ونستطيع التعبير عن هذا الموقف الحتمي بطريقة أخرى، فنقول إن صاحب مذهب الحتمية في العصر الحديث يقبل تلك «القوى الخارجية» التي كانت مثبطة للقائل بمذهب القدرية، ويرى أن لها تأثيرا حقيقيا في تكوين الذات أو الشخصية. ومع ذلك، فإن هذه القوى، بمجرد ممارستها لهذا التأثير، تندمج في مركب جديد دائم التغيير، أو «شخصية»، تقوم منذ هذه اللحظة بالاستجابة بطريقة فريدة لمنبهات أو قوى خارجية أخرى. وهكذا فإن أفعالنا تكون صادرة عنا بمعنى خاص؛ إذ إن أية ذات أخرى لا تستجيب بنفس الطريقة؛ لأن أية ذات لم تمر بكل التجارب السابقة نفسها، ولم تتخذ كل القرارات السابقة ذاتها. وقد عبر تنيسون
Tennyson
عن ذلك بقوله. «أنا جزء من كل ما صادفت». فالذات هي مجموع كل الاستجابات والقرارات السابقة، المتعلقة «بكل ما صادفت». وهكذا، فعلى حين أن أفعالنا محددة ومحتومة، فإن هذه الحتمية إنما تجيء من طبيعة الذات أو شخصيتها، لا من القوى الخارجية. وفي هذه الحتمية الذاتية تنحصر حريتنا المعنوية والأخلاقية. (4) حجج كل من الجانبين
اقتصرنا حتى الآن على عرض موقف كل من الحتمية واللاحتمية بطريقة قطعية إلى حد ما. وعلينا الآن أن نبحث في الحجج الرئيسية التي يرتكز عليها كل فريق؛ لأن من الواضح أننا لا نستطيع الاختيار بطريقة واعية بين وجهتي النظر هاتين إلا عن طريق تقدير الأدلة التي يستند إليها كل منهما. ولما كانت اللاحتمية قد ظلت هي الرأي «الرسمي» للفكر الغربي، فسوف نبدأ بعرض حججها. وسيتضح لنا فيما بعد أن معظم الحجج الحتمية هي في حقيقتها ردود على حجج المذهب اللاحتمي؛ ولذا كان الأفضل هو الاستماع إلى الأصل أولا.
حجج اللاحتمية : للقائل باللاحتمية أربع حجج رئيسية، قد تكون كلها متساوية الأهمية. (1)
إن من أوضح حقائق حياتنا النزوعية، شعورنا بالحرية. فأيا كان القرار الذي نحاول اتخاذه، ومهما تكن صعوبة بلوغه، فإننا عندما نتخذ قرارنا أخيرا يكون لدينا شعور بأن الاختيار لم يتحكم فيه شيء سوى إرادتنا الخاصة. وقد تؤدي القوى الخارجية، أو العجز الشخصي، إلى قصر اختيارنا على بديلين فقط، كلاهما غير مرغوب فيه، ولكنا نشعر بأن القرار النهائي هو دائما عمل اختياري إرادي صادر عنا نحن. فنحن نوقن في هذه الحالة بأنه كان في استطاعتنا اختيار البديل الآخر بنفس السهولة وبنفس «الحرية». ويترتب على هذا الإحساس بالاختيار غير المحتوم، الشعور الحتمي «بالإلزام»، بل إن هذا الشعور بالإلزام هو في نظر كثير من اللاحتميين مثل «كانت»، دليل على الحرية أكثر إقناعا حتى من الحدس الذي نشعر فيه بأننا قد اتخذنا قرارا غير مسبب؛ إذ إن هذا الشعور بالإلزام، في رأيهم، لا يكون له أي معنى لو لم يكن الاختيار الأصيل ممكنا. فعبارة: «ينبغي لي» لا بد لها من شرط مفروض مقدما، هو: «أنا أستطيع». (2)
والحجة الثانية المؤيدة للاحتمية تتعلق بهذا الشعور بالإلزام. ذلك لأن حرية الإرادة شرط ضروري لكي يكون هناك معنى لأي تصور نكونه عن المسئولية الأخلاقية (أو حتى القانونية). وإنه لمن غير المنطقي أن نعد الشخص مسئولا عن فعل معين ما لم يكن هذا الفعل صادرا عنه؛ أي ما لم تكن لديه قدرة أصيلة على الاختيار بين أمور بديلة واتخاذ قرارات أخلاقية. فجميع الأحكام التي نصدرها عادة بشأن «صواب» السلوك أو «خطئه»، لا تفترض مقدما إرادة غير محكومة فسب، بل إنها تغدو ظالمة متجنية في أية ظروف أخرى غير تلك التي يفترضها اللاحتمي. (3)
والحجة التالية تترتب بدورها على السابقة. فاللاحتمية هي الرأي الوحيد المعقول - ليس فقط لأن تقويماتنا الخاصة بالاستحسان والاستهجان تعدو بلا معنى في ظل الموقف الحتمي، بل أيضا لأن كل القيم، وضمنها التفكير ذاته، تصبح بدورها بلا جدوى. ذلك لأنه لو كان كل ما يحدث نتيجة ضرورية لما حدث من قبل، بل لطبيعة الأشياء ذاتها، التي يمكن أن تكون على خلاف ما هي عليه. فعندئذ يكون من التعقيم أن نتحدث عن «أفكار» أو «مثل عليا» أو «مقاصد»، بل إنه يستحيل عندئذ تفسير العقل ذاته، ما دامت وظيفته الرئيسية هي التقويم والتمييز، فإذا كانت «كل الأشياء تحدث بالضرورة»، كما قال اسبينوزا وغيره من الحتميين، فعندئذ يكون النشاط العقلي عقيما، بل غير مفهوم. (4)
وأخيرا يرى اللاحتمي أنه لا يوجد وسط الحرية التامة والقدرية. فمحاولة التوفيق التي تقوم بها الحتمية مستحيلة لأنها غير مستقرة؛ إذ إنها ترتد آخر الأمر إلى الحل القدري، على الرغم من كل الجهود التي تبذلها لكي تتجنب هذه النتيجة. ذلك لأننا إذا استخلصنا من الموقف الحتمي كل نتائجه المنطقية، لوجدناه ينكر تلك الحرية التي يزعم أنه يجعلها ممكنة. إذ لو كانت الذات قبل كل شيء حصيلة لتجاربها؛ أي للقوى الخارجية التي تؤثر فيها - لكان من الواضح أن الاختيار في لحظة القرار الفعلي، سيكون نتيجة لهذه القوى، لا لإرادة غير محتومة كتلك التي يقتضيها فرض الحرية. وفضلا عن ذلك، فإذا كان الحتمي على حق، ألن يكون السؤال عن القوى التي تكون شخصيتنا متوقفة جزئيا على طبيعة الكائن العضوي التي نتوارثها؟ وهكذا يكون اختيارنا محدودا وخاضعا للتأثير بمعنى مزدوج: إذ نكون، من جانب، ما صنعته منا بيئتنا، ونكون من جانب آخر، ما أتينا به إلى العالم من مادة خام. فإذا أكد أي شخص بعد هذه الحقائق كلها أننا أحرار، فإنه بكل بساطة، لا يستخدم اللغة بطريقة استخدامها العادية؛ ذلك لأنه ما لم تكن الذات عالية، بمعنى كونها قادرة على الارتفاع فوق مستوى علاقة العلة والمعلول التي تقيد بقية الكون، لما كانت حرة. وما لم تكن إرادتنا مستقلة عن المنبهات، والوراثة، والتجارب السابقة؛ أي ما لم تكن قادرة في كل لحظة على القيام باختيار كان من الممكن دائما أن يأتي بصورة مخالفة - لكانت الحرية البشرية وهما ...
حجج مذهب الحتمية : يرى القائل بالمذهب الحتمي إنه يستطيع الرد على كل هذه الحجج وتقديم بعض الحجج المقنعة التي تؤيد موقفه الخاص. (1)
Unknown page