وهكذا فإنه بدخول إله الشمس في عالم الشئون البشرية أخذ هذا الإله (في عرف القوم) يشعر كأي فرد تابع لحكومة بشرية، أو كأي عضو في جماعة دنيوية، بتأثيرات المجتمع الإنساني؛ تلك التأثيرات التي صارت عاملا يعمل على تهيئة الإله وتسويته في نهاية الأمر ليجعل منه أول إله خلقي عادل عرفه التاريخ.
الفصل الثالث
إله الشمس وفجر المبادئ الأخلاقية
لم يعثر للآن على أثر ملكي واحد من عهد الاتحاد الأول، وإذا كان لا يزال في الوجود شيء من هذه الآثار فلا بد أن تكون مدفونة على عمق بعيد تحت غرين النيل المشبع بالماء في مصر السفلى؛ ذلك الغرين الذي ظل يتراكم مدة آلاف من السنين على بقايا ودمن بلدة «هليوبوليس» (عين شمس) التي وجدت في عصر ما قبل التاريخ. ومع ذلك فإن الأزمان التي تلت تلك العصور قد حفظت لنا ذكريات عن تلك العهود القديمة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، بل إنها حفظت لنا ذكريات عن تلك الأزمان السحيقة جدا التي سبقعت عهد توحيد مصر تحت حكم ملك واحد. والواقع أنه قد وصل إلينا صورة من المتن الحقيقي لوثيقة دونت في بداية عهد الاتحاد الثاني، وهذه الصورة منقوشة على حجر أسود محفوظ الآن بالمتحف البريطاني، وذلك الحجر كان قد استعمله بعض القرويين أخيرا قاعدة لحجر طاحون لطحن غلالهم، وقد استمروا في إدارة حجر الطاحون الأعلى عليه مدة أعوام دون أن يفقهوا شيئا مما كانوا يمحونه بذلك من النقوش.
على أن ما بقي مقروءا على ذلك الحجر الهام من الفقرات المشوهة، له أهمية لا تقدر بثمن. على أننا نفهم في الحال شيئا عن أصل ذلك الحجر من سطر في أعلاه، نقوشه الهيروغليفية غاية في الوضوح، فنجد فيه اسم «شبكا» ذلك الفرعون الإثيوبي الذي حكم مصر خلال القرن الثامن قبل الميلاد، ويلي اسم ذلك الفرعون نقوش تقول: «إن جلالته [يعني نفسه] نقل هذه الكتابات من جديد في بيت والده «بتاح جنوبي جداره» وقد وجدها جلالته بمثابة عمل خلفه الأجداد قد أكله الدود حتى أصبح لا يمكن قراءته من البداية للنهاية، وإذ ذاك قام جلالته بكتابته من جديد حتى أصبح أكثر جمالا مما كان عليه من قبل.» ومن ذلك نرى أن ملك مصر الإثيوبي الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد اهتم بالمحافظة على الكتابة القديمة التي خلفها «الأجداد»، ولا بد أنها كانت مدونة على ورق البردي، وإلا لما استطاع الدود أن يأكلها.
وقد نقل «شبكا» لحسن حظنا نسخته الجديدة على الحجر لتبقى محفوظة على الدوام، ومع ذلك لو بقي هذا الحجر يطحن عليه بضع سنين أخرى لقضي على أقدم مسرحية في العالم، وعلى أول بحث فلسفي وصل إلينا من العالم القديم.
وقد انقضى الآن جيل على الفترة التي كنت أقضي فيها أيام الصيف الخانقة جالسا على كرسي منخفض تحت نافذة في المتحف البريطاني أحاول أن أعكس بعض الضوء من النافذة التي كانت فوقي بمرآة يد على الحجر الذي كان موضوعا تحت عتبة تلك النافذة بشكل لم يترك مجالا لسقوط نور تلك النافذة عليه، وقد كان ذلك قبل ظهور كشافات اليد الكهربية القوية؛ ولذلك كان نقل مثل هذه النقوش يسير ببطء وبصعوبة لتآكلها، حتى إنها كانت أحيانا لا يمكن الاهتداء لقراءتها كلية، ولا سيما أنها نقشت على حجر أسود حالك. وكانت نقوش ذلك الحجر موزعة في أعمدة أو أسطر عمودية، ويجوز في الكتابة المصرية القديمة أن يكون ترتيب الأعمدة عند قراءة مثل تلك النقوش من اليمين إلى الشمال أو من الشمال إلى اليمين؛ وذلك حسب اتجاه وجوه الحروف الهيروغليفية التي تواجه عادة بداية النقش. وكانت كل الإشارات في ذلك النقش تواجه اليمين دالة على أن بدايته كانت من جهة اليمين. وعلى ذلك بدأت بنقل المتن من العمود الأول على اليد اليمنى، وكنت أتدرج في النقل من عمود إلى عمود متجها نحو الشمال، ولكن لاحظت مع ذلك بغتة عند أسفل عمود من الأعمدة، أن معنى إحدى الجمل كان مستمرا في العمود التالي من اليمين لا في العمود التالي من اليسار كما كان متوقعا.
ومن ذلك ظهر لي فجأة أن هذا النقش كان من النقوش القليلة المعروفة التي كتبت بإشارات معكوسة [أي إن الإشارات لم تتجه الاتجاه العادي]. وعلى ذلك كان العلماء يقرءونها إلى الآن بوضع مقلوب نتجت منه سلسلة فقرات متقطعة يتبع بعضها بعضا بدون أي ارتباط بينها من النهاية إلى البداية. فلما قرأت هذه الأعمدة بترتيبها الصحيح بدأت تقص علي قصة من أروع القصص ، غير أنها قصة مؤلفة من نتف، وبعض أجزائها لم تمكن قراءته مطلقا، حتى إنه كان من العسير جدا فهمها. ويرجع السبب في ذلك إلى أن حجر الطاحون العلوي كان يلف على وسط قاعدة حجر الطاحون المكتوبة، فضلا عن أن الطحان كان قد حفر حفرة في وسط هذه القاعدة تتفرع منها قنوات تشبه الأشعة التي تخرج من قطب العجلة، وقد محا ذلك الطحان الغشوم تماما ثلث النقش القديم من جهة الوسط تاركا ثلثا ضئيلا منه على اليسار عند البداية وثلثا آخر عند الطرف الأيمن؛ ولذلك أصبح من المستحيل أن ندرك أي اتصال في المعنى بين الأعمدة التي على اليسار والأعمدة التي على اليمين.
ومن يوم أن نشرت متن النقش مع محاولة مبدئية لترجمته قضى العلماء في البحث جيلا بأكمله حتى أمكن الوصول إلى فهم صحيح لنوع المتن ومحتوياته، بل لتحديد تاريخه. ونخص بالذكر من بين هؤلاء العلماء الذين درسوا هذا النقش: «إرمان» ثم «زيته». وقد سمى «شبكا» الإثيوبي هذا المتن في القرن الثامن قبل الميلاد «تأليف الأجداد»، وهو تعبير مبهم يوحي لنا أن كتاب هذا الملك المتفقهين لم يكن لديهم فكرة عن أن الكتابة التي كانوا ينسخونها كان عمرها إذ ذاك يزيد عن 2500 سنة. ولكن لغة هذه الكتابة القديمة ومحتوياتها لم تدع مجالا لأي شك عن شدة قدم أصلها؛ لأن لغة الوثيقة تحتوي على اصطلاحات تدل على أنها قديمة جدا، كما أن المتن يكشف لنا عن موقف تاريخي يدل بداهة على أن وقوعه لا يمكن إلا من بداية الاتحاد الثاني [أي في عهد تأسيس الأسرة الأولى على يد مينا حوالي سنة 3400ق.م]. وعلى ذلك يكون ذلك المتن من إنتاج الحضارة المصرية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وبذلك يكون قد أعطى لنا صورة من أفكار أقدم بني البشر لم يصل إلينا مثلها مدونة إلى الآن.
وقد تركت لنا الفجوة المؤلمة التي في وسط الحجر - كما أسلفت - جزءا من المتن على اليسار هو البداية، وجزءا على اليمين هو الخاتمة، ويقسم المتن الذي في البداية فواصل متكررة تجعله على صورة فصول صغيرة معظمها في شكل عبارات يخاطب بها الآلهة المختلفون بعضهم بعضا، ونجد غالبا عند بداية كل عبارة من تلك العبارات علامتين هيروغليفيتين تدلان على اسمي إلهين، والعلامتان مرتبتان في وضع يجعل كلا منهما تواجه الأخرى كأن كلا الإلهين يحادث أحدهما الآخر، وهذا يطابق محتويات المتن؛ فإنها تثبت أنهما كانا يتحادثان فعلا.
Unknown page