وهو لفظ يترجم عادة بكلمة «السعادة
Well-Being » أو «السعادة الحيوية».
السعادة بوصفها الخير الأسمى : من الطبيعي أن تكون سعادة كل نوع من الأنواع الحية مختلفة. ومع ذلك فإن قوامها في كل حالة هو النمو الكامل لتلك الوظائف التي يتميز بها هذا النوع بعينه. ويرى أرسطو أن هذه تكون عادة وظيفة واحدة، ما دام يرى أن لكل شكل من أشكال الحياة نشاطه النوعي المميز. وهكذا تكون مشكلتنا هي كشف الوظيفة التي يؤديها الإنسان على أفضل نحو، والتي ينفرد بها عن غيره ما دامت سعادة الإنسان إنما تنحصر في تنمية هذه الوظيفة أو هذا النشاط إلى أقصى حد. ولقد رأينا أن هذه الوظيفة لا يمكن أن تكون هي عمليات التمثيل الغذائي التي يقوم بها الإنسان، ما دامت كل الكائنات الحية تقوم بنفس هذه الوظيفة. كما أنها لا يمكن أن تكون طبيعته الحاسة أو المتحركة. ما دامت الحيوانات تشارك الإنسان هذه الطبيعة. وعلى ذلك فلا بد أن نجد الخير الأسمى للبشر في أوجه النشاط العقلية التي ينفرد بها الإنسان.
وهكذا يظهر في مذهب أرسطو الأخلاقي عرض منظم للفكرة القائلة إن تحقيق القيم فوق العضوية هو الخير الأقصى. ولو شئنا أن نعرض رأي أرسطو بطريقة أدق لقلنا إن الخير الأسمى للإنسان إنما يكون في رعاية وتنمية جميع وظائفه، مع الاهتمام بوجه خاص بتلك التي تجعل منه مخلوقا عاقلا وكائنا اجتماعيا. وكما أن فضيلة عازف الناي إنما تكون في براعته في العزف على الناي وفضيلة المثال إنما تكون في مهارته في ممارسة فنه، فإن فضيلة الإنسان إنما تكمن في المهارة التي يمارس بها الفن الذي يكون به إنسانا. وهذا الفن، كما رأينا، هو أن نعيش على أساس طبيعتنا العاقلة بقدر الإمكان. فحياتنا الخيرة إنما هي تعبير عن العقل.
الوظيفة المزدوجة للعقل : من الممكن ممارسة طبيعة الإنسان العقلية في اتجاهين. فهي تستخدم، لدى السواد الأعظم من البشر، في التحكم في العنصر الحسي والنزوعي لدينا؛ أي التحكم في طبيعتنا اللاعاقلة. ولقد أكد أرسطو أهمية الاعتدال أو «الوسط العدل» بوصفه أفضل مرشد يعيننا على تنظيم حياتنا وفقا للفضيلة. فالسلوك يكون فاضلا بحق إذا كان يسير في طريق وسط بين طرفي الإفراط أو التفريط، كما هي الحال عندما نكون «شجعانا» بدلا من أن نكون «متهورين» من جهة، أو «جبناء» من جهة أخرى. وفضلا عن ذلك فإن الحياة الفاضلة هي حياة أصبح فيها السلوك الفاضل عادة - أي أصبح فيها العقل - يجدد آليا الوسط الموجود بين طرفين، وأصبح هو الحكم الموثوق منه فيما يصلح الزمان والمكان والظروف الخاصة. وحين نحقق كل قدراتنا عن طريق تكاملها والتحكم فيها بطريقة متوازنة، فلن يكون في ذلك أفضل تحقيق لذاتنا فحسب، بل سيكون فيه سعادتنا أيضا؛ ذلك لأن السعادة، كما يقول أرسطو آخر الأمر، هي في أساسها مصاحبة للأداء الصحيح للوظيفة. فهي ناتج ثانوي، إذا شئنا استخدام هذا اللفظ الذي استعملناه من قبل، فالسعادة تتوج الأداء الصحيح للوظيفة مثلما أن «نضرة الشباب تتوج من هم في زهرة العمر».
ومع ذلك فإن أرفع معيار للخير البشري ليس هو اللذة ولا الفضيلة التي تكتسب عن طريق التحكم العقلي في طبائعنا اللاعاقلة. وإنما هو يكمن في ممارسة التأمل النظري
Theoria . فأرفع سعادة يستطيع الإنسان الوصول إليها هي التمتع بالعقل بوصفه غاية في ذاتها؛ أي التفكير من أجل التفكير. هذا النشاط يمثل أكمل نمو لوظيفة الإنسان الفريدة. وفضلا عن ذلك فإن تنزه هذا النشاط يجعل الرضاء الذي ينجم عنه رضاء مضمونا، حتى لو كانت طبيعته تجعله مستقلا إلى حد بعيد عن الظروف. والواقع أن أرسطو يتفق تماما مع أبيقور في حماسته للذات الفلسفية. وهو يصف هذه بأنها أنقى اللذات؛ إذ إنها لا تشوبها شائبة من الألم الذي تقترن به اللذة الباهظة الثمن أو التي يترتب عليها شعور مقبض بالألم. وحين يمجد أرسطو التأمل النظري، نراه يتخلى عن طريقته المألوفة في العرض، وهي عادة طريقة علمية هادئة، ويحلق في آفاق شاعرية. فهو يصف السعادة القصوى لحياة التفكير التأملي بقوله:
غير أن حياة كهذه تكون أرفع مما ينبغي بالنسبة إلى الإنسان (أي إذا عاشها المرء طوال عمره)؛ ذلك لأنه لا يحياها بما هو إنسان، بل بما يوجد فيه من عنصر إلهي. وبقدر ما يسمو هذا العنصر على طبيعتنا المركبة، يكون نشاطه أرفع من ذلك الذي نمارس فيه النوع الآخر من الفضيلة. فإذا كان العقل إلهيا بالقياس إلى الإنسان، فإن الحياة وفقا له تكون إلهية بالقياس إلى الحياة البشرية.
13
انتقادات : أخذ النقاد على أرسطو تعلقه الشديد بحياة التأمل لسببين؛ أحدهما كان نتيجة سوء فهم، أما الآخر فصحته مشكوك فيها. فأحيانا يساء فهم أرسطو فيقال: إنه يقصد أن أسمى حياة هي حياة من يحرك نسيجا تأصليا من النظريات الميتافيزيقية الفارغة - وهو التصوير الساخر الذي يشيع وصف الفيلسوف به. غير أن القراءة المتمعنة لكتاب «الأخلاق» تبين أن أرسطو لم يكن في ذهنه أي نشاط كهذا يتم في برج عاجي، إذ يبدو أن العالم أقرب إلى مثله الأعلى من الفيلسوف التقليدي، على الرغم من أن هذا المثل الأعلى يمكن أن ينطبق على الفيلسوف إذا كان تفكيره نابعا من الحياة ويمثل تأملا في التجربة البشرية بمعناها العام. ويمكن القول إن العالم الرياضي أقرب إلى مثل أرسطو الأعلى، في بعض النواحي، من كل من الفيلسوف والعالم؛ إذ إنه لو كان هناك مفكر يبدو مستمتعا بالتفكير لذاته، فذلك المفكر هو الرياضي. ومع ذلك فإن للفيلسوف ميزة يتفوق بها على كل المشتغلين بالتأمل: هي اتساع نطاق معرفته وتجربته التي نسميها «بالحكمة». ذلك لأن الفيلسوف، كما يقول أرسطو، «يستطيع تأمل الحقيقة ... وكلما تعمق في تأمله لها كانت حكمته أعظم».
Unknown page