حدث أن القلب واللسان تغلبا على كل عضو في الجسم، وعلما الإنسان أن «بتاح» كان في كل صدر على هيئة القلب، وعلى هيئة اللسان في كل فم، سواء في ذلك جميع الآلهة وجميع الناس وجميع الماشية وجميع الزواحف وسائر الأحياء، وفي الوقت نفسه يفكر «بتاح» فيما يشاء، ويأمر بكل ما يريد.
وبعد أن تقص علينا الوثيقة كيف أن مجموعة آلهة «منف» لا تزال في فم «بتاح»، «الذي نطق بأسماء كل الأشياء»،
3
فعلمنا أن هؤلاء الآلهة الذين كانوا يعرفون من قبل بأنهم صور لبتاح قد أوجدوا بصر الأعين وسمع الآذان وتنفس الأنف لتصل جميعا إلى القلب، وأن القلب هو الذي يصدر كل قرار، وأن اللسان هو الذي يعلن فكر القلب. وبمثل ذلك فطرت كل الآلهة؛ أي «آتوم» وتاسوعه الإلهي [مجموعة تسعة آلهة] على حين أن كل كلمة مقدسة خرجت إلى الوجود عن طريق ما فكره القلب وأمر به اللسان، وكذلك المراكز [الوظائف الرسمية] فإنها أنشئت، والمناصب [الحكومية] وزعت (وهي التي قدمت جميع الغذاء وجميع الطعام) بواسطة هذا النطق المتقدم [أي طبقا للنظرية السالفة الذكر]. (2)
النظام الدنيوي: [أما من جهة] الذي يفعل ما هو محبوب والذي يفعل ما هو مكروه فإن الحياة تعطى للمسالم، والموت يحيق بالمجرم.
وبذلك يسير كل عمل وكل حرفة؛ فنشاط الذراعين وسير الساقين وحركة كل عضو تكون حسب هذا الأمر الذي يديره القلب، والذي يخرج من اللسان، وهو الذي يجعل لكل شيء قيمة. (3)
النظام السماوي:
وحدث أنه قيل عن «بتاح» أنه خلق «آتوم» (إله الشمس القديم في هليوبوليس) وأوجد الآلهة، وهو «تاتن» [اسم قديم لبتاح] مصور الآلهة، ومنه خرج كل شيء سواء أكان طعاما أم غذاء أم مئونة للآلهة أم أي شيء طيب في الوجود، وبذلك أصبح من الظاهر المفهوم أن قوة «بتاح» هي أعظم من قوة كل الآلهة، وبذلك اطمأن بتاح بعد أن خلق كل شيء وكل كلمة مقدسة. وهو الذي صور الآلهة وأقام المدن وأسس المقاطعات، فأقام الآلهة في أماكنهم المقدسة وثبت دخلهم المقدس وأعد محاريبهم ونحت تماثيل لأجسامهم كما تحب قلوبهم، وبذلك حلت الآلهة في أجسامها المصنوعة من كل نوع من الخشب، ومن كل صنف من المعادن، ومن كل نوع من الطين، ومن كل ما ينمو عليه (أي على بتاح بصفته إله الأرض) من الأشياء التي صنعت منها هذه التماثيل.
وبذلك أصبحت في قبضة «بتاح» (المحب للسلام والصلح) الآلهة ووظائفها بصفته رب الأرضين (مصر). وكانت مخازن الغلال المقدسة «هي العرش العظيم» «منف» التي تدخل السرور على قلب الآلهة الذين في بيت بتاح، وهي سيدة كل الحياة، ومنها تستمد الأرضان (مصر) حياتها.
وعند هذه النقطة تنتقل بنا القصة إلى أسطورة «أوزير» لتفسر لنا السبب الذي من أجله أصبحت «منف» مخزنا لغلال مصر، غير أننا سنضطر هنا لإرجاء فحص موضوع «أوزير» في هذه المسرحية المنفية إلى أن نتم فحص وظائف إله الشمس التي رأينا أن بتاح قد انتحلها لنفسه. وإذا أنعمنا النظر في محتويات بحث موضوع «بتاح» - الذي سبق ذكره - اتضح لنا أن الكثير من الأفكار قد تكررت بنفسها مرات عدة. وعلى ذلك نجد أن الأقسام الثلاثة التي حاولت فيما سلف أن أفصل بعضها عن بعض، وأميزها بعناوين فرعية ليست بحال ما مستقلة عن بعضها، بل متداخلا بعضها ببعض بشكل واضح، فلم يكن في مقدور فكر الكهانة العتيق أن يعدل عن إقحام ذكر إنتاج الطعام في أية مناسبة تمس النظام السماوي، بالرغم من أن موضوع إنتاج الطعام في الأصل خاص بالنظام الدنيوي؛ وذلك لأنه إجراء يرتكن إلى قوة الآلهة. ويرجع الأساس المدهش لهذا النظام الأرضي المبكر إلى الغرض الرئيسي الذي يرجع منبع كل شيء إلى العقل أو الفكر؛ لأن جميع الأشياء ظهرت إلى حيز الوجود بما فكره القلب (العقل) وأمر به اللسان (الكلام). وقد استعمل المصري كلمة «قلب» لتدل على «العقل» أو «الفهم»؛ وذلك لا لأنه كان معتادا استعمال المعنويات، بل كان يعتقد أن القلب هو مركز الفهم. أما الأداة التي أصبح بها العقل قوة منشئة فهي الكلمة التي تلفظ فتعلن الفكرة وتلبسها ثوب الحقيقة، وبذلك تظهر الفكرة إلى حيز الوجود في عالم الكون الملموس، بل صار الإله نفسه هو القلب الذي يفكر واللسان الذي يتكلم.
Unknown page