هذا الضعف في التعليل هو الذي يشرح لنا ما ملئت به كتب الأدب من خرافات وأساطير كانت العرب تعتقدها في جاهليتها، فهم يحدثوننا أن سد مأرب كان بين ثلاثة جبال تحصر ماء السيل والعيون، وليس للماء مخرج إلا من جهة واحدة، فسد الأوائل تلك الجهة بالحجارة الصلبة والرصاص، فكانوا إذا أرادوا سقي زرعهم فتحوا من ذلك السد بقدر حاجتهم بأبواب محكمة، وحركات مهندسة، فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدونه إذا أرادوا؛ ثم يحدثوننا أن سبب خرابه جرذان حمر كن يحفرن السد الذي يليها بأنيابها، فتقتلع الحجر الذي لا يستقله مئة رجل ثم تدفعه بمخاليب رجليها حتى تسد الوادي من الناحية التي يجتمع فيها الماء، ويفتح من ناحية السد! وقد عجزوا عن أن يفهموا أن ليس هناك ارتباط صحيح بين هذه الجرذان الخرافية وخراب السد، وأن السبب الصحيح إهمال تعهد السد حتى لم يعد يقوى على تحمل السيل.
وكالذي قالوا: إن الذي بنى الخورنق النعمان بن امرئ القيس، بناه له رجل من الروم يقال له: سنمار، فلما أتمه قال له سنمار: إني أعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله، فقال النعمان: أيعرفها أحد غيرك؟ قال: لا، قال: لا جرم لأدعنها وما يعرفها أحد؛ ثم أمر به فقذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطع، فضربت به المثل
1 ، وقد صدقوا بهذه الخرافة مع استحالة تركيز القصر كله على آجرة واحدة، ويطول بنا القول لو عددنا ما ذكر في كتب الأدب والتاريخ من هذا القبيل مما يتعلق بأنظار العرب للحوادث، وبخاصة الحوادث التي تتعلق بالقبائل البائدة كعاد وطسم وجديس، أو بالحوادث البعيدة التاريخ عن زمن الهجرة كجذيمة والزباء. ونستخلص من هذا كله أنهم لم يكونوا يحسنون تعليل الحوادث، ولا يربطون المسببات بأسبابها ربطا محكما، ولم يكن هذا شأن العرب وحدهم، بل شاركهم فيه غيرهم من الأمم في طور مثل طورهم كاليونان، وأصبحت هذه الأشياء وغيرها موضوعا لما يسمى «علم الميثولوجيا».
وهذا أيضا يعلل لنا التجاءهم في تعرف الحوادث الماضية والمستقبلة إلى الكهانة والعرافة وزجر الطير والعيافة؛ وهي أمور ليست منطقية في تعرف العلة للمعلول والسبب للمسبب.
نعم كل أمة فيها مخرفوها مهما رقيت ومهما تفلسفت، ولكن كتب الأدب العربي تدلنا على أن هذه العقائد كانت عقائد الشعب عامة لا أفراد شواذ، وأن الكهانة وأمثالها تكاد تكون نظاما مقررا لكل قبيلة من قبائلهم.
قد نجد في بيت من الشعر الجاهلي أو في مثل من أمثالهم أو قصة من قصصهم فكرة راقية، وربطا للأسباب بالمسببات، ولكن حتى هذه يعوزها العمق في التفكير، كما يعوزها الشرح والتعليل؛ جاء في سيرة ابن هشام: أن حيا من ثقيف فزعوا للرمي بالنجوم، فجاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية أحد بني علاج - وكان أدهى العرب وأمكرها رأيا - فقالوا له: يا عمرو، ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟ قال: «بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها، فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها؛ وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراده الله بهذا الخلق، فما هو؟»
ألست ترى معي دقة نظر عمرو هذا في تفريقه بين نجوم يتوقف على بقائها نظام هذا العالم وأخرى ليست لها هذه القيمة وهي الشهب؟ ولكن شيئا من ذلك ليس الشرح الفلسفي للنجوم والشهب، ولا التعليل الواضح الجلي للارتباط بين السبب والمسبب.
لاحظ بعض المستشرقين أن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك، وقبله لاحظ هذا المعنى بعض المؤلفين الأقدمين من المسلمين، فقد جاء في «الملل والنحل» للشهرستاني عند الكلام على الحكماء: «الصنف الثاني حكماء العرب وهم شرذمة قليلة، وأكثر حكمتهم فلتات الطبع وخطر الفكر» وقال في موضع آخر: «إن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد ... والمقاربة بين الأمتين مقصورة على اعتبار خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات، والغالب عليهم الفطرة والطبع، وإن الروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، حيث كانت المقاربة مقصورة على اعتبار كيفية الأشياء، والحكم بأحكام الطبائع، والغالب عليهم الاكتساب والجهد».
فالعربي لم ينظر إلى العالم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني مثلا، لقد ألقى اليوناني - أول ما تفلسف - نظرة عامة على العالم، فساءل نفسه: كيف برز هذا العالم إلى الوجود؟ إني أرى هذا العالم جم التغير كثير التقلب! أفليس وراء هذه التغيرات أساس واحد ثابت؟ وإذا كان فما هو؟ آلماء أم الهواء أم النار؟ وأرى العالم كله كالشيء الواحد يتصل بعضه ببعض وهو خاضع لقوانين ثابتة، فما هذا النظام، وكيف نشأ، ومم وجد؟
هذه الأسئلة وأمثالها وجهها اليوناني إلى نفسه فكانت أساس فلسفته، ومبناها كلها النظرة الشاملة، أما العربي فلم يتجه نظره هذا الاتجاه، ولا بعد الإسلام، بل كان يطوف فيما حوله، فإذا رأى منظرا خاصا أعجبه تحرك له، وجاش صدره بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو المثل، فقال مثلا:
Unknown page