234

Fajr Damir

فجر الضمير

Genres

بدورنا قد حصلنا على إلهنا بالوراثة عن العبرانيين.

وقد وصلنا الآن إلى مركز يمكننا من الإجابة عن كنه تلك الوراثة للأفكار الخلقية والدينية. أهي من صنع وإنتاج المدنية العبرانية فقط؟ أم أن التاريخ يكشف لنا أن إرثنا الخلقي قد تكون إلى درجة عظيمة في عصر أقدم بكثير من العهد العبراني، وأنه قد انحدر إلينا على شكل إنتاج تألف من طائفة من المدنيات العظيمة، وعلى ذلك يعد أعلى وأسمى تعبير أنتجته الحياة الإنسانية القديمة برمتها؛ أي إنه يعد أسمى رسالة قام بتقديمها إلينا والدنا «الإنسان القديم»؟

الفصل السابع عشر

مصادر إرثنا الخلقي

لقد فحصنا بشيء من الإيجاز - في الفصول السابقة - أهم المصادر الأصلية التي تكشف لنا عن ظهور المبادئ الخلقية وتطورها في أفريقيا الشمالية الشرقية منذ منتصف الألف الرابع قبل الميلاد إلى أن انطوت مصر في غمار عاهليات البحر الأبيض المتوسط الآسيوية في القرن السادس ق.م. وعلى ذلك قد استغرق التطور الخلقي الذي كشفت لنا عنه هذه الوثائق الأصلية مدة تقرب من ثلاثة آلاف سنة، وكان غربي آسيا في خلال تلك المدة الطويلة كذلك يتمخض بدوره هو الآخر عن طائفة من المدنيات العظيمة، كانت لها أهمية أساسية في مستقبل تقدم الجنس البشري. وأقدم تلك المدنيات هي المدنية البابلية، التي يمكننا الآن أن نتتبع نشأتها خلال بضعة القرون الأولى من الألف السنة الرابعة ق.م. ولقد أحرزت الحضارة البابلية بعض التقدم السامي في عالم الفن في خلال ألف السنة الثالثة ق.م؛ فإن استعمالها المبدع للصور الحيوانية المتباينة الأشكال في تراكيب متزنة تكاد تنطق بما تمثله من مناظر القوة والحركة، قد أثر في الفن الزخرفي في جميع أدوار العالم التاريخية التالية لذلك.

وقد كان هذا الفن متأثرا تأثرا عميقا بالأساطير العتيقة التي نشأت في غربي آسيا، ولا سيما البابلية منها، مما عبر عنه الأدب المبكر أبلغ تعبير وظهرت له حيوية مدهشة، حتى صارت هذه الأساطير شائعة الانتشار إلى ما وراء تخوم «بابل» بمسافة بعيدة، وكانت ذخرا كبيرا لموضوعات الفن الزخرفي المبكر في غربي آسيا. على هذا النحو شقت أسطورة الطوفان البابلي طريقها متجهة غربا شطر البحر الأبيض المتوسط حتى انتشرت في سوريا وفلسطين، إلى أن فتحت في النهاية طريقا لها إلى الأدب العبراني، ومن ثم وصلت إلينا عن طريق «العهد القديم»، وتوجد في جميع الأدب العبراني إشارات لتلك الأساطير، وبخاصة في الأناشيد الدينية التي نسميها «المزامير».

على أننا إذا استثنينا اهتمام الحضارة البابلية الأولى بالفن، نجد أن تلك الحضارة بقيت مادية محضة لدرجة مدهشة، وأنه إنما كان بعد ظهور المملكة الكلدانية (بابل الجديدة) في القرن السادس ق.م وما تبع ظهورها من سيادة الفرس بعد عهد «كورش»، أن كشف لنا البابليون عن نشاط ذهني بارز، حيث وضع فلكيوهم العظماء الأسس التي شاد عليها علماء اليونان فيما بعد علم الفلك.

وكان البابليون - بطبعهم - شعبا تجاريا على الأخص، وجل اهتمامه منصرفا إلى المعاملات وتنظيم شئونها حسب القانون، وقد قال أحد علماء الإنجليز البارزين في التاريخ الآشوري

1

عن ذلك الشعب: «لم يوجد شعب آخر كان منصرفا على الدوام إلى طلب المال والحصول عليه ومنهمكا بكلياته في البحث وراء النجاح في هذه الحياة (أكثر من البابليين).» فقد كانت قافلاتهم وقافلات «الآشوريين» تتوغل غربا في آسيا الصغرى وسوريا وفلسطين من أزمان سحيقة ترجع إلى الألف الثالث ق.م، وكانت وثائق المعاملات المكتوبة بالخط المسماري متداولة الاستعمال قبل سنة 2000ق.م في آسيا الصغرى، كما كان استعمال تلك الكتابة المسمارية في فلسطين أمرا مألوفا ذائعا عند حلول القرن الخامس عشر ق.م، وقد سرت بجانب هذه المعاملات البابلية التقاليد والقوانين التجارية التي كان التجار البابليون يسيرون على مقتضاها. وبعض هذه القوانين نفسها - مما انحدر إلينا عن طريق «قانون حمواربي» - كانت متداولة الاستعمال كذلك في فلسطين قبل عهد العبرانيين، ثم وصلت عن طريق «العهد القديم» إلى الحضارة الغربية، حيث يقابل للمرة الثانية، فوق مكتب دراسات المستشرق الحديث ، القانون العبراني قوانين «حمورابي» البابلية. ولا شك في أن مثل نظام عطلة يوم السبت قد دب إلى الحياة الفلسطينية عن طريق مثل هذه الاتصالات العملية التي كانت تستند عليها المعاملات التجارية، فإنه سواء أراد رجل الأعمال الغربي الذي يعيش اليوم في الشرق الأدنى أم لم يرد، فإنه يتحتم عليه مراعاة السير في المعاملات التجارية حسب التقويم المتبع، فيما يختص بالأيام المقدسة التي لا يجري فيها بيع ولا شراء. ولا بد أن مثل هذه الحال هي ما كان يسير عليه التجار الفلسطينيون حينما كانوا يتعاملون مع التجار البابليين.

Unknown page