ولدينا قبر «خنوم حتب »، وهو أكبر القبور التي تركها لنا أمراء مقاطعة «بني حسن» منذ 4000 سنة مضت، تتضمن جدرانه - بين تلك الرسوم الملونة الجميلة التي تزينها - كتابات حشرت بين النقوش الأصلية، تستغرق مدد كتابتها نحو 120 جيلا من الناس، وقد خطها كاتبوها على عجل، باللغة المصرية القديمة القبطية واليونانية والعربية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية. وأقدم هذه الكتابات كانت لكاتب مصري دخل إلى ذلك المزار المذكور منذ 3000 سنة مضت وكتبها باليراع (يعني الغاب) والمداد فوق الجدار، وهذا ما جاء بها من الكلمات: «لقد حضر الكاتب «أمنموسي» ليرى معبد «خوفو»، وقد وجده كالسماء تسطع فيها الشمس.» وكان قد مضى على بناء المزار المذكور نحو 700 سنة عندما زاره ذلك الكاتب المصري. وبالرغم من أن صاحبه الشريف المذكور كان أعظم أشراف عصره، فإن أمره قد صار نسيا منسيا، حتى إن ذلك الزائر لما وجد اسم «خوفو» قد كتب عرضا فوق الجدار في سياق نقش جغرافي، ظن - خطأ - أن ذلك المزار هو مزار الملك «خوفو» باني الهرم الأكبر في الجيزة، وذلك مما يشعر باختفاء كل معرفة تدل على ذلك الشريف أو أوقافه الجنازية التي كانت تمده في العالم الآخر؛ وذلك بالرغم من تلك الاحتياطات التي قام بتسجيلها فوق جدران قبره. فما أتفه قيمة تلك اللعنات
8
التي نجدها فوق تلك الجدران التي طمس معالمها الدهر وما أقلها جدوى!
ولكن المصري لم يكن عاجزا العجز كله عن علاج هذه الشدة البالغة، وحاول مقاومتها بنقش صلوات فوق واجهة قبره كان يعتقد أنها ذات تأثير قوي في إمدادها للمتوفى بكل ما يحتاجه في الآخرة، وضمن هذه الصلوات نصا يستحلف به كل مار - في رجاء حار - أن يتلو فوق قبره تلك الأدعية المنقوشة.
وهذه الأدعية تمثل لنا اعتقاد القوم في تأثير تلك الكلمات النافذ حينما كانت تقرأ من أجل المتوفين. وقد نما هذا الاعتقاد نموا عظيما منذ عصر الأهرام، وهو نمو سار جنبا لجنب مع تعميم تلك العادات الجنازية التي كانت من قبل خاصة بالطبقة العليا من الشعب. وكان مثل تلك الصيغ الدينية في عهد الأهرام ينحصر استعماله - كما سبق ذكره - في عهود الأهرام المتأخرة، كما أنها كانت مقصورة على مصير الفرعون في عالم الآخرة، فصارت الآن تستعملها الطبقة الوسطى مع طائفة الموظفين بكثرة.
وفي الوقت نفسه برز إلى عالم الوجود طائفة أخرى من «الأدب الجنازي»، وهو ما نسميه نحن الآن «متون التوابيت»، وهذه المتون هي صيغ مشابهة لسابقتها وتتحد معها في الغرض الذي ترمي إليه، غير أنها كانت أكثر ملاءمة لحاجات غمارة الناس؛ ولذلك شاع استعمالها بين دهماء الشعب في العهد الإقطاعي، وإن كان بعض أجزائها يرجع عهده إلى زمن أقدم بكثير من ذلك الوقت، كما أن «كتاب الموتى» الذي ظهر فيما بعد لا يخرج عن كونه مؤلفا من منتخبات من «متون التوابيت».
وهذه المتون تتألف من مقتبسات كثيرة أخذ بعضها من «متون الأهرام» وبعضها من الأدب الجنازي الشعبي، وكانت تكتب إذ ذاك على الأوجه الداخلية للتوابيت المصنوعة من خشب الأرز السميك. ولا يزال عدد متون التوابيت آخذا في الازدياد؛ إذ ما زالت تكشف توابيت من ذلك العصر فتضاف متونها إلى المجموعة التي لدينا. وكان كهنة كل بلدة يمدون كل صانع تابوت بنسخ من تلك المتون أو التعاويذ، وقبل تركيب قطع التابوت كان الكتاب التابعين لصانع التابوت يملئون أوجهه بالقلم والمداد نسخا مما قدم لهم من تلك المتون. وكانت كلها تنسخ بإهمال كبير وتحريف؛ إذ كان مجهود الكتاب إذ ذاك منصرفا إلى ملء تلك الألواح بالكتابة بأسرع ما يمكن، حتى إنهم كانوا في بعض الأحايين يكررون كتابة الفصل الواحد مرتين أو ثلاث مرات في نفس التابوت الواحد، وقد وجدنا مرة أن فصلا واحدا قد كتب ما لا يقل عن خمس مرات في تابوت واحد.
9
وفيما يختص بالناحية التي اتحدت فيها متون التوابيت مع متون الأهرام، فإنا قد ألفنا وظيفتها ومحتوياتها على وجه عام، فإن عالم الآخرة الذي كان يتطلع إليه الأهلون في ذلك العهد الإقطاعي كان لا يزال إلى درجة عظيمة عالما سماويا وشمسيا كما كان الحال في عصر الأهرام، فإن «متون التوابيت» تسودها بدرجة مدهشة فكرة الآخرة السماوية؛ إذ نجد نفس توحيد المتوفى مع إله الشمس كما وجدناه في متون الأهرام، بل إنه يوجد فصل عنوانه «صيرورة المتوفى «رع آتوم»»، ثم عدة فصول أخرى عنوانها: «صيرورة المتوفى صقرا» (وهو الطائر المقدس الممثل لإله الشمس).
على أنه كما تدخل «اللاهوت الأوزيري» في متون الأهرام قد تدخل أيضا في متون التوابيت، بل في الواقع استولى عليها، وأحسن مثال لذلك هو المتن الذي صار فيما بعد جزءا من «كتاب الموتى» باسم الفصل السابع عشر المشهور، والذي اعتبر في العصر الإقطاعي الذي نحن بصدده من الفصول المحبوبة؛ إذ نجده يتقدم على كل المتون الأخرى المكتوبة على عدة من التوابيت، وهو في جملته يعبر عن توحيد المتوفى مع إله الشمس، وإن كان يذكر معه بعض الآلهة الآخرين أيضا، فيقول فيه الرجل المتوفى:
Unknown page