وقد أصبح الشعور بمثل هذه المحاكمة وازعا خلقيا قويا كما أراده أولئك الحكماء الذين خلقوه، غير أن سلطان تلك المحاكمة ما لبث أن مسخ مبكرا بالعوامل السحرية التي جاءت في كتاب الموتى الذي ألفه كهنة المعابد للكسب منه؛ إذ زعموا فيه أن يكون وسيلة تساعد الميت على التخلص من العقوبة بمخادعة وتضليل ذلك القاضي الرهيب.
وفي القرن السادس عشر ق.م ابتدأ عصر الفتوحات الدولية: السياسية منها والدينية، فاتسع بذلك أفق التفكير الديني حتى وصل بعد عام 1400ق.م إلى قمته بظهور أول عقيدة للتوحيد عرفها التاريخ. على أن وجود السيادة لإله واحد عالمي لم تزد شيئا في الرقي الخلقي عند المصريين الأقدمين؛ لأن ثروة العاهلية قد أفسدت أخلاق الكهنة. وإن آخر تطور خلقي عظيم في الديانة المصرية مما حدث فيما بعد، نشأ على ما يظهر خارج المعابد بعيدا عن ديانة الحكومة؛ إذ ذاك [1300-1000ق .م]، وكان ذلك التطور يرمي إلى الشعور بالخطيئة؛ أي إلى اعتراف المؤمن بحقارة نفسه مع امتزاج ذلك بالثقة الشخصية العميقة في رحمة الله وعدله وعنايته الأبوية إلى أن يؤدي ذلك به إلى اتصال روحي بالله. ولقد أحدثت تعاليم الحكماء المصريين في ذلك العصر بوجه خاص تأثيرا عميقا في التفكير العبراني الديني، وباستيطان هذه التعاليم في فلسطين قطعت المرحلة الأولى في انتقالها الطويل من مصر لتصل إلينا نحن أهل هذا العالم الحديث. على أنه في مصر نفسها أخذت هذه الحال التي تعتبر أقدم ما عرف عن الزهد والورع الشخصي في معناه الروحي العميق تنحط بالتدريج بتأثير رجال الكهانة الذين تطرفوا بتغاليهم في دينهم في أيام الحكم الإغريقي الروماني في مصر.
وهكذا يمر أمامنا دور عظيم من الخبرة البشرية كاشفا لنا في مدى ثلاثة آلاف سنة من حوالي 4000 سنة ق.م، عن ظهور أول مجتمع إنساني عظيم وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة أخرى في أطول تطور أخلاقي يمكن للباحث تعقبه في مدة حياة أي مجتمع بشري. وتظهر لنا خطورة هذا التطور بوجه خاص إذا راعينا أنه على ما نعلم كان أول شيء في بابه، وأنه بذلك أثبت وجود حقيقة لم تكن معلومة من قبل؛ وهي: أن أرقى ذوات الثدي التي برزت على هذا الكوكب لم يكن في مقدورها فحسب أن ترقى إلى ذلك الأفق من التمدن الذي عيناه من قبل، بل إن هذا الرقي كان يشتمل كذلك على إدراك قيم جديدة سامية انتقلت بالتطور الإنساني إلى أسمى عالم خلقي لم يسبق له نظير. وبإماطة اللثام عن ذلك العالم الجديد للإنسان دخلت لأول مرة أمثال هذه العناصر الخلقية في ذلك التطور العظيم في حياة البشر الأولى في مصر وخارجها. ولا بد أن تطور حياة مثل هذه الأمة العظيمة وآدابها خلال ثلاثة آلاف من السنين قد أثر تأثيرا عميقا مطردا على أقرب جيرانها في فلسطين خاصة، بل على كل أنحاء الشرق الأدنى، وأن النهضة التي أوجدتها هذه الحركة بين العبرانيين قد أفضت إلى تقليد خلقي وديني انتقل فيما بعد إلى المدنية الغربية، واستمرت بذلك مراحله الأخيرة عاملا خلقيا قويا في حياتنا إلى اليوم.
ويمكننا الآن بعد أن استوعبنا المختصر العاجل أن نتعقب بحثا أوسع عن ذلك التطور الطويل المدى الذي ارتقى به أهل وادي النيل إلى المثل العليا في الأخلاق. على أن المصادر التي لدينا لدرس الرقي الخلقي في العصور الأولى لمثل هذا الشعب القديم ضئيلة جدا، ونجدها كذلك إلى أن نصل إلى عصر اختراع الكتابة التي أفضت إلى وجود «المصادر المدونة».
وأقدم هذه «المصادر» لا تبدأ تفيدنا في مصر إلا بعد عام 3000ق.م، مع أنه توجد لدينا «مصادر» متأخرة عن ذلك تلقي ضوءا هاما على ما سبق هذا العهد من مراحل رقي الأجداد وتقدمهم، ولكن «المصادر» المكتوبة وحدها لا يمكن أن ترجع بنا قط إلى بداية التطور.
أما ما نعتمد عليه في معلوماتنا عن أقدم حياة عرفت للإنسان في وادي النيل فهو الوثائق المادية المحضة، وهي تكاد تنحصر في الأسلحة والآلات الحجرية، وفيما يلي ذلك تكشف لنا «جبانات عصر ما قبل التاريخ» التي تحتوي على الآلاف من القبور العتيقة المنتشرة على حافة الصحراء شيئا عن المعتقدات الدينية التي كان سكان وادي النيل يدينون بها في الأيام الخالية التي يرجع عهدها إلى العصر الحجري الأخير. والزمن الذي بين أقدم أمثال هذه المصادر التي هي من عصر ما قبل التاريخ إلى أحدثها زمن يقدر بمئات آلاف السنين، وذلك على أقل تقدير ممكن.
ولا نكون مخطئين إذا قررنا هنا أن أقدم المصريين عهدا كانوا يعبدون آلهة ليست لهم صفات خلقية، كما كانت لهم طائفة من العادات لم تكن قد بلغت بعد مرحلة الأخلاق؛ فهم في ذلك كالأقوام الذين لا يزالون يعيشون في طور السذاجة الفطرية البحتة، وإذا فحصنا الديانة المصرية كما نجدها في أقدم الوثائق التي وصلت إلينا، وحاولنا أن نستخلص من تحليل أهم الانطباعات التي نجدها مصورة هنالك، تلك الانطباعات التي أخذها المصريون عن عالم الطبيعة، فإن ذلك يلقي بعض الضوء على الآراء التي كانت متداولة في العصر الذي سبق الاهتداء إلى الكتابة.
فمن الواضح أن ظاهرتين عظيمتين طبيعيتين قد أثرتا أعظم تأثير في سكان وادي النيل، فقد تصور القوم في هاتين الظاهرتين إلهين اثنين كان لهما السيطرة على كل من التطور الديني والعقلي منذ أقدم العهود التي عرفت؛ وهاتان الظاهرتان هما الشمس والنيل [أو الخضرة التي تروى من مائه]، وأما الإلهان فهما إله الشمس «رع» وإله الخضرة «أوزير»، وكانا الإلهين العظيمين في الحياة المصرية القديمة. وقد دخلا في دور تنافس منذ عهد مبكر جدا، فكان كل واحد منهما يبغي لنفسه أسمى مكانة في ديانة القوم، ولم ينقطع هذا التنافس قط إلا عندما محيت الديانة المصرية في ختام القرن الخامس المسيحي. ومن يقف على أصول قصة هذا التنافس الطويل يقف على المنهاج الرئيسي في تاريخ الديانة المصرية القديمة، بل لا نكون مغالين إذا قلنا إنه يقف على دور عظيم من أهم الأدوار في تاريخ حياة الإنسان.
وإن أبرز حقيقة هيمنت على وادي النيل هي قوة الشمس في مصر وجلالها الشامل لكل الكون، ولا يزال ذلك ماثلا إلى أيامنا هذه يشاهده السائح الحديث العهد بالبلاد المصرية عندما ينظر إلى الشمس لأول مرة. ولا شك أن المصري شاهدها في أشكال متنوعة كانت في الأصل أشكالا محلية.
ومن المحتمل جدا أن أقدم صورة تخيلها المصري لإله الشمس يرجع تاريخها إلى العهد الذي كان لا يزال فيه مصريو عصر ما قبل التاريخ يعيشون عيشة الصيد في مناقع الدلتا، وذلك عندما تخيلوا إله الشمس في شكل صياد يدفع أو يجدف في زورق يشبه الرمث مؤلف من حزمتين من الغاب ليعبر به مستنقعات الغاب. ولا تزال لمحات عن هذا التصور العتيق محفوظة لنا في أقدم فقرات «متون الأهرام»؛ إذ كثيرا ما نجد فيها إله الشمس مصورا بصورة إنسان يجدف عبر المستنقعات السماوية في زورق الغاب المزدوج. وهذا هو «رع»؛ أي الشمس المجسمة التي تصورها أقدم سكان وادي النيل من قبل في شكل إنسان جعلوا مقره «هليوبوليس» (عين شمس) حيث حل محل إله شمس قديم يدعى «آتوم» وأصبح أعظم إله في مصر.
Unknown page