Falsafa Almaniyya Muqaddima Qasira
الفلسفة الألمانية: مقدمة قصيرة جدا
Genres
يقترح أحد التفسيرات أن نيتشه يعرض تحولا أبوكاليبتيكيا مروعا للفرضيات المتعلقة بالفلسفة والعالم، والذي سيغير العالم جذريا، وهو غالبا ما يعطي ثقلا لهذا التفسير ببلاغته المفرطة، وسياساته الرجعية، التي تفضل القوي على الضعيف. ومن منظور الحقبة التاريخية اللاحقة، من الحروب العالمية إلى الهولوكوست، يدفع هذا التفسير المرء إلى السؤال عن إن كان عمل نيتشه هو عامل سببي في هذه الأحداث المتلاطمة. من الصعب إيجاد صلة متسقة بين الأحداث التاريخية ورغبته في «إعادة تقييم جميع القيم» وفي «السوبرمان» الذي يمحو «أخلاق العبد» في المسيحية. ومع ذلك، ثمة أوقات يجب أن يتوقف فيها عند حقيقة أن النازيين استخدموا أجزاء من عمله لأغراضهم؛ فالمرء لا يملك أمام «انتصار الإرادة» إلا أن يتذكر نيتشه.
أما التفسير الآخر، فينظر إلى نيتشه من حيث الحاجة إلى تجاوز الفلسفة للتمكن من تقييم «المعهود» - مرحلة سطوع النهار وتجلي «ماهية العالم الحقيقي». وسوف يظهر فيما بعد موقف ذو صلة في فكرة فيتجنشتاين أن المهمة هي علاج النفس من المخاوف الفلسفية، بدلا من السعي إلى حلول للمشكلات الفلسفية. وتعد «المنظورية» عنصرا أساسيا في تفسيرات نيتشه التي تعارض فكرة نهاية العالم، وهي تعني نبذ فكرة «الرؤية من اللامكان» التي تقودنا إلى الموضوعية الخالصة. لكن الزعم بأنه لا توجد في الواقع رؤية من لا مكان يفترض مكانا ينكر المرء في الوقت نفسه وجوده. ويمكن بيان موقف نيتشه بطريقة أخرى من خلال التشكيك في نظرية أن الحقيقة هي «توافق» الفكر أو العبارة مع «الوضع القائم» أو «الحقيقة» أو «الموضوع» أو ما إلى ذلك. لكن رفض هذه النظرية (بدلا من اقتراح أنها ربما تكون غير متسقة أو غير معقولة) يستلزم المطالبة بنظرية بديلة، ويثير هذا مشكلة البحث فيما سيثبت صحة النظرية البديلة للحقيقة، فأية نظرية في الحقيقة تدور على ما يبدو في حلقة مفرغة؛ ولذا يجب انتهاج استراتيجية مختلفة في صياغة نموذج مقنع مما يحتمل أن يكون نيتشه بصدد عرضه.
وثمة أسلوب أكثر معقولية في تناول هذا الأمر، وهو السؤال عما تتوافق معه نظرية الحقيقة تحديدا؟ إذا قلنا: «الواقع»، فهذا بمفرده لا يحتوي على معرفة؛ إننا نريد أن نعرف شيئا عن مضمون ما يتوافق معه، لكن هذا المضمون ينطوي فيما يبدو على فكرة التوافق نفسها. وقد أدخلت فكرة «التوافق» غير المفهومة على نحو مثير للجدل في شيء مفهوم تماما، أعني الشعور اليومي بالحقيقة؛ فنحن جميعا على دراية بما تعنيه «الحقيقة»، حتى إن كنا لا نتفق على «ما» هو حقيقي؛ فلو لم نكن على دراية بمعنى «الحقيقي»، ما وصلنا إلى نقطة الاختلاف. والدراية موضع النقاش هنا هي حالة أخرى من «الحدس»؛ فمحاولة استثمار هذه الدراية وتحويلها إلى دعوى معرفية دائما ما تفترض فهما سابقا لا يمكن تحليله على نحو قاطع، وستكون هذه النقطة حاسمة لدى هايدجر، ولا يبدو دائما أن نيتشه قد فهمها. والقضية الأساسية هنا هو كيفية الاستجابة لما يبدو أنه خارج حدود ما يمكن للفلسفة أو العلم تفسيره. وبالطبع، فإن الحالة الأوضح لهذه القضية في الحداثة هي علم اللاهوت.
بعد الإله؟
يضع نيتشه يده على جوهر العلاقة بين علم اللاهوت والحداثة في هذا المقطع الصغير المحكم من «العلم الجذل»: «صراعات جديدة»:
بعد أن مات بوذا استمروا في إظهار ظله لقرون في كهف - ظل ضخم مخيفا. مات الإله، لكن نظرا للطريقة التي جبل عليها البشر ربما ستظل توجد كهوف لآلاف السنين يعرض فيها ظله، وعلينا نحن أيضا الانتصار على ظله!
إن التغلب على ما كان ولا يزال يعنيه «الإله» لن يتأتى على سبيل المثال من خلال حجة فلسفية قاطعة، ولا من خلال تقدم العلم؛ ف «ظل الإله» لا يمكن أن يكون حاضرا بسهولة إلا في «علموية» إلحادية غير ناقدة، يمكن أن يختزل فيها في النهاية الوصف الحقيقي لكل شيء في العالم - بما فيه الفن والأخلاق - في قوانين علمية، على غرار ما في علم اللاهوت التقليدي. والفرضية في كلتا الحالتين أنه ثمة منظور مطلق يمكننا من الفرار من المصادفة والمحدودية.
أخفق نيتشه مرارا وتكرارا حتى في مرحلة نضجه الفكري في إيصال فكرته هنا؛ ففكرته عن «إرادة القوة»، التي ترى أنه لا توجد ذات حرة الإرادة، وإنما هي مجرد تجسيدات للطريقة التي يسيطر بها كم من القوة على كم آخر في جزء من الطبيعة، هي في الحقيقة مجرد رؤية ميتافيزيقية قريبة الصلة بالإرادة لدى شوبنهاور. وينطبق الأمر نفسه على فكرته عن «التكرار الأبدي»، التي تقترح أن العالم سيظل يتكرر على المنوال نفسه تماما في المستقبل - والفكرة أنه يتعين على المرء إقرار الحياة كما هي عن طريق ابتغاء هذا التكرار. وتنطوي تلك النظريات على رغبة في التوصل إلى معرفة قاطعة لما يمكن أن تفهم عليه ماهية الجنس البشري والعالم. وتحجب هذه الرغبة احتمالية أن يكون ما نحن عليه هو أيضا ما يمكن أن نصير عليه، الأمر الذي يتركنا عرضة للمصادفة على النحوين الإيجابي والسلبي. وتعد استجابات نيتشه المبتكرة للمصادفة في مواضع أخرى في أعماله أحد الأسباب التي تعلل لماذا قد يعتاد شخص على سبيل المثال في الفلسفة الحديثة - ربما كان في بعض الأوقات رجعيا وكارها للنساء ومعاديا للديمقراطية - أن يؤيد ثقافة ديمقراطية لخلق الذات، وأن يشكك فيما إذا كان لدى الناس هوية جنسية أساسية. وعليه، فإن الأزمة الفلسفية الأساسية المشار إليها في عمل نيتشه هي أن محاولة الإعراب في نظرية فلسفية عما كان سيبدو عليه العالم لو خرجنا في النهاية من ظل الإله، يمكن أن يعني في ذاته الوقوع مجددا تحت ذلك الظل، وسوف يتكرر وقوع هذه الأزمة في الفلسفة الألمانية في القرن العشرين.
شكل : نيتشه على فراش المرض عام 1899 تقريبا، بريشة هانز أولد.
1
Unknown page