ففي ذلك المقال نجد إنسانا قد تحركت نفسه من أعماقها بما شاهده من فساد بني قومه، فهو يتأمل هذا المجتمع بصفة كونه وحدة كاملة، ومع أنه كان دائما يشير إلى بؤسه فيما ذهب إليه، فإن شقاءه لم يكن هو العبء الرئيسي الذي يقصده بكلامه، بل كان كل همه منصرفا إلى المجتمع الذي كان مكبلا بالخمود غير قادر على إدراك شقائه، وحتى لو كان شاعرا به بأية حال فإنه لم يكن لديه الكفاية التي تمكنه من إصلاح ذاته. وإن كثيرا من تأملاته خليقة بأن نجد لها المقام اللائق بها بين أقوال الناقدين الاجتماعيين في عصرنا هذا ممن امتازوا بحساسيتهم الخلقية. فمن الواضح إذن أن الإنسان قد وصل وقتئذ إلى عصر استيقظ فيه القوم لأول مرة في تاريخ البشر، وشعروا بإحساس عميق بما أصاب المجتمع البشري من الانحطاط الخلقي.
وقد كان هذا الاتجاه الجديد في تفكير أولئك المفكرين الاجتماعيين راجعا إلى حد ما إلى ظهور إدراك خلقي حساس متزايد، ولكن أسبابا أخرى ساعدت على انقشاع الوهم؛ فهؤلاء المفكرون كانوا قد تأثروا تأثرا عميقا بتأملهم للحياة البشرية الاجتماعية فوق الأرض والمصير الإنساني للحياة الآخرة فيما بعد الموت. وقد لاحظنا فيما سبق بعض ما شعروا به من خيبة الأمل عندما انكشفت لهم عدم فائدة العوامل المادية المحضة لضمان سعادة الروح في الدار الآخرة. فهذه الأمور المادية التي كانت تقليدا للأجداد يرجع تاريخه إلى أزمان غابرة قد انهدمت، وبانهيارها ذهب معها كل ما كان يعتبر ضمانا لحياة الإنسان في عالم الآخرة.
ومن المحتمل أن ثقتهم التقليدية المتينة في حكمة أجدادهم كانت قد انهارت من أساسها انهيارا عنيفا؛ لأنه إذا كان ذلك موقفهم من التقاليد الموروثة الخاصة بالحياة في عالم الآخرة، فإنهم صاروا أقل اقتناعا بما يتعلق بالحياة الراهنة؛ فقد قام لمدة ألف سنة نظام قومي ثابت الأركان كان يمثله ويحافظ عليه الفرعون، وكان اسم ذلك النظام «ماعت» (أي الصدق - الحق - العدالة)، ولكن هذا النظام كذلك قد أخذ هو الآخر ينهار إذ ذاك؛ فقد رأينا بالفعل في النصيحة الموجهة إلى «مريكارع » أن الأمة قد انقسمت قسمين، شمالي وجنوبي، وأن الملك كان همه منصرفا إلى تحصين مملكة الشمال من خطر الغزاة الأجانب. وقد انحلت تدريجا قوة الأمة النظامية التي دامت مدة طويلة، حتى كشف الغزاة الأجانب عن مواطن الضعف في البلاد التي كانت في يوم ما أمة عظيمة، وتدفق الغزاة الأجانب إلى الدلتا من جهة آسيا شرقا، ومن جهة لوبيا غربا، وهكذا سادت الفوضى في البلاد تماما. ولا بد أن تلك النكبة هي التي وصفها لنا كاهن عين شمس المتقدم ذكره في الرثاء الذي أوردناه.
وقد أظلم تفاؤل حكماء الدولة القديمة الهادئ، الذي عبرت عنه حكم «بتاح حتب»، على أثر وقوع نكبة مزدوجة، كانت أولا ضياع الأمل جملة في الحياة الأخرى؛ ذلك الأمل القائم على إعداد العتاد المادي الوفير للحياة الأبدية؛ وثانيا الانهيار المحزن لذلك النظام الإداري الخلقي الذي كان يبدو خالدا، والذي كان الدعامة التي قامت عليها حياة المجتمع البشري للأمة المصرية القديمة. وقد هوى في ظلام شامل أمل الرجال المفكرين - مثل كاهن عين شمس - في هذه الحياة والحياة المقبلة، ولم يكن في مقدور أحد حتى إله الشمس نفسه كشف هذه الغمة؛ إذ في خلال حياة قومية دامت نحو ألفي سنة قد أقامت الإنسانية المنظمة بعض القيم الخلقية التي كان ينتظر لها الدوام والاستمرار، ولكن ما كان يعتز به القوم من تلك القيم الخلقية قد محي كلية.
وقد كان ذلك أول عصر معروف في التاريخ كشف فيه عن الأوهام الاجتماعية، على أن مثل ذلك الانهيار التام الظاهري قد حاق بالآمال البشرية مرارا عدة منذ ذلك العهد، وكان آخر تلك الانهيارات ما حدث بنا بعد الحرب العالمية مما لا يزال يخيم علينا للآن بويلاته. فهل كان العويل على تلك الحال هو الجواب الوحيد الذي أجاب به المصريون الأقدمون حينما كانت تلك الأشباح التي تقشعر منها الأبدان تخيم حولهم؟!
وإننا نرى من ناحيتنا نحن الذين لا نزال نحارب الفساد ونعالج سوء الإدارة الموجودين للآن في الحكومة البشرية في جميع العالم، أنه من الأمور الهامة في نظرنا أن نتتبع ما أجاب به أولئك القوم، الذين مضى على زمنهم 4000 سنة، من جواب جريء وأفكار صائبة عندما وجدوا أنفسهم قد أصبحوا مغمورين في مثل تلك النكبة التاريخية الأولى التي حفظتها لنا الوثائق الإنسانية القديمة المدونة.
الفصل الحادي عشر
الأنبياء الاجتماعيون الأوائل وفجر المسيحية (التبشير)
إن ما أبرزه لنا كل من ذلك الرجل التعس وكاهن عين شمس المسمى «خع خبرو رع سنب» من سوء الظن المطلق بالحياة الدنيا، لم يكن أمرا عاما؛ إذ كان يوجد رجال مفكرون لا يزالون يمنون أنفسهم بدنو الأيام ذات الأحلام السعيدة في المستقبل القريب، وذلك بالرغم مما يعرفونه عن فساد المجتمع، وما ترتب على سوء الحكم في البلاد من النتائج الوخيمة (يعني خسوف ماعت).
ولما كان تدهور البلاد الإداري نفسه له دخل عظيم في وقوع تلك النكبة الاجتماعية بالبلاد، فقد جعل ذلك بعض المتفائلين يعتقدون بأن قيام حكومة أحسن حالا مما هم فيه خليق بأن يعيد النظام المندثر ويعلن قدوم يوم أكثر إشراقا، بل انبثاق فجر «عهد ذهبي»، وإذا كانت الحال كذلك فهلموا إلى حكومة حسنة وليخسأ الفساد!
Unknown page