مشكلة الخلود تتغلغل في حياتنا الشخصية وفي معتقداتنا الباطنة إلى حد عميق. فمن الجائز أن هذه، من بين جميع المسائل التي تعالجها الفلسفة، هي المشكلة التي ننتظر الإجابة عنها باهتمام يفوق اهتمامنا بكل ما عداها. ذلك لأن أي مذهب فلسفي، في نظر الكثيرين، لا بد أن يتوقف نجاحه أو إخفاقه على الإجابة التي يقدمها بشأن هذا الموضوع الذي تنعقد عليه آمال البشر ... على أن هذا الموقف ينطوي على خلط مضلل بين الفلسفة والدين. وعلى أية حال، فسواء أكان توقع تحقيق هذا المطلب من الفيلسوف أمرا مشروعا أم لم يكن، فإن هذا التوقع أمر لا مفر منه. ومن هنا فلا مفر أيضا من أن تحاول مختلف المذاهب الفلسفية تقديم إجابات عنه.

وهنا أيضا ينبغي أن نبدأ بتحليل المسائل المتضمنة في هذا السؤال الذي يبدو بسيطا: «هل تبقى الشخصية الإنسانية بعد الموت؟» ذلك لأن من الواجب أن ندرك أن لفظ «الخلود» وحده كانت له في تاريخ الفكر البشري عدة معان متباينة، ومن الواضح أن أية إجابة عن السؤال: «أهناك خلود؟» ستكون متوقفة على المعنى الذي نستخدم به اللفظ. كذلك ينبغي أن ندرك أن التفكير في هذا الموضوع على أساس أمانينا ورغباتنا لا يمكن أن تسفر عنه أية إجابة فلسفية عن هذا السؤال. قد تكون الإجابة المتأثرة بمثل هذا التفكير مشروعة في أوساط معينة، ولكنها لا تكاد تجد لها مكانا في أي بحث ميتافيزيقي جاد. فإذا انتهينا، بوصفنا فلاسفة، إلى أن الخلود البشري حقيقة، أو على الأقل أمر مرجح، فينبغي أن تكون النتيجة مبنية على أساس أمتن من مجرد كونها أمرا مرغوبا فيه.

لذلك سنبدأ تحليلنا ببحث مختلف معاني لفظ «الخلود»؛ إذ إن موضوع الخلود من أكثر الموضوعات التي تشيع مناقشتها تعرضا للاختلاف في فهم مصطلحاته الرئيسية باختلاف الأطراف المشتركة في مناقشته. وقد يكون من الإسراف أن نأمل في الوصول إلى تعريف نهائي للفظ الخلود، يرضي جميع القراء، ولكن من الممكن، ومن الضروري، الالتجاء إلى تعريفات مؤقتة نستعين بها في المناقشة. وأقل ما يمكننا أن نفعله هو أن نختصر عدد المعاني الممكنة للفظ، بحيث لا نستبقي منها إلا ما يمكن تبريره على أسس عقلية. ومن شأن هذا الاختصار أن يلقي بعض الضوء على تلك المشكلة التي هي على أحسن الفروض، مشكلة يشيع فيها الخلط. (1) أنواع الخلود المختلفة (1)

الخلود البيولوجي : توجد على الأقل ثلاثة أنواع مختلفة من التجربة تندرج تحت هذا اللفظ الواحد، لفظ «الخلود». فهناك أولا الخلود البيولوجي الذي يبلغ من الوضوح حدا لا يكاد يكون معه موضوعا للخلاف. وكل ما يعنيه هذا النوع هو أننا نبقى بعد موتنا في أشخاص أبنائنا وأبناء أحفادنا، خلال الأجيال المختلفة. ولا ينطوي هذا القول باستمرار النوع عادة على أي نوع من البقاء الشخصي؛ ولذا فقد يكون الأجدر أن يطلق عليه اسم «الاستمرار» بدلا من «البقاء». والواقع أن أولئك الذين يؤكدون هذا الاستمرار لا يدعون للبشرية أي شيء لا يسري على كل أشكال الحياة بدورها. فالإنسان ليس أكثر أو أقل خلودا من سائر أفراد المملكة الحيوانية، إذ إن الجميع، إذ يسلمون مشعل الحياة، إنما يسلمون شيئا من أنفسهم. ومع ذلك فإن أحدا منهم لا يسلم هذه الفردانية التي تجعل هذا الكلب هو «فيدو» بالذات، أو هذا الشخص بعينه هو «علي». ولما كان هذا الرأي في الخلود يقتصر على استخدام المفاهيم البيولوجية، فإنه يؤكد أن كل كائن عضو حي ليس إلا مستودعا مؤقتا لبذور الحياة، وما حياة الفرد إلا وديعة. تسلم عند وفاته لأبنائه وبناته. (2)

الخلود الاجتماعي : وهناك نوع ثان من الخلود، لا يكاد يختلف في وضوحه واستحالة الشك فيه عن بقاء النوع، وهو البقاء الاجتماعي. ففي هذه الحالة يكون البقاء هو استمرار وجودنا بعد الموت في ذكريات أسرتنا وأصدقائنا. هذا الرأي يؤكد أن الأفراد الذين يقدمون للمجتمع أكبر الخدمات، هم الذين يقدر لهم بقاء اجتماعي أطول. وهكذا ينطوي هذا الموقف على نوع من العدالة البسيطة: فبقاؤنا يتوقف على مقدار جدارتنا، أي على كوننا قد أسهمنا في المجتمع بنصيب يستحق أن تخلد ذكراه بعد موتنا. وفي كل حالة من الحالات يظل كل ما فعلناه من خير ورحمة باقيا بعد حياتنا، وسوف يعمل من انتفعوا من إرادتنا الخيرة على حفظ ذكرانا عطرة، والإشادة ببركاتنا. فأولئك الذين عاشوا حياة عظيمة مفيدة يصبحون آليا أفرادا فيما أسماه جورج إليوت «جماعة الإنشاء الخفية»:

بنفسي أن ألحق بجماعة الإنشاء الخفية

لأولئك الموتى الخالدين الذين يعيشون ثانية

في نفوس أصبحت أفضل بفضل وجودهم ...

لكي أنشد أنغاما لا يغيب صوتها عن العالم. (3)

Unknown page