ومن بين الصفات أو المميزات - التي يمكننا إدراكها بوضوح عن إله الشمس بعد سنة 3000ق.م - ميزتان اثنتان تسميان «الأمر» و«الفهم»، ويمثل كل منهما في صورة إله كما مثل العبرانيون «الحكمة» في شكل إله، ولذلك كان رجال البلاط يحيون الفرعون بصفته خليفة إله الشمس هكذا: «الأمر في فمك، والفهم في قلبك.»
وقد رأى العالم «جاردنر» في ذلك رأيا جذابا فقال: إنه عندما انتحل الإله «بتاح» هذه الصفة لنفسه قام مؤلفو المسرحية المنفية بتعديل التعبيرين اللذين وجدوهما في اللاهوت الشمسي فوضعوا كلمة «قلب» بدل كلمة «فهم » الشمسية، وكلمة «لسان» بدل كلمة «أمر» الشمسية، وبذلك يكون لدينا زوجان متوازيان من الألفاظ هكذا: (1)
الصفتان الأصليتان لإله الشمس: الفهم - الأمر. (2)
الصفتان اللتان حلتا محليهما للإله بتاح: «القلب» - «اللسان».
ومن ذلك يتضح أن فكرة وجود شخصية عليا قد أخذ فجرها ينبثق في هذا العهد على العقل البشري لأول مرة في التاريخ.
وكان هؤلاء المفكرون الأوائل يكافحون في تصور تلك الفكرة الخطيرة الشاملة محاولين أن يتعرفوا ويحللوا الخصائص الأصلية التي تميز مثل هذه الشخصية، وقد كان لهذه الفكرة أثر عميق في الحياة الإنسانية، ومن الواضح أنها نبتت من الملكية، أو بعبارة أصح: من نفس حكم الملك الفعلي وإدارته للبلاد، حيث كانت الفكرة مجسمة فيه بحذافيرها؛ فرأى الناس في فرعون لأول مرة في تاريخ البشر صورة فاخرة لشخصية بارزة وسلطان مجسم، وبذلك أخذت الفكرة تتحول إلى قوة، وقد ظهر تأثير رد فعلها أولا في النواة الصغيرة التي يتألف منها رجال الفكر، وأخيرا في المجتمع الإنساني.
وتكشف لنا المسرحية المنفية عن أقدم تقدير للسلوك بصفته مرضيا أو غير مرضي، وهاتان الصفتان المتقابلتان كانتا - كما أسلفنا - صفتين اجتماعيتين، وكان ظهورهما نتيجة للتطور الاجتماعي. غير أن الذي يعوقنا عن إدراك كنه هذا التطور ومنشئه افتقارنا التام «لمصادر معاصرة». وسنجد في الأدوار المتأخرة من الرقي عدة براهين لا تزال باقية تكشف لنا عن أصل تلك العوامل التي حدت بالناس القدامى إلى أن يدركوا أن بعض السلوك «محبوب» وبعضه «مذموم»، وهذه مرحلة من الأخلاق كانت في بادئ الأمر عادة من العادات، وكان التقدم حتى في تلك المرحلة المبكرة قد خطا خطوات بعيدة لدرجة أن السلوك صار موضوع تفكير في أذهان أقدم المفكرين المعروفين لدينا من عهد القرون السحيقة التي ترجع إلى عصر الاتحاد الأول. وبعبارة أخرى: نجد في تلك المسرحية المنفية إشارة وجيزة عن أقدم مبادئ جاءت عن طريق التفكير والتأمل، فالرجل الفاضل يسمى «محبا للسلام»، وبالنص الحرفي «حامل السلام»، وهو تعبير أخلاقي بلا شك يعرف الرجل الفاضل بعلاقاته بمن حوله. وعلى النقيض منه «حامل الجريمة» أو «المجرم»؛ فهو الذي يخطئ في حق من حوله. والواقع أنه كان لا بد أنه قد وجد في ذلك الوقت قانون مسنون يعترف بهذين النوعين من السلوك، ويقرر إحاقة الموت بالمسيء، ومنح الحياة لغير المسيء.
ولا شك في أن كل ما سبق من الأبحاث دليل على ظهور رقي اجتماعي وخلقي يقع في أفق سابق بكثير لأقدم أفق تاريخي عرف لدينا إلى الآن.
ومن المهم أن نحدد بالضبط آخر مدى وصل إليه ذلك الرقي عندما ظهر لأول مرة في فجر التاريخ، فإن الأحوال التي أتت فيما بعد توضح لنا تماما أن فرعون كان مصدر القانون ومنبع الحياة، وأن تأثير السلوك كان مجرد أمر ظاهري خاص بهذه الحياة الأرضية، وأن فرعون وحده كان في مقدوره أن يتطلع إلى آخرة فاخرة فيقلع فيها في المحيط السماوي مع إله الشمس والده. أما فيما يختص بأي إنسان آخر فإن سلوكه سواء أكان مقبولا أم مذموما ليست له سوى عواقت أرضية محضة، وليس لها أي تأثير على أية حياة في الآخرة؛ ولذلك كان الحق والباطل أمرين يقررهما فرعون، فكان يقوم بفحصهما كما يرى من المسرحية المنفية رجال الفكر من طائفة الكهنوت، ولذلك كان لا بد من الانتظار طويلا إلى أن تصبغ هذه الأفكار بصبغة إنسانية اجتماعية، وتصير قوة اجتماعية عظيمة مهدت لفاتحة «عصر الضمير» والأخلاق بعد ذلك بعدة قرون.
الفصل الرابع
Unknown page