Fahm Fahm
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
Genres
كان هدف «دلتاي» هو تشييد مناهج للوصول إلى تأويلات «صائبة موضوعيا» ل «تعبيرات الحياة الداخلية»، وكان رد فعله حادا تجاه ميل الدراسات الإنسانية إلى تبني طرق التفكير الخاصة بالعلوم الطبيعية وتطبيقها في دراسة الإنسان، ولم تكن الاتجاهات المثالية في نظر دلتاي بديلا أقوم، فقد ذهب تحت تأثير كونت إلى أن الخبرة العيانية وليس التأمل النظري هي ما ينبغي أن يكون نقطة البدء لأي نظرية في «العلوم الروحية»، الخبرة المعاشة التاريخية الملموسة هي نقطة البدء وهي الختام في علوم الروح، الحياة نفسها هي ما يجب أن ينبع منه تفكيرنا وما يجب أن يتجه إليه تساؤلنا اتجاها مباشرا، علينا ألا نذهب وراء الحياة إلى عالم من الأفكار: «فوراء الحياة نفسها لا يمكن لتفكيرنا أن يمضي.»
ثمة مسحة رومانسية
1
في هذا التوكيد على العودة إلى الحياة نفسها، وليس من المستغرب أن دلتاي أصدر دراسات حول نوفاليس وجوته وشلايرماخر، لقد كان مغمورا في الإرث الرومانسي إذن بحيث تبدى له بوضوح شديد عجزت الوضعية والواقعية بجميع صورهما عن الإمساك بالخبرة الحية ذاتها في امتلائها ومباشرتها وتعدد ألوانها، إننا نلمس في دلتاي شيئا من ذلك التوتر الأساسي الذي يسم تفكير القرن التاسع عشر: تلك الرغبة الرومانسية في المباشرة والكلية حتى عندما نكون بصدد البحث عن معطيات يفترض أن تكون «صائبة صوابا موضوعيا»، لقد كان عقله الدءوب يناضل ضد النزعة التاريخية والسيكولوجية، وقد تجاوزهما بعض الشيء؛ إذ نجد في فكره فهما للتاريخ أعمق من فهم المدرسة التاريخية في ألمانيا، ونجد تجاوزا للنزعة السيكولوجية عند شلايرماخر في التأويل، والحق أننا نجد في دلتاي التقاء لتيارين فلسفيين كبيرين لم يلتقيا من قبل: التيار الواقعي والوضعي الإنجليزي والفرنسي من جهة، وتيار المثالية الألمانية وفلسفة الحياة من جهة أخرى، لقد حاول دلتاي أن يصوغ أساسا إبستمولوجيا للعلوم الروحية فكانت محاولته نقطة التقاء لنظريتين مصطرعتين حول المنهج الصحيح لدراسة الإنسان.
2 (1) البحث عن أساس منهجي للعلوم الروحية
كان مشروع دلتاي هو صياغة منهج ملائم للعلوم المختصة بفهم التعبير الإنساني الاجتماعي والفني، وكان على وعي واضح بعجز المنظور الرديء والآلي للعلوم الطبيعية عن الإيفاء بهذه المهمة والإمساك بجمع الظاهرة الإنسانية، ومن هنا فقد نظر إلى هذه المهمة على أنها مشكلة إبستمولوجية من جهة، وأنها تتطلب تعميق تصورنا للوعي التاريخي من جهة ثانية، وأنها تعكس حاجة إلى فهم التعبيرات التي تنبع من «الحياة ذاتها» من جهة ثالثة، وعندما يتم لنا فهم هذه العوامل الثلاثة سيتضح لنا الفارق بين طريقة معالجة العلوم الروحية وطريقة معالجة العلوم الطبيعية.
يرفض «دلتاي» ابتداء أية نظرة ميتافيزيقية في وصف ما يحدث عندما نقوم بفهم ظاهرة من صنع الإنسان، فالمشكلة عنده هي: أي صنف من الفهم ذلك الذي يلائم تفسير الظواهر الإنسانية، المشكلة عنده، باختصار، مشكلة إبستمولوجية وليست مشكلة ميتافيزيقية.
كان «دلتاي» بمعنى ما امتدادا للمثالية النقدية عند كانت، وإن لم يكن من الكانتيين الجدد بل من فلاسفة الحياة، لقد كتب كانت «نقد العقل الخالص» الذي قدم الأسس الإبستمولوجية للعلوم، بينما شرع دلتاي عن قصد في كتابة «نقد العقل التاريخي» لكي يضع الأسس الإبستمولوجية للدراسات الإنسانية. لم يناقش دلتاي المقولات الكانتية ولم يشكك في كفايتها بالنسبة للعلوم الطبيعية، غير أنه رأى الأطر الكانتية، مثل المكان والزمان والعدد ... إلخ، لا تكفي لفهم الحياة الباطنة للإنسان، كذلك لم يجد مقولة «الشعور» وافية لفهم الطابع التاريخي الداخلي للذات الإنسانية، يقول دلتاي: «إنها مسألة تطوير الاتجاه الكانتي النقدي كله، ولكن في مقولة «التأويل الذاتي» بدلا من نظرية المعرفة ... إنه نقد للعقل التاريخي بدلا من العقل الخالص.»
يقول دلتاي: «ليس من خلال «الاستبطان»
Introspection ، بل من خلال التاريخ وحده يتأتى لنا أن نفهم أنفسنا.» إن مشكلة فهم الإنسان هي مشكلة استعادة ذلك الوعي ب «تاريخية» وجودنا الخاص والذي ضاع في المقولات السكونية للعلم، إننا نخبر الحياة لا في المقولات الآلية السببية بل في لحظات فردة معقدة من «المعنى»، من خبرة مباشرة بالحياة في كليتها وفي فهم محب للأشياء الجزئية، هذه الوحدات من المعنى تتطلب سياقا يضم الماضي ويضم أفق التوقعات المستقبلية، إنها زمانية في صميمها ومتناهية، ولا يتم فهمها إلا في ضوء هذه الأبعاد، أي لا يتم فهمها إلا تاريخيا.
Unknown page